سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/حصار الشعب وخبر الصحيفة - مقاطعة رسول الله وأتباعه
لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله ﷺ قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله ﷺ وجعل الإسلام ينتشر في القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله للقتل، أعني أنهم اتفقوا وتعاهدوا على مقاطعتهم مقاطعة تامة انتقاما منهم لإسلامهم ودفاعهم عن رسول الله ﷺ وكتبوا بذلك صحيفة توكيدا لأنفسهم وعلقوها في جوف الكعبة هلال المحرم سنة سبع من النبوة (617 م)، وكانت الصحيفة مكتوبة بخط بغيض ابن عامر بن هاشم فدعا عليه رسول الله ﷺ فشل يده، وانحاز بنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شعبه مع بني هاشم وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني هاشم وبني المطلب وقطعوا عنهم الميرة والمادة فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى بلغوا الجهد وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب، فمن قريش من سره ذلك ومنهم من ساءه وقال: انظروا ما أصاب بغيض بن عامر فأقاموا في الشعب ثلاث سنين حتى أنفق رسول الله ﷺ ماله وأنفق أبو طالب ماله وأنفقت خديجة مالها وصاروا إلى حد الضر والفاقة، ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم وأن الأرَضة قد أكلت ما كان فيها من جور وظلم وبقي ما كان فيها من ذكر الله، فذكر ذلك رسول الله ﷺ لأبي طالب فذكر أبو طالب لإخوته وخرجوا إلى المسجد، فقال أبو طالب لكفار قريش: إن ابن أخي قد أخبرني - ولم يكن يكذبني - قط أن الله قد سلَّط على صحيفتكم الأرضة فلحست ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقي ما كان فيها من ذكر الله، فإن كان ابن أخي صادقا نزعتم عن سوء رأيكم وإن كان كاذبا دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا: قد أنصفتنا فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها فإذا هي كما قال رسول الله ﷺ فسقط في أيديهم ونكسوا على رؤوسهم، فقال أبو طالب: علام نحبس ونحصر وقد بان الأمر؟ ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة والكعبة فقال: اللهم انصرنا ممن ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم الله منا ثم انصرفوا إلى الشعب. وتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببني هاشم وكان فيهم مطعم بن عدي وعدي بن قيس وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هاشم وزهير بن أبي أمية فلبسوا السلاح ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا، فلما رأت قريش ذلك سقط في أيديهم وعرفوا أن لن يسلموهم وكان خروجهم من الشعب في السنة العاشرة.
وفي «سيرة ابن هشام» أنهم أقاموا عل ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش، وقد كان أبو جهل بن هشام فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهي عند رسول الله ومعه في الشعب فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري وقال: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلّ سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه ووطئه وطئا شديدا وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله ﷺ وأصحابه فيشمتوا بهم، ورسول الله على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا مباديا بأمر الله لا يتقي فيه أحدا من الناس. هذا ومن المدهش أن مرجوليوث يقول: إن أبا جهل كان مشهورا بالعقل والذكاء، وهل تدري لماذا أيها القارىء؟ لأنه كان معاديا لرسول الله لأن أعماله وصفاته التي ذكرناها لا تدل على أنه كان عاقلا ذكيا. إن النبي ﷺ كان يدعو العرب إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم، كان يدعو إلى عبادة الله الواحد، وإلى نبذ عبادة الحجارة، ومعنى ذلك أنه كان يعمل على انتشالهم من الانحطاط الديني الذي كانوا غارقين فيه ورفعهم إلى أعلى المراتب وأسمى العقائد، وعدا ذلك فقد كان عليه الصلاة والسلام يهذبهم ويعلمهم مكارم الأخلاق ويبث في نفوسهم الآداب الاجتماعية العالية، فهل يقال عن رجل اتصف بشدة عداوة لرسول الله ﷺ إنه عاقل ثم إن مرجوليوث يظهر حنقه على من أسلموا ولا سيما إذا كانوا من الأبطال الأشداء فيرميهم بأوصاف ذميمة منفرة.