البداية والنهاية/الجزء الخامس/ذكر أمره عليه السلام أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يصلي بالصحابة أجمعين
قال الإمام أحمد: ثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: وقال ابن شهاب الزهري: حدثني عبد الملك ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه، عن عبد الله بن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد قال: لما استعز برسول الله وأنا عنده في نفر من المسلمين دعا بلال للصلاة فقال: «مروا من يصلي بالناس».
قال: فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبا.
فقلت: قم يا عمر فصل بالناس.
قال: فقام فلما كبر عمر سمع رسول الله ﷺ صوته، وكان عمر رجلا مجهرا.
فقال رسول الله: «فأين أبو بكر، يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون».
قال: فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد ما صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس.
وقال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك ماذا صنعت يا ابن زمعة، ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمرني بذلك، ولولا ذلك ما صليت.
قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.
وهكذا رواه أبو داود من حديث ابن إسحاق، حدثني الزهري.
ورواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق، حدثني يعقوب بن عتبة، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن زمعة فذكره.
وقال أبو داود: ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن أبي فديك، حدثني موسى بن يعقوب عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن زمعة أخبره بهذا الخبر قال: لما سمع النبي ﷺ صوت عمر.
قال ابن زمعة: خرج النبي ﷺ حتى أطلع رأسه من حجرته، ثم قال: «لا لا، لا يصلي للناس إلا ابن أبي قحافة» يقول ذلك مغضبا.
وقال البخاري: ثنا عمر بن حفص، ثنا أبي، ثنا الأعمش عن إبراهيم، قال الأسود: كنا عند عائشة فذكرنا المواظبة على الصلاة والمواظبة لها.
قالت: لما مرض النبي ﷺ مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة، فأذن بلال.
فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس».
فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد، فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: «إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس».
فخرج أبو بكر فوجد النبي ﷺ في نفسه خفة، فخرج يهادي بين رجلين كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي ﷺ أن مكانك، ثم أتى به حتى جلس إلى جنبه.
قيل للأعمش: فكان النبي ﷺ يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر.
فقال برأسه: نعم!
ثم قال البخاري: رواه أبو داود عن شعبة بعضه، وزاد أبو معاوية عن الأعمش جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائما.
وقد رواه البخاري في غيرما موضع من كتابه، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه من طرق متعددة عن الأعمش به.
منها ما رواه البخاري عن قتيبة.
ومسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة.
ويحيى بن يحيى عن أبي معاوية به.
وقال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: إن رسول الله ﷺ قال في مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس».
قال ابن شهاب: فأخبرني عبيد الله بن عبد الله عن عائشة أنها قالت: لقد عاودت رسول الله في ذلك، وما حملني على معاودته إلا أني خشيت أن يتشاءم الناس بأبي بكر، وإلا أني علمت أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به، فأحببت أن يعدل ذلك رسول الله عن أبي بكر إلى غيره.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري قال: وأخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر عن عائشة قالت: لما دخل رسول الله ﷺ بيتي قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس».
قالت: قلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر.
قالت: والله!ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله ﷺ.
قالت: فراجعته مرتين، أو ثلاثا.
فقال: «ليصل بالناس أبو بكر، فإنكن صواحب يوسف».
وفي الصحيحين من حديث عبد الملك بن عمير عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن أبيه قال: مرض رسول الله ﷺ فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس».
فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، متى يقم مقامك لا يستطيع يصلي بالناس.
قال: فقال: «مروا أبا بكر يصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف».
قال: فصلى أبو بكر حياة رسول الله ﷺ.
وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، أنبأنا زائدة بن قدامة عن موسى ابن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله ﷺ.
فقالت: بلى!ثقل برسول الله ﷺ وجعه.
فقال: «أصلى الناس؟»
قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.
فقال: «صبوا إلي ماء في المخضب» ففعلنا قالت: فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمى عليه، ثم أفاق فقال: «أصلى الناس؟»
قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله.
قال: «ضعوا لي ماء في المخضب» ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: «أصلى الناس؟»
قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.
قال: «ضعوا لي ماء في المخضب» ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: «أصلى الناس؟»
قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله ﷺ لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله ﷺ إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس، وكان أبو بكر رجلا رقيقا فقال: يا عمر صل بالناس.
فقال: أنت أحق بذلك.
فصلى بهم تلك الأيام، ثم إن رسول الله ﷺ وجد خفة، فخرج بين رجلين أحدهما: العباس لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه أن لا يتأخر، وأمرهما فأجلساه إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلي قائما، ورسول الله ﷺ يصلي قاعدا.
قال عبيد الله: فدخلت على ابن عباس فقلت: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله؟
قال: هات، فحدثته فما أنكر منه شيئا غير أنه قال: سمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟
قلت: لا.
