البداية والنهاية/الجزء الخامس/بيان رواية الجماعة لما رواه الصديق وموافقتهم على ذلك
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان، وكان محمد بن خبير بن مطعم ذكر لي ذكرا من حديثه ذلك فانطلقت حتى دخلت عليه فسألته فقال: انطلقت حتى أدخل على عمر فأتاه حاجبه يرفا.
فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد؟
قال: نعم!فأذن لهم.
ثم قال: هل لك في علي وعباس؟
قال: نعم!
قال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا.
قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعملون أن رسول الله ﷺ قال: «لا نورث ما تركنا صدقة؟» يريد رسول الله ﷺ نفسه؟
قال الرهط: قد قال ذلك، فأقبل على علي، وعباس فقال: هل تعلمان أن رسول الله ﷺ قد قال ذلك؟
قالا: قد قال ذلك.
قال عمر بن الخطاب: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان قد خص لرسول الله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره قال: { وما أفاء الله على رسوله } [الحشر: 6] إلى قوله { قدير } فكانت خالصة لرسول الله ﷺ والله ما احتازها دونكم، ولا استأثرها عليكم، لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله ﷺ ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل بذلك رسول الله حياته، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟
قالوا: نعم.
ثم قال لعلي وعباس: أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك؟
قالا: نعم!فتوفى الله نبيه فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا ولي رسول الله ﷺ فقبضها، فعمل بما عمل به رسول الله ﷺ ثم توفى الله أبا بكر فقلت: أنا ولي ولي رسول الله ﷺ فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل رسول الله ﷺ وأبو بكر، ثم جئتماني كلمتكما واحدة وأمركما جميع حتى جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا ليسألني نصيب امرأته من أبيها فقلت: إن شئتما دفعتها إليكما بذلك فتلتمسان مني قضاء غير ذلك، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما فادفعاها إلي، فأنا أكفيكماها.
وقد رواه البخاري في أماكن متفرقة من صحيحه، ومسلم، وأهل السنن من طرق عن الزهري به.
وفي رواية في الصحيحين فقال عمر: فوليها أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله ﷺ والله يعلم أنه صادق بار، راشد، تابع للحق، ثم وليتها فعملت فيها بما عمل رسول الله ﷺ وأبو بكر، والله يعلم إني صادق، بار، راشد، تابع للحق، ثم جئتماني فدفعتها إليكما لتعملا فيها بما عمل رسول الله، وأبو بكر، وعملت فيها أنا أنشدكم بالله أدفعتها إليهم بذلك؟
قالوا: نعم!
ثم قال لهما: أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك؟
قالا: نعم.
قال: أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك!لا والذي بإذنه تقوم السماء والأرض.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو، عن الزهري، عن مالك بن أوس قال: سمعت عمر يقول لعبد الرحمن، وطلحة، والزبير، وسعد: نشدتكم بالله الذي تقوم السماء والأرض بأمره أعلمتم أن رسول الله ﷺ قال: «لا نورث ما تركنا صدقة؟»
قالوا: نعم.
على شرط الصحيحين.
قلت: وكان الذي سألاه - بعد تفويض النظر إليهم والله أعلم - هو أن يقسم بينهما النظر فيجعل لكل واحد منهما نظر ما كان يستحقه بالأرض لو قدر أنه كان وارثا، وكأنهما قدما بين أيديهما جماعة من الصحابة، منهم: عثمان، وابن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد، وكان قد وقع بينهما خصومة شديدة بسبب إشاعة النظر بينهما.
فقالت الصحابة الذين قدموهم بين أيديهما: يا أمير المؤمنين إقض بينهما، أو أرح أحدهما من الآخر، فكأن عمر رضي الله عنه تحرج من قسمة النظر بينهما بما يشبه قسمة الميراث ولو في الصورة الظاهرة محافظة على امتثال قوله ﷺ: «لا نورث ما تركنا صدقة» فامتنع عليهم كلهم وأبى ذلك أشد الإباء رضي الله عنه وأرضاه ثم إن عليا، والعباس استمرا على ما كانا عليه ينظران فيها جميعا إلى زمان عثمان بن عفان، فغلبه عليها علي وتركها له العباس بإشارة ابنه عبد الله رضي الله عنهما بين يدي عثمان.
كما رواه أحمد في مسنده، فاستمرت في أيدي العلويين، وقد تقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإني ولله الحمد جمعت لكل واحد منهما مجلدا ضخما مما رواه عن رسول الله ﷺ، ورآه من الفقه النافع الصحيح، ورتبته على أبواب الفقه المصطلح عليها اليوم، وقد روينا أن فاطمة رضي الله عنها احتجت أولا بالقياس وبالعموم في الآية الكريمة، فأجابها الصديق بالنص على الخصوص بالمنع في حق النبي، وأنها سلمت له ما قال، وهذا هو المظنون بها رضي الله عنها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة أن فاطمة قالت لأبي بكر: من يرثك إذا مت؟
قال: ولدي وأهلي.
قالت: فما لنا لا نرث رسول الله ﷺ؟
فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن النبي لا يورث» ولكني أعول من كان رسول الله ﷺ يعول، وأنفق على من كان رسول الله ﷺ ينفق.
وقد رواه الترمذي في جامعه عن محمد بن المثنى، عن أبو الوليد الطيالسي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة فذكره بوصل الحديث.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد ابن أبي شيبة، ثنا محمد بن فضيل عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال: لما قبض رسول الله ﷺ أرسلت فاطمة إلى أبي بكر أأنت ورثت رسول الله ﷺ أم أهله؟
فقال: لا بل أهله.
فقالت: فأين سهم رسول الله ﷺ؟
فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله إذا أطعم نبيا طعمة، ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده» فرأيت أن أرده على المسلمين.
قالت: فأنت وما سمعت من رسول الله ﷺ.
وهكذا رواه أبو داود عن عثمان ابن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل به، ففي لفظ هذا الحديث غرابة ونكارة، ولعله روي بمعنى ما فهمه بعض الرواة، وفيهم من فيه تشيع فليعلم ذلك، وأحسن ما فيه قولها: أنت وما سمعت من رسول الله ﷺ، وهذا هو الصواب والمظنون بها واللائق بأمرها وسيادتها، وعلمها، ودينها رضي الله عنها.
وكأنها سألته بعد هذا أن يجعل زوجها ناظرا على هذه الصدقة، فلم يجبها إلى ذلك لما قدمناه، فتعتبت عليه بسبب ذلك وهي امرأة من بنات آدم تأسف كما يأسفون، وليست بواجبة العصمة مع وجود نص رسول الله ﷺ ومخالفة أبي بكر الصديق رضي الله عنها.
وقد روينا عن أبي بكر رضي الله عنه أنه تـرضا فاطمة وتلاينها قبل موتها، فرضيت رضي الله عنها.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، ثنا عبدان بن عثمان العتكي بنيسابور، أنبأنا أبو حمزة عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك؟
فقالت: أتحب أن آذن له؟
قال: نعم!
فأذنت له فدخل عليها يترضاها فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل، والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت.
وهذا إسناد جيد قوي، والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي، وقد اعترف علماء أهل البيت بصحة ما حكم به أبو بكر في ذلك.
قال الحافظ البيهقي: أنبأنا محمد ابن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله الصفار، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا نصر بن علي، ثنا ابن داود عن فضيل بن مرزوق قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب: أما أنا فلو كنت مكان أبي بكر لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك.