البداية والنهاية/الجزء الخامس/فصل أما كتاب الوحي وغيره بين يديه صلوات الله وسلامه عليه
فمنهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهم سيأتي ترجمة كل واحد منهم في أيام خلافته، إن شاء الله وبه الثقة.
ومنهم رضي الله عنهم: أبان بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الأموي أسلم بعد أخويه خالد وعمرو، وكان إسلامه بعد الحديبية، لأنه هو الذي أجار عثمان حين بعثه رسول الله ﷺ إلى أهل مكة يوم الحديبية، وقيل: خيبر لأن له ذكر في الصحيح من حديث أبي هريرة في قسمة غنائم خيبر، وكان سبب إسلامه أنه اجتمع براهب وهو في تجارة بالشام، فذكر له أمر رسول الله ﷺ.
فقال له الراهب: ما اسمه؟
قال: محمد.
قال: فأنا أنعته لك، فوصفه بصفته سواء.
وقال: إذا رجعت إلى أهلك فأقرئه السلام، فأسلم بعد مرجعه.
وهو أخو عمرو بن سعيد الأشدق الذي قتله عبد الملك بن مروان.
قال أبو بكر ابن أبي شيبة: كان أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله ﷺ أبي بن كعب، فإذا لم يحضر كتب زيد بن ثابت، وكتب له عثمان، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، هكذا قال - يعني: بالمدينة - وإلا فالسور المكية لم يكن أبي بن كعب حال نزولها، وقد كتبها الصحابة بمكة رضي الله عنهم.
وقد اختلف في وفاة أبان بن سعيد هذا، فقال موسى بن عقبة، ومصعب بن الزبير، والزبير بن بكار، وأكثر أهل النسب: قتل يوم أجنادين - يعني: - في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة.
وقال آخرون: قتل يوم مرج الصفر سنة أربع عشرة.
وقال محمد بن إسحاق: قتل هو وأخوه عمرو يوم اليرموك لخمس مضين من رجب سنة خمس عشرة.
وقيل: إنه تأخر إلى أيام عثمان، وكان يملي المصحف الإمام على زيد بن ثابت، ثم توفي سنة تسع وعشرين، فالله أعلم.
ومنهم: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد الخزرجي الأنصاري أبو المنذر ويقال: أبو الطفيل سيد القراء، شهد العقبة الثانية، وبدرا وما بعدها، وكان ربعة نحيفا أبيض الرأس واللحية، لا يغير شيبه.
قال أنس: جمع القرآن أربعة - يعني: من الأنصار -: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، ورجل من الأنصار يقال له: أبو يزيد، أخرجاه.
وفي الصحيحين عن أنس أن رسول الله ﷺ قال لأبي: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن».
قال: وسماني لك يا رسول الله؟
قال: «نعم».
قال: فذرفت عيناه.
ومعنى: «أن أقرأ عليك» قراءة إبلاغ وإسماع، لا قراءة تعلم منه، هذا لا يفهمه أحد من أهل العلم، وإنما نبهنا على هذا لئلا يعتقد خلافه، وقد ذكرنا في موضع آخر سبب القراءة عليه وأنه قرأ عليه سورة: «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة» وذلك أن أبي بن كعب كان قد أنكر على رجل قراءة سورة على خلاف ما كان يقرأ أبي، فرفعه أبي إلى رسول الله فقال: «إقرأ يا أبي» فقرأ.
فقال: «هكذا أنزلت».
ثم قال لذلك الرجل: «إقرأ» فقرأ.
فقال: «هكذا أنزلت».
قال أبي: فأخذني من الشك ولا إذ كنت في الجاهلية.
قال: فضرب رسول الله في صدره ففضضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله فرقا، فبعد ذلك تلا عليه رسول الله هذه السورة كالتثبيت له والبيان له أن هذا القرآن حق وصدق، وأنه أنزل على أحرف كثيرة رحمة ولطفا بالعباد.
وقال ابن أبي خيثمة: هو أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله ﷺ، وقد اختلف في وفاته فقيل: في سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين، وقيل: ثلاث وعشرين، وقيل: قبل مقتل عثمان بجمعة، فالله أعلم.
ومنهم رضي الله عنهم: أرقم ابن أبي الأرقم واسمه عبد مناف بن أسد بن جندب بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي أسلم قديما، وهو الذي كان رسول الله ﷺ مستخفيا في داره عند الصفا، وتعرف تلك الدار بعد ذلك بالخيزران، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها، وقد آخى رسول الله ﷺ بينه وبين عبد الله بن أنيس، وهو الذي كتب أقطاع عظيم بن الحارث المحارب بأمر رسول الله ﷺ بفخ وغيره، وذلك فيما رواه الحافظ ابن عساكر من طريق عتيق بن يعقوب الزبيري، حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده عمرو بن حزم.
وقد توفي في سنة ثلاث، وقيل: خمس وخمسين، وله خمس وثمانون سنة.
وقد روى الإمام أحمد له حديثين: الأول: قال أحمد والحسن بن عرفة - واللفظ لأحمد -: حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن هشام بن زياد، عن عمار بن سعد، عن عثمان بن أرقم ابن أبي الأرقم، عن أبيه - وكان من أصحاب النبي ﷺ أن رسول الله قال: «إن الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه في النار».
والثاني: قال أحمد: حدثنا عصام بن خالد، ثنا العطاف بن خالد، ثنا يحيى بن عمران عن عبد الله بن عثمان بن الأرقم، عن جده الأرقم أنه جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: «أين تريد؟».
قال: أردت يا رسول الله هاهنا، وأومأ بيده إلى حيز بيت المقدس.
قال: «ما يخرجك إليه أتجارة؟»
قال: لا، ولكن أردت الصلاة فيه.
قال: «الصلاة هاهنا» وأومأ بيده إلى مكة «خير من ألف صلاة» وأومأ بيده إلى الشام.