قال: هو علي.
وقد رواه البخاري ومسلم جميعا عن أحمد بن يونس، عن زائدة به.
وفي رواية: فجعل أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله وهو قائم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، ورسول الله قاعد.
قال البيهقي: ففي هذا أن النبي ﷺ تقدم في هذه الصلاة، وعلق أبو بكر صلاته بصلاته.
قال: وكذلك رواه الأسود وعروة عن عائشة.
وكذلك رواه الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس يعني: بذلك - ما رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة، حدثني أبي عن أبي إسحاق، عن الأرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس قال: لما مرض النبي ﷺ أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ثم وجد خفة فخرج، فلما أحس به أبو بكر أراد إن ينكص، فأومأ إليه النبي ﷺ فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره، واستفتح من الآية التي انتهى إليها أبوبكر رضي الله عنه.
ثم رواه أيضا عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم، عن ابن عباس بأطول من هذا.
وقال وكيع مرة: فكان أبو بكر يأتم بالنبي ﷺ والناس يأتمون بأبي بكر.
ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس بنحوه.
وقد قال الإمام أحمد: ثنا شبابة بن سوار، ثنا شعبة عن نعيم ابن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة قالت: صلى رسول الله ﷺ خلف أبا بكر قاعدا في مرضه الذي مات فيه.
وقد رواه الترمذي، والنسائي من حديث شعبة.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أحمد: ثنا بكر بن عيسى سمعت شعبة بن الحجاج عن نعيم ابن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله ﷺ في الصف.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنبأنا عبد الله بن جعفر، أنبأنا يعقوب بن سفيان، حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا شعبة عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن رسول الله ﷺ صلى خلف أبا بكر.
وهذا إسناد جيد، ولم يخرجوه.
قال البيهقي: وكذلك رواه حميد عن أنس بن مالك، ويونس عن الحسن مرسلا، ثم أسند ذلك من طريق هشيم، أخبرنا يونس عن الحسن قال هشيم: وأنبانا حميد عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ خرج وأبو بكر يصلي بالناس فجلس إلى جنبه، وهو في بردة قد خالف بين طرفيها، فصلى بصلاته.
قال البيهقي: وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبيد بن شريك، أنبأنا ابن أبي مريم، أنبأنا محمد بن جعفر، أخبرني حميد أنه سمع أنسا يقول: آخر صلاة صلاها رسول الله ﷺ مع القوم، في ثوب واحد ملتحفا به خلف أبي بكر.
قلت: وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح، ولم يخرجوه، وهذا التقييد جيد بأنها آخر صلاة صلاها مع الناس صلوات الله وسلامه عليه.
وقد ذكر البيهقي من طريق سليمان بن بلال، ويحيى بن أيوب عن حميد، عن أنس أن النبي ﷺ صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد برد مخالفا بين طرفيه، فلما أراد إن يقوم، قال: «أدع لي أسامه بن زيد» فجاء، فأسند ظهره إلى نحره، فكانت آخر صلاة صلاها.
قال البيهقي: ففي هذا دلالة أن هذه الصلاة كانت صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة، لأنها آخر صلاة صلاها، لما ثبت أنه توفي ضحى يوم الإثنين، وهذا الذي قاله البيهقي، أخذه مسلما من مغازي موسى بن عقبة فإنه كذلك ذكر.
وكذا روى أبو الأسود عن عروة، وذلك ضعيف، بل هذه آخر صلاة صلاها مع القوم، كما تقدم تقييده في الرواية الأخرى، والحديث واحد فيحمل مطلقه على مقيده، ثم لا يجوز أن تكون هذه صلاة الصبح من يوم الإثنين يوم الوفاة، لأن تلك لم يصلها مع الجماعة، بل في بيته، لما به من الضعف صلوات الله وسلامه عليه والدليل على ذلك ما قال البخاري في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب عن الزهري، أخبرني أنس بن مالك وكان تبع النبي ﷺ وخدمه وصحبه، أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي ﷺ الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي ﷺ ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي ﷺ، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي ﷺ خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا ﷺ أن أتموا صلاتكم، وأرخى على الستر، وتوفي من يومه ﷺ.
وقد رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة، وصبيح بن كيسان، ومعمر عن الزهري، عن أنس.
ثم قال البخاري: ثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث، ثنا عبد العزيز عن أنس بن مالك قال: لم يخرج النبي ﷺ ثلاثا، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدم فقال نبي الله بالحجاب، فرفعه فلما وضح وجه النبي ﷺ ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه النبي ﷺ حين وضح لنا، فأومأ النبي ﷺ بيده إلى أبي بكر أن يتقدم، وأرخى النبي ﷺ الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات ﷺ.
ورواه مسلم من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه به.
فهذا أوضح دليل على أنه عليه السلام لم يصل يوم الإثنين صلاة الصبح مع الناس، وأنه كان قد انقطع عنهم، لم يخرج إليهم ثلاثا.
قلنا: فعلى هذا يكون آخر صلاة صلاها معهم الظهر كما جاء مصرحا به في حديث عائشة المتقدم، ويكون ذلك يوم الخميس لا يوم السبت، ولا يوم الأحد كما حكاه البيهقي عن مغازي موسى بن عقبة، وهو ضعيف، ولما قدمنا من خطبته بعدها، ولأنه انقطع عنهم يوم الجمعة، والسبت، والأحد، وهذه ثلاثة أيام كوامل.
وقال الزهري عن أبي بكر ابن أبي سبرة، أن أبا بكر صلى بهم سبع عشرة صلاة.
وقال غيره: عشرين صلاة، فالله أعلم.
ثم بدا لهم وجهه الكريم صبيحة يوم الإثنين، فودعهم بنظرة كادوا يفتتنون بها، ثم كان ذلك آخر عهد جمهورهم به، ولسان حالهم يقول: كما قال بعضهم:
وكنت أرى كالموت من بين ساعة * فكيف ببين كان موعده الحشر
والعجب أن الحافظ البيهقي أورد هذا الحديث من هاتين الطريقين، ثم قال ما حاصله: فلعله عليه السلام احتجب عنهم في أول ركعة، ثم خرج في الركعة الثانية، فصلى خلف أبي بكر كما قال عروة وموسى بن عقبة، وخفي ذلك على أنس بن مالك، أو أنه ذكر بعض الخبر وسكت عن آخره.
وهذا الذي ذكره أيضا بعيد جدا، لأن أنسا قال: فلم يقدر عليه حتى مات، وفي رواية: قال: فكان ذلك آخر العهد به، وقول الصحابي مقدم على قول التابعي، والله أعلم.
والمقصود: أن رسول الله ﷺ قدم أبا بكر الصديق إماما للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية.
قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم، لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء أن رسول الله ﷺ قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنا، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم مسلما».
قلت: من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه وصلاة الرسول ﷺ خلفه في بعض الصلوات، كما قدمنا بذلك الروايات الصحيحة، لا ينافي ما روى في الصحيح أن أبا بكر إئتم به عليه السلام لأن ذلك في صلاة أخرى كما نص على ذلك الشافعي وغيره من الأئمة رحمهم الله عز وجل.
فائدة: استدل مالك والشافعي، وجماعة من العلماء ومنهم البخاري، بصلاته عليه السلام قاعدا وأبو بكر مقتديا به قائما والناس بأبي بكر، على نسخ قوله عليه السلام في الحديث المتفق عليه: حين صلى ببعض أصحابه قاعدا.
وقد وقع عن فرس فجحش شقه، فصلوا وراءه قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: «كذلك والذي نفسي بيده تفعلون كفعل فارس والروم، يقومون على عظمائهم وهم جلوس» وقال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون»
قالوا: ثم إنه عليه السلام أمهم قاعدا وهم قيام في مرض الموت، فدل على نسخ ما تقدم، والله أعلم.
وقد تنوعت مسالك الناس في الجواب عن هذا الاستدلال على وجوه كثيرة، موضع ذكرها (كتاب الأحكام الكبير) إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان.
وملخص ذلك: أن من الناس من زعم أن الصحابة جلسوا لأمره المتقدم، وإنما استمر أبو بكر قائما لأجل التبليغ عنه ﷺ ومن الناس من قال: بل كان أبو بكر هو الإمام في نفس الأمر، كما صرح به بعض الرواة كما تقدم، وكان أبو بكر لشدة أدبه مع الرسول ﷺ لا يبادره بل يقتدي به، فكأنه عليه السلام صار إمام الإمام، فلهذا لم يجلسوا لاقتدائهم بأبي بكر وهو قائم؛ ولم يجلس الصديق لأجل أنه إمام، ولأنه يبلغهم عن النبي ﷺ الحركات، والسكنات، والانتقالات، والله أعلم.
ومن الناس من قال: فرق بين أن يبتدأ الصلاة خلف الإمام في حال القيام فيستمر فيها قائما، وإن طرأ جلوس الإمام في أثنائها كما في هذه الحال وبين أن يبتدي الصلاة خلف إمام جالس فيجب الجلوس، للحديث المتقدم، والله أعلم.
ومن الناس من قال: هذا الصنيع والحديث المتقدم دليل على جواز القيام، والجلوس، وأن كلا منهما سائغ جائز، الجلوس لما تقدم، والقيام للفعل المتأخر، والله أعلم.