البداية والنهاية/الجزء الرابع/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
البداية والنهاية المؤلف ابن كثير
صفحة واحدة
ملاحظات: الجزء الرابع في صفحة واحدة


سنة ثلاث من الهجرة غزوة نجد

سنة ثلاث من الهجرة في أولها كانت: غزوة نجد ويقال لها: غزوة ذي أمر

قال ابن إسحاق: فلما رجع رسول الله من غزوة السويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريبا منها، غزا نجدا يريد غطفان وهي: غزوة ذي أمر.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عثمان بن عفان.

قال ابن إسحاق: فأقام بنجد صفرا كله أو قريبا من ذلك، ثم رجع ولم يلق كيدا.

وقال الواقدي: بلغ رسول الله أن جمعا من غطفان من بني ثعلبة بن محارب تجمعوا بذي أمر يريدون حربه، فخرج إليهم من المدينة يوم الخميس لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث.

واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، فغاب أحد عشر يوما وكان معه أربعمائة وخمسون رجلا، وهربت منه الأعراب في رؤوس الجبال، حتى بلغ ماء يقال له ذو أمر فعسكر به، وأصابهم مطر كثير، فابتلت ثياب رسول الله ، فنزل تحت شجرة هناك ونشر ثيابه لتجف، وذلك بمرأى من المشركين.

واشتغل المشركون في شؤونهم، فبعث المشركون رجلا شجاعا منهم يقال له غورث بن الحارث، أو دعثور بن الحارث فقالوا: قد أمكنك الله من قتل محمد، فذهب ذلك الرجل ومعه سيف صقيل، حتى قام على رسول الله بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟

قال: الله، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله فقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعا أبدا، فأعطاه رسول الله سيفه، فلما رجع إلى أصحابه فقالوا: ويلك مالك؟

فقال: نظرت إلى رجل طويل فدفع في صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك وشهدت أن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعا، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام.

قال: ونزل في ذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ } الآية 1

قال البيهقي: وسيأتي في غزوة ذات الرقاع قصة تشبه هذه فلعلهما قصتان.

قلت: إن كانت هذه محفوظة فهي غيرها قطعا، لأن ذلك الرجل اسمه غورث بن الحارث أيضا، لم يسلم بل استمر على دينه، ولم يكن عاهد النبي أن لا يقاتله، والله أعلم.

غزوة الفرع من بحران

قال ابن إسحاق: فأقام بالمدينة ربيعا الأول كله، أو إلا قليلا منه، ثم غدا يريد قريشا.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

قال ابن إسحاق: حتى بلغ بحران، وهو معدن بالحجاز من ناحية الفرع.

وقال الواقدي: إنما كانت غيبته عليه السلام عن المدينة عشرة أيام، فالله أعلم.

خبر يهود بني قينقاع في المدينة

وقد زعم الواقدي أنها كانت في يوم السبت النصف من شوال، سنة ثنتين من الهجرة، فالله أعلم، وهم المرادون بقوله تعالى: { كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 2.

قال ابن إسحاق: وقد كان فيما بين ذلك من غزو رسول الله أمر بني قينقاع.

قال وكان من حديثهم: أن رسول الله جمعهم في سوقهم ثم قال: يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم.

فقالوا: يا محمد إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.

قال ابن إسحاق: فحدثني مولى لزيد بن ثابت عن سعيد بن جبير، وعن عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } 3 يعني أصحاب بدر من أصحاب رسول الله وقريش.

{ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } 4

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد، وحاربوا فيما بين بدر وأحد.

قال ابن هشام: فذكر عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي عون قال: كان أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ هناك منهم، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها.

فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فأغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فأبطأ عليه رسول الله فقال: يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه.

قال: فأدخل يده في جيب درع النبي .

قال ابن هشام: وكان يقال لها ذات الفضول، فقال له رسول الله : «أرسلني» وغضب رسول الله حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: «ويحك أرسلني».

قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر، وثلثمائة دراع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله أمرؤ أخشى الدوائر.

قال: فقال له رسول الله : «هم لك».

قال ابن هشام: واستعمل رسول الله في محاصرته إياهم أبا لبابة - بشير بن عبد المنذر - وكانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليلة.

قال ابن إسحاق: وحدثني أبي، عن عبادة بن الوليد، عن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم.

ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله ، وكان من بني عوف له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله ، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.

قال: وفيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات من المائدة: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض.. } الآيات حتى قوله: { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } يعني: عبد الله ابن أبي، إلى قوله: { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } يعني: عبادة بن الصامت، وقد تكلمنا على ذلك في التفسير.

سرية زيد بن حارثة إلى ذي القردة

إلى عير قريش صحبة أبي سفيان أيضا، وقيل صحبة صفوان.

قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: وكانت بعد وقعة بدر بستة أشهر.

قال ابن إسحاق: وكان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان، ومعه فضة كثيرة، وهي عظم تجارتهم واستأجروا رجلا من بكر بن وائل يقال له: فرات بن حيان يعني - العجلي - حليف بني سهم ليدلهم على تلك الطريق.

قال ابن إسحاق: فبعث رسول الله زيد بن حارثة فلقيهم على ماء يقال له القردة، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزه الرجال فقدم بها على رسول الله ، فقال في ذلك حسان بن ثابت:

دعوا فلجات الشام قد حال دونها * جلاد كأفواه المخاض الأوارك

بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك

إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك

قال ابن هشام: وهذه القصيدة في أبيات لحسان، وقد أجابه فيها أبو سفيان بن الحارث.

وقال الواقدي: كان خروج زيد بن حارثة في هذه السرية مستهل جمادى الأولى على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة، وكان رئيس هذه العير صفوان بن أمية، وكان سبب بعثه زيد بن حارثة أن نعيم بن مسعود قدم المدينة ومعه خبر هذه العير، وهو على دين قومه.

واجتمع بكنانة بن أبي الحقيق في بني النضير، ومعهم سليط بن النعمان من أسلم، فشربوا وكان ذلك قبل أن تحرم الخمر، فتحدث بقضية العير نعيم بن مسعود، وخروج صفوان بن أمية فيها وما معه من الأموال.

فخرج سليط من ساعته فأعلم رسول الله ، فبعث من وقته زيد بن حارثة فلقوهم، فأخذوا الأموال، وأعجزهم الرجال، وإنما أسروا رجلا أو رجلين وقدموا بالعير، فخمسها رسول الله فبلغ خمسها عشرين ألفا، وقسم أربعة أخماسها على السرية وكان فيمن أسر الدليل فرات بن حيان فأسلم رضي الله عنه.

قال ابن جرير: وزعم الواقدي أن في ربيع من هذه السنة تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله ، وأدخلت عليه في جمادى الآخرة منها.

