سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/غزوة بن النضير ربيع الأول سنة 4هـ
يونيه سنة 625 م
النضير اسم قبيلة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وكانوا هم وقريظة نازلين بظاهر المدينة في حدائق وآطام لهم.
قال غير واحد من أهل السير: لما قدم اليهود المدينة نزلوا السافلة فاستوخموها فأتوا العالية فنزل بنو النضير بطُحان ونزل بنو قريظة مهزورا وهما واديان يهبطان من حرة هناك تنصب منها مياه عذبة، فاتخذ بنو النضير الحدائق والآطام وأقاموا بها وكان بينهم وبين المدينة نحو ميلين أو ثلاثة وكانوا يمتلكون نخيلا بجوار المدينة.
كانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول سنة أربع على رأس سبعة وثلاثين شهرا من الهجرة - يونيه سنة 625 م -.
خرج رسول الله ﷺ يوم السبت فصلى في مسجد قُباء ومعه نفر من أصحابه، المهاجرين والأنصار، ثم أتى بني النضير فكلمهم أن يعينوه في دِية الكلبيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم ما أحببت، وكان رسول الله جالسا إلى جنب جدار من بيوتهم فخلا بعضهم ببعض وهموا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش بن كعب بن بَسيل النضري: أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا والله ليخبرنّ بما هممتم به وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه، وجاء رسول الله ﷺ الخبر بما هموا فنهض سريعا كأنه يريد حاجة فتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه.
ثم بعث إليهم رسول الله ﷺ محمد بن مَسلمة أن اخرجوا من بلدي - يعني المدينة - فلا تساكنوني بها وقد هممتم بما هممتم به من الغدر وقد أجلتكم عشرا فمن رُئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون وأرسلوا إلى ظَهرٍ لهم بذي الجَدر وتكاروا من ناس من أشجع إبلا فأرسل إليهم ابن أبي، لا تخرجوا من دياركم وأَقيموا في حصونكم فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصونكم فيموتون عن آخرهم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غَطَفَان فطمع حييٌّ فيما قال ابن أبيّ، فأرسل إلى رسول الله ﷺ إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك، فأظهر رسول الله ﷺ التكبير وكبَّر المسلمون لتكبيره، وقد حاربت يهود فسار إليهم النبي ﷺ في أصحابه فصلى العصر بفضاء بني النضير وعليّ رضي الله عنه يحمل رايته واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فلما رأوا رسول الله ﷺ قاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة واعتزلتهم قريظة فلم تُعنهم وخذلهم ابن أُبي وحلفاؤهم من غطفان فأيسوا من نصرهم، فحاصرهم رسول الله ﷺ وقطع نخلهم وعند ذلك قالوا: يا أبا القاسم قد كنت تنهي عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ هل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض ثم قالوا: نخرج عن بلادك، فقال: لا أقبله اليوم، ثم قال لهم: أخرجوا منها - ولكن دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة - فرضوا بذلك ونزلوا عليه، وكان حصارهم خمسة عشر يوما.
احتمل بنو النضير من أموالهم ما استقلت به الإبل فكان الرجل منهم يهدم بيته عما استحسن من خشبه كبابه وكنجاف به أي أسكفته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، فكان من سار من أشرافهم إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب فلما نزلوها دان لهم أهلها.
ولما أيقن بنو النضير بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل وقد كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها ويحملونها على الإبل.
لكن الدكتور إسرائيل ولفنسون يقول في رسالته (تاريخ اليهود في بلاد العرب): «إن هدم البيوت لم يكن القصد منه التخريب وأخذ الأخشاب بل إن هدم نجاف البيوت يتعلق بعقيدة تلمودية معروفة وهي أن كل يهودي على نجاف بيته صحيفة تشتمل على وصية موسى لبني إسرائيل أن يحتفظوا بالإيمان بإله واحد ولا يبدلوه ولو عُذبوا وقُتلوا، فاليهود حين ينزحون من منازلهم يأخذونها معهم وهي عادة متبعة عند اليهود إلى يومنا هذا، قال: ويظهر أن يهود بلاد العرب كانوا يضمون تلك الصحيفة في داخل النجاف خوفا من إتلاف الهواء أو مسّ الأيدي فلما رحلوا عن ديارهم هدموا نجاف البيوت وأخذوها».
وإنا نسلم أن هذه عادة اليهود ولا ننازعه في أنهم أخذوا تلك الصحائف المقدسة مع ما أخذوا لكن أخذ الصحائف فقط لا يستدعي هدم البيوت وإلا كان الواحد منهم إذا انتقل من بيت إلى آخر هدم البيت الأول لاستخراج صحيفته وهذا محال، وعبارة ابن إسحاق صريحة في أن الرجل منهم كان يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق، والنجاف الذي يُقال له الدوارة وهو الذي يستقبل الباب من أعلى الأسكفة، وفي السيرة الحلبية صاروا ينقضون العُمُد والسقوف وينزعون الخشب حتى الأوتاد، وينقضون الجدران حتى لا يسكنها المسلمون حسدا وبغضا.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقلوا بالنساء والأبناء والأموال معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم وإن فيهم لأم عمرو صاحبة عروة بن الورد العبسي التي ابتاعوا منه، وكانت إحدى نساء بني غفار، بزهاء وفخر ما رئي مثله من حي من الناس في زمانهم.
وقد حملوا أمتعتهم على ستمائة بعير، وحزن المنافقون عليهم حزنا شديدا لكونهم إخوانهم، وقبض رسول الله ﷺ ما تركوه من الأموال والدروع والسلاح، فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وهي الخوذة وثلاثمائة وأربعين سيفا، فكانت أموال بني النضير مختارا لرسول الله ﷺ فكان ينفق منها على أهله ويدخر قوت سنة من الشعير والتمر لأزواجه وبني عبد المطلب وما فضل جعله في السلاح والكراع، هذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه.
وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه ﷺ قسمها بين المهاجرين ليرفع بذلك مؤونتهم عن الأنصار، وهذا يتفق مع ما رواه ابن إسحاق فإنه قال: وخلوا الأموال لرسول الله ﷺ خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله ﷺ على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله ﷺ وأعطى رسول الله سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق، أحد سادات بني النضير وكان سيفا له ذكر عندهم.
ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها.
وقتل في هذه الغزوة عزوك، وكان شجاعا راميا من بني النضير قتله عليّ رضي الله عنه، ثم بعث رسول الله ﷺ أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة ليدركوا الذين فروا من عليّ رضي الله عنه فقتلوهم وطرحوا رؤوسهم في بعض الآبار.
قال ابن إسحاق: ونزل في أمر من بني النضير سورة - الحشر - بأسرها يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته وما سلط عليه به رسول الله ﷺ وما عمل به فيهم.
وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة - الحشر - قال: قل سورة النضير.
ملحوظة: لم أعثر في المراجع التي اطلعت عليها على عدد بني النضير الذين أجلاهم رسول الله ﷺ من المدينة.
وقد رحل بعض بني النضير إلى خيبر على بعد مائة ميل من المدينة، وبعضهم إلى جُرَش بجنوب الشام، لذلك كان ابن عباس يسمي سورة «الحشر» سورة بني النضير كما في البخاري.