سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/الهجرة إلى المدينة 12 ربيع الأول
(سنة 622 م)
خرج رسول الله ﷺ وهم يرصدونه فأخذ حفنة تراب وجعل ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو قوله تعالى يللهس إلى قوله: {فَأغْشَيْنَهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (يللهس: 9)، ثم انصرف فلم يروه، فلما أفاقوا من غشيتهم جعلوا يطلعون فيرون عليا نائما وعليه برد رسول الله ﷺ فيقولون: إن محمدا لنائم، فأقاموا بالباب يحرسون عليا يحسبونه النبي ﷺ حتى يقوم في الصباح، فلما أصبحوا قام عليّ عن الفراش فقالوا له: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فعلموا أن النبي ﷺ قد نجا، فأما عليّ فأقام بمكة حتى يؤدي ودائع النبي ﷺ وقصد النبي ﷺ دار أبي بكر رضي الله عنه وأعلمه بأن الله قد أذن له بالهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة، فبكى أبو بكر رضي الله عنه فرحا واستأجر عبد الله بن أريقط الديلمي وكان مشركا ليدل بهما إلى المدينة وينكب عن الطريق العظمى، ولم يعلم بخروج رسول الله ﷺ غير أبي بكر وعليّ وآل أبي بكر، وكان خروجه ﷺ من مكة يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت منه، وذلك يوم الاثنين الظهر لثلاث وخمسين سنة من مولده 28 يونيه (622 م) ورُوي أن النبي ﷺ قال حين خروجه من مكة إلى المدينة: «اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك». رواه الحاكم في «المستدرك». وكان مدة مقامه بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، ثم أتيا الغار الذي بجبل (ثور) على ثلاثة أميال من جنوب غربي مكة، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع لهما بمكة ثم يأتيهما ليلا وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يأتيهما بها ليلا ليأخذا حاجتهما من لبنها وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بطعامهما فأقاما في الغار ثلاثا، ولما فقدته قريش اتبعوه ومعهم القائف فقاف الأثر حتى وقف عند الغار وقال هنا انقطع الأثر. وإذا بنسيج العنكبوت على فم الغار وقد عششت على بابه حمامتان، فقالت قريش: ما وراء هذا شيء، وجعلوا مئة ناقة لمن يرده عليهم، فلما مضت الثلاث وسكن الناس أتاهما دليلهما ببعيرين فأخذ أحدهما رسول الله ﷺ من أبي بكر بالثمن لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه الصلاة والسلام في استكمال فضل الهجرة إلى الله تعالى، ثم ركبا وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة يخدمهما في الطريق وأتتهما أسماء بسفرة لها وشقت نطاقها وربطت السفرة فسميت «ذات النطاقين» وحمل أبو بكر جميع ماله وكان نحو ستة آلاف درهم وبينما هما في الطريق مجردين من كل سلاح بصر بهما سراقة بن مالك بن جُعشم فاتبعهما ليردهما فدعا عليه رسول الله ﷺ فساخت (غاصت) قوائم فرسه في أرض صلبة، فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني الله أن أرد عنك الطلب فدعا له فخلص، فعاد يتبعهما، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك عليّ فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب، فدعا له فخلص وعاهدهم أن لا يقاتلهم ولا يخبر عنهم وأن يكتم عنهم ثلاث ليال، فرجع سراقة ورد كل من لقيه عن الطلب بأن يقول ما ها هنا.
وفي «صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله ﷺ متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت عائشة: فجاء رسول الله ﷺ فاستأذن له فدخل فقال النبي ﷺ لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله ﷺ نعم، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله ﷺ بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهم سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين، وأسماء بنت أبي بكر الصديق كانت أسن من عائشة وهي أختها لأبيها وكان عبد الله بن أبي بكر أخا أسماء شقيقها، قالت: ثم لحق رسول الله ﷺ وأبو بكر بغار في جبل ثور (جبل بمكة) فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله ﷺ وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فجاءهما براحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل، قال سراقة بن جعشم: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله ﷺ وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي تقرب بي وعصيت الأزلام حتى إذا سمعت قراءة رسول الله ﷺ وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا ركبتيها فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله ﷺ فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخف عنها، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله ﷺ ومما وقع لهما في الطريق أنهما لقيا طلحة بن عبيد الله في الطريق وكان راجعا من تجارة وكساهما ثيابا بيضا، وقيل: لقيهما الزبير كذلك ولعلهما لقياهما معا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكر اهـ.
غادر رسول الله مكة مسقط رأسه بعد أن سخر به قومه ورفضوا دعوته وتمسكوا بعقيدتهم القديمة التي ألفوها ولم يحكّموا عقولهم، ولم يعترفوا أن عبادة الأصنام من دون الله تعالى كفر، وليس بعد الكفر ذنب ولا بعد الشرك ضلال، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء} (النساء: 48).
غادر رسول الله مكة وهو آسف لفراق قومه بعد أن صبر على أذاهم وجاهد وكافح سنين طويلة، فغادرهم ذلك النور الساطع والعلم الواسع والهمة العالية والنفس الأبية والروح الطاهرة النقية والشخصية الجذابة المحبوبة والوجه المشرق الدائم الابتسام والخلق العظيم والفم الذي لا ينطق عن الهوى.
لقد غادرهم ذلك الرسول الأمين الهادي إلى الصراط المستقيم، مبلغ رسالات رب العالمين.
ولو علمت قريش الحقيقة وتخلوا عن التعصب، لتمسكوا بأهدابه وتعلقوا بأذياله واغترفوا من فيض علمه وبحور حكمته واهتدوا بهديه وتخلقوا بخلقه وفازوا بنعيم الدنيا والآخرة.
إن الرسول بهجرته قد ترك في ظلام دامس فلما وصل المدينة، أشرقت أنواره في جميع أرجائها فخرج القوم يستقبلونه بالبشر والسرور ويتسابقون لمشاهدة وجهه الصبوح ويتبركون به ويستضيفونه ويستمعون إلى حكمه البالغة، وقد عبروا عن شعورهم بذلك النور بقولهم: طلع البدر علينا.