مقتل كعب بن الأشرف

وكان من بني طيء، ثم أحد بني نبهان، ولكن أمه من بني النضير، هكذا ذكره ابن إسحاق قبل جلاء بني النضير، وذكره البخاري والبيهقي بعد قصة بني النضير، والصحيح ما ذكره ابن إسحاق لما سيأتي: فإن بني النضير إنما كان أمرها بعد وقعة أحد، وفي محاصرتهم حرمت الخمر كما سنبينه بطريقه إن شاء الله.

قال البخاري في صحيحه، باب قتل كعب بن الأشرف: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال عمرو بن دينار: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله : «من لكعب بن الأشرف فإنه قد أذى الله ورسوله» فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟

قال: نعم. قال: فأذن لي أن أقول شيئا، قال: قل فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك.

قال: وأيضا، والله لتملنه.

قال: أنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا.

قال: نعم، ارهنوني.

قلت: أي شيء تريد؟

قال: ارهنوني نساءكم.

فقالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟

قال: فارهنوني أبناءكم.

قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا، ولكن نرهنك اللأمة، قال سفيان: يعني السلاح، فواعده أن يأتيه ليلا، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟

وقال غير عمرو: قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم.

قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنه بليل لأجاب.

قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين، فقال: إذا ما جاء فإني مائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، وقال مرة: ثم أشمكم، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحا أي أطيب.

وقال غير عمر، وقال: عندي أعطر نساء العرب، وأجمل العرب.

قال عمرو: فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟

قال: نعم، فشمه، ثم أشَمَّ أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟

قال: نعم، فلما استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه ثم أتوا النبي فأخبروه.

وقال محمد ابن إسحاق: كان من حديث كعب بن الأشرف، وكان رجلا من طيء، ثم أحد بني نبهان، وأمه من بني النضير أنه لما بلغه الخبر عن مقتل أهل بدر، حين قدم زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة قال: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج إلى مكة فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف فأنزلته وأكرمته.

وجعل يحرض على قتال رسول الله وينشد الأشعار، ويندب من قتل من المشركين يوم بدر، فذكر ابن إسحاق قصيدته التي أولها:

طحنت رحى بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر تستهل وتدمع

وذكر جوابها من حسان بن ثابت رضي الله عنه ومن غيره، ثم عاد إلى المدينة، فجعل يشبب بنساء المسلمين، ويهجو النبي وأصحابه.

وقال موسى بن عقبة: وكان كعب بن الأشرف أحد بني النضير أو فيهم، قد أذى رسول الله بالهجاء وركب إلى قريش فاستغواهم، وقال له أبو سفيان وهو بمكة: أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟ إنا نطعم الجزور الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونطعم ما هبت الشمال.

فقال له كعب بن الأشرف: أنتم أهدى منهم سبيلا.

قال: فأنزل الله على رسوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا } 5 وما بعدها.

قال موسى ومحمد بن إسحاق: وقدم للمدينة يعلن بالعداوة ويحرض الناس على الحرب، ولم يخرج من مكة حتى أجمع أمرهم على قتال رسول الله ، وجعل يشبب بأم الفضل بن الحارث وبغيرها من نساء المسلمين.

قال ابن إسحاق: فقال رسول الله - كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة -: «من لابن الأشرف» فقال له محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: «فافعل إن قدرت على ذلك».

قال: فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل، ولا يشرب، إلا ما يعلق نفسه، فذكر ذلك لرسول الله فدعاه فقال له: «لم تركت الطعام والشراب؟» فقال: يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفي لك به أم لا؟

قال: «إنما عليك الجهد» قال: يا رسول الله إنه لا بد لنا أن نقول. قال: «فقولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك».

قال: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة، وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ أحد بني عبد الأشهل، أبو عبس بن جبر أخو بني حارثة.

قال: فقدموا بين أيديهم إلى عدو الله كعب سلكان بن سلامة أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، فتناشدا شعرا - وكان أبو نائلة يقول الشعر - ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني، قال: أفعل.

قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبيل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا.

فقال كعب: أنا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر يصير إلى ما أقول، فقال له سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعاما، ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك.

قال: ترهنوني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا إن معي أصحابا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء. وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاؤوا بها.

فقال: إن في الحلقة لوفاء. قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فاخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله .

قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مشى معهم رسول الله إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: «انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم».

ثم رجع رسول الله إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، فانطلقوا حتى انتهوا إلى حصنه فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: أنت امرؤ محارب وأن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة.

قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر.

قال: يقول لها كعب: لو دعي الفتى لطعنة أجاب. فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن تتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟

قال: إن شئتم. فخرجوا فمشوا ساعة. ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شم يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط.

ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن.

ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها، فأخذ بفودي رأسه ثم قال: اضربوا عدو الله! فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا.

قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا في سيفي فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة، لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار.

قال: فوضعته في ثنته، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، فوقع عدو الله وقد أُصيب الحارث بن أوس بجرح في رجله أو في رأسه، أصابه بعض سيوفنا.

قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث، حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس، ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتأنا يتبع آثارنا فاحتملناه، فجئنا به رسول الله آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله.

وتفل رسول الله على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو خائف على نفسه.

قال ابن جرير: وزعم الواقدي أنهم جاؤوا برأس كعب بن الأشرف إلى رسول الله .

قال ابن إسحاق: وفي ذلك يقول كعب بن مالك:

فغودر منهم كعب صريعا * فذلت بعد مصرعه النضير

على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور

بأمر محمد إذ دس ليلا * إلى كعب أخا كعب يسير

فماكره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور

قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له في يوم بني النضير ستأتي.

قلت: كان قتل كعب بن الأشرف على يدي الأوس بعد وقعة بدر، ثم إن الخزرج قتلوا أبا رافع ابن أبي الحقيق بعد وقعة أحد، كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبه الثقة.

وقد أورد ابن إسحاق شعر حسان بن ثابت:

لله در عصابة لاقيتهم * يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف

يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحا كأسد في عرين مغرف

حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفا ببيض ذفف

مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف

قال محمد بن إسحاق: وقال رسول الله : «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» فوثب عند ذلك محيصة بن مسعود الأوسي على ابن سنينة - رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم - فقتله.

وكان أخوه حويصة بن مسعود أسن منه، ولم يسلم بعد، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله أقتلته؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله.

قال محيصة: فقلت والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك.

قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة.

وقال: والله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم، والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها.

قال: فوالله إن دينا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة.

