البداية والنهاية/الجزء الخامس/وفد بني عامر وقصة عامر بن الطفيل وأربد بن مقيس
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله ﷺ وفد بني عامر بن الطفيل، وأربد بن مقيس بن جزء بن جعفر بن خالد، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم، وقدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله ﷺ وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا أبا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم.
قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش؟
ثم قال لأربد: إن قدمنا على الرجل فإني سأشغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك، فأعله بالسيف، فلما قدموا على رسول الله ﷺ قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني.
قال: «لا والله حتى تؤمن بالله وحده».
قال: يا محمد خالني.
قال: وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به، فجعل أربد لا يحير شيئا، فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال: يا محمد خالني.
قال: «لا حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له».
فلما أبى عليه رسول الله ﷺ.
قال: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا.
فلما ولى قال رسول الله ﷺ: «اللهم اكفني عامر بن الطفيل».
فلما خرجوا من عند رسول الله ﷺ.
قال عامر بن الطفيل لأربد: أين ما كنت أمرتك به؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل أخوف على نفسي منك، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا.
قال: لا أبالك، لا تعجل علي والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين الرجل، حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟
وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله عز وجل على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول؟
قال ابن هشام: ويقال: أغدة كغدة الإبل، وموت في بيت سلولية.
وروى الحافظ البيهقي من طريق الزبير بن بكار حدثتني فاطمة بنت عبد العزيز بن موءلة عن أبيها، عن جدها موءلة بن جميل قال: أتى عامر بن الطفيل رسول الله ﷺ فقال له: «يا عامر أسلم».
فقال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر.
قال: «لا».
ثم قال: «أسلم».
فقال: أسلم على أن لي الوبر، ولك المدر.
قال: «لا».
فولى وهو يقول: والله يا محمد لأملأنها عليك خيلا جردا، ورجالا مردا، ولأربطن بكل نخلة فرسا.
فقال رسول الله ﷺ: «اللهم اكفني عامرا، واهد قومه).
فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة من قومه يقال لها: سلولية فنزل عن فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدة في حلقه، فوثب على فرسه، وأخذ رمحه، وأقبل يجول وهو يقول: غدة كغدة البكر، وموت في بيت سلولية، فلم تزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتا.
وذكر الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في (الإستيعاب في أسماء الصحابة) موءلة هذا فقال: هو موءلة بن كثيف الضبابي الكلابي العامري من بني عامر بن صعصعة، أتى رسول الله ﷺ هو ابن عشرين سنة، فأسلم وعاش في الإسلام مائة سنة، وكان يدعى ذا اللسانين من فصاحته، روى عنه ابنه عبد العزيز، وهو الذي روى قصة عامر بن الطفيل: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية.
قال الزبير بن بكار: حدثتني ظميا بنت عبد العزيز بن موءلة بن كثيف بن جميل بن خالد بن عمرو بن معاوية، وهو الضباب بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قالت: حدثني أبي عن أبيه، عن موءلة أنه أتى رسول الله ﷺ فأسلم وهو ابن عشرين سنة، وبايع رسول الله ﷺ ومسح يمينه، وساق إبله إلى رسول الله ﷺ فصدقها بنت لبون، ثم صحب أبا هريرة بعد رسول الله ﷺ، وعاش في الإسلام مائة سنة، وكان يسمى ذا اللسانين من فصاحته.
قلت: والظاهر أن قصة عامر بن الطفيل متقدمة على الفتح، وإن كان ابن إسحاق والبيهقي، قد ذكراها بعد الفتح، وذلك لما رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، أنبأنا محمد بن إسحاق، أنبأنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس في قصة بئر معونة، وقتل عامر بن الطفيل حرام بن ملحان خال أنس بن مالك وغدره بأصحاب بئر معونة، حتى قتلوا عن آخرهم سوى عمرو بن أمية كما تقدم.
قال الأوزاعي: قال يحيى: فمكث رسول الله ﷺ يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا: «اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت، وابعث عليه ما يقتله».
فبعث الله عليه الطاعون.
وروي عن همام، عن إسحاق ابن عبد الله، عن أنس في قصة ابن ملحان قال: وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله ﷺ فقال: أخيرك بين ثلاث خصال، يكون لك أهل السهل، ويكون لي أهل الوبر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر، وألف شقراء.
قال: فطعن في بيت امرأة.
فقال: غدة كغدة البعير، وموت في بيت امرأة من بني فلان، إئتوني بفرسي فركب فمات على ظهر فرسه.
قال ابن إسحاق: ثم خرج أصحابه حين رأوه، حتى قدموا أرض بني عامر شاتين، فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا: وما وراءك يا أربد؟
قال: لا شيء، والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله الآن، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما.
