البداية والنهاية/الجزء الخامس/باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة شرفها الله عز وجل
قال البخاري: حدثنا مسدد، ثنا يحيى بن عبد الله، حدثني نافع عن ابن عمر قال: بات النبي ﷺ بذي طوى حتى أصبح، ثم دخل مكة وكان ابن عمر يفعله.
ورواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به، وزاد: حتى صلى الصبح، أو قال: حتى أصبح.
وقال مسلم: ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا حماد عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهارا، ويذكر عن النبي ﷺ أنه فعله.
ورواه البخاري: من حديث حماد بن زيد، عن أيوب به.
ولهما من طريق أخرى عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى.
وذكره وتقدم آنفا ما أخرجاه من طريق موسى بن عقبة عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان يبيت بذي طوى حتى يصبح، فيصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله ﷺ عند أكمة غليظة، وأن رسول الله ﷺ استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى رسول الله ﷺ أسفل منه على الأكمة السوداء، يدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم يصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة - أخرجاه في الصحيحين -.
وحاصل هذا كله أنه عليه السلام لما انتهى في مسيره إلى ذي طوى وهو قريب من مكة متاخم للحرم أمسك عن التلبية، لأنه قد وصل إلى المقصود، وبات بذلك المكان حتى أصبح فصلى هنالك الصبح في المكان الذي وصفوه بين فرضتي الجبل الطويل هنالك، ومن تأمل هذه الأماكن المشار إليها بعين البصيرة عرفها معرفة جيدة، وتعين له المكان الذي صلى فيه رسول الله ﷺ، ثم اغتسل صلوات الله وسلامه عليه لأجل دخول مكة، ثم ركب ودخلها نهارا جهرة علانية من الثنية العليا التي بالبطحاء.
ويقال: كذا ليراه الناس، ويشرف عليهم، وكذلك دخل منها يوم الفتح كما ذكرناه.
قال مالك عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ دخل مكة من الثنية العليا، وخرج من الثنية السفلى.
أخرجاه في الصحيحين من حديثه.
ولهما من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ دخل مكة من الثنية العليا التي في البطحاء، وخرج من الثنية السفلى.
ولهما أيضا من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة مثل ذلك.
لما وقع بصره عليه السلام على البيت، قال ما رواه الشافعي في مسنده: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أن النبي ﷺ كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا، وتعظيما، وتكريما، ومهابة، وزد من شرفه وكرمه، فمن حجه واعتمره تشريفا، وتكريما، وتعظيما، وبرا».
قال الحافظ البيهقي: هذا منقطع، وله شاهد مرسل عن سفيان الثوري، عن أبي سعيد الشامي، عن مكحول قال: كان النبي ﷺ إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرا، وزد من حجه، أو اعتمره تكريما وتشريفا وتعظيما وبرا».
وقال الشافعي: أنبأنا سعيد بن سالم عن ابن جريج قال: حدثت عن مقسم، عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «ترفع الأيدي في الصلاة، واذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة، وبجمع، وعند الجمرتين، وعلى الميت».
قال الحافظ البيهقي: وقد رواه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وعن نافع، عن ابن عمر مرة موقوفا عليهما، ومرة مرفوعا إلى النبي ﷺ دون ذكر الميت.
قال: وابن أبي ليلى هذا غير قوي، ثم إنه عليه السلام دخل المسجد من باب بني شيبة.
قال الحافظ البيهقي: روينا عن ابن جريج، عن عطاء ابن أبي رباح قال: يدخل المحرم من حيث شاء قال: ودخل النبي ﷺ من باب بني شيبة، وخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا.
ثم قال البيهقي: وهذا مرسل جيد، وقد استدل البيهقي على استحباب دخول المسجد من باب بني شيبة، بما رواه من طريق أبي داود الطيالسي: ثنا حماد بن سلمة وقيس بن سلام، كلهم عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي رضي الله عنه قال: لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله ﷺ من باب بني شيبة، فأمر رسول الله ﷺ بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه وأخذه رسول الله ﷺ فوضعه، وقد ذكرنا هذا مبسوطا في باب بناء الكعبة قبل البعثة.
وفي الاستدلال على استحباب الدخول من باب بني شيبة بهذا نظر، والله أعلم.