البداية والنهاية/الجزء الخامس/فصل قول بعض الصحابة فيمن لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة
روى أمره عليه السلام لمن لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة خلق من الصحابة يطول ذكرنا لهم هاهنا، وموضع سرد ذلك كتاب (الأحكام الكبير) إن شاء الله، وقد اختلف العلماء في ذلك.
فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي: كان ذلك من خصائص الصحابة ثم نسخ جواز الفسخ لغيرهم، وتمسكوا بقول أبي ذر رضي الله عنه: لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا لأصحاب محمد ﷺ. رواه مسلم.
وأما الإمام أحمد فرد ذلك وقال: قد رواه أحد عشر صحابيا، فأين تقع هذه الرواية من ذلك.
وذهب رحمه الله إلى جواز الفسخ لغير الصحابة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما بوجوب الفسخ على كل من لم يسق الهدي، بل عنده أنه يحل شرعا إذا طاف بالبيت ولم يكن ساق هديا صار حلالا بمجرد ذلك، وليس عنه النسك إلا القران لمن ساق الهدي، أو التمتع لمن لم يسق، فالله أعلم.
قال البخاري: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء، عن جابر، وعن طاوس عن ابن عباس قالا: قدم النبي ﷺ وأصحابه صبح رابعة من ذي الحجة يهلون بالحج لا يخلطه شيء، فلما قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة، وأن نحل إلى نسائنا ففشت تلك المقالة.
قال عطاء: قال جابر: فيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا قال جابر بكفه فبلغ النبي ﷺ، فقال: «بلغني أن قوما يقولون كذا وكذا، والله لأنا أبر وأتقى لله منهم، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت».
فقام سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله هي لنا أو للأبد؟
فقال: «بل للأبد».
قال مسلم: ثنا قتيبة، ثنا الليث - هو: ابن سعد - عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله بحج مفرد، وأقبلت عائشة بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، وأمرنا رسول الله ﷺ أن يحل منا من لم يكن معه هدي.
قال: فقلنا: حل ماذا؟
قال: «الحل كله».
فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال.
فهذان الحديثان فيهما التصريح بأنه عليه السلام قدم مكة عام حجة الوداع ليصبح رابعة ذي الحجة، وذلك يوم الأحد حين ارتفع النهار وقت الضحاء، لأن أول ذي الحجة تلك السنة كان يوم الخميس بلا خلاف، لأن يوم عرفة منه كان يوم الجمعة بنص حديث عمر بن الخطاب الثابت في الصحيحين، كما سيأتي، فلما قدم عليه السلام يوم الأحد رابع الشهر، بدأ كما ذكرنا بالطواف بالبيت، ثم بالسعي بين الصفا والمروة، فلما انتهى طوافه بينهما عند المروة، أمر من لم يكن معه هدي أن يحل من إحرامه حتما، فوجب ذلك عليهم لا محالة، ففعلوه وبعضهم متأسف لأجل أنه عليه السلام لم يحل من إحرامه لأجل سوقه الهدي، وكانوا يحبون موافقته عليه السلام والتأسي به، فلما رأى ما عندهم من ذلك قال لهم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة».
أي: لو أعلم أن هذا ليشق عليكم لكنت تركت سوق الهدي حتى أحل كما أحللتم.
ومن هاهنا تتضح الدلالة على أفضلية التمتع، كما ذهب إليه الإمام أحمد أخذا من هذا، فإنه قال: لا أشك أن رسول الله ﷺ كان قارنا، ولكن التمتع أفضل لتأسفه عليه.
وجوابه: أنه عليه السلام لم يتاسف على التمتع، لكونه أفضل من القران في حق من ساق الهدي، وإنما تأسف عليه لئلا يشق على أصحابه في بقائه على إحرامه، وأمره لهم بالإحلال، ولهذا والله أعلم لما تأمل الإمام أحمد هذا السر نص في رواية أخرى عنه على أن التمتع أفضل في حق من لم يسق الهدي، لأمره عليه السلام من لم يسق الهدي من أصحابه بالتمتع، وأن القران أفضل في حق من ساق الهدي كما اختار الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه في حجة الوداع، وأمره له بذلك كما تقدم، والله أعلم.