قال ابن إسحاق: وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه، فقال لبيد يبكي أربد:
ما أن تعدي المنون من أحد * لا والد مشفق ولا ولد
أخشى على أربد الحتوف ولا * أرهب نوء السماك والأسد
فعين هلا بكيت أربد إذ * قمنا وقام النساء في كبد
إن يشغبوا لا يبال شغبهم * أو يقصدوا في الحكوم يقتصد
حلو أريب وفي حلاوته * مر لصيق الأحشاء والكبد
وعين هلا بكيت أربد إذ * ألوت رياح الشتاء بالعضد
وأصبحت لاقحا مصرمة * حتى تجلت غوابر المدد
أشجع من ليث غابة لحم * ذو نهمة في العلا ومنتقد
لا تبلغ العين كل نهمتها * ليلة تمسى الجياد كالقدد
الباعث النوح في مآتمه * مثل الظباء الأبكار بالجرد
فجعني البرق والصواعق بالفا * رس يوم الكريهة النجد
والحارب الجابر الحريب إذا * جاء نكيبا وإن يعد يعد
يعفو على الجهد والسؤال كما * ينبت غيث الربيع ذو الرصد
كل بني حرة مصيرهم * قل وإن كثروا من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا *يوما فهم للهلاك والنفد
وقد روى ابن إسحاق: عن لبيد أشعارا كثيرة في رثاء أخيه لأمه أربد بن قيس، تركناها إختصارا واكتفاء بما أوردناه، والله الموفق للصواب.
قال ابن هشام: وذكر زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: فأنزل الله عز وجل في عامر وأربد: { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال * سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار * له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } [الرعد: 8 - 11] .
يعني: محمدا ﷺ ثم ذكر أربد وقتله.
فقال الله تعالى: { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال * هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال * ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال }. [الرعد: 11 - 13] .
قلت: وقد تكلمنا على هذه الآيات الكريمات في سورة الرعد، ولله الحمد والمنة.
وقد وقع لنا إسناد ما علقه ابن هشام رحمه الله فروينا من طريق الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير حيث قال: حدثنا مسعدة بن سعد العطار، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني عبد العزيز بن عمران، حدثني عبد الرحمن، وعبد الله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب، وعامر بن الطفيل بن مالك قدما المدينة على رسول الله ﷺ فانتهيا إليه، وهو جالس فجلسا بين يديه.
فقال عامر بن الطفيل: يا محمد ما تجعل لي إن أسلمت.
فقال رسول الله ﷺ: «مالك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم».
قال عامر: أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك.
فقال رسول الله ﷺ: «ليس ذلك لك ولا لقومك، ولكن لك أعنة الخيل».
قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، إجعل لي الوبر ولك المدر.
قال رسول الله ﷺ: «لا».
فلما قفا من عنده قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا.
فقال رسول الله ﷺ: «يمنعك الله».
فلما خرج أربد وعامر.
قال عامر: يا أربد أنا أشغل محمدا بالحديث فاضربه بالسيف، فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية، ويكرهوا الحرب، فسنعطيهم الدية.
قال أربد: أفعل، فأقبلا راجعين إليه.
فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله ﷺ فخليا إلى الجدار، ووقف معه رسول الله يكلمه، وسل أربد السيف فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف، فلم يستطع سل السيف، فأبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول الله ﷺ فرأى أربد وما يصنع، فانصرف عنهما، فلما خرج أربد وعامر من عند رسول الله ﷺ حتى إذا كانا بالحرة، حرة واقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير.
فقالا: اشخصا يا عدوا الله لعنكما الله.
فقال عامر: من هذا يا سعد؟
قال: أسيد بن حضير الكتائب، فخرجا حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، وخرج عامر حتى إذا كان بالحرة أرسل الله قرحة فأخذته، فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول: غدة كغدة الجمل في بيت سلولية، يرغب عن أن يموت في بيتها، ثم ركب فرسه فأحضرها حتى مات عليه راجعا.
فأنزل الله فيهما { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام } إلى قوله له: { له معقبات من بين يديه ومن خلفه } يعني: محمدا ﷺ.
ثم ذكر أربد وما قتله به فقال: { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء } الآية.
وفي هذا السياق دلالة على ما تقدم من قصة عامر، وأربد، وذلك لذكر سعد بن معاذ فيه، والله أعلم.
وقد تقدم وفود الطفيل بن عامر الدوسي رضي الله عنه على رسول الله ﷺ بمكة وإسلامه، وكيف جعل الله له نورا بين عينيه، ثم سأل الله فحوله له إلى طرف سوطه، وبسطنا ذلك هنالك، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا كما صنع البيهقي وغيره.