تفرد بهما أحمد.
ومنهم رضي الله عنهم: ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد المدني خطيب الأنصار، ويقال له: خطيب النبي ﷺ.
قال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد المدايني بأسانيده عن شيوخه في وفود العرب على رسول الله قالوا: قدم عبد الله بن عبس اليماني، ومسلمة بن هاران الحمداني على رسول الله في رهط من قومهما بعد فتح مكة، فأسلموا وبايعوا على قومهم، وكتب لهم كتابا بما فرض عليهم من الصدقة في أموالهم، كتبه ثابت بن قيس بن شماس، وشهد فيه سعد بن معاذ ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهم.
وهذا الرجل ممن ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ بشره بالجنة.
وروى الترمذي في جامعه بإسناد على شرط مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أسيد بن حضير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح».
وقد قتل رضي الله عنه شهيدا يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة في أيام أبي بكر الصديق، وله قصة سنوردها إن شاء الله إذا انتهينا إلى ذلك بحول الله وقوته وعونه ومعونته.
ومنهم رضي الله عنهم: حنظلة بن الربيع بن صيفي بن رياح بن الحارث بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم تميمي الأسيدي الكاتب، وأخوه رباح صحابي أيضا، وعمه أكثم بن صيفي كان حكيم العرب.
قال الواقدي: كتب للنبي ﷺ كتابا، وقال غيره: بعثه رسول الله ﷺ إلى أهل الطوائف في الصلح، وشهد مع خالد حروبه بالعراق وغيرها وقد أدرك أيام علي، وتخلف عن القتال معه في الجمل وغيره، ثم انتقل عن الكوفة لما شتم بها عثمان ومات بعد أيام علي.
وقد ذكر ابن الأثير في (أسد الغابة): أن امرأته لما مات جزعت عليه فلامها جاراتها في ذلك فقالت:
تعجبت دعد لمحزونة * تبكي على ذي شيبة شاحب
إن تسأليني اليوم ما شفني * أخبرك قولا ليس بالكاذب
إن سواد العين أودى به * حزن على حنظلة الكاتب
قال أحمد بن عبد الله بن الرقي: كان معتزلا للفتنة حتى مات بعد علي، جاء عنه حديثان.
قلت: بل ثلاثة؛ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد وعفان قالا: ثنا همام، ثنا قتادة عن حنظلة الكاتب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من حافظ على الصلوات الخمس بركوعهن وسجودهن ووضوئهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة».
أو قال: «وجبت له».
تفرد به أحمد، وهو منقطع بين قتادة وحنظلة والله أعلم.
والحديث الثاني: رواه أحمد ومسلم، والترمذي، وابن ماجه من حديث سعيد الجريري عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة: «لو تدمون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم، ولكن ساعة وساعة».
وقد رواه أحمد والترمذي أيضا من حديث عمران بن داود القطان عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن حنظلة.
والثالث: رواه أحمد والنسائي، وابن ماجه من حديث سفيان الثوري عن أبي الزناد، عن المرقع بن صيفي بن حنظلة، عن جده في النهي عن قتل النساء في الحرب.
لكن رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: أخبرت عن أبي الزناد، عن مرقع بن صيفي بن رياح بن ربيع، عن جده رباح بن ربيع أخي حنظلة الكاتب فذكره.
وكذلك رواه أحمد أيضا عن حسين بن محمد وإبراهيم ابن أبي العباس، كلاهما عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، وعن سعيد بن منصور وأبي عامر العقدي، كلاهما عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن مرقع، عن جده رباح.
ومن طريق المغيرة رواه النسائي وابن ماجه كذلك.
وروى أبو داود والنسائي من حديث عمر بن مرقع عن أبيه، عن جده رباح فذكره.
فالحديث عن رباح لا عن حنظلة، ولذا قال أبو بكر ابن أبي شيبة: كان سفيان الثوري يخطئ في هذا الحديث.
قلت: وصح قول ابن الرقي: أنه لم يرو سوى حديثين، والله أعلم.
ومنهم رضي الله عنهم: خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو سعيد الأموي، أسلم قديما يقال: بعد الصديق بثلاثة أو أربعة، وأكثر ما قيل: خمسة.
وذكروا أن سبب إسلامه أنه رأى في النوم كأنه وافقا على شفير جهنم، فذكر من سعتها ما الله به عليم.
قال: وكأن أباه يدفعه فيها، وكأن رسول الله ﷺ آخذ بيده ليمنعه من الوقوع، فقص هذه الرؤيا على أبي بكر الصديق فقال له: لقد أريد بك خير هذا رسول الله فاتبعه تنج مما خفته.
فجاء رسول الله فأسلم، فلما بلغ أباه إسلامه غضب عليه وضربه بعصاة في يده حتى كسرها على رأسه، وأخرجه من منزله ومنعه القوت، ونهى بقية إخوته أن يكلموه، فلزم خالد رسول الله ﷺ ليلا ونهارا، ثم أسلم أخوه عمرو، فلما هاجر الناس إلى أرض الحبشة هاجرا معهم، ثم كان هو الذي ولي العقد في تزويج أم حبيبة من رسول الله كما قدمنا.
ثم هاجرا من أرض الحبشة صحبة جعفر فقدما على رسول الله بخيبر، وقد افتتحها فأسهم لهما عن مشورة المسلمين، وجاء أخوهما أبان بن سعيد فشهد فتح خيبر كما قدمنا، ثم كان رسول الله يوليهم الأعمال.
فلما كانت خلافة الصديق خرجوا إلى الشام للغزو فقتل خالد بأجنادين، ويقال: بمرج الصفر، والله أعلم.
قال عتيق بن يعقوب: حدثني عبد الملك ابن أبي بكر عن أبيه، عن جده، عن عمرو بن حزم - يعني: أن خالد بن سعيد - كتب عن رسول الله ﷺ كتابا: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله راشد بن عبد رب السلمي أعطاه غلوتين بسهم، وغلوة بحجر برهاط لا يحاقه فيها أحد، فمن حاقه فلا حق له وحقه حق» وكتب خالد بن سعيد.
وقال محمد بن سعد عن الواقدي حدثني جعفر بن محمد بن خالد عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان قال: أقام خالد بن سعيد بعد أن قدم من أرض الحبشة بالمدينة، وكان يكتب لرسول الله، وهو الذي كتب كتاب أهل الطائف لوفد ثقيف، وسعى في الصلح بينهم وبين رسول الله ﷺ.
ومنهم رضي الله عنهم: خالد بن الوليد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبو سليمان المخزومي، وهو أمير الجيوش المنصورة الإسلامية، والعساكر المحمدية، والمواقف المشهودة، والأيام المحمودة.
ذو الرأي السديد، والبأس الشديد، والطريق الحميد، أبو سليمان خالد بن الوليد.
ويقال: أنه لم يكن في جيش فكسر لا في جاهلية ولا إسلام.
قال الزبير بن بكار: كانت إليه في قريش القبة وأعنة الخيل، أسلم هو وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة ابن أبي طلحة بعد الحديبية، وقيل: خيبر، ولم يزل رسول الله ﷺ يبعثه فيما يبعثه أميرا.
ثم كان المقدم على العساكر كلها في أيام الصديق، فلما ولي عمر بن الخطاب عزله، وولى أبو عبيدة أمين الأمة على أن لا يخرج عن رأي أبي سليمان، ثم مات خالد في أيام عمر وذلك سنة إحدى وعشرين، وقيل: اثنتين وعشرين - والأول أصح - بقرية على ميل من حمص.
قال الواقدي: سألت عنها فقيل لي: دثرت.
وقال دحيم: مات بالمدينة، والأول أصح.
وقد روى أحاديث كثيرة يطول ذكرها.
قال عتيق بن يعقوب: حدثني عبد الملك ابن أبي بكر عن أبيه، عن جده، عن عمرو بن حزم أن هذه قطايع أقطعها رسول الله ﷺ: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المؤمنين: أن صيدوح وصيده لا يعضد صيده ولا يقتل، فمن وجد يفعل من ذلك شيئا فإنه يجلد وينزع ثيابه، وإن تعدى ذلك أحد فانه يؤخذ فيبلغ به النبي ﷺ وأن هذا من محمد النبي وكتب خالد بن الوليد بأمر رسول الله فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمره به محمد».
ومنهم رضي الله عنهم: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، أبو عبد الله الأسدي أحد العشرة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، وحواري رسول الله ﷺ وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وزوج أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه.
روى عتيق بن يعقوب بسنده المتقدم أن الزبير بن العوام هو الذي كتب لبني معاوية بن جرول الكتاب الذي أمره به رسول الله ﷺ أن يكتبه لهم.
وروى ابن عساكر بإسناد عن عتيق به.
أسلم الزبير قديما رضي الله عنه وهو ابن ست عشرة سنة، ويقال: ابن ثمان سنين، وهاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها، وهو أول من سل سيفا في سبيل الله، وقد شهد اليرموك، وكان أفضل من شهدها، واخترق يومئذ صفوف الروم من أولهم إلى آخرهم مرتين، ويخرج من الجانب الآخر سالما، لكن جرح قفاه بضربتين رضي الله عنه.
وقد جمع له رسول الله ﷺ يوم الخندق أبويه وقال: «إن لكل نبي حواريا، وحواري الزبير».
وله فضائل ومناقب كثيرة، وكانت وفاته يوم الجمل، وذلك أنه كر راجعا عن القتال، فلحقه عمرو بن جرموز، وفضالة بن حابس، ورجل ثالث، يقال له: نفيع التميميون بمكان يقال له: وادي السباع، فبدر إليه عمرو بن جرموز وهو نائم فقتله، وذلك في يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وله من العمر يومئذ سبع وستون سنة.
وقد خلف رضي الله عنه بعده تركة عظيمة، فأوصى من ذلك بالثلث بعد إخراج ألفي ألف ومائتي ألف دينارا، فلما قضي دينه، وأخرج ثلث ماله قسم الباقي على ورثته، فنال كل امرأة من نسائه - وكن أربعا - ألف ألف ومائتا ألف، فمجموع ما ذكرناه مما تركه رضي الله عنه تسعة وخمسين ألف ألف وثمان مائة ألف، وهذا كله في وجوه حل نالها في حياته مما كان يصيبه من الفيء والمغانم، ووجوه متاجر الحلال، وذلك كله بعد إخراج الزكاة في أوقاتها، والصلاة البارعة الكثيرة لأربابها في أوقات حاجاتها رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنات الفردوس مثواه - وقد فعل - فإنه قد شهد له سيد الأولين والآخرين ورسوله رب العالمين بالجنة، ولله الحمد والمنة.
وذكر ابن الأثير في (الغابة): أنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وأنه كان يتصدق بذلك كله.
وقال فيه حسان بن ثابت يمدحه ويفضله بذلك:
أقام على عهد النبي وهديه * حواريه والقول بالفضل يعدل
أقام على منهاجه وطريقه * يوالي ولي الحق والحق أعدل
هو الفارس المشهور والبطل الذي * يصول إذا ما كان يوم محجل
وإن امرأ كانت صفية أمه * ومن أسد في بيته لمرسل
له من رسول الله قربى قريبة * ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل
فكم كربة ذب الزبير بسيفه * عن المصطفى والله يعطي ويجزل
إذا كشفت عن ساقها الحرب حشها * بأبيض سباق إلى الموت يرفل
فما مثله فيهم ولا كان قبله * وليس يكون الدهر ما دام يذبل
قد تقدم أنه قتله عمرو بن جرموز التميمي بوادي السباع وهو نائم، ويقال: بل قام من آثار النوم، وهو دهش فركب وبارزه ابن جرموز، فلما صمم عليه الزير أنجده صاحباه فضالة والنعر فقتلوه، وأخذ عمرو بن جرموز رأسه وسيفه، فلما دخل بهما على علي قال رضي الله عنه لما رأى سيف الزبير: إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول الله ﷺ.
وقال علي فيما قال: بشر قاتل ابن صفية بالنار.
فيقال: إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه.
والصحيح: أنه عمر بعد علي حتى كانت أيام ابن الزبير، فاستناب أخاه مصعبا على العراق، فاختفى عمرو بن جرموز خوفا بعد سطوته أن يقتله بأبيه.
فقال مصعب: أبلغوه أنه آمن، أيحسب أني اقتله بأبي عبد الله؟ كلا والله ليسا سواء، وهذا من حلم مصعب وعقله ورياسته.
وقد روى الزبير عن رسول الله ﷺ أحاديث كثيرة يطول ذكرها، ولما قتل الزبير بن العوام بوادي السباع كما تقدم، قالت امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ترثيه رضي الله عنها وعنه:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة * يوم اللقاء وكان غير معرد
يا عمرو لو نبهته لوجدته * لا طائشا رعش الجنان ولا اليد
كم غمرة قد خاضها لم يثنه * عنها طراد يا بن فقع القردد
ثكلتك أمك إن ظفرت بمثله * فيمن مضى فيمن يروح ويغتدي
والله ربك إن قتلت لمسلما * حلت عليك عقوبة المتعمد
ومنهم رضي الله عنهم: زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبيد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري النجاري، أبو سعيد ويقال: أبو خارجة، ويقال: أبو عبد الرحمن المدني قدم رسول الله ﷺ المدينة، وهو ابن إحدى عشرة سنة فلهذا لم يشهد بدرا لصغره، قيل: ولا أحدا، وأول مشاهده الخندق، ثم شهد ما بعدها.
وكان حافظا لبيبا عالما عاقلا، ثبت عنه في صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ أمره أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأه على النبي ﷺ إذا كتبوا إليه، فتعلمه في خمسة عشر يوما.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، ثنا عبد الرحمن عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد أن أباه زيدا أخبره أنه لما قدم رسول الله المدينة.
قال زيد: ذهب بي إلى رسول الله ﷺ فأعجب بي.
فقالوا: يا رسول الله هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأعجب ذلك رسول الله وقال: «يا زيد تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتابي».
قال زيد: فتعلمت لهم كتابهم ما مرت خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب.
ثم رواه أحمد عن شريح بن النعمان، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة، عن أبيه، فذكر عن أبيه، فذكر نحوه.
وقد علقه البخاري في (الأحكام) عن خارجة بن زيد بن ثابت بصيغة الجزم فقال: وقال خارجة بن زيد فذكره.
ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس والترمذي، عن علي بن حجر، كلاهما عن عبد الرحمن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة، عن أبيه به نحوه.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وهذا ذكاء مفرط جدا، وقد كان ممن جمع القرآن على عهد رسول الله ﷺ من القراء كما ثبت في الصحيحين عن أنس.
وروى أحمد والنسائي من حديث أبي قلابة عن أنس، عن رسول الله أنه قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأقضاهم علي ابن أبي طالب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأعلمهم بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».
ومن الحفاظ من يجعله مرسلا إلا ما يتعلق بأبي عبيدة، ففي صحيح البخاري من هذا الوجه، وقد كتب الوحي بين يدي رسول الله ﷺ في غير ما موطن، ومن أوضح ذلك ما ثبت في الصحيح عنه أنه قال: لما نزل قوله تعالى: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } [النساء: 95] دعاني رسول الله ﷺ فقال: «اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله».
فجاء ابن أم مكتوم فجعل يشكو ضرارته، فنزل الوحي على رسول الله ﷺ فثقلت فخذه على فخذي حتى كادت ترضها فنزل: «غير أولي الضرر» فأمرني فألحقتها.
فقال زيد: فإني لأعرف موضع ملحقها عند صدع في ذلك اللوح - يعني: من عظام - الحديث.
وقد شهد زيد اليمامة، وأصابه سهم فلم يضره، وهو الذي أمره الصديق بعد هذا بأن يتتبع القرآن فيجمعه.
وقال له: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ فتتبع القرآن فاجمعه، ففعل ما أمره به الصديق، فكان في ذلك خير كثير، ولله الحمد والمنة، وقد استنابه عمر مرتين في حجتين على المدينة، واستنابه لما خرج إلى الشام، وكذلك كان عثمان يستنيبه على المدينة أيضا، وكان علي يحبه، وكان يعظم عليا ويعرف له قدره، ولم يشهد معه شيئا من حروبه، وتأخر بعده حتى توفي سنة خمس وأربعين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: خمس وخمسين، وهو ممن كان يكتب المصاحف الأئمة التي نفذ بها عثمان بن عفان إلى سائر الآفاق اللائي وقع على التلاوة طبق رسمهن الإجماع والاتفاق، كما قررنا ذلك في كتاب (فضائل القرآن) الذي كتبناه مقدمة في أول كتابنا (التفسير) ولله الحمد والمنة.
ومنهم السجل: كما ورد به الحديث المروي في ذلك عن ابن عباس - إن صح - وفيه نظر.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا نوح بن قيس عن يزيد بن كعب، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: السجل كاتب للنبي ﷺ.
وهكذا رواه النسائي عن قتيبة به.
عن ابن عباس أنه كان يقول في هذه الآية: { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } [الأنبياء: 104] السجل: الرجل هذا لفظه.
ورواه أبو جعفر ابن جرير في تفسيره عند قوله تعالى: { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } عن نصر بن علي، عن نوح بن قيس، وهو ثقة من رجال مسلم.
وقد ضعفه ابن معين في رواية عنه، وأما شيخه يزيد بن كعب العوفي البصري فلم يرو عنه سوى نوح بن قيس، وقد ذكره مع ذلك ابن حبان في الثقات.
وقد عرضت هذا الحديث على شيخنا الحافظ الكبير أبي الحجاج المزي فأنكره جدا، وأخبرته أن شيخنا العلامة أبا العباس ابن تيمية كان يقول: هو حديث موضوع، وإن كان في سنن أبي داود، فقال شيخنا المزي: وأنا أقوله.
قلت: وقد رواه الحافظ ابن عدي في كامله من حديث محمد بن سليمان الملقب ببومة عن يحيى ابن عمرو، عن مالك النكري، عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: كان لرسول الله ﷺ كاتب يقال له: السجل، وهو قوله تعالى: { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب }.
قال: كما يطوي السجل للكتاب، كذلك تطوى السماء.
وهكذا رواه البيهقي عن أبي نصر بن قتادة، عن أبي علي الرفا، عن علي بن عبد العزيز، عن مسلم بن إبراهيم، عن يحيى بن عمرو بن مالك به.
ويحيى هذا ضعيف جدا، فلا يصلح للمتابعة، والله أعلم.
وأغرب من ذلك أيضا ما رواه الحافظ أبو بكر الخطيب وابن منده من حديث أحمد بن سعيد البغدادي المعروف بحمدان عن بهز، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان للنبي ﷺ كاتب يقال له: سجل، فأنزل الله: { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب }.
قال ابن منده: غريب تفرد به حمدان.
وقال البرقاني: قال أبو الفتح الأزدي: تفرد به ابن نمير إن صح.
قلت: وهذا أيضا منكر عن ابن عمر، كما هو منكر عن ابن عباس.
وقد ورد عن ابن عباس، وابن عمر خلاف ذلك، فقد روى الوالبي، والعوفي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: قال: كطي الصحيفة على الكتاب، وكذلك قال مجاهد، وقال ابن جرير: هذا هو المعروف في اللغة، أن السجل هو الصحيفة، قال: ولا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل، وأنكر أن يكون السجل اسم ملك من الملائكة كما رواه عن أبي كريب، عن ابن يمان، ثنا أبو الوفا الأشجعي عن أبيه، عن ابن عمر في قوله: { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } قال: السجل ملك فإذا صعد بالاستغفار قال الله: «اكتبها نورا».
وحدثنا بندار عن مؤمل، عن سفيان، سمعت السدي يقول: فذكر مثله.
وهكذا قال أبو جعفر الباقر فيما رواه أبو كريب عن المبارك، عن معروف بن خربود، عمن سمع أبا جعفر يقول: السجل الملك، وهذا الذي أنكره ابن جرير من كون السجل اسم صحابي، أو ملك قوي جدا، والحديث في ذلك منكر جدا، ومن ذكره في أسماء الصحابة كابن منده، وأبي نعيم الأصبهاني، وابن الأثير في (الغابة) إنما ذكره إحسانا للظن بهذا الحديث، أو تعليقا على صحته، والله أعلم.
ومنهم سعد ابن أبي سرح: فيما قاله خليفة بن خياط وقد وهم، إنما هو ابنه عبد الله بن سعد ابن أبي سرح كما سيأتي قريبا، إن شاء الله.
ومنهم عامر بن فهيرة: مولى أبي بكر الصديق.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر قال: قال الزهري: أخبرني عبد الملك بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك أن أباه أخبره أنه سمع سراقة يقول: فذكر خبر هجرة النبي ﷺ وقال فيه: فقلت له: إن قومك جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم من أخبار سفرهم وما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزؤني منه شيئا، ولم يسألوني إلا أن أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم، ثم مضى.
قلت: وقد تقدم الحديث بتمامه في الهجرة، وقد روى أن أبا بكر هو الذي كتب لسراقة هذا الكتاب، فالله أعلم.
وقد كان عامر بن فهيرة - ويكنى أبا عمرو - من مولدي الأزد أسود اللون، وكان أولا مولى للطفيل بن الحارث أخي عائشة لأمها أم رومان، فأسلم قديما قبل أن يدخل رسول الله ﷺ دار الأرقم ابن أبي الأرقم التي عند الصفا مستخفيا، فكان عامر يعذب مع جملة المستضعفين بمكة ليرجع عن دينه، فيأبى، فاشتراه أبو بكر الصديق فأعتقه، فكان يرعى له غنما بظاهر مكة، ولما هاجر رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر، كان معهما رديفا لأبي بكر، ومعهم الدليل الدئلي فقط، كما تقدم مبسوطا، ولما وردوا المدينة نزل عامر بن فهيرة على سعد بن خيثمة، وآخى رسول الله بينه وبين أوس بن معاذ، وشهد بدرا وأحدا، وقتل يوم بئر معونة كما تقدم، وذلك سنة أربع من الهجرة، وكان عمره إذ ذاك أربعين سنة، فالله أعلم.
وقد ذكر عروة وابن إسحاق والواقدي وغير واحد: أن عامر قتله يوم بئر معونة رجل يقال له: جبار بن سلمى من بني كلاب، فلما طعنه بالرمح قال: فزت ورب الكعبة، ورفع عامر حتى غاب عن الأبصار، حتى قال عامر بن الطفيل: لقد رفع حتى رأيت السماء دونه، وسئل عمرو بن أمية عنه.
فقال: كان من أفضلنا، ومن أول أهل بيت نبينا ﷺ.
قال جبار: فسألت الضحاك بن سفيان عما قال ما يعني به؟
فقال: يعني الجنة.
ودعاني الضحاك إلى الإسلام، فأسلمت لما رأيت من قتل عامر بن فهيرة، فكتب الضحاك إلى رسول الله يخبره بإسلامي، وما كان من أمر عامر فقال: «وارته الملائكة، وأنزل عليين».
وفي الصحيحين عن أنس أنه قال: قرأنا فيهم قرآنا أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا، وقد تقدم ذلك وبيانه في موضعه عند غزوة بئر معونة.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول: من رجل منكم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه؟
قالوا: عامر بن فهيرة.
وقال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قال: رفع عامر بن فهيرة إلى السماء فلم توجد جثته، يرون أن الملائكة وارته.
ومنهم رضي الله عنهم: عبد الله بن أرقم ابن أبي الأرقم المخزومي: أسلم عام الفتح، وكتب للنبي ﷺ.
قال الإمام مالك: وكان ينفذ ما يفعله ويشكره، ويستجيده.
وقال سلمة عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير: أن رسول الله استكتب عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث، وكان يجيب عنه الملوك، وبلغ من أمانته أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب، ويختم على ما يقرأه لأمانته عنده.
وكتب لأبي بكر وجعل إليه بيت المال، وأقره عليهما عمر بن الخطاب، فلما كان عثمان عزله عنهما.
قلت: وذلك بعد ما استعفاه عبد الله بن أرقم ويقال: إن عثمان عرض عليه ثلاثمائة ألف درهم عن أجرة عمالته، فأبى أن يقبلها.
وقال: إنما عملت لله فأجري على الله عز وجل.
قال ابن إسحاق: وكتب لرسول الله زيد بن ثابت، فإذا لم يحضر ابن الأرقم، وزيد بن ثابت، كتب من حضر من الناس، وقد كتب عمر، وعلي، وزيد، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية، وخالد بن سعيد بن العاص، وغيرهم، ممن سمي من العرب.
وقال الأعمش: قلت لشقيق بن سلمة: من كان كاتب النبي ﷺ؟
قال: عبد الله بن الأرقم، وقد جاءنا كتاب عمر بالقادسية وفي أسفله: وكتب عبد الله بن الأرقم.
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا محمد بن صالح بن هانئ، حدثنا الفضل بن محمد البيهقي، ثنا عبد الله بن صالح، ثنا عبد العزيز ابن أبي سلمة الماجشون عن عبد الواحد ابن أبي عون، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمر قال: أتى النبي ﷺ كتاب رجل فقال لعبد الله بن الأرقم: «أجب عني».
فكتب جوابه، ثم قرأه عليه.
فقال: «أصبت وأحسنت، اللهم وفقه».
قال: فلما ولي عمر كان يشاوره، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ما رأيت أخشى لله منه يعني: في العمال أضر رضي الله عنه قبل وفاته.
ومنهم رضي الله عنهم: عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي، صاحب الأذان، أسلم قديما فشهد عقبة السبعين، وحضر بدرا وما بعدها، ومن أكبر مناقبه رؤيته الأذان والإقامة في النوم، وعرضه ذلك على رسول الله وتقريره عليه وقوله له: «إنها لرؤيا حق، فألقه على بلال، فإنه أندى صوتا منك» وقد قدمنا الحديث بذلك في موضعه.
وقد روى الواقدي بأسانيده عن ابن عباس أنه كتب كتابا لمن أسلم من جرش فيه الأمر لهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإعطاء خمس المغنم، وقد توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين عن أربع وستين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ومنهم رضي الله عنهم: عبد الله بن سعد ابن أبي سرح القرشي العامري، أخو عثمان لأمه من الرضاعة، أرضعته أم عثمان، وكتب الوحي، ثم ارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين بمكة، فلما فتحها رسول الله ﷺ وكان قد أهدر دمه فيمن أهدر من الدماء، فجاء إلى عثمان بن عفان فاستأمن له، فأمنه رسول الله ﷺ كما قدمنا في غزوة الفتح، ثم حسن إسلام عبد الله بن سعد جدا.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي، ثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن سعد ابن أبي سرح يكتب للنبي ﷺ، فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله أن يقتل، فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله ﷺ.
ورواه النسائي من حديث علي بن الحسين بن واقد به.
قلت: وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح عمرو مصر سنة عشرين في الدولة العمرية، فاستناب عمر بن الخطاب عمرا عليها، فلما صارت الخلافة إلى عثمان عزل عنها عمرو بن العاص، وولي عليها عبد الله بن سعد سنة خمس وعشرين، وأمره بغزو بلاد أفريقية فغزاها، ففتحها وحصل للجيش منها مال عظيم كان قسم الغنيمة لكل فارس من الجيش ثلاثة آلاف مثقال من ذهب، وللراجل ألف مثقال، وكان معه في جيشه هذا ثلاثة من العبادلة: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، ثم غزا عبد الله بن سعد بعد أفريقية الأساود من أرض النوبة، فهادنهم فهي إلى اليوم وذلك سنة إحدى وثلاثين، ثم غزا غزوة الصواري في البحر إلى الروم، وهي غزوة عظيمة كما سيأتي بيانها في موضعها إن شاء الله.
فلما اختلف الناس على عثمان، خرج من مصر، واستناب عليها ليذهب إلى عثمان لينصره، فلما قتل عثمان أقام بعسقلان، وقيل: بالرملة، ودعا الله أن يقبضه في الصلاة، فصلى يوما الفجر، وقرأ في الأولى منها بفاتحة الكتاب والعاديات، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وسورة، ولما فرغ من التشهد سلم التسليمة الأولى، ثم أراد أن يسلم الثانية فمات بينهما رضي الله عنه، وذلك في سنة ست وثلاثين، وقيل: سنة سبع، وقيل: إنه تأخر إلى سنة تسع وخمسين، والصحيح الأول.
قلت: ولم يقع له رواية في الكتب الستة، ولا في المسند للإمام أحمد.
ومنهم رضي الله عنهم: عبد الله بن عثمان، أبو بكر الصديق، وقد تقدم الوعد بأن ترجمته ستأتي في أيام خلافته إن شاء الله عز وجل وبه الثقة، وقد جمعت مجلدا في سيرته، وما رواه من الأحاديث وما روي عنه من الآثار، والدليل على كتابته: ما ذكره موسى بن عقبة عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم، عن أبيه، عن سراقة بن مالك في حديثه حين اتبع رسول الله حين خرج هو وأبو بكر من الغار فمروا على أرضهم، فلما غشيهم - وكان من أمر فرسه ما كان - سأل رسول الله ﷺ أن يكتب له كتاب أمان، فأمر أبا بكر فكتب له كتابا ثم ألقاه إليه.
وقد روى الإمام أحمد من طريق الزهري بهذا السند أن عامر بن فهيرة كتبه، فيحتمل أن أبا بكر كتب بعضه ثم أمر مولاه عامرا فكتب باقية، والله أعلم.
ومنهم رضي الله عنهم: عثمان بن عفان أمير المؤمنين، وستأتي ترجمته في أيام خلافته وكتابته بين يديه عليه السلام مشهورة.
وقد روى الواقدي بأسانيده أن نهشل بن مالك الوائلي لما قدم على رسول الله ﷺ أمر رسول الله ﷺ عثمان بن عفان فكتب له كتابا فيه شرائع الإسلام.
ومنهم رضي الله عنهم: علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين، وستأتي ترجمته في خلافته، وقد تقدم أنه كتب الصلح بين رسول الله ﷺ وبين قريش يوم الحديبية أن يأمن الناس، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وعلى وضع الحرب عشر سنين، وقد كتب غير ذلك من الكتب بين يديه ﷺ.
وأما ما يدعيه طائفة من يهود خيبر أن بأيديهم كتاب من النبي ﷺ بوضع الجزية عنهم وفي آخره وكتب علي ابن أبي طالب، وفيه شهادة جماعة من الصحابة منهم سعد بن معاذ ومعاوية ابن أبي سفيان، فهو كذب وبهتان مختلق موضوع مصنوع.
وقد بين جماعة من العلماء بطلانه، واغتر بعض الفقهاء المتقدمين فقالوا: بوضع الجزية عنهم، وهذا ضعيف جدا، وقد جمعت في ذلك جزءا مفردا بينت فيه بطلانه، وأنه موضوع اختلقوه وصنعوه وهم أهل لذلك، وبينته وجمعت مفرق كلام الأئمة فيه ولله الحمد والمنة.
ومن الكتاب بين يديه ﷺ: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وستأتي ترجمته في موضعها، وقد أفردت له مجلدا على حدة، ومجلدا ضخما في الأحاديث التي رواها عن رسول الله ﷺ والآثار والأحكام المروية عنه رضي الله عنه، وقد تقدم بيان كتابته في ترجمة عبد الله بن الأرقم.
ومنهم رضي الله عنهم: العلاء بن الحضرمي واسم الحضرمي: عباد، ويقال: عبد الله بن عباد بن أكبر بن ربيعة بن عريقة بن مالك بن الخزرج بن أياد بن الصدق بن زيد بن مقنع بن حضرموت بن قحطان، وقيل غير ذلك في نسبه.
وهو من حلفاء بني أمية، وقد تقدم بيان كتابته في ترجمة أبان بن سعيد بن العاص، وكان له من الإخوة عشرة غيره:
فمنهم: عمرو بن الحضرمي، أول قتيل من المشركين قتله المسلمون في سرية عبد الله بن جحش، وهي أول سرية كما تقدم.
ومنهم: عامر بن الحضرمي الذي أمره أبو جهل لعنه الله، فكشف عن عورته وناداه واعمراه حين اصطف المسلمون والمشركون يوم بدر، فهاجت الحرب وقامت على ساق، وكان ما كان مما قدمناه مبسوطا في موضعه.
ومنهم: شريح بن الحضرمي، وكان من خيار الصحابة قال فيه رسول الله: «ذاك رجل لا يتوسد القرآن» - يعني: لا ينام ويتركه بل يقوم به آناء الليل والنهار -.
ولهم كلهم أخت واحدة وهي: الصعبة بنت الحضرمي أم طلحة بن عبيد الله.
وقد بعث النبي صلى الله عيه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين ثم ولاه عليها أميرا حين افتتحها، وأقره عليها الصديق ثم عمر بن الخطاب، ولم يزل بها حتى عزله عنها عمر بن الخطاب وولاه البصرة، فلما كان في أثناء الطريق توفي، وذلك في سنة إحدى وعشرين.
وقد روى البيهقي عنه وغيره كرامات كثيرة منها أنه سار بجيشه على وجه البحر ما يصل إلى ركب خيولهم، وقيل: إنه ما بل أسافل نعال خيولهم، وأمرهم كلهم فجعلوا يقولون: يا حليم يا عظيم، وأنه كان في جيشه فاحتاجوا إلى ماء فدعا الله فأمطرهم قدر كفايتهم، وأنه لما دفن لم ير له أثر بالكلية، وكان قد سأل الله ذلك، وسيأتي هذا في كتاب (دلائل النبوة) قريبا إن شاء الله عز وجل.
وله عن رسول الله ﷺ ثلاثة أحاديث:
الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثني عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن السائب بن يزيد، عن العلاء بن الحضرمي أن رسول الله ﷺ قال: «يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا»
وقد أخرجه الجماعة من حديثه.
والثاني: قال أحمد: حدثنا هشيم، ثنا منصور عن ابن سيرين، عن ابن العلاء بن الحضرمي أن أباه كتب إلى النبي ﷺ فبدأ بنفسه.
وكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل.
والحديث الثالث: رواه أحمد وابن ماجه من طريق محمد بن زيد عن حبان الأعرج عنه، أنه كتب إلى رسول الله ﷺ من البحرين في الحائط - يعني: البستان - يكون بين الاخوة فيسلم أحدهم؟.
فأمره أن يأخذ العشر ممن أسلم.
والخراج: - يعني: ممن لم يسلم -.
ومنهم: العلاء بن عقبة، قال الحافظ ابن عساكر: كان كاتبا للنبي ﷺ ولم أجد أحدا ذكره إلا فيما أخبرنا.
ثم ذكر إسناده إلى عتيق بن يعقوب حدثني عبد الملك ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، عن جده، عن عمرو بن حزم أن هذه قطائع أقطعها رسول الله ﷺ هؤلاء القوم فذكرها وذكر فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى النبي محمد عباس ببن مرداس السلمي أعطاه مدمورا فمن خافه فيها فلا حق له، وحقه حق، وكتب العلاء بن عقبة وشهد».
ثم قال: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى محمد رسول الله عوسجة بن حرملة الجهني من ذي المروة وما بين بلكثه إلى الظبية إلى الجعلات إلى جبل القبيلة فمن خافه فلا حق له، وحقه حق، وكتبه العلاء بن عقبة».
وروى الواقدي بأسانيده أن رسول الله ﷺ أقطع لبني سيح من جهينة، وكتب كتابهم بذلك العلاء بن عقبة وشهد.
وقد ذكر ابن الأثير في (الغابة) هذا الرجل مختصرا فقال: العلاء بن عقبة كتب للنبي ﷺ، ذكره في حديث عمرو بن حزم، ذكره جعفر، أخرجه أبو موسى - يعني: المديني - في كتابه.
ومنهم رضي الله عنهم: محمد بن مسلمة بن جريس بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الحارثي، أبو عبد الله ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو سعيد المدني حليف بني عبد الأشهل، أسلم على يدي مصعب بن عمير، وقيل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وآخى رسول الله حين قدم المدينة بينه وبين أبي عبيدة ابن الجراح، وشهد بدرا والمشاهد بعدها، واستخلفه رسول الله على المدينة عام تبوك.
قال ابن عبد البر في (الاستيعاب): كان شديد السمرة طويلا أصلع ذا جثة، وكان من فضلاء الصحابة، وكان ممن اعتزل الفتنة واتخذ سيفا من خشب، ومات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين على المشهور عند الجمهور، وصلى عليه مروان بن الحكم، وقد روى حديثا كثيرا عن النبي ﷺ.
وذكر محمد بن سعد عن علي بن محمد المدايني بأسانيده أن محمد بن مسلمة هو الذي كتب لوفد مرة كتابا عن أمر رسول الله ﷺ.
ومنهم رضي الله عنهم: معاوية ابن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموي، وستأتي ترجمته في أيام إمارته إن شاء الله، وقد ذكره مسلم بن الحجاج في كتابه عليه السلام.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس أن أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن؟
قال: «نعم؟».
قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.
قال: «نعم؟».
قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك.
قال: «نعم؟» الحديث.
وقد أفردت لهذا الحديث جزءا على حدة بسبب ما وقع فيه من ذكر طلبه تزويج أم حبيبة من رسول الله ﷺ ولكن فيه من المحفوظ تأمير أبي سفيان وتوليته معاوية منصب الكتابة بين يديه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا قدر متفق عليه بين الناس قاطبة.
فأما الحديث: قال الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة معاوية هاهنا: أخبرنا أبو غالب ابن البنا، أنبأنا أبو محمد الجوهري، أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد بن يحيى بن عبد الله العطشي، حدثنا أحمد بن محمد البوراني، ثنا السري بن عاصم، ثنا الحسن بن زياد عن القاسم بن بهرام، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله ﷺ استشار جبريل في استكتاب معاوية فقال: استكتبه فإنه أمين، فإنه حديث غريب بل منكر.
والسري بن عاصم هذا هو: أبو عاصم الهمذاني وكان يؤدب المعتز بالله، كذبه في الحديث ابن خراش.
وقال ابن حبان وابن عدي: كان يسرق الحديث.
زاد ابن حبان: ويرفع الموقوفات لا يحل الاحتجاج به.
وقال الدارقطني: كان ضعيف الحديث وشيخه الحسن بن زياد - إن كان اللؤلؤي - فقد تركه غير واحد من الأئمة، وصرح كثير منهم بكذبه، وإن كان غيره فهو مجهول العين والحال.
وأما القاسم بن بهرام فاثنان:
أحدهما: يقال له: القاسم بن بهرام الأسدي الواسطي الأعرج، أصله من أصبهان، روى له النسائي عن سعيد بن خبير عن ابن عباس حديث القنوت بطوله، وقد وثقه ابن معين وأبو حاتم وأبو داود وابن حبان.
والثاني: القاسم بن بهرام أبو حمدان قاضي هيت قال ابن معين: كان كذابا.
وبالجملة فهذا الحديث من هذا الوجه ليس بثابت ولا يغتر به، والعجب من الحافظ ابن عساكر مع جلالة قدره واطلاعه على صناعة الحديث أكثر من غيره من أبناء عصره - بل ومن تقدمه بدهر - كيف يورد في تاريخه هذا وأحاديث كثيرة من هذا النمط ثم لا يبين حالها، ولا يشير إلى شيء من ذلك إشارة لا ظاهرة ولا خفية، ومثل هذا الصنيع فيه نظر والله أعلم.
ومنهم رضي الله عنهم: المغيرة بن شعبة الثقفي، وقد قدمت ترجمته فيمن كان يخدمه عليه السلام من بين أصحابه من غير مواليه، وأنه كان سيافا على رأس رسول الله ﷺ، وقد روى ابن عساكر بسنده عن عتيق بن يعقوب بإسناده المتقدم غير مرة أن المغيرة بن شعبة هو الذي كتب إقطاع حصين بن نضلة الأسدي، الذي أقطعه إياه رسول الله ﷺ بأمره.
فهؤلاء كتابه الذين كانوا يكتبون بأمره بين يديه صلوات الله وسلامه عليه.