سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/قتل كعب بن الأشرف
كعب بن الأشرف اليهودي كان أبوه عربيا من بني نبهان، أصاب دما في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبا، وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة، شاعرا مجيدا، ساد يهود الحجاز بكثرة ماله فكان يعطي أحبار يهود ويصلهم، وكان يهجو رسول الله ﷺ في أشعاره ويحرض كفار قريش على قتاله، وكان من عداوته أنه لما أصيب أصحاب بدر، قدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية، بشيرين بعثهما رسول الله ﷺ إلى من بالمدينة من المسلمين يخبرانهم بفتح الله عز وجل عليه وقتل من قتل وأسر من أسر من المشركين، كبر عليه ذلك وقال: أحق هذا؟ أترون أن محمدا قتل هؤلاء الذين يسمّي هذان الرجلان - البشيران - وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما تيقن الخبر ورأى الأسرى خرج إلى قريش يبكي قتلاهم ويحرِّض بأشعاره على قتال النبي ﷺ وكان ينتقل من قوم إلى قوم وأخباره تصل إلى النبي ﷺ فيذكره لحسان فيهجوه، وقال رسول الله ﷺ «اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت»، ثم رجع إلى المدينة فتغزل في نساء المسلمين وذكرهن بسوء وأبى أن ينزع عن أداه، وكان يرمي إلى إحداث ثورة في المدينة ضد رسول الله ﷺ فغضب رسول الله ﷺ وقال: «من لي بابن الأشرف»، فقال محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله هو خالي، أنا أقتله، قال: «فافعل إن قدرت على ذلك»، فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فدعاه فقال له: «لم تركت الطعام والشراب؟» فقال: يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري أأفينَّ لك به أم لا؟ قال: «إنما عليك الجهد».
ثم أتى أبا نائلة، وكان أخا لكعب بن الأشرف من الرضاعة وكان شاعرا وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأخبرهم بما وعد به رسول الله من قتل ابن الأشرف، فأجابوه وقالوا كلنا نقتله، ثم أتوا رسول الله وقالوا: يا رسول الله لا بد لنا أن نقال، قال: قولوا ما بدا لكم فأنتم في حِلّ من ذلك، ومعنى ذلك أنهم استأذنوه أن يقولوا قولا غير مطابق للواقع يسر كعبا ليتوصلوا به إلى قتله وكان لا بد لهم من التماس الحيلة لأنه كان يقيم في حصن منيع خارج المدينة، فأباح لهم الكذب لأنه من خِدع الحرب، فجاء محمد بن مسلمة، كعب بن الأشرف فقال: إن هذا الرجل - يعني النبي ﷺ ـ قد سألنا صدقة ونحن ما نجد ما نأكل قد عَنَّانا وإني قد أتيتك أستسلفك، قال كعب: وأيضا والله لَتَمَلُّنَّه، قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين، قال: ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل؟ ثم أجابهم بأنه يسلفهم، وقال: ارهنوني، قالوا: أي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: وكيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن وسق أو وسقين؟ هذا عار علينا ولكن نرهنك الّلأمة يعني السلاح مع علمك بحاجتنا إليه، قال: نعم، وإنما قالوا لئلا ينكر عليهم مجيئهم إليه بالسلاح فواعده أن يأتيه وجاءه أيضا أبو نائلة وقال له: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد أن أذكرها لك فاكتم عني، فقال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول، فقال: إني أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك وإن معي أصحابا على مثل رأيي وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن إليهم ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء، فقال: إن في الحلقة لوفاء، وكان أبو نائلة أخا لكعب من الرضاعة ومحمد بن مسلمة ابن أخيه من الرضاعة، فجاءه محمد بن مسلمة وأبو نائلة ومعهما عباد بن بشر والحارث بن أوس بن معاذ وأبو عبس بن جبر وكلهم من الأوس، ولما فارقوا النبي ﷺ مشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم، ثم رجع ﷺ إلى بيته وكان ذلك بالليل وكانت الليلة مقمرة، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه وكان حديث عهد بعرس فناداه أبو نائلة ثم بقية أصحابه فعرفهم ووثب في ملحفته فأخذته امرأته بناحيتها وقالت: إنك امرؤ مُحارب وإن أصحاب الحروب لا ينزلون في مثل هذه الساعة، قال لها: إنه لأب نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال لها كعب: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب، فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن تمشي إلى شعب العجوز نتحدث به بقية ليلتنا؟ فقال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة أدخل يده في باطن رأسه ثم شم يده وقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها وأمسكه من شعره وقال: اضربوا عدو الله فضربوه بأسيافهم فوقع على الأرض فجزوا رأسه فحملوه في مخلاة كانت معهم إلى رسول الله، وكان ذلك في السنة الثالثة من الهجرة شهر ربيع الأول (يوليه سنة 624م).
هذه الحادثة قد أوقعت الرعب في نفوس اليهود جميعا، فقد قال رسول الله ﷺ «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه»، فلم يخرج من عظمائهم أحد من شدة خوفهم.