البداية والنهاية/الجزء الخامس/وفادة لقيط بن عامر المنتفق أبي رزين العقيلي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال عبد الله بن الإمام أحمد: كتب إلي إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري: كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك، فحدث بذلك عني.
قال: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي، حدثني عبد الرحمن بن عياش السمعي الأنصاري القبائي من بني عمرو بن عوف، عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي عن أبيه، عن عمه لقيط بن عامر قال دلهم: وحدثنيه أبي الأسود عن عاصم بن لقيط أن لقيطا خرج وافدا إلى رسول الله ﷺ ومعه صاحب له يقال له: نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق.
قال لقيط: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله ﷺ المدينة، انسلاخ رجب فأتينا رسول الله ﷺ فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبا فقال: «أيها الناس ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام، ألا لأسمعنكم ألا فهل من امرئ بعثه قومه».
فقالوا: اعلم لنا ما يقول رسول الله ألا ثم لعله أن يلهيه حديث نفسه، أو حديث صاحبه، أو يلهيه الضلال ألا إني مسئول هل بلغت ألا فاسمعوا تعيشوا ألا اجلسوا ألا أجلسوا.
قال: فجلس الناس، وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت: يا رسول الله ما عندك من علم الغيب؟
فضحك لعمر الله وهز رأسه، وعلم أني أبتغي لسقطه.
فقال: «ضن ربك عز وجل بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله» وأشار بيده.
قلت: وما هي؟
قال: «علم المنية قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه، وعلم المني حين يكون في الرحم قد علمه ولا تعلمون، وعلم ما في غد وما أنت طاعم غدا ولا تعلمه، وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مسنتين، فيظل يضحك قد علم أن غيركم إلى قريب».
قال لقيط: قلت: لن نعدم من رب يضحك خيرا - وعلم يوم الساعة -.
قلنا: يا رسول علمنا مما لا يعلم الناس ومما تعلم، فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحد، من مذحج التي تربوا علينا، وخثعم التي توالينا، وعشيرتنا التي نحن منها.
قال: «تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم، ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة، لعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات، والملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك عز وجل يطوف بالأرض وقد خلت عليه البلاد، فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلقه من عند رأسه، فيستوي جالسا فيقول: ربك عز وجل مهيم؟ لما كان فيه فيقول: يا رب أمس اليوم - فلعهده بالحياة يتحسبه حديثا بأهله».
قلت: يا رسول الله كيف يجمعنا بعد ما تفرقنا الرياح، والبلى، والسباع؟
فقال: «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، الأرض أشرفت عليها وهي مدرة بالية فقلت: لا تحي أبدا، ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي شرية واحدة، فلعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض، فتخرجون من الأصواء ومن مصارعكم فتنظرون إليه، وينظر إليكم».
قال: قلت: يا رسول الله وكيف ونحن ملء الأرض، وهو عز وجل شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه.
فقال: «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله الشمس والقمر آية منه صغيرة، ترونهما ويريانكم ساعة واحدة لا تضارون في رؤيتهما، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما، ويريانكم لا تضارون في رؤيتهما».
قلت: يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟
قال: «تعرضون عليه بادية له صحائفكم لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح قلبكم بها، فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة، فأما المسلم فتدع على وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر فتخطمه بمثل الحمم الأسود ألا ثم ينصرف نبيكم، وينصرف على أثره الصالحون فتسلكون جسرا من النار، فيطأ أحدكم الجمرة فيقول: حس، فيقول ربك عز وجل: أوانه فتطلعون على حوض الرسول على أطماء، والله ناهلة عليها ما رأيتها قط، فلعمر إلهك لا يبسط واحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول، والأذى وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا».
قال: قلت: يا رسول الله فيم نبصر؟
قال: «مثل بصرك ساعتك هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض وواجهته الجبال».
قال: قلت: يا رسول الله فيم نجزي من سيآتنا وحسناتنا؟
قال: «الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يعفو».
قال: قلت: يا رسول الله إما الجنة وإما النار.
قال: «لعمر إلهك إن للنار سبعة أبواب ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما، وإن للجنة لثمانية أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما».
قلت: يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة.
قال: «على أنهار من عسل مصفى، وأنهار من كأس، ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن وفاكهة، لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة».
قلت: يا رسول الله ولنا فيها أزواج، أو منهن مصلحات.
قال: «الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا، ويلذونكم غير أن لا توالد».
قال لقيط: قلت: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه، فلم يجبه النبي ﷺ.
قلت: يا رسول الله علام أبايعك.
فبسط النبي يده وقال: «على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال الشرك، وأن لا تشرك بالله إلها غيره».
قال: قلت: وإن لنا ما بين المشرق والمغرب، فقبض النبي ﷺ يده وبسط أصابعه وظن أني مشترط شيئا لا يعطينيه.
قال: قلت: تحل منها حيث شئنا ولا يجني منها امرؤ إلا على نفسه.
فبسط يده وقال: «وذلك لك تحل حيث شئت ولا تجني عليك إلا نفسك».
قال: فانصرفنا عنه.
ثم قال: «إن هذين من لعمر إلهك أتقى الناس في الأولى والآخرة».
فقال له كعب بن الحدارية أحد بني كلاب منهم: يا رسول الله بنو المنتفق أهل ذلك منهم؟
قال: فانصرفنا وأقبلت عليه - وذكر تمام الحديث إلى أن قال - فقلت: يا رسول الله هل لأحد ممن مضى خير في جاهليته.
قال: فقال رجل من عرض قريش: والله إن أباك المنتفق لفي النار.
قال: فلكأنه وقع حر بين جلدتي وجهي ولحمي مما قال، لأني على رؤس الناس فهممت أن أقول وأبوك يا رسول الله، ثم إذا الأخرى أجمل.
فقلت: يا رسول الله وأهلك؟
قال: «وأهلي لعمر الله، ما أتيت عليه من قبر عامري أو قرشي من مشرك فقل: أرسلني إليك محمد، فأبشرك بما يسوءك تجر على وجهك، وبطنك في النار».
قال: قلت: يا رسول الله ما فعل بهم ذلك، وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه، وقد كانوا يحسبون أنهم مصلحون.
قال: «ذلك بأن الله يبعث في آخر كل سبع أمم - يعني: نبيا - فمن عصى نبيه كان من الضالين، ومن أطاع نبيه كان من المهتدين».
هذا حديث غريب جدا، وألفاظه في بعضها نكارة.
وقد أخرجه البيهقي في (كتاب البعث والنشور).
وعبد الحق الإشبيلي في (العاقبة).
والقرطبي في كتاب (التذكرة في أحوال الآخرة).
وسيأتي في كتاب البعث والنشور إن شاء الله تعالى.