قال ابن إسحاق: حدثني بهذا الحديث مولى لبني حارثة عن ابنة محيصة عن أبيها، وقال في ذلك محيصة:

يلوم ابن أم لو أمرتُ بقتله * لطبقت ذفراه بأبيض قارب

حسام كلون الملح أخلصُ صقله * متى ما أصوبه فليس بكاذب

وما سرني أني قتلتك طائعا * وأن لنا ما بين بصرى ومأرب

وحكى ابن هشام عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو المدني أن هذه القصة كانت بعد مقتل بني قريظة، فإن المقتول كان كعب بن يهوذا، فلما قتله محيصة عن أمر رسول الله يوم بني قريظة، قال له أخوه حويصة ما قال، فرد عليه محيصة بما تقدم، فأسلم حويصة يومئذ، فالله أعلم.

تنبيه: ذكر البيهقي، والبخاري قبله خبر بني النضير قبل وقعة أحد، والصواب إيرادها بعد ذلك كما ذكر ذلك محمد بن إسحاق وغيره من أئمة المغازي، وبرهانه أن الخمر حرمت ليالي حصار بني النضير.

وثبت في الصحيح أنه اصطبح الخمر جماعة ممن قتل يوم أحد شهيدا، فدل على أن الخمر كانت إذ ذاك حلالا، وإنما حرمت بعد ذلك، فتبين ما قلناه من أن قصة بني النضير بعد وقعة أحد، والله أعلم.

تنبيه آخر: خبر يهود بني قينقاع بعد وقعة بدر كما تقدم، وكذلك قتل كعب بن الأشرف اليهودي على يدي الأوس، وخبر بني النضير بعد وقعة أحد كما سيأتي، وكذلك مقتل أبي رافع اليهودي تاجر أهل الحجاز على يدي الخزرج، وخبر يهود بني قريظة بعد يوم الأحزاب، وقصة الخندق كما سيأتي.

غزوة أحد في شوال سنة ثلاث

فائدة ذكرها المؤلف في تسمية أحد، قال: سمي أحد أحدا لتوحده من بين تلك الجبال.

وفي الصحيح: «أحد جبل يحبنا ونحبه».

قيل: معناه أهله.

وقيل: لأنه كان يبشره بقرب أهله إذا رجع من سفره، كما يفعل المحب.

وقيل: على ظاهره كقوله: { وإن منها لما يهبط من خشية الله } .

وفي الحديث عن أبي عبس بن جبر: «أحد يحبنا ونحبه وهو على باب الجنة، وعير يبغضنا ونبغضه وهو على باب من أبواب النار».

قال السهيلي: مقويا لهذا الحديث، وقد ثبت أنه عليه السلام قال: «المرء مع من أحب» وهذا من غريب صنع السهيلي، فإن هذا الحديث إنما يراد به الناس، ولا يسمى الجبل امرءا.

وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثلاث، قاله الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، ومالك.

قال ابن إسحاق: للنصف من شوال.

وقال قتادة: يوم السبت الحادي عشر منه.

قال مالك: وكانت الوقعة في أول النهار، وهي على المشهور التي أنزل الله فيها قوله تعالى:

{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } الآيات 6 وما بعدها إلى قوله ما:

{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } 7 وقد تكلمنا على تفاصيل ذلك كله في كتاب التفسير بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة.

ولنذكر ههنا ملخص الوقعة مما ساقه محمد بن إسحاق وغيره من علماء هذا الشأن رح: وكان من حديث أُحُد كما حدثني محمد بن مسلم الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم، من علمائنا كلهم، قد حدث ببعض هذا الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت.

قالوا أو من قال منهم: لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فلَّهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش، ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له تلك العير من قريش تجارة.

فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرا، ففعلوا.

قال ابن إسحاق: ففيهم كما ذكر لي بعض أهل العلم أنزل الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } 8

قالوا: فاجتمعت قريش لحرب رسول الله حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها، ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة.

وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي قد منَّ عليه رسول الله يوم بدر، وكان فقيرا ذا عيال وحاجة، وكان في الأسارى.

فقال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك واخرج معنا.

فقال: إن محمدا قد منَّ علي، فلا أريد أن أظاهر عليه.

قال: بلى فأعنا بنفسك فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن قتلت أن أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر.

فخرج أبو عزة يسير في تهامة، ويدعو بني كنانة ويقول:

أيا بني عبد مناة الرزام * أنتم حماة وأبوكم حام

لا يعدوني نصركم بعد العام * لا تسلموني لا يحل إسلام

قال: وخرج نافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم، ويقول:

يا مال مال الحسب المقدم * أنشد ذا القربى وذا التذمم

من كان ذا رحم ومن لم يرحم * الحلف وسط البلد المحرم

عند حطيم الكعبة المعظم *

قال: ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيا يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ بها، فقال له: أخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق.

قال: فخرجت قريش بحدها، وحديدها، وجدها، وأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة، وأن لا يفروا، وخرج أبو سفيان صخر بن حرب، وهو قائد الناس ومعه زوجته هند بنت عتبة بن ربيعة، وخرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته ابنة عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة.

وخرج عمه الحارث بن هشام بزوجته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج وهي أم ابنه عبد الله بن عمرو، وذكر غيرهم ممن خرج بامرأته.

قال: وكان وحشي كلما مر بهند بنت عتبة أو مرت به تقول: ويها أبا دسمة اشف واشتفِ. يعني تحرضه على قتل حمزة بن عبد المطلب.

قال: فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي، مقابل المدينة، فلما سمع بهم رسول الله والمسلمون قال لهم: «قد رأيت والله خيرا رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة».

وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم جميعا عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي قال: «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها أيضا بقرا والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي أتانا بعد يوم بدر».

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا الأصم، أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: تنفل رسول الله سيفه ذا الفقار يوم بدر.

قال ابن عباس: وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، وذلك أن رسول الله لما جاءه المشركون، يوم أحد كان رأيه أن يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا: نخرج يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد، ورجوا أن يصيبهم من الفضيلة ما أصاب أهل بدر، فما زالوا برسول الله حتى لبس أداته، ثم ندموا وقالوا: يا رسول الله أقم فالرأي رأيك.

فقال لهم: ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد ما لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه.

قال: وكان قال لهم يومئذ قبل أن يلبس الأداة: «إني رأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، وأني مردف كبشا وأولته كبش الكتيبة، ورأيت أن سيفي ذا الفقار فل فأولته فلا فيكم، ورأيت بقرا يذبح فبقر والله خير».

رواه الترمذي، وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه به.

وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس مرفوعا قال: «رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا وكأن ضبة سيفي انكسرت، فأولت أني أقتل كبش القوم، وأولت كسر ضبة سيفي قتل رجل من عترتي» فقتل حمزة، وقتل رسول الله طلحة وكان صاحب اللواء.

وقال موسى بن عقبة رح: ورجعت قريش فاستجلبوا من أطاعهم من مشركي العرب، وسار أبو سفيان بن حرب في جمع قريش، وذلك في شوال من السنة المقبلة من وقعة بدر، حتى طلعوا من بئر الحماوين، ثم نزلوا ببطن الوادي الذي قبلي أحد، وكان رجال من المسلمين لم يشهدوا بدرا قد ندموا على ما فاتهم من السابقة، وتمنوا لقاء العدو ليبلوا ما إبلى إخوانهم يوم بدر.

فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد، فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدرا بقدوم العدو عليهم، وقالوا: قد ساق الله علينا أمنيتنا، ثم إن رسول الله أري ليلة الجمعة رؤيا فأصبح، فجاءه نفر من أصحابه فقال لهم: «رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح والله خير، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ضبته، أو قال: به فلول فكرهته، وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة وأني مردف كبشا» فلما أخبرهم رسول الله برؤياه قالوا: يا رسول الله ماذا أولت رؤياك؟

قال: «أولت البقر الذي رأيت بقرا فينا، وفي القوم، وكرهت ما رأيت بسيفي».

ويقول رجال: كان الذي رأى بسيفه الذي أصاب وجهه فإن العدو أصاب وجهه يومئذ، وقصموا رباعيته، وخرقوا شفته، يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبي وقاص، وكان البقر من قتل من المسلمين يومئذ.

وقال: «أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو يقتله الله، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا واجعلوا الذراري في الأطام، فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم».

ورموا من فوق البيوت، وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى صارت كالحصن، فقال الذين لم يشهدوا بدرا: كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه الله إلينا وقرب المسير.

وقال رجل من الأنصار: متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا؟

وقال رجال: ماذا نمنع إذا لم تمنع الحرب بروع؟

وقال رجال قولا صدقوا به، ومضوا عليه منهم: حمزة بن عبد المطلب قال: والذي أنزل عليك الكتاب لنجادلنهم.

وقال نعيم بن مالك بن ثعلبة - وهو أحد بني سالم -: يا نبي الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال له رسول الله : «بم؟».

قال: بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف.

فقال له رسول الله : «صدقت» واستشهد يومئذ.

وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر، وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرا، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة.

فلما صلى رسول الله الجمعة، وعظ الناس وذكَّرهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثم انصرف من خطبته وصلاته، فدعا بلأمته فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج.

فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي قالوا: أمرنا رسول الله أن نمكث بالمدينة، وهو أعلم بالله وما يريد، ويأتيه الوحي من السماء.

فقالوا: يا رسول الله أمكث كما أمرتنا، فقال: ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب، وأذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو، وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا.

قال: فخرج رسول الله والمسلمون، فسلكوا على البدائع وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فمضى رسول الله حتى نزل بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلثمائة، فبقي رسول الله في سبعمائة.

قال البيهقي رح: هذا هو المشهور عند أهل المغازي أنهم بقوا في سبعمائة مقاتل.

قال: والمشهور عن الزهري أنهم بقوا في أربعمائة مقاتل، كذلك رواه يعقوب بن سفيان عن أصبغ، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري.

وقيل عنه بهذا الإسناد سبعمائة، فالله أعلم.

قال موسى بن عقبة: وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد، وكان معهم مائة فرس، وكان لواؤه مع عثمان بن طلحة، قال: ولم يكن مع المسلمين فرس واحدة، ثم ذكر الوقعة كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.

وقال محمد ابن إسحاق: لما قص رسول الله رؤياه على أصحابه قال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله في أن لا يخرج إليهم.

فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه.

فلم يزل الناس برسول الله حتى دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من بني النجار يقال له مالك بن عمرو، فصلى عليه، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله ولم يكن لنا ذلك.

فلما خرج عليهم قالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد، فقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» فخرج رسول الله في ألف من أصحابه.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

قال ابن إسحاق: حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس؟

فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي والد جابر بن عبد الله فقال: يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، عند ما حضر من عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال.

فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه .

قلت: وهؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى: { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } 9.

يعني: إنهم كاذبون في قولهم: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، وذلك لأن وقوع القتال أمره ظاهر بين واضح لا خفاء ولا شك فيه، وهم الذين أنزل الله فيهم: { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا... } الآية 10

وذلك أن طائفة قالت: نقاتلهم، وقال آخرون: لا نقاتلهم، كما ثبت وبين في الصحيح.

وذكر الزهري: أن الأنصار استأذنوا حينئذ رسول الله في الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة، فقال: «لا حاجة لنا فيهم».

وذكر عروة بن موسى بن عقبة أن بني سلمة وبني حارثة لما رجع عبد الله بن أبي وأصحابه همتا أن تفشلا، فثبتهما الله تعالى، ولهذا قال: { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } 11

قال جابر بن عبد الله: ما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: { والله وليهما } كما ثبت في الصحيحين عنه.

قال ابن إسحاق: ومضى رسول الله حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله، فقال رسول الله لصاحب السيف: «شم سيفك - أي: أغمده - فإني أرى السيوف ستسل اليوم».

ثم قال النبي لأصحابه: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب - أي: من قريب - من طريق لا يمر بنا عليهم».

فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة، وبين أموالهم حتى سلك به في مال لمربع بن قيظي، وكان رجلا منافقا ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله ومن معه من المسلمين قام يحثي في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل في حائطي.

قال ابن إسحاق: وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من التراب في يده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله : «لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر»

وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل قبل نهي رسول الله فضربه بالقوس في رأسه فشجه، ومضى رسول الله حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وفي الجبل، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: «لا يقاتلن أحد حتى أمره بالقتال».

وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمغة من قناة كانت للمسلمين، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟

وتعبأ رسول الله للقتال وهو في سبعمائة رجل، وأمر على الرماة يومئذ عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلا فقال: «انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك».

وسيأتي شاهد هذا في الصحيحين إن شاء الله تعالى.

قال ابن إسحاق: وظاهر رسول الله بين درعين، يعني لبس درعا فوق درع، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار.

قلت: وقد رد رسول الله جماعة من الغلمان يوم أحد فلم يمكنهم من حضور الحرب لصغرهم، منهم: عبد الله بن عمر، كما ثبت في الصحيحين قال: عرضت على النبي يوم أحد فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني.

وكذلك رد يومئذ أسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس بن قيظي. ذكره ابن قتيبة، وأورده السهيلي وهو الذي يقول فيه الشماخ:

إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين

ومنهم: ابن سعيد بن خيثمة، ذكره السهيلي أيضا، وأجازهم كلهم يوم الخندق.

وكان قد رد يومئذ سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة سنة، فقيل: يا رسول الله إن رافعا رام فأجازه، فقيل: يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعا فأجازه.

قال ابن إسحاق رح: وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل بن هشام، وقال رسول الله : «من يأخذ هذا السيف بحقه» فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة فقال: وما حقه يا رسول الله؟

قال: أن تضرب به في العدو حتى ينحني.

قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فأعطاه إياه.

هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعا.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد وعفان قالا: حدثنا حماد هو ابن سلمة، أخبرنا ثابت عن النبي أن رسول الله أخذ سيفا يوم أحد فقال: «من يأخذ هذا السيف؟»

فأخذ قوم فجعلوا ينظرون إليه، فقال: «من يأخذه بحقه» فأحجم القوم فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين.

ورواه مسلم عن أبي بكر عن عفان به.

قال ابن إسحاق: وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكان له عصابة حمراء يعلم بها عند الحرب يعتصب بها، فيعلم أنه سيقاتل.

قال: فلما أخذ السيف من يد رسول الله أخرج عصابته تلك فاعتصب بها، ثم جعل يتبختر بين الصفين.

قال: فحدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم - مولى عمر بن الخطاب - عن رجل من الأنصار من بني سلمة قال: قال رسول الله حين رأى أبا دجانة يتبختر: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن»

قال ابن إسحاق: وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم على القتال: يا بني عبد الدار قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه، فنكفيكموه فهموا به، وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع؟ وذلك الذي أراد أبو سفيان.

قال: فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال، ويحرضن على القتال، فقالت هند فيما تقول:

ويها بني عبد الدار * ويها حماة الأديار

ضربا بكل بتار

وتقول أيضا:

إن تقبلوا نعانق * ونفرش النمارق

أو تدبروا نفارق * فراق غير وامق

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن أبا عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان أحد بني ضبيعة، وكان قد خرج إلى مكة مباعدا لرسول الله معه خمسون غلاما من الأوس، وبعض الناس يقول: كانوا خمسة عشر.

وكان يعد قريشا أن لو قد لقي قومه لم يتخلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش، وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس: أنا أبو عامر.

قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق. وكان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله الفاسق، فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالا شديدا، ثم أرضخهم بالحجارة.

قال ابن إسحاق: فأقبل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس.

قال ابن هشام: وحدثني غير واحد من أهل العلم أن الزبير بن العوام قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش، وقد قمت إليه وسألته إياه قبله فأعطاه أبا دجانة وتركني، والله لأنظرن ما يصنع، فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول له إذا تعصب فخرج وهو يقول:

أنا الذي عاهدني خليلي * ونحن بالسفح لدى النخيل

أن لا أقوم الدهر في الكيول * أضرب بسيف الله والرسول

وقال الأموي: حدثني أبو عبيد في حديث النبي أن رجلا أتاه وهو يقاتل به فقال: «لعلك إن أعطيتك تقاتل في الكيول» قال: لا، فأعطاه سيفا فجعل يرتجز ويقول:

أنا الذي عاهدني خليلي * أن لا أقوم الدهر في الكيول

وهذا حديث يروى عن شعبة، ورواه إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق، عن هند بنت خالد أو غيره، يرفعه الكيول يعني مؤخر الصفوف، سمعته من عدة من أهل العلم، ولم أسمع هذا الخرف إلا في هذا الحديث.

قال ابن هشام: فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه، فجعل كل منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته، فعضيت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها. فقلت: الله ورسوله أعلم.

وقد رواه البيهقي في (الدلائل) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام بذلك.

قال ابن إسحاق: قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس حمسا شديدا فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة فأكرمت سيف رسول الله أن أضرب به امرأة.

وذكر موسى بن عقبة أن رسول الله لما عرضه طلبه منه عمر، فأعرض عنه، ثم طلبه منه الزبير فأعرض عنه، فوجدا في أنفسهما من ذلك، ثم عرضه الثالثة فطلبه أبو دجانة فدفعه إليه، فأعطى السيف حقه.

قال: فزعموا أن كعب بن مالك قال: كنت فيمن خرج من المسلمين فلما رأيت مثل المشركين بقتلى المسلمين، قمت فتجاورت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة، يجوز المسلمين وهو يقول: استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم.

قال: وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيأة.

قال: فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه، وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه، وقال: كيف ترى يا كعب أنا أبو دجانة.

مقتل حمزة رضي الله عنه

قال ابن إسحاق: وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، وكذلك قتل عثمان بن أبي طلحة وهو حامل اللواء، وهو يقول:

إن على أهل اللواء حقا * أن يخضبوا الصعدة أو تندقا

فحمل عليه حمزة فقتله، ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني، وكان يكنى بأبي نيار، فقال حمزة: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكانت ختَّانة بمكة، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله فقال وحشي - غلام جبير بن مطعم -:

والله إني لأنظر لحمزة يهد الناس بسيفه، ما يليق شيئا يمر به مثل الجمل الأورق، إذ قد تقدمني إليه سباع فقال حمزة: هلم يا ابن مقطعة البظور، فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي، فغلب فوقع وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي بشيء حاجة غيره.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن الفضل بن عياش بن ربيعة بن الحارث، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت أنا وعبيد الله بن عدي بن الخيار أحد بني نوفل بن عبد مناف، في زمان معاوية، فأدربنا مع الناس، فلما مررنا بحمص، وكان وحشي مولى جبير قد سكنها، وأقام بها، فلما قدمناها قال عبيد الله بن عدي: هل لك في أن نأتي وحشيا فنسأله عن قتل حمزة كيف قتله؟

قال: قلت له: إن شئت، فخرجنا نسأل عنه بحمص، فقال لنا رجل ونحن نسأل عنه إنكما ستجدانه بفناء داره، وهو رجل قد غلبت عليه الخمر، فإن تجداه صاحيا تجدا رجلا عربيا، وتجدا عنده بعض ما تريدان، وتصيبا عنده ما شئتما من حديث تسألانه عنه، وإن تجداه وبه بعض ما به فانصرفا عنه ودعاه.

قال: فخرجنا نمشي حتى جئناه فإذا هو بفناء داره على طنفسة له، وإذا شيخ كبير مثل البغاث، وإذا هو صاح لا بأس به، فلما انتهينا إليه سلمنا عليه، فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدي فقال: ابن لعدي بن الخيار أنت؟

قال: نعم.

قال: أما والله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التي أرضعتك بذي طوى، فإني ناولتكها وهي على بعيرها فأخذتك بعرضيك، فلمعت لي قدماك حتى رفعتك إليها، فوالله ما هو إلا أن وقفت علي فعرفتهما.

قال: فجلسنا إليه، فقلنا: جئناك لتحدثنا عن قتل حمزة كيف قتلته؟

فقال: أما إني سأحدثكما كما حدثت رسول الله حين سألني عن ذلك: كنت غلاما لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر فلما سارت قريش إلى أحد، قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق.

قال: فخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلَّ ما أخطئ بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة، وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس كأنه الجمل الأورق، يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة، أو بحجر ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى.

فلما رآه حمزة قال: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه، قال: وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها، دفعتها عليه فوقعت في ثنته، حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر وقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق.

فلما قدمت مكة عتقت، ثم أقمت حتى إذا افتتح رسول الله مكة، هربت إلى الطائف فمكثت بها، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله ليسلموا تعَّيت علي المذاهب فقلت: ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد، فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك إنه والله لا يقتل أحدا من الناس دخل في دينه وشهد شهادة الحق.

قال: فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله المدينة، فلم يرعه إلا بي قائما على رأسه أشهد شهادة الحق، فلما رآني قال لي: «أوحشي أنت؟» قلت: نعم يا رسول الله، قال: «اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة» قال فحدثته كما حدثتكما، فلما فرغت من حديثي قال: «ويحك غيب عني وجهك فلا أرينك»

قال: فكنت أتنكب برسول الله حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله عز وجل.

فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس ورأيت مسيلمة قائما وبيده السيف وما أعرفه، فتهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده، فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه.

وشد عليه الأنصاري بالسيف، فربك أعلم أينا قتله فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله ، وقتلت شر الناس.

قلت: الأنصاري هو أبو دجانة سماك بن حرشة، كما سيأتي في مقتل أهل اليمامة.

وقال الواقدي في الردة: هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني.

وقال سيف بن عمرو: هو عدي بن سهل، وهو القائل:

ألم تر أني ووحشيهم * قتلت مسيلمة المغتبن

ويسألني الناس عن قتله * فقلت ضربت وهذا طعن

والمشهور: أن وحشيا هو الذي بدره بالضربة وذفف عليه أبو دجانة، لما روى ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن ابن عمر قال: سمعت صارخا يوم اليمامة يقول قتله العبد الأسود.

وقد روى البخاري قصة مقتل حمزة من طريق عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت مع عبد الله بن عدي بن الخيار فذكر القصة كما تقدم.

وذكر أن عبيد الله بن عدي كان معتجرا عمامة لا يرى منه وحشي إلا عينيه ورجليه، فذكر من معرفته له ما تقدم. وهذه قيافة عظيمة كما عرف مجزز المدلجي أقدام زيد وابنه أسامة مع اختلاف ألوانهما.

وقال في سباقته: فلما أن صفَّ الناس للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال له: يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله؟ ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب.

قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه. قال: فكان ذلك آخر العهد به، إلى أن قال: فلما قبض رسول الله وخرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرج إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة.

قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه، حتى خرجت من كتفيه. قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته.

قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر البيت وا أمير المؤمناه قتله العبد الأسود.

قال ابن هشام: فبلغني أن وحشيا لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان، فكان عمر بن الخطاب يقول: قد قلت بأن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة.

قلت: وتوفي وحشي بن حرب أبو دسمة، ويقال: أبو حرب بحمص، وكان أول من لبس الثياب المدلوكة.

قال ابن إسحاق: وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله حتى قتل، وكان الذي قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله ، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.

قلت: وذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) عن سعيد بن المسيب أن الذي قتل مصعبا هو أبي بن خلف، فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله اللواء علي بن أبي طالب.

وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: كان اللواء أولا مع علي بن أبي طالب، فلما رأى رسول الله لواء المشركين مع عبد الدار قال: نحن أحق بالوفاء منهم، أخذ اللواء من علي بن أبي طالب، فدفعه إلى مصعب بن عمير، فلما قتل مصعب أعطى اللواء علي بن أبي طالب.

قال ابن إسحاق: وقاتل علي بن أبي طالب ورجال من المسلمين.

قال ابن هشام: وحدثني مسلمة بن علقمة المازني قال: لما اشتد القتال يوم أحد جلس رسول الله تحت راية الأنصار، وأرسل إلى علي أن قدّم الراية، فقدم علي وهو يقول: أنا أبو القصم فناداه أبو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين: هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟

قال: نعم. فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين، فضربه علي فصرعه، ثم انصرف ولم يجهز عليه.

فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله. وقد فعل ذلك علي رضي الله عنه يوم صفين مع بسر ابن أبي أرطأة، لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته فرجع عنه.

كذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه علي في بعض أيام صفين، أبدى عن عورته، فرجع علي أيضا. ففي ذلك يقول الحارث بن النضر:

أفي كلِّ يومٍ فارس غير منتهِ * وعورته وسط العجاجة باديه

يكف لها عنه عليٌّ سنانه * ويضحك منها في الخلاء معاويه

وذكر يونس عن ابن إسحاق: أن طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء المشركين يومئذ، دعا إلى البراز فأحجم عنه الناس فبرز إليه الزبير بن العوام، فوثب حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه، فأثنى عليه رسول الله قال: «إن لكل نبي حواريا وحواريّ الزبير».

وقال: لو لم يبرز إليه لبرزت أنا إليه، لما رأيت من إحجام الناس عنه.

وقال ابن إسحاق: قتل أبا سعد بن أبي طلحة سعد بن أبي وقاص، وقاتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقتل نافع بن أبي طلحة وأخاه الجلاس كلاهما يشعره سهما، فيأتي أمه سلافة فيضع رأسه في حجرها فتقول: يا بني من أصابك؟

فيقول: سمعت رجلا حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبي الأقلح، فنذرت أن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وكان عاصم قد عاهد الله لا يمس مشركا أبدا، ولا يمسه، ولهذا حماه الله منه يوم الرجيع كما سيأتي.

قال ابن إسحاق: والتقى حنظلة بن أبي عامر، واسمه عمرو، ويقال: عبد عمرو بن صيفي، وكان يقال لأبي عامر في الجاهلية: الراهب، لكثرة عبادته، فسماه رسول الله الفاسق، لما خلف الحق وأهله، وهرب من المدينة هربا من الإسلام ومخالفة للرسول عليه السلام.

وحنظلة الذي يعرف بحنطلة الغسيل - لأنه غسلته الملائكة كما سيأتي - هو وأبو سفيان صخر بن حرب، فلما علاه حنظلة رآه شدَّاد بن الأوس، وهو الذي يقال له ابن شعوب، فضربه شدَّاد فقتله، فقال رسول الله : «إن صاحبكم لتغسله الملائكة فاسألوا أهله ما شأنه» فسُئلت صاحبته.

قال الواقدي: هي جميلة بنت أبي ابن سلول، وكانت عروسا عليه تلك الليلة. فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله : «كذلك غسلته الملائكة».

وقد ذكر موسى بن عقبة أن أباه ضرب برجله في صدره، وقال: ذنبان أصبتهما ولقد نهيتك عن مصرعك هذا، ولقد والله كنتَ وصولا للرحم، برا بالوالد.

قال ابن إسحاق: وقال ابن شعوب في ذلك:

لأحمينَّ صاحبي ونفسي * بطعنةٍ مثل شعاع الشمس

وقال ابن شعوب:

ولولا دفاعي يا ابن حرب ومشهدي * لألفيتَ يوم النعفِ غيرَ مجيب

ولولا مكري المهر بالنعف فرفرت * عليه ضباع أو ضراء كليب

وقال أبو سفيان:

ولو شئتُ نجتّني كُمَيتَ طمرة * ولم أحملِ النعماء لابن شعوب

وما زال مهري مزجَرَ الكلب منهم * لدن غدوةٍ حتى دنت لغروب

أقاتلهم وأدعي يا لغالب * وأدفعهم عني بركن صليب

فبكِّي ولا ترعي مقالة عاذل * ولا تسأمي من عَبرة ونحيب

أباكِ وإخوانا له قد تتابعوا * وحقا لهم من عَبرة بنصيب

وسَلي الذي قد كان في النفس أنني * قتلت من النجار كل نجيب

ومن هاشم قرما كريما ومصعبا * وكان لدى الهيجاء غير هيوب

فلو أنني لم أشفِ نفسي منهم * لكانت شجى في القلب ذات ندوب

فأبوا وقد أوْدى الجلابيب منهمُ * بهم خدبٌ من مُغبطٍ وكئيب

أصابهمُ من لم يكن لدِمائهم * كفاء ولا في خطةٍ بضريب

فأجابه حسان بن ثابت:

ذكرت القروم الصِّيدَ من آل هاشم * ولست لزورٍ قلته بمصيبِ

أتعجبُ أن أقصدت حمزةَ منهم * نجيبا وقد سمَّيته بنجيب

ألم يقتلوا عَمرا وعتبة وابنه * وشيبة والحجاج وابن حبيب

غداة دعا العاصي عليا فراعَه * بضربةِ عَضْبٍ بَلّهُ بخضيب

فصل نصر الله للمسلمين يوم بدر

قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسُّوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها.

وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة على العسكر حين كشفنا القوم عنه، وخلوا ظهورنا للخيل، فأُتينا من خلفنا، وصرخ صارخ:

ألا إن محمدا قد قُتل، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا، بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد منهم.

قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم: أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به، وكان اللواء مع صؤاب غلام لبني أبي طلحة حبشي، وكان آخر من أخذه منهم فقاتل به حتى قطعت يداه، ثم برك عليه فأخذ اللواء بصدره وعنقه، حتى قتل عليه وهو يقول: اللهم هل أعزرت - يعني: اللهم هل أعذرت - فقال حسان بن ثابت في ذلك:

فَخَرْتم باللواءِ وشرُّ فخرٍ * لواءَ حين رُدَّ إلى صواب

جَعَلتُم فخركم فيه لعبدٍ * وإلام مَن يطا عُفْرَ التراب

ظننتم، والسفيهُ له ظنونٌ * وما إنْ ذاك من أمرِ الصواب

بأنَّ جلادنا يوم التقينا * بمكةَ بَيْعُكُم حُـمْرَ العِياب

أقرَّ العينَ أن عُصبتْ يداه * وما أن تُعصبَانِ على خِضَاب

وقال حسان أيضا في رفع عمرة بنت علقمة اللواء لهم:

إذا عضلٌ سيقت إلينا كأنها * جدايةُ شركٍ مُعْلَمات الحواجب

أقمنا لهم طعنا مبيرا منكِّلا * وحزْناهُم الضرب من كل جانب

فلولا لواءُ الحارثيةِ أصبحوا * يُباعونَ في الأسواق بَيْعَ الجلائب

قال ابن إسحاق: فانكشف المسلمون وأصاب منهم العدو، وكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة حتى خلص العدو إلى رسول الله فذبَّ بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص.

فحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: كسرت رباعية النبي يوم أحد وشجَّ في وجهه، فجعل يمسح الدم ويقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله» فأنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } 12.

قال ابن جرير في (تاريخه): حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن الفضل، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أتى ابن قمئة الحارثي فرمى رسول الله بحجر فكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجهه فأثقله، وتفرق عنه أصحابه، ودخل بعضهم المدينة، وانطلق طائفة فوق الجبل إلى الصخرة، وجعل رسول الله يدعو الناس: «إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله»

فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فجعلوا يسيرون بين يديه، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف، فحماه طلحة فرُمي بسهم في يده فيبست يده، وأقبل أبي بن خلف الجمحي وقد حلف ليقتلن النبي فقال: بل أنا أقتله، فقال: يا كذاب أين تفر؟

فحمل عليه فطعنه النبي في جيب الدرع، فجرح جرحا خفيفا، فوقع يخور خُوار الثور، فاحتملوه وقالوا: ليس بك جراحة فما يجزعك؟ قال: أليس قال لأقتلنك لو كانت تجتمع ربيعة ومضر لقتلهم، فلم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح.

وفشا في الناس أن رسول الله قد قُتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمنةً من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قُتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم.

فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد ، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شدَّ بسيفه فقاتل حتى قُتل.

وانطلق رسول الله يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه يرميه فقال: «أنا رسول الله» ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله ، وفرح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به.

فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله ذهب عنهم الحزن فأقبلوا يذكرون الفتح، وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فقال الله عز وجل في الذين قالوا إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } الآية.

فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه وهمهم أبو سفيان.

فقال رسول الله : «ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض».

ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، فقال أبو سفيان يومئذ: أعل، هبل، حنظلة بحنظلة، ويوم أُحد بيوم بدر. وذكر تمام القصة. وهذا غريب جدا وفيه نكارة.

قال ابن هشام: وزعم رُبيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي سعيد: أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن عبد الله بن قمئة جرح وجنته.

فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر، ليقع فيها المسلمون، فأخذ علي بن أبي طالب بيده، ورفعه طلحة بن عبيد الله، حتى استوى قائما، ومصَّ مالك بن سنان أبو أبي سعيد الدم من وجه رسول الله .

ثم ازدرده فقال: «من مس دمه دمي لم تمسسه النار» قلت: وذكر قتادة أن رسول الله لما وقع لشقه أغمى عليه، فمر به سالم مولى أبي حذيفة، فأجلسه ومسح الدم عن وجهه فأفاق وهو يقول: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله» فأنزل الله: { ليس لك من الأمر شيء... } الآية.

رواه ابن جرير وهو مرسل، وسيأتي بسط هذا في فصل وحده.

قلت: كان أول النهار للمسلمين على الكفار كما قال الله تعالى: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّا... } الآية 13.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثني سليمان بن داود، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله، عن ابن عباس أنه قال: ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أُحد، قال: فأنكرنا ذلك فقال: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله، إن الله يقول في يوم أحد: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } .

يقول ابن عباس: والحس القتل.

{ حتى إذا فشلتم } إلى قوله: { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } وإنما عنى بهذا الرماة، وذلك أن النبي أقامهم في موضع.

ثم قال: «احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا».

فلما غنم النبي وأباحوا عسكر المشركين، أكب الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله فهم هكذا - وشبك بين أصابع يديه - والتبسوا.

فلما أخلَّ الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي ، فضرب بعضهم بعضا فالتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة.

وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، إنما كان تحت المهراس وصاح الشيطان، قتل محمد! فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه حق، حتى طلع رسول الله بين السعدين نعرفه بكتفيه إذا مشى.

قال: ففرحنا كأنه لم يصبنا ما أصابنا.

قال: فرقى نحونا وهو يقول: «اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله» ويقول مرة أخرى: «اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا» حتى انتهى إلينا فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اُعلُ هبل، اُعلُ هبل مرتين، يعني: آلهته، أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟

فقال عمر بن الخطاب: ألا أجيبه؟

قال: بلى.

قال: فلما قال: اُعلُ هبل قال: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: يا ابن الخطاب قد أنعمت عينها، فعاد عنها - أو فعال عنها - فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟

فقال عمر: هذا رسول الله ، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر.

قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الأيام دول، وإن الحرب سجال.

قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار.

قال: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذن وخسرنا.

ثم قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون في قتلاكم مثلة، ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا.

قال: ثم أدركته حمية الجاهلية، فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه.

وقد رواه ابن أبي حاتم، والحاكم في (مستدركه)، والبيهقي في (الدلائل) من حديث سليمان بن داود الهاشمي به.

وهذا حديث غريب، وهو من مرسلات ابن عباس. وله شواهد من وجوه كثيرة، سنذكر منها ما تيسر إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان وهو المستعان.

قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذٍ، وأجلس النبي جيشا من الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال: «لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا».

فلما لقينا هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة! فقال عبد الله: عهد إليَّ النبي أن لا تبرحوا فأبوا، فلما أبوا صرفت وجوههم فأصيب سبعون قتيلا، وأشرف أبو سفيان فقال:

أفي القوم محمد؟ فقال: «لا تجيبوه».

فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟

فقال: «لا تجيبوه».

فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟

فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلوا كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدوَ الله، أبقى الله عليك ما يحزنك.

فقال أبو سفيان: اُعلُ هبل.

فقال النبي : «أجيبوه».

قالوا: ما نقول؟

قال: «قولوا الله أعلى وأجل».

فقال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم.

فقال النبي : «أجيبوه».

قالوا: ما نقول؟

قال: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم».

قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم أمر بها، ولم تسؤني.

وهذا من إفراد البخاري دون مسلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق: أن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلا - عبد الله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال:

«إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم».

قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل، وقد بدت أسوقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي: قوم الغنيمة ظهر أصحابكم، فما تنظرون؟

قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله ؟

قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبنَّ من الغنيمة! فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين رجلا.

وكان رسول الله وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا، وسبعين قتيلا، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، أفي القوم محمد؟ ثلاثا فنهاهم رسول الله أن يجيبوه.

ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب، أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، وقد كفيتموهم فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك.

فقال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم أمر بها، ولم تسؤني.

ثم أخذ يرتجز: اُعلُ هبل اُعلُ هبل، فقال رسول الله : «ألا تجيبونه».

قالوا: يا رسول الله وما نقول؟

قال: «قولوا الله أعلى وأجل».

قال: إن العُزَّى لنا، ولا عزى لكم؟

قال رسول الله : «ألا تجيبونه».

قالوا: يا رسول الله ما نقول؟

قال: «قولوا الله مولانا، ولا مولى لكم».

ورواه البخاري من حديث زهير، وهو ابن معاوية مختصرا، وقد تقدم روايته له مطولة من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت وعلي ابن زيد، عن أنس بن مالك أن المشركين لما رهقوا النبي وهو في سبعة من الأنصار ورجل من قريش، قال: «من يردّهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟» فجاء رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل.

فلما رهقوه أيضا قال: «من يردّهم عنا، وهو رفيقي في الجنة؟» حتى قتل السبعة، فقال رسول الله : «ما أنصفنا أصحابنا».

ورواه مسلم عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به.

وقال البيهقي في (الدلائل) بإسناده عن عمارة بن غزية، عن أبي الزبير، عن جابر قال: انهزم الناس عن رسول الله يوم أحد، وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار فيهم: طلحة بن عبيد الله، وهو يصعد في الجبل فلحقهم المشركون فقال: «ألا أحد لهؤلاء؟».

فقال طلحة: أنا يا رسول الله.

فقال: «كما أنت يا طلحة».

فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل عنه، وصعد رسول الله ومن بقي معه، ثم قتل الأنصاري فلحقوه.

فقال: «ألا رجل لهؤلاء؟».

فقال طلحة مثل قوله، فقال رسول الله مثل قوله، فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل، وأصحابه يصعدون ثم قُتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل قوله الأول، ويقول طلحة أنا يا رسول، فيحبسه فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذن له فيقاتل، مثل من كان قبله حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما.

فقال رسول الله : «من لهؤلاء؟» فقال طلحة: أنا، فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله، فقال: حس، فقال لو قلت: «بسم الله لرفعتك الملائكة، والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء».

ثم صعد رسول الله إلى أصحابه وهم مجتمعون.

وروى البخاري: عن عبد الله بن أبي شيبة، عن وكيع، عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي يوم أحد.

وفي الصحيحين من حديث موسى بن إسماعيل، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع النبي في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة وسعد عن حديثهما.

وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية، عن هاشم بن هاشم السعدي، سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: نثل لي رسول الله كنانته يوم أحد، وقال: «ارم فداك أبي وأمي».

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد، عن مروان به.

وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن شداد، عن علي بن أبي طالب قال: ما سمعت النبي جمع أبويه لأحد، إلا لسعد بن مالك فإني سمعته يقول يوم أحد: «يا سعد ارم فداك أبي وأمي».

قال محمد بن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عن بعض آل سعد، عن سعد بن أبي وقاص: أنه رمى يوم أحد دون رسول الله .

قال سعد: فلقد رأيت رسول الله يناولني النبل ويقول: «ارم فداك أبي وأمي» حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل، فأرمي به.

وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي وعن يساره، رجلين عليهما ثياب بيض، يقاتلان أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك ولا بعده، يعني: جبريل، وميكائيل عليهما السلام.

وقال أحمد: حدثنا عفان، أخبرنا ثابت بن أنس، أن أبا طلحة كان يرمي بين يدي النبي يوم أحد، والنبي خلفه يترس به، وكان راميا، وكان إذا رمى رفع رسول الله شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره ويقول: هكذا بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك.

وكان أبو طلحة يسوّر نفسه بين يