سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/الأسرى وفداؤهم
كان فداء الأسرى أربعة آلاف إلى ما دون ذلك، فكان يفادي بهم على قدر أموالهم. وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة فعلمهم فإذا حذقوا فهو فداؤه، فكان زيد بن ثابت ممن علم.
وكان من بين الأسرى العباس عم النبي ﷺ وصنو أبيه يكنى أبا الفضل بابنه الفضل، وكان أسن من رسول الله بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وكان في الجاهلية رئيسا في قريش وإليه كانت عمارة المسجد الحرام والسقاية في الجاهلية، خرج مع المشركين يوم بدر فأُسِر وشُدّ وثاقه فسهر النبي ﷺ تلك الليلة ولم ينم، فقال له بعض أصحابه: ما يسهرك يا نبي الله؟ فقال: «أسهر لأنين العباس» فقام رجل من القوم فأرخى وثاقه فقال له رسول الله ﷺ «ما لي لا أسمع أنين العباس»، فقال الرجل: أنا أرخيت من وثاقه، فقال رسول الله ﷺ «فافعل ذلك بالأسرى كلهم»، قال له رسول الله ﷺ «افد نفسك يا عباس وابني أخويك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية»، فقال للنبي ﷺ تركتني فقير قريش ما بقيت، فقال له رسول الله ﷺ «فأين المال الذي دفعته لأم الفضل وقلت لها إن أصبت فهذا لبنيّ الفضل وعبد الله وقثم؟»، فقال: والله إني أشهد أنك رسول الله، إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله.
وفي رواية قال للنبي ﷺ «لقد تركتني فقير قريش ما بقيت»، فقال له: «كيف تكون فقير قريش وقد استودعت بنادق الذهب أم الفضل - زوجته - وقلت لها: إن قتلت فقد تركتك غنية ما بقيت»، فقال: أشهد أن الذي تقوله قد كان وما اطلع عليه إلا الله، ونطق بالشهادتين، بحضرة رسول الله ﷺ
وقد قيل: إن العباس كان قد أسلم، وكان يكتم إسلامه لديون له كانت متفرقة في قريش، وكان يخشى إن أظهر إسلامه ضاعت عندهم، وقد جاء في بعض الروايات: أن العباس رضي الله عنه قال: علامَ يؤخذ منا الفداء وكنا مسلمين؟ وفي رواية: وكنت مسلما ولكن القوم استكرهوني، فقال النبي ﷺ «الله أعلم بما تقول إن يك حقا فإن الله يجزيك»، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا، وقد أنزل الله تعالى في العباس رضي الله عنه: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاْسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرا يُؤْتِكُمْ خَيْرا مّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنفال: 70)، وعند نزول هذه الآية قال العباس للنبي ﷺ وددت أنك كنت أخذت مني أضعاف ما أخذت، وقد صدق الله وعده له فأعطاه الله مالا عظيما حتى كان عنده مائة عبد في يد كل عبد مال يتجر فيه، وبلغ ما دفعته قريش فداء للأسرى أكثر من 20.000 درهم.
وكان من الأسرى: النضر بن الحارث العبدري وكان من أشد الناس عداوة للنبي ﷺ وكان يقول في القرآن إنه أساطير الأولين، ويقول: لو نشاء لقلنا مثل هذا وغير ذلك من الأقاويل. فأمر النبي ﷺ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فضرب عنقه، فلما بلغ الخبر أخته قتيلة، وقيل: إنما هي بنته، رثته بأبيات ثم أسلمت، في «أسد الغابة» أنها قتيلة بنت النضر، قال الواقدي: هي التي قالت الأبيات التالية في رسول الله ﷺ لما قتل أباها النضر بن الحارث يوم بدر وهي:
يا راكبا إن الأثيل مظنة ** من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ بها ميتا بأن تحية ** ما إن تزالُ بها النجائب تخفقُ
مني إليك وعبرة مسفوحة ** جادت بواكفها وأخرى تخنق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ** لله أرحام هناك تشقق
قسرا يقاد إلى المنية معتبا ** رسف المقيَّد وهو عان موثَق
أمحمد أو لست صفوَ نجيبة ** من قومها والفحلُ فحلٌ معرِق
ما كان ضرك لو مننت وربما ** منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة ** وأحقهم إن كان عتق يعتق
وحين سمع ذلك ﷺ بكى وقال: «لو بلغنى هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه».
وكان من الأسرى أيضا عقبة بن أبي معيط بن ذكوان المكنى بأَبي عمرو بن أمية بن عبد شمس وكان من أشد الناس عداوة للنبي ﷺ ومن المستهزئين به، جاء عن ابن عباس أن عقبة لما قدم للقتل نادى: يا معشر قريش ما لي أُقتل بينكم صبرا؟ فقال له النبي ﷺ «بكفرك واجترائك على الله ورسوله»، وعقبة هذا هو الذي وضع سلا الجزور على ظهر النبي ﷺ وهو ساجد بمكة.
فالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط هما الأسيران اللذان أمر ﷺ بقتلهما، أما سائر الأسرى فقد استشار رسول الله ﷺ في أمرهم، فاستشار أبا بكر وعمر وعليّا رضي الله عنهم فيما هو الأصلح من الأمرين القتل أو أخذ الفداء.
رأي أبي بكر رضي الله عنه في الأسرى
قال أبو بكر: «يا رسول الله، أهلك وقومك»، وفي رواية: «هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان قد أعطاك الله الظفر بهم ونصرك عليهم أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم بك فيكونوا لنا عضدا» وقد وافق الصحابة أبا بكر على أخذ الفداء.
رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل الأسرى
قال: يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنني من - فلان - قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليّا من عقيل أخيه فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه العباس فيضرب عنقه حتى يُعلم أنه ليس في قلوبنا مودة للمشركين، ما أرى أن تكون لك أسرى فاضرب أعناقهم، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فأعرض عنه رسول الله ﷺ وقال سعد بن معاذ: - الإثخان في القتل أحب إليّ من إبقاء الرجال -.
أما عليّ رضي الله عنه فلم يذكر عنه جواب مع أنه أحد الثلاثة المستشارين، قال العلامة الزرقاني لأنه لما رأى تغيّر المصطفى ﷺ حين اختلف الشيخان، لم يجب أو لم تظهر له مصلحة حتى يذكرها.
وكان رأي عبد الله بن رواحة إحراقهم في واد كثير الحطب.
لكن رسول الله أخذ برأي أبي بكر رضي الله عنه، وقال: «لا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق»، وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَبٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَلا طَيّبا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنفال: 67 - 69)، فبكى النبي ﷺ وأبو بكر رضي الله عنه، وقال رسول الله ﷺ «إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب»، ولم يقل وابن رواحة لأنه أشار بإضرام النار وليس بشرع.
وهذه الآية موافقة لرأي عمر رضي الله عنه، وهي من المواضع التي جاء القرآن فيها موافقا لقول عمر رضي الله عنه، وهي كثيرة نحو بضعة وثلاثين أفردت بالتأليف.
ولما استقر الأمر على الفداء فرق رسول الله ﷺ الأسرى في أصحابه، وكان أول أسيرا فُديَ أبو وداعة الحارث فداه ابنه المطلب - وكان كيسا تاجرا - بأربعة آلاف درهم ثم أسلم وقد عده بعضهم من الصحابة، وعند ذلك بعثت قريش في فداء الأسارى، وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم وكان من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة إلى ألفين إلى ألف، ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم الكتابة فإذا تعلموا كان ذلك فداءه كما تقدم.
وكان من الأسرى أبو العاص بن الربيع فإنه أسلم بعد ذلك وهو زوج زينب بنت النبي ﷺ ورضي عنها وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، ولم يكن في ذلك الوقت تزوُّج الكافر بالمسلمة محرما، وإنما حرّم ذلك بعد لأن الأحكام إنما شرعت بالتدريج.
وقدمت زينب المدينة بعد شهر من بدر، وقد جاء بها زيد بن حارثة بأمر رسول الله ﷺ ثم أسلم زوجها وهاجر وردها إليه ﷺ بغير عقد بل بالنكاح الأول، وقيل: عقد عليها عقدا آخر وولدت له - أمامة - التي كان يحملها ﷺ على ظهره وهو يصلي، ثم لما كبرت تزوجها عليّ رضي الله عنه بعد خالتها فاطمة رضي الله عنها بوصية من فاطمة لعلي بذلك.
وكان في الأسارى وهب بن عُمَيْر رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك وأسره رفاعة بن رافع، وكان عُمَيْر شيطانا من شياطين قريش وكان ممن يؤذي رسول الله وأصحابه بمكة فجلس يوما مع صفوان بن أمية وكان جلوسه معه في الحجر فتذاكرا أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: ما في العيش خير بعدهم، فقال عُمَيْر: والله صدقت، أما والله لولا دَيْنٌ عليّ ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، كنت آتي محمدا حتى أقتله فإن لي فيهم علة، ابني أسير في أيديهم. فاغتنمها صفوان وقال: عليّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أُواسيهم ما بقوا، قال عُمَيْر: فاكتم عني شأني وشأنك، قال: أفعل، ثم إن عميرا أخذ سيفه وشحذه وسمّه ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينا عمر بن الخطاب في نفر من والمسلمين يتحدثون عن يوم بدر، إذ نظر إلى عمير حين أناخ راحلته على باب المسجد متوشحا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير، ما جاء إلا بشرّ. فدخل عمر على رسول الله، فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه، قال رسول الله: «فأدخله عليّ»، فأقبل عمر رضي الله عنه حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فأمسكه بها وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده، فإن هذا الخبيث غير مأمون.
ثم دخل به على رسول الله، فلما رآه وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: «أرسله يا عمر، أدن يا عُمَيْر»، فدنا، ثم قال عمير: أنعموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك، يا عمير بالسلام تحية أهل الجنة، ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم - يعني ولده وهبا - فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا؟ قال رسول الله: «اصدقني ما الذي جئت له»؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال ﷺ «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت لولا دين عليّ وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك»، قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتي به من خبر السماء ما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله تعالى، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وساقني هذا المساق.
ثم شهد شهادة الحق.
ثم قال رسول الله: «فَقِّهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن وأطلقوا أسيره» ففعلوا ذلك.
ومرّ رسول الله ﷺ على نفر من الأسرى بغير فداء منهم أبو عزة عمرو الجمحي الشاعر، وقد كان يؤذي النبي ﷺ والمسلمين بشعره، فقال: يا رسول الله إني فقير وذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن عليّ. فمن عليه رسول الله ﷺ وأطلقه وأخذ عليه عهدا أن لا يظاهر عليه أحدا، ولما وصل إلى مكة قال: سحرت محمدا ورجع لما كان عليه من الإيذاء بشعره، ولما كان يومُ أُحد خرج مع المشركين يحرّض على قتال المسلمين بشعره فأسر فأمر النبي ﷺ بضرب عنقه، فقال: أعتقني وأطلقني فإني تائب، فقال ﷺ «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين». فضربت عنقه وحمل رأسه إلى المدينة وأنزل الله فيه: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} (الأنفال: 71).