البداية والنهاية/الجزء الخامس/فصل في ذكر أمور مهمة وقعت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه
ومن أعظمها وأجلها وأيمنها بركة على الإسلام وأهله بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لما مات كان الصديق رضي الله عنه قد صلى بالمسلمين صلاة الصبح، وكان إذ ذاك قد أفاق رسول الله ﷺ إفاقة من غمرة ما كان فيه من الوجع، وكشف سترة الحجرة، ونظر إلى المسلمين وهم صفوف في الصلاة خلف أبي بكر فأعجبه ذلك، وتبسم صلوات الله وسلامه عليه حتى هم المسلمون أن يتركوا ما هم فيه من الصلاة لفرحهم به، وحتى أراد أبو بكر أن يتأخر ليصل الصف، فأشار إليهم أن يمكثوا كما هم وأرخى الستارة، وكان آخر العهد به عليه الصلاة والسلام فلما انصرف أبو بكر رضي الله عنه من الصلاة دخل عليه وقال لعائشة: ما أرى رسول الله ﷺ إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة - يعني: إحدى زوجتيه - وكانت ساكنة بالسنح شرقي المدينة، فركب على فرس له وذهب إلى منزله، وتوفي رسول الله ﷺ حين اشتد الضحى من ذلك اليوم، وقيل: عند زوال الشمس، والله أعلم.
فلما مات واختلف الصحابة فيما بينهم فمن قائل يقول: مات رسول الله ﷺ.
ومن قائل: لم يمت.
فذهب سالم بن عبيد وراء الصديق إلى السنح فأعلمه بموت رسول الله ﷺ فجاء الصديق من منزله حين بلغه الخبر، فدخل على رسول الله ﷺ منزله، وكشف الغطاء عن وجهه وقبله، وتحقق أنه قد مات، خرج إلى الناس فخطبهم إلى جانب المنبر وبين لهم وفاة رسول الله ﷺ كما قدمنا، وأزاح الجدل، وأزال الإشكال، ورجع الناس كلهم إليه وبايعه في المسجد جماعة من الصحابة، ووقعت شبهة لبعض الأنصار، وقام في أذهان بعضهم جواز استخلاف خليفة من الأنصار، وتوسط بعضهم بين أن يكون أمير من المهاجرين وأمير من الأنصار، حتى بين لهم الصديق أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، فرجعوا إليه وأجمعوا عليه، كما سنبينه، وننبه عليه.