سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/كتاب حاطب إلى مكة
ولما علم الناس بمسير رسول الله إلى قريش، كتب حاطب بن أبي بلتعة البدري، حليف بني أسد كتابا إلى مكة يخبرهم بمسير النبي ﷺ وأرسله مع امرأة استأجرها بعشرة دنانير وكساها بردا وقال لها: أخفيه ما استطعت ولا تمري على الطريق فإن عليه حراسا، فجعلت الكتاب في ضفائر رأسها خوفا من أن يطلع عليها أحد ثم خرجت به وسلكت غير الطريق، وأتى رسول الله ﷺ الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال: «أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم فخذوه منها وخلوا سبيلها» - وقد كان حاطب رسول رسول الله ﷺ إلى المقوقس سنة ست -.
فخرجا حتى أدركا هذه المرأة بالحليفة، حليفة بني أبي أحمد فاستنزلاها فالتمسا في رحلها الكتاب فلم يجدا شيئا فقال لها عليّ بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ﷺ ولا كذبنا ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجدّ منه قالت: أعرض، فعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه فأتى به رسول الله ﷺ فدعا رسول الله ﷺ حاطبا فقال: «يا حاطب ما حملك على هذا؟» فقال: يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيّرت وما بدّلت ولكني كنت امرأً ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أضرب عنقه فإن الرجل قد نافق - أي خالف الأمر -، فقال رسول الله ﷺ «إنه شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، فأنزل الله عز وجل في حاطب: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآء تُلْقُونَ} إلى قوله: {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} (الممتحنة: 1 - 4) إلى آخر القصة.
وقد جاء في كتابه ما يأتي:
«من حاطب بن أبي بلتعة إلى سهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، أما بعد يا معشر قريش فإن رسول الله ﷺ جاءكم بجيش يسير كالسيل فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده فانظروا لأنفسكم، والسلام».
وفي رواية: أن لفظ الكتاب:
«إن رسول الله ﷺ أذن في الناس بالغزو ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد».
وعلى كل حال فإن في إرسال هذا الكتاب لقريش إفشاء لسرّ أمر رسول الله ﷺ بكتمه ولولا أن حاطبا كان من المجاهدين في غزوة بدر لعاقبه رسول الله ﷺ ألا ترى أن عمر كان يريد ضرب عنقه، وقيل: إن عمر رضي الله عنه قال: قاتلك الله ترى رسول الله ﷺ يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى قريش.
ثم مضى رسول الله ﷺ لسفره واستخلف على المدينة أبا رُهْم كلثوم بن حصين بن خلف الغفاري، وقيل: استخلف ابن أم مكتوم وبه جزم الحافظ الدمياطي.
وخرج لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان - أول يناير سنة 630 م - فصام رسول الله ﷺ وصام الناس معه حتى إذا كان بالكَدِيدِ ما بين - عُسفان وأمج - أفطر رسول الله ﷺ ثم مضى حتى نزل مرّ الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، وكان قد بعث إلى من حوله من العرب وطلب حضورهم وهم: أسلم، وغفار، وأشجع وسليم وبعث رسلا في كل ناحية، وقيل: إن العشرة آلاف خرج بهم من نفس المدينة، ثم تلاحق به ألفان فيكون المجموع 12000، ولم يتخلف عنه أحد من المهاجرين والأنصار.
وذكرت السيرة الحلبية أن عدد الجيش كان كما يأتي:
700 مهاجر ومعهم 300 فرس.
4000 من الأنصار ومعهم 500 فرس.
1000 من مزينة ومعها 100 فرس.
400 من أسلم ومعها 30 فرسا.
800 من جهينة ومعها 50 فرسا. ================__ 6900 980
لكن هذا العدد أقل من المشهور بكثير بل هو أقل ممن خرج من المدينة وحدها.
وكان معه ﷺ من زوجاته أم سلمة وميمونة رضي الله عنهما، وكان خروجه بعد العصر، ولم يزل رسول الله مفطرا رفقا بالمسلمين حتى انسلخ الشهر لأنه وإن قدم مكة قبل تمام الشهر لكنه كان في أهبة القتال، وقد عُمِّيَت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله ولا يدرون ما هو فاعل، وخرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي، يتجسسون الخبر عن رسول الله ﷺ فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، قال العباس - وكان قد خرج من مكة -: سمعت أبا سفيان وهو يقول: «والله ما رأيت كاليوم قط نيرانا»، فقال بديل: هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب، فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذل، قال العباس فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة - يعني أبا سفيان -، فقال: أبو الفضل؟ - العباس -، فقلت: نعم، فقال: لبيك فداك أبي وأمي فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله ورائي قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به، بعشرة آلاف من المسلمين، قال: فما تأمرني؟ فقلت: تركب عجز هذه البغلة فاستأمن لك رسول الله فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول الله ﷺ نحو رسول الله فكلما مررت بنار من نيران المسلمين ونظروا إليَّ قالوا عم رسول الله على بغلة رسول الله حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال لأبي سفيان: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم اشتد نحو النبي ﷺ وركضت البغلة وقد أردفت أبا سفيان حتى اقتحمت على باب القبة وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء فدخل عمر على رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله ﷺ فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه اليوم أحد دوني فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلا يا عمر فوالله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، فقال: مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله ﷺ «اذهب فقد أمناه حتى تغدو به عليّ بالغداة» فرجع به إلى منزله، فلما أصبح غدا به على رسول الله ﷺ فلما رآه قال: «ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟» فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا، فقال: «ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟» فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وما أحلمك وما أكرمك أما هذه ففي النفس منها شيء، فقال العباس: فقلت له: ويلك تشهد شهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك، قال: فتشهد، فقال رسول الله ﷺ للعباس حين تشهَّد أبو سفيان: «انصرف يا عباس فاحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمر عليه جنود الله»، فقلت له: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل منه شيئا يكون في قومه، فقال: نعم «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن»، فخرجتُ حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي فمرت عليه القبائل فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سُلَيْم، فيقول: ما لي ولسليم، فتمر به قبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: ما لي ولأسلم، وتمر جهينة فيقول: ما لي ولجهينة حتى مرّ رسول الله ﷺ في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار، فقال: يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما فقلت: ويحك إنها النبوة،
فقال: نعم إذن، فقلت: الحق الآن بقومك فحذرهم، فخرج سريعا حتى أتى مكة فصرخ في المسجد: - يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به - قالوا فمه، فقال: - من دخل داري فهو آمن -، قالوا: ويحك ما تغني عنا دارك، فقال: - ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن -، كذا في رواية ابن إسحاق، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد وذكر موسى بن عقبة وغيره أن العباس قال: قلت: يا رسول الله أبو سفيان وحكيم وبديل قد أجرتهم وهم يدخلون عليك، قال: «أدخلهم»، فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم فدعاهم إلى الإسلام، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فشهد بديل وحكيم، وقال أبو سفيان: ما أعلم ذلك والله إن في النفس من هذا شيئا فأرجئها، وفي رواية: قال له ﷺ «يا أبا سفيان أسلم تسلم»، قال: كيف أصنع باللات والعزى؟ فقال له عمر: إخرأ عليهما، وكان عمر رضي الله عنه خارج القبة ثم قال عمر: أما والله لو كنت خارج القبة ما قلتها، فقال أبو سفيان: ويحك يا عمر إنك رجل فاحش، دعني مع ابن عمي فإياه أكلم.، الخ.
وكان ممن لقيه ﷺ في الطريق أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن عمه ﷺ وأخوه من الرضاع من حليمة السعدية، وكان مع أبي سفيان ولده جعفر وعبد الله بن أبي أمية المخزومي ابن عمته ﷺ عاتكة بنت عبد المطلب هو أخو أم سلمة زوج النبي ﷺ لأبيها لأن أمها عاتكة بنت عامر بن قيس.
يقال: إن الذين كانوا يشبهون النبي ﷺ جعفر بن أبي طالب، والحسن بن عليّ، وقثم بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث.
وكان أبو سفيان بن الحارث من الشعراء المطبوعين وكان سبق له هجاء رسول الله ﷺ وإيّاه عارض حسان بن ثابت بقوله:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ** مغلغلة فقد برح برح الخفاء
هجوت محمدا فأجبت عنه ** وعند الله في ذاك الجزاء
وكان لقاء أبي سفيان ومن معه النبي ﷺ بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول على رسول الله ﷺ فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك، قال: «لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال بمكة ما قال» - يعني قوله له: والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن الله أرسلك -.
فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع أبي سفيان بُنيّ له فقال: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بُنيّ هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا، فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ رقّ لهما ثم أذن لهما فأسلما وأنشد أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى منه:
لعمرك إني يوم أحمل راية ** لتغلب خيلُ اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله ** فهذا أواني حين أهدى وأهتدي
وهاد هداني غير نفسي ودلني ** على الله من طَرّدت كل مطرّد
أصدُّ وأنأى جاهدا عن محمد ** وأُدعى ولو لم أنتسب من محمد
هم ما هم من لم يقل بهواهم ** وإن كان ذا رأي يُلمْ ويفنّد
أريد لأرضيهم ولست بلائط ** مع القوم ما لم أهد في كل مقعد
فقل لثقيف لا أريد قتالها ** وقل لثقيف تلك عيري أوْ عدي
وما كنت في الجيش الذي نال عامرا ** وما كان عن جري لساني ولا يدي
قبائل جاءت من بلاد بعيدة ** نزائع جاءت من سهام وسُرْدد
قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين أنشد رسول الله ﷺ قوله ودلني على الله من طردت كل مطرد، ضرب رسول الله ﷺ في صدره وقال: «أنت طردتني كل مرطد»، وقال عليٌّ رضي الله عنه لأبي سفيان بن الحارث عند إذنه ﷺ له في الدخول عليه: ائت من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَطِئِينَ} فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان فقال له ﷺ {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ} (يوسف: 92).