سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/غزوة تبوك أو العسرة
رجب سنة 9 هـ - أكتوبر سنة 630 م
تَبُوك موضع بين وادي القرى والشام بينه وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة وهي غزوة العسرة، مأخوذة من قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} (التوبة: 117)، وكانت في رجب سنة تسع من الهجرة - سبتمبر - أكتوبر سنة 630 م - وهي آخر غزواته ﷺ وكان الوقت حين خروجه حرا شديدا وقحطا شديدا ولذلك لم يور عنها كعادته في سائر الغزوات بل بيَّنها للناس وأخبرهم أنه يريد الروم وكانوا من شدة الحر ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء فسميت غزوة العسرة أي الشدة والضيق وهي آخر غزواته ﷺ
وسببها: أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام وأن هرقل قد رزق أصحابه ل سنة وأجلبت معه لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وقيل: إن الإمبراطور هرقل كان في حمص.
إخلاص الصحابة وصدقاتهم
ندب رسول الله ﷺ إلى الخروج وأعلمهم المكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم وأمر الناس بالصدقة وحثهم على النفقة والحُملان فجاءوا بصدقات كثيرة فكان أول من جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه فجاء ماله كله 40000 درهم فقال له ﷺ «هل أبقيت لأهلك شيئا؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله فسأله: «هل أبقيت لهم شيئا؟» قال: نعم نصف مالي، وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بمائتي أوقية، وتصدق عاصم بن عدي بسبعين وَسْقا من تمر وجهِّز عثمان رضي الله عنه ثلث الجيش.
البكاءون
جاء البكاءون وهم سبعة يطلبون من رسول الله ما يركبون عليه فقال: ما أجد ما أحملكم عليه، وقيل: كانوا أكثر من سبعة، فلما قال لهم ذلك انصرفوا باكين وهم الذين قال الله فيهم: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ لله} (التوبة: 92).
المتخلفون
وجاء ناس من المنافقين يستأذنون رسول الله في التخلف من غير علة فأذن لهم وهم بضعة وثمانون رجلا وقال قائل من المنافقين: لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد وشَكّا في الحق وإرجافا بالرسول وكان من المتخلفين عبد الله بن أبي بن سلول.
المعذرون
وجاء المعذّرون من الأعراب وهم الذين يعتذرون بالباطل ليؤذن لهم في التخلف فاعتذروا إليه فلم يعذرهم وقيل: هم أسد وغطفان.
واستخلف رسول الله على عسكره أبا بكر الصديق يصلي بالناس واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة - قال ابن سعد وهو أثبت عندنا ممن قال استخلف غيره - واستخلف علِيّ بن أبي طالب على أهله ﷺ مدة غيبته بتبوك فأرجف المنافقون بعلِيّ بن أبي طالب وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له وتخففا منه، فلما قال ذلك المنافقون أخذ علِيّ سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله وهو بالجُرف فقال: يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني أنك استثقلتني وتخففت مني، فقال: «كذبوا ولكني إنما خلفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى يا علِيّ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبيّ بعدي»، فرجع علِيّ إلى المدينة.
ولما ارتحل رسول الله عن ثنية الوداع متوجها إلى تبوك عقد الألوية والرايات فدفع لواءه الأعظم لأبي بكر ورايته العظمى للزبير ودفع راية الأوس لأسيد بن حضير وراية الخزرج للحباب بن المنذر ودفع لكل بطن من الأنصار وقبائل العرب لواء أو راية.
عدد جيش المسلمين
سار رسول الله بالناس وهم 30000 والخيل 10000 وقد كان هذا الجيش بعد تخلف المنافقين وغيرهم، أعظم جيش تألف في العرب.
قدم رسول الله تبوك ومعه هذا العدد من الجيش فأقام بها عشرين ليلة يصلي بها ركعتين.
