البداية والنهاية/الجزء الخامس/قدوم رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك
قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد ابن أبي راشد، قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله ﷺ بحمص، وكان جارا لي شيخا كبيرا قد بلغ العقد أو قرب.
فقلت: ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله ﷺ ورسالة رسول الله ﷺ إلى هرقل؟.
قال: بلى، قدم رسول الله تبوك، فبعث دحية الكلبي إلى هرقل، فلما جاءه كتاب رسول الله ﷺ دعا قسيسي الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم الدار.
فقال: قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم؟
وقد أرسل إلي يدعوني إلى ثلاث خصال، يدعوني أن أتبعه على دينه، أو على أن نعطيه مالنا على أرضنا والأرض أرضنا، أو نلقي إليه الحرب.
والله لقد عرفتم فيما تقرؤون من الكتب ليأخذن ما تحت قدمي، فهلم فلنتبعه على دينه، أو نعطيه مالنا على أرضنا.
فنخروا نخرة رجل واحد، حتى خرجوا من براسنهم.
وقالوا: تدعونا إلى نذر أن النصرانية أو نكون عبيدا لأعرابي جاء من الحجاز.
فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رقأهم، ولم يكد.
وقال: إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم على أمركم، ثم دعا رجلا من عرب تجيب كان على نصارى العرب قال: ادع لي رجلا حافظا للحديث عربي اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه، فجاء بي، فدفع إلي هرقل كتابا.
فقال: اذهب بكتابي إلى هذا الرجل، فما سمعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال؛ انظر هل يذكر صحيفته إلي التي كتب بشيء، وانظر إذا قرأ كتابي، فهل يذكر الليل، وانظر في ظهره، هل به شيء يربيك.
قال: فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا، فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبيا على الماء.
فقلت: أين صاحبكم؟
قيل: ها هو ذا، فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه، فناولته كتابي، فوضعه في حجره.
ثم قال: «ممن أنت؟».
فقلت: أنا أخو تنوخ.
قال: «هل لك إلى الإسلام الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم؟».
قلت: إني رسول قوم، وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم.
فضحك.
وقال: «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين، يا أخو تنوخ إني كتبت بكتاب إلى كسرى، والله ممزقه وممزق ملكه، وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها، والله مخرقه، ومخرق ملكه وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير».
قلت: هذه إحدى الثلاث التي أوصاني بها صاحبي، فأخذت سهما من جعبتي، فكتبته في جنب سيفي، ثم إنه ناول الصحيفة رجلا عن يساره.
قلت: من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم؟
قالوا: معاوية.
فإذا في كتاب صاحبي تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار؟
فقال رسول الله ﷺ: «سبحان الله أين الليل إذا جاء النهار».
قال: فأخذت سهما من جعبتي، فكتبته في جلد سيفي، فلما أن فرغ من قراءة كتابي.
قال: «إن لك حقا، وإنك لرسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنا سفر مرملون».
قال: فناداه رجل من طائفة الناس، قال: أنا أجوزه، ففتح رحله فإذا هو يأتي بحلة صفورية فوضعها في حجري.
قلت: من صاحب الجائزة؟
قيل لي: عثمان.
ثم قال رسول الله: «أيكم ينزل هذا الرجل؟».
فقال فتى من الأنصار: أنا.
فقام الأنصاري وقمت معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس، ناداني رسول الله فقال: «تعال يا أخا تنوخ».
فأقبلت أهوي حتى كنت قائما في مجلسي الذي كنت بين يديه، فحل حبوته عن ظهره، وقال: «ها هنا امض لما أمرت به».
فجلت في ظهره، فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكتف، مثل الحمحمة الضخمة.
هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به تفرد به الإمام أحمد.