سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ
7 يونيه سنة 632م
مرض رسول الله ﷺ في أواخر صفر سنة 11 هجرية (632 م)، وكانت مدة مرضه في بيت زوجته ميمونة ولما اشتد مرضه استأذن زوجاته أن يمرَّض في بيت عائشة فخرج يهادي بين العباس بن عبد المطلب وعلِيّ بن أبي طالب حتى دخل بيت عائشة وأمر أن يُهريق عليه الماء فصبوه عليه لما كان يشعر به من الحمى، وقال: ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر وهذا أوان انقطاع أَبْهَرِي من ذلك السمَّ، ولما تعذر عليه الخروج للصلاة، قال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، فقالت له عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء، قال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس فعاودته مثل مقالتها، فقال: إنكن صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، فصلى بهم سبع عشرة صلاة أولاها عشاء ليلة الجمعة وآخرها صبح يوم الاثنين.
وفي تقديم أبي بكر للصلاة إشارة إلى أنه الخليفة بعده، فقالوا: إن النبي ﷺ رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ غير أن النبي خرج معصوب الرأس لأنه كان يشكو، وجلس في أسفل مرقاة من المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: «يا أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبي قبلي فيمن بُعث إليه فأخلد فيكم، ألا إني لاحق بربي وإنكم لاحقون بي فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا وأوصي المهاجرين فيما بينهم فإن الله تعالى يقول: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَنَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} (العصر: 1 - 3).
وإن الأمور تجري بإذن الله ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل بعجلة أحد ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه، فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم وأوصيكم بالأنصار خيرا فإنهم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسعوا لكم في الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسكم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا وإني فرط لكم وأنتم لاحقون بي، ألا فإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده عليّ غدا فليكفف يده ولسانه».
وهذه آخر خطبة للنبي ﷺ فلم يصعد المنبر بعد ذلك اليوم، وقد أوصى المسلمين بالمحبة والاتحاد وصلة الرحم، المهاجرين منهم والأنصار، وهو في أشد حالات المرض ونهاهم عن التقاطع.
ثم أُغميَ على رسول الله ورأسه في حجر عائشة رضي الله عنها، وكانت تدعو له بالشفاء وكان يقول: «إن للموت لسكرات»، وقالت فاطمة لما تغشاه الكرب: واكرب أبتاه، فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم.
وفي البخاري من حديث أنس رضي الله عنه: أن المسلمين بينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي لهم، لم يفاجئهم إلا رسول الله ﷺ قد كشف سَجَف حجرة عائشة رضي الله عنها فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك فنكص أبو بكر رضي الله عنه ليصل الصف وظن أن رسول الله ﷺ يريد أن يخرج للصلاة، قال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله ﷺ فأشار إليهم بيده ﷺ أن أتموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر، زاد في رواية: فتوفي من يومه، واجتمع حوله أصحابه يبكون، قالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله ﷺ في بيتي وبين سحري ونحري، والمراد أنه توفي وهو في حجرها وكان أبو بكر رضي الله عنه غائبا فسلّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سيفه وتوعد من يقول: مات رسول الله ﷺ مع أنه سمع خطبة رسول الله ﷺ التي قال فيها: «يا أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيّكم، هل خلد نبي قبلي فيمن بعث إليه فأخلد فيكم، ألا إني لاحق بربي».
فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة رضي الله عنها فكشف عن وجه رسول الله فجثا يقبله ويبكي ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر رضي الله عنه جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ثم قال:
(ألا مَن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) وقد قال تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} (الزمر: 30)، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران: 144) الآية، فنشج الناس يبكون رواه البخاري، فكان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما سمع قول أبي بكر قال: فوالله لكأني لم أتل هذه الآية قط.
ووقوف أبي بكر هذا الموقف يدل على رباطة جأشه عند الكروب وضبط النفس وعلى حكمته وشجاعته، فإن رسول الله لما توفي طاشت العقول فمنهم من خَبِل، ومنهم من أقعد ولم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى وكان عمر رضي الله عنه ممن خبل، وكان عثمان رضي الله عنه ممن أخرس فكان لا يستطيع أن يتكلم، وكان عليّ رضي الله عنه ممّن أقعد فلم يستطع أن يتحرك، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمدا وكان أثبتهم أبو بكر، قال القرطبي: وهذا أول دليل على كمال شجاعة الصديق رضي الله عنه لأن الشجاعة هي ثبوت القلوب عند حلول المصائب ولا مصيبة أعظم من موت رسول الله فظهرت عنده شجاعة الصدّيق وعلمه رضي الله عنه.
ورُوي أن بلالا رضي الله عنه كان يؤذن بعد وفاته ﷺ وقبل دفنه فإذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله ارتج المسجد بالبكاء والنحيب.
وكانت وفاته ﷺ يوم الاثنين في شهر ربيع الأول سنة 11 هـ قمرية بلا خلاف، واختلف في أي الاثنين كانت وفاته فقال فقهاء الحجاز: إن رسول الله قبض يوم الاثنين لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول، وقال الواقدي: توفي يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ودُفن من الغد نصف النهار حين زاغت الشمس وذلك يوم الثلاثاء، وكان عمره ثلاثا وستين سنة قمريّة، ورثته عمته صفية، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر، وحسان بن ثابت وغيرهم.
وغسلوه ﷺ وعليه قميصه يضعون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص غسله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه والماء من بئر غرس التي بقباء، وكان العباس وابنه الفضل يعينانه في تقليب جسمه الشريف وكفنوه في ثلاثة أثواب بيض من القطن ليس فيها قميص ولا عمامة، ولما فرغوا من جهازه ﷺ وُضع على سريره في بيته ثم دخل الناس عليه ﷺ أرسالا أي جماعات متتابعين يصلون عليه وحفر له ﷺ في المكان الذي توفي فيه بعد أن رفعوا فراشه الذي توفي عليه وفرش عليه قطيفه كان يلبسها ويفترشها، قال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما مات نبيٌّ قط إلا يُدفن حيث تُقبض روحه»، قال عليّ: وأنا أيضا سمعته، وكان المباشر للحفر أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه، حفر لحدا في موضع فراشه حيث قبض، ونزل في قبره عمه العباس وعليّ والفضل وقثم بن العباس رضي الله عنهم، ورش قبره ﷺ بلال بقربة بدأ من قبل رأسه وجعل عليه من حصباء العرصة حمرا وبيضا ورفع قبره عن الأرض قدر شبر.
ولا يفوتنا أن نذكر أن المنافقين أكثروا من التحدث بتأمير أسامة حت بلغ رسول الله فخرج وهو مريض عاصبا رأسه من الصداع فرد عليهم، ومما قاله في هذا الشأن: «قد بلغني أن أقواما يقولون في إمارة أسامة ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لخليقا للإمارة وإنه لخليق لها فأنفذوا بعث أسامة»، وهذا يدل على أن رسول الله كان مهتما لآخر لحظة في حياته ببعث أسامة وبشؤون المسلمين وتوحيد كلمتهم.
وقد توفي رسول الله ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله وما ترك دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا، عن عائشة رضي الله عنها: «ولقد مات وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال عليَّ فأكلته ففني فيا ليلتني لم آكله»، وروى الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، توفي رسول الله ﷺ ولم يشبع هو ولا أهل بيته من خبز الشعير، وما ترك رسول الله إلا سلاحه وبغلته وأرضا جعلها صدقة.