بعث خالد بن الوليد
أرسل رسول الله خالد بن الوليد في 420 فارسا في رجب سنة تسع سرية، إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة وكان أكيدر من كندة قد ملكهم وكان نصرانيا وكان ملكا من قِبَل هرقل فانتهى إليه خالد وقد خرج من حصنه في ليلة مقمرة هو وأخوه حسَّان فشدت عليه خيل خالد بن الوليد فاستأسر أكيدر وامتنع أخوه حسَّان وقاتل حتى قتل وهرب من كان معهما فدخل الحصن وأجار خالد أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول الله على أن يفتح له دومة الجندل ففعل وصالحه على 2000 بعير و 800 فرس و 400 درع و 400 رمح فعزل للنبي ﷺ صفيا خالصا ثم قسم ما بقي بين أصحابه فصار لكل رجل منهم خمس فرائض ثم خرج خالد بن الوليد بأكيدر وبأخيه مصاد وكان في الحصن وبما صالحه عليه قافلا إلى المدينة فقدم بأكيدر على رسول الله فأهدى له هدية صالحة على الجزية وحقن دمه ودم أخيه وخلى سبيلهما وكتب له رسول الله كتابا فيه أمانهم وما صالحهم عليه وختمه يومئذ بظفره وكان رسول الله استعمل على حرسه بتبوك عباد بن بشر فكان يطوف في أصحابه على العسكر.
ثم انصرف رسول الله من تبوك إلى المدينة بعد أن أقام بها نحو عشرين ليلة ولم يلق كيدا ولما دنا من المدينة تلقّاه عامة الذين تخلفوا فقال رسول الله لأصحابه: «لا تكلموا رجلا منهم»، فأعرض عنهم رسول الله والمسلمون حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه وجعل المنافقون يحلفون ويعتذرون، فقبل ظاهرهم وعلانيتهم واستغفر لهم وقد كانوا يخبرون عنه أخبار السوء وكان قدوم رسول الله من تبوك في رمضان.
المعجزات وخوارق العادات
في هذه الغزوة وقع لرسول الله بعض المعجزات وخوارق العادات والإخبار بالمغيبات نذكر منها:
كان رسول الله حين مرّ بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها فلما راحوا منها قال رسول الله: «لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضأوا منها للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له»، ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خُنق على مذهبه، وأما الذي ذهب لطلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته في جبل طيىء فأخبر بذلك رسول الله ﷺ فقال: «ألم أنهكم أن يخرج أحد إلا ومعه صاحب؟« ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر الذي وقع بجبل طيىء فإن طيئا أهدته لرسول الله حين قدم المدينة.
ولما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله فدعا الله فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء.
وضلت ناقة رسول الله ببعض الطريق، فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول الله رجل من بعض أصحابه يُقال له عمارة بن حزم الأنصاري، وكان في رحله زيد بن لصيت القينقاعي، وكان منافقا فقال زيد بن لصيت، وهو في رحل عمارة وعمارة عند رسول الله: أليس يزعم محمد أنه يخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله وعمارة عنده: إن رجلا قال إن هذا محمدا يخبركم أنه نبي، وهو يزعم أنه يخبركم بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها وهي في الوادي من شعب كذا وكذا قد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوا بها، فذهبوا فجاءوا بها إلى آخر القصة، ثم مضى رسول الله سائرا فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان، فيقول: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه»، حتى قيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره فقال: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه»، وتلوّم أبو ذر على بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله ماشيا ونزل رسول الله في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله: «كن أبا ذر»، فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو أبو ذر، فقال رسول الله: «يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويُبعث وحده»، وقد تحقق قوله عليه الصلاة والسلام، فإن عثمان رضي الله عنه لما نفى أبا ذر نزل أبو ذر الرّبذَة فأصابه بها قَدَره ولم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن اغسلاني وكفناني ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول مركب يمر بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه، فلما مات فعلا ذلك به ثم وضعاه على قارعة الطريق فأقبل عبد الله بن مسعود ورهط من أهل العراق عُمّارا فلم يرعهم إلا جنازة على الطريق قد كادت الإبل تطؤها، وقام الغلام فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه، فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله: «تمشي وحدك، وتموت وحدك وتُبعث وحدك» ثم نزل هو وأصحابه فواروه ثم حدثهم ابن مسعود حديثه وما قال له رسول الله في مسيره إلى تبوك واسم أبي ذر (جندب بن جنادة) ومات في سنة 32 هـ.