البداية والنهاية/الجزء الخامس/وقوفه عليه السلام بالمشعر الحرام ودفعه من المزدلفة قبل طلوع الشمس
وإيضاعه في وادي محسر
قال الله تعالى: { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } الآية. [البقرة: 198] .
وقال جابر في حديثه: فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله عز وجلوكبره، وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، ودفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس وراءه.
وقال البخاري: ثنا الحجاج بن منهال، ثنا شعبة عن ابن اسحاق قال: سمعت عمرو بن ميمون يقول: شهدت عمر صلى بجمع الصبح، ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير، وإن رسول الله ﷺ أفاض قبل أن تطلع الشمس.
وقال البخاري: ثنا عبد الله بن رجاء، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: خرجت مع عبد الله إلى مكة، ثم قدمنا جمعا فصلى صلاتين، كل صلاة وحدها بأذان وإقامة والعشاء بينهما، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر قائل يقول: طلع الفجر و قائل يقول: لم يطلع الفجر ثم قال: إن رسول الله ﷺ قال: «إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب و العشاء، فلا تقدم الناس جمعا حتى يعتموا، وصلاة الفجر هذه الساعة».
ثم وقف حتى أسفر ثم قال: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن أصاب السنة.
فلا أدري أقوله كان أسرع، أو دفع عثمان.
فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر.
وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني، ثنا يحيى بن محمد بن يحيى، ثنا عبد الرحمن بن المبارك العبسي، ثنا عبد الوارث بن سعيد عن ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن المسور بن مخرمة قال: خطبنا رسول الله بعرفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هاهنا عند غروب الشمس حتى تكون الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف لهديهم، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف لهديهم».
قال: ورواه عبد الله بن ادريس عن ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو خالد سليمان بن حيان سمعت الأعمش عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ أفاض من المزدلفة قبل طلوع الشمس.
وقال البخاري: ثنا زهير بن حرب، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي عن يونس الإيلي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس أن أسامة كان ردف النبي ﷺ من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى.
قال: فكلاهما قال: لم يزل النبي ﷺ يلبي حتى رمى جمرة العقبة.
ورواه ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس.
وروى مسلم من حديث الليث بن سعد عن أبي الزبير، عن أبي معبد، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس وكان رديف رسول الله ﷺ أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: «عليكم بالسكينة» وهو كاف ناقته، حتى دخل محسرا، وهو من منى قال: «عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة».
قال: ولم يزل رسول الله ﷺ يلبي حتى رمى الجمرة.
وقال الحافظ البيهقي - باب الإيضاع في وادي محسر -: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عمرو المقري، وأبو بكر الوراق، أنبأنا الحسن بن سفيان، ثنا هشام بن عمار، وأبو بكر ابن ابي شيبة قالا: ثنا حاتم بن إسماعيل، ثنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر في حج النبي ﷺ قال: حتى إذا أتى محسرا حرك قليلا.
رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر ابن شيبة.
ثم روى البيهقي من حديث سفيان الثوري عن أبي الزبير، عن جابر قال: أفاض رسول الله ﷺ وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة، وأوضع في وادي محسر، وأمرهم أن يرموا الجمار بمثل حصى الخذف.
وقال: «خذوا عني مناسككم، لعلي لا أراكم بعد عامي هذا».
ثم روى البيهقي من حديث الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن عبيد الله ابن أبي رافع، عن علي أن رسول الله ﷺ أفاض من جمع حتى أتى محسرا، فقرع ناقته حتى جاوز الوادي فوقف، ثم أردف الفضل ثم أتى الجمرة فرماها، هكذا رواه مختصرا.
وقد قال الإمام أحمد: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيري، ثنا سفيان بن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش ابن أبي ربيعة عن زيد بن علي، عن أبيه، عن عبيد الله ابن أبي رافع، عن علي قال: وقف رسول الله ﷺ بعرفة فقال: «إن هذا الموقف، وعرفة كلها موقف» وأفاض حين غابت الشمس، وأردف أسامة فجعل يعنق على بعيرة، والناس يضربون يمينا وشمالا لا يلتفت إليهم، ويقول: «السكينة أيها الناس».
ثم أتى جمعا فصلى بهم الصلاتين المغرب والعشاء، ثم بات حتى أصبح، ثم أتى قزح فوقف على قزح فقال: «هذا الموقف وجمع كلها موقف» ثم سار حتى أتى محسرا فوقف عليه، فقرع دابته فخبت حتى جاز الوادي ثم حبسها، ثم أردف الفضل وسار حتى أتى الجمرة فرماها، ثم أتى المنحر فقال: «هذا المنحر، ومنى كلها منحر».
قال: واستفتته جارية شابة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير قد أفند، وقد أدركته فريضة الله في الحج، فهل يجزئ عنه أن أودي عنه؟
قال: «نعم!فأدي عن أبيك».
قال: ولوى عنق الفضل فقال له العباس: يا رسول الله، لم لويت عنق ابن عمك؟
قال: «رأيت شابا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما».
قال: ثم جاءه رجل فقال: يا رسول الله حلقت قبل أن أنحر.
قال: «إنحر ولا حرج».
ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله إني أفضت قبل أن أحلق.
قال: «إحلق أو قصر ولا حرج».
ثم أتى البيت فطاف، ثم أتى زمزم فقال: «يا بني عبد المطلب سقايتكم، ولولا أن يغلبكم الناس عليها لنزعت معكم».
وقد رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن آدم، عن سفيان الثوري.
ورواه الترمذي عن بندار، عن أبي أحمد الزبيري.
وابن ماجه عن علي بن محمد، عن يحيى بن آدم.
وقال الترمذي: حسن صحيح، لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه.
قلت: وله شواهد من وجوه صحيحة مخرجة في الصحاح وغيرها، فمن ذلك: قصة الخثعمية، وهو في الصحيحين من طريق الفضل، وتقدمت في حديث جابر، وسنذكر من ذلك ما تيسر.
وقد حكى البيهقي بإسناد عن ابن عباس أنه أنكر الإسراع في وادي محسر وقال: إنما كان ذلك من الأعراب.
قال: والمثبت مقدم على النافي.
قلت: وفي ثبوته عنه نظر، والله أعلم.
وقد صح ذلك عن جماعة من الصحابة عن رسول الله، وصح من صنيع الشيخين أبي بكر وعمر أنهما كانا يفعلان ذلك.
فروى البيهقي عن الحاكم، عن النجاد وغيره، عن أبي علي محمد بن معاذ بن المستهل المعروف بدران، عن القعنبي، عن أبيه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن المسور بن مخرمة أن عمر كان يوضع ويقول:
إليك تعدوا قلقا وضينها * مخالف دين النصارى دينها