البداية والنهاية/الجزء الخامس/ذكر ما قاله أنه صلى الله عليه وسلم حج متمتعا
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: تمتع رسول الله ﷺ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهل فساق الهدي من ذي الحليفة، وبدا رسول الله ﷺ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وكان من الناس من أهدى فساق الهدي من ذي الحليفة، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله ﷺ مكة قال للناس: «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجته، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام، وسبعة إذا رجع إلى أهله».
وطاف رسول الله ﷺ حين قدم مكة استلم الحجر أول شيء، ثم خب ثلاثة أشواط من السبع، ومشى أربعة أطواف، ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة، ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، وفعل مثل ما فعل رسول الله ﷺ من أهدى فساق الهدي من الناس.
قال الإمام أحمد: وحدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، أن عائشة أخبرته، عن رسول الله ﷺ في تمتعه بالعمرة إلى الحج، وتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم بن عبد الله عن عبد الله، عن رسول الله ﷺ.
وقد روى هذا الحديث البخاري عن يحيى بن بكير.
ومسلم وأبو داود عن عبد الملك بن شعيب، عن الليث، عن أبيه.
والنسائي عن محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، عن حجين بن المثنى، ثلاثتهم عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة كما ذكره الإمام أحمد رحمه الله.
وهذا الحديث من المشكلات على كل من الأقوال الثلاثة.
أما قول الإفراد: ففي هذا إثبات عمرة، إما قبل الحج أو معه.
وأما على قول التمتع الخاص: فلأنه ذكر أنه لم يحل من إحرامه بعد ما طاف بالصفا والمروة، وليس هذا شأن المتمتع.
ومن زعم أنه إنما منعه من التحلل سوق الهدي، كما قد يفهم من حديث ابن عمر عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة، ولم تحل أنت من عمرتك؟
فقال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هدي، فلا أحل حتى أنحر».
فقولهم بعيد لأن الأحاديث الواردة في إثبات القران ترد هذا القول، وتأبى كونه عليه السلام إنما أهل أولا بعمرة، ثم بعد سعيه بالصفا والمروة أهل بالحج.
فإن هذا على هذه الصفة لم ينقله أحد بإسناد صحيح، بل ولا حسن ولا ضعيف.
وقوله في هذا الحديث: تمتع رسول الله ﷺ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، إن أريد بذلك التمتع الخاص، وهو الذي يحل منه بعد السعي، فليس كذلك فإن في سياق الحديث ما يرده ثم في إثبات العمرة القارنة لحجه عليه السلام ما يأباه، وإن أريد به التمتع العام دخل في القران وهو المراد.
وقوله: وبدأ رسول الله ﷺ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، إن أريد به بدأ بلفظ العمرة على لفظ الحج بأن قال: «لبيك اللهم عمرة وحجا» فهذا سهل ولا ينافي القرآن.
وإن أريد به أنه أهل بالعمرة أولا ثم أدخل عليها الحج متراخ، ولكن قبل الطواف قد صار قارنا أيضا، وإن أريد به أنه أهل بالعمرة ثم فرغ من أفعالها تحلل أو لم يتحلل بسوق الهدي، كما زعمه زاعمون، ولكنه أهل بحج بعد قضاء مناسك العمرة وقبل خروجه إلى منى، فهذا لم ينقله أحد من الصحابة كما قدمنا.
ومن ادعاه من الناس فقوله مردود لعدم نقله، ومخالفته الأحاديث الواردة في إثبات القران كما سيأتي.
بل والأحاديث الواردة في الإفراد كما سبق والله أعلم والظاهر والله أعلم.
و الظاهر و الله أعلم: أن حديث الليث هذا عن عقيل، عن الزهري، عن سالم عن ابن عمر يروى من الطريق الأخرى عن ابن عمر حين أفرد الحج، ومن محاصرة الحجاج لابن الزبير فقيل له: أن الناس كائن بينهم شيء فلو أخرت الحج عامك هذا.
فقال: إذا أفعل كما فعل النبي ﷺ يعني: زمن حصر عام الحديبية، فأحرم بعمرة من ذي الحليفة، ثم لما علا شرف البيداء قال: ما أرى أمرهما إلا واحدا، فأهل بحج معها، فاعتقد الراوي أن رسول الله ﷺ هكذا فعل سواء، بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، فرووه كذلك.
وفيه نظر لما سنبينه، وبيان هذا في الحديث الذي رواه عبد الله بن وهب، أخبرني مالك بن أنس وغيره أن نافعا حدثهم أن عبد الله بن عمر خرج في الفتنة معتمرا وقال: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنع رسول الله ﷺ فخرج فأهل بالعمرة، وسار حتى إذا ظهر على ظاهر البيداء التفت إلى أصحابه فقال: «ما أمرهما إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة».
فخرج حتى جاء البيت فطاف به، وطاف بين الصفا والمروة سبعا لم يزد عليه، وأرى أن ذلك مجزيا عنه وأهدى.
وقد أخرجه صاحب الصحيح من حديث مالك.
وأخرجاه من حديث عبيد الله عن نافع به.
ورواه عبد الرزاق عن عبيد الله، وعبد العزيز ابن أبي رواد، عن نافع به نحوه.
وفيه ثم قال في آخره: هكذا فعل رسول الله ﷺ.
وفيما رواه البخاري حيث قال: حدثنا قتيبة، ثنا ليث عن نافع أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير.
فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال، وإنا نخاف أن يصدوك.
قال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إذا أصنع كما صنع رسول الله ﷺ، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة.
ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال: «ما أرى من شأن الحج والعمرة إلا واحدا، أشهدكم أني أوجبت حجا مع عمرتي».
فأهدى هديا اشتراه بقديد، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر ولم يحل من شيء حرم منه، ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول.
وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله ﷺ.
وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا ابن علية عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر دخل عليه ابنه عبد الله بن عبد الله، وظهره في المدار فقال: إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال فيصدوك عن البيت فلو أقمت.
قال: قد خرج رسول الله ﷺ فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله ﷺ، فقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إذا أصنع كما صنع رسول الله ﷺ إني أشهدكم أني قد أوجبت مع عمرتي حجا، ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا.
وهكذا رواه البخاري عن أبي النعمان، عن حماد بن زيد، عن أيوب ابن أبي تميمة السختياني، عن نافع به.
ورواه مسلم من حديثهما عن أيوب به.
فقد اقتدى ابن عمر رضي الله عنه برسول الله ﷺ في التحلل عند حصر العدو والاكتفاء بطواف واحد عن الحج والعمرة، وذلك لأنه كان قد أحرم أولا بعمرة ليكون متمتعا، فخشي أن يكون حصر، فجمعهما وأدخل الحج قبل العمرة قبل الطواف، فصار قارنا.
وقال: ما أرى أمرهما إلا واحدا - يعني: لا فرق بين أن يحصر الإنسان عن الحج أو العمرة أو عنهما - فلما قدم مكة اكتفى عنهما بطوافه الأول، كما صرح به في السياق الأول الذي أفردناه.
وهو قوله: ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول.
قال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله ﷺ يعني: أنه اكتفى عن الحج والعمرة بطواف واحد - يعني: بين الصفا والمروة - وفي هذا دلالة على أن ابن عمر روى القران.
ولهذا روى النسائي عن محمد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن نافع أن ابن عمر قرن الحج والعمرة فطاف طوافا واحدا.
ثم رواه النسائي عن علي بن ميمون الرقي، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، وأيوب بن موسى، وأيوب السختياني، وعبد الله بن عمر، أربعتهم عن نافع أن ابن عمر أتى ذا الحليفة فأهل بعمرة، فخشي أن يصد عن البيت.
فذكر تمام الحديث من إدخاله الحج على العمرة، وصيرورته قارنا.
والمقصود: أن بعض الرواة لما سمع قول ابن عمر: إذا أصنع كما صنع رسول الله ﷺ.
وقوله: كذلك فعل رسول الله ﷺ اعتقد أن رسول الله ﷺ بدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج فأدخله عليها قبل الطواف، فرواه بمعنى ما فهم.
ولم يرد ابن عمر ذلك، وإنما أراد ما ذكرناه والله أعلم بالصواب، ثم بتقدير أن يكون أهل بالعمرة أولا، ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف، فإنه يصير قارنا لا متمتعا التمتع الخاص، فيكون فيه دلالة لمن ذهب إلى أفضلية التمتع، والله تعالى أعلم.
وأما الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا همام عن قتادة، حدثني مطرف عن عمران قال: تمتعنا على عهد النبي ﷺ ونزل القران قال رجل برأيه ما شاء.
فقد رواه مسلم عن محمد بن المثنى، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن همام، عن قتادة به.
والمراد به: المتعة التي أعم من القران، والتمتع الخاص، ويدل على ذلك ما رواه مسلم: من حديث شعبة وسعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، عن مطرف، عن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن الحصين أن رسول الله ﷺ جمع بين حج وعمرة - وذكر تمام الحديث -.
وأكثر السلف يطلقون المتعة على القران كما قال البخاري: حدثنا قتيبة، ثنا حجاج بن محمد الأعور عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: اختلف علي وعثمان رضي الله عنهما وهما بعسفان في المتعة.
فقال علي: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله ﷺ فلما رأى ذلك علي ابن أبي طالب أهل بهما جميعا.
ورواه مسلم من حديث شعبة أيضا عن الحكم بن عيينة، عن علي بن الحسين، عن مروان بن الحكم عنهما به.
وقال علي: ما كنت لأدع سنة رسول الله ﷺ بقول أحد من الناس.
ورواه مسلم من حديث شعبة أيضا عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق عنهما فقال له علي: ولقد علمت إنما تمتعنا مع رسول الله ﷺ؟
قال: أجل!ولكنا كنا خائفين.
وأما الحديث الذي رواه مسلم: من حديث غندر عن شعبة، وعن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن مسلم بن مخراق القري سمع ابن عباس يقول: أهل رسول الله ﷺ بعمرة، وأهل أصحابه بحج، فلم يحل رسول الله ﷺ ولا من ساق الهدي من أصحابه، وحل بقيتهم.
فقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وروح بن عبادة عن شعبة، عن مسلم القري، عن ابن عباس قال: أهل رسول الله ﷺ بالحج - وفي رواية أبي داود - أهل رسول الله وأصحابه بالحج، فمن كان منهم لم يكن له متعة هدي حل، ومن كان معه هدي لم يحل الحديث.
فإن صححنا الروايتين جاء القران.
وإن توقفنا في كل منهما وقف الدليل.
وإن رجحنا رواية مسلم في صحيحه في رواية العمرة.
فقد تقدم عن ابن عباس أنه روى الإفراد وهو الإحرام بالحج، فتكون هذه زيادة على الحج فيجيء القول بالقران، لا سيما وسيأتي عن ابن عباس ما يدل على ذلك.
وروى مسلم: من حديث غندر ومعاذ بن معاذ عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس أن رسول الله قال: «هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن معه هدي فليحل الحل كله، فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
وروى البخاري عن آدم ابن أبي إياس، ومسلم من حديث غندر كلاهما، عن شعبة، عن أبي جمرة قال: تمتعت فنهاني ناس، فسألت ابن عباس فأمرني بها، فرأيت في المنام كأن رجلا يقول: حج مبرور، ومتعة متقبلة.
فأخبرت ابن عباس فقال: الله أكبر سنة أبي القاسم صلوات الله وسلامه عليه.
والمراد بالمتعة ههنا: القران.
وقال القعيني وغيره عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أنه حدثه أنه سمع سعد ابن أبي وقاص، والضحاك بن قيس عام حج معاوية ابن أبي سفيان يذكر التمتع بالعمرة إلى الحج.
فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله.
فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي.
فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب كان ينهى عنها.
فقال سعد: قد صنعها رسول الله ﷺ وصنعناها معه.
ورواه الترمذي، والنسائي عن قتيبة، عن مالك.
وقال الترمذى: صحيح.
وقال عبد الرزاق عن معتمر بن سليمان، وعبد الله بن المبارك كلاهما، عن سليمان التيمي، حدثني غنيم بن قيس سألت سعد ابن أبي وقاص عن التمتع بالعمرة إلى الحج.
قال: فعلتها مع رسول الله ﷺ وهذا يومئذ كافر في العرش - يعني: مكة - ويعني به: معاوية -.
ورواه مسلم من حديث شعبة، وسفيان الثوري، ويحيى بن سعيد، ومروان الفزاري أربعتهم عن سليمان التيمي سمعت غنيم بن قيس، سألت سعدا عن المتعة.
فقال: قد فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش.
وفي رواية يحيى بن سعيد - يعني: معاوية -.
وهذا كله من باب إطلاق التمتع على ما هو أعم من التمتع الخاص، وهو الإحرام بالعمرة والفراغ منها ثم الإحرام بالحج ومن القران، بل كلام سعد فيه دلالة على إطلاق التمتع على الاعتمار في أشهر الحج، وذلك أنهم اعتمروا ومعاوية بعد كافر بمكة قبل الحج إما عمرة الحديبية، أو عمرة القضاء وهو الأشبه، فأما عمرة الجعرانة فقد كان معاوية أسلم مع أبيه ليلة الفتح، وروينا أنه قصر من شعر النبي ﷺ بمشقص في بعض عمره، وهي عمرة الجعرانة لا محالة، والله أعلم.