سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/بعث الرجيع صفر سنة 4 هـ
مايو سنة 625 م
الرجيع ماء لهذيل، وقال ابن إسحاق والواقدي: الرجيع ماء لهذيل قرب الهدأة بين مكة والطائف.
وإنما أُضيف البعث إلى اسم ذلك الماء لأن الوقعة كانت بالقرب منه.
وبعث الرجيع هي سرية عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وكان بعثه في صفر من السنة الرابعة - مايو سنة 625م -.
وسبب هذا أن بني لحيان من هذيل مشوا إلى عضل والقارة وهما قبيلتان من بني الهون بن خزيمة بن مدركة فجعلوا لهم إبلا على أن يكلموا رسول الله ﷺ أن يخرج إليهم نفرا من أصحابه فقدم سبعة نفر مظهرين الإسلام، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهونا في الدين ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام، وقيل: إنه ﷺ أراد أن يبعث عيونا إلى مكة ليأتوه بخبر قريش، فلما جاء هؤلاء النفر يطلبون من يفقههم، بعث معهم ستة من أصحابه للأمرين جميعا وهذه البعثة مؤلفة من - عاصم بن ثابت، مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخبيب بن عدي الأوسي البدري، وزيد بن الدَّثِنة، وعبد الله بن طارق، وخالد بن البكير.
خرج هؤلاء حتى أتوا الرجيع فغدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا ليعينوهم على قتلهم، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، فأخذ عاصم ومن معه أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا: إنا والله لا نريد قتلكم ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم، وقالوا ذلك لأنهم يريدون أن يسلموهم لكفار قريش ويأخذوا في مقابلتهم أجرا لعلمهم أنه لا شيء أحب إلى قريش من أن يأتوا بأحد من أصحاب محمد ﷺ يمثلون به ويقتلونه بمن قُتل منهم ببدر وأُحد، فأبوا أن يقبلوا منهم.
فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا، وقاتلوا حتى قُتلوا، وأما زيد وخبيب وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة فأعطوا بأيديهم فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن ثم أخذ واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران، وأما خبيب بن عدي وزيد بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فباعوهما فابتاع خبيبا حُجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن عامر بن نوفل وكان حجير أخا الحارث بن عامر لأمه ليقتله بأبيه، وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف وكان شراؤهما في ذي القعدة فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرام فقتلوا زيدا، وأما خبيب فقد مكث أسيرا حتى خرجت الأشهر الحرام ثم أجمعوا على قتله، وكانوا في أول الأمر أساءوا إليه في حبسه فقال لهم: ما يصنع القوم الكرام هكذا بأسيرهم، فأحسنوا إليه بعد ذلك وجعلوه عند امرأة تحرسه وهي ماوية مولاة حجير وقد قالت ماوية: كان خبيب يتهجد بالقرآن فإذا سمعه النساء بكين ورققن عليه، فقلت له: هل لك من حاجة؟ قال: لا إلا أن تسقيني العذب ولا تطعميني ما ذُبح على النصب وتخبريني إذا أرادوا قتلي، فلما أرادوا ذلك أخبرته فوالله ما اكترث بذلك ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه قال: ذروني أصلِّ ركعتين، فتركوه فصلى سجدتين فجرت سُنَّة لمن قُتل صبرا أن يصلي ركعتين ثم قال خبيب: لولا أن يقولوا جزعَ لزدت وما أبالي على أي شِقَّي كان لله مصرعي ثم قال:
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزع
«اللهم أحصهم عددا وخذهم بددا»، ثم خرج به أبو سروعة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف فضربه فقتله، رحمه الله تعالى.
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: لما أرادوا قتل خبيب ووضعوا فيه السلاح والرماح والحراب وهو مصلوب نادوه وناشدوه: أتحبّ أنّ محمدا مكانك؟ قال: والله ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه، وقيل: إن زيد بن الدثنة قالوا له ذلك أيضا عند قتله فأجابهم بمثل ذلك، فقال أبو سفيان رضي الله عنه: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدا محمدا، وقد قتل زيدا نسطاس.
وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أُحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحف رأسه الخمر فمنعه الدبر - الزنابير - فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه فبعث الله سيلا فاحتمل عاصما فذهب به، وكان عاصم قد أعطى الله عهدا ألا يمسه مشرك أبدا ولا يمس مشركا أبدا تنجسا منه، فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته: «عجبا لحفظ الله العبد المؤمن كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا في حياته فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته».
ولما قتل مَن وجَّهه النبي ﷺ إلى عضل والقارة من أهل الرجيع وبلغ خبرهم رسول الله ﷺ بعث عمرو بن أمية الضمري إلى مكة مع رجل من الأنصار وأمرهما بقتل أبي سفيان بن حرب، وكان عمرو بن أمية الضمري عالما بمكة جريئا، فلما وصلا مكة طافا بالبيت أسبوعا فعرف عمرا رجل منهم فصاح بأعلى صوته: هذا عمرو بن أمية، ففر هو وصاحبه ووصلا إلى المدينة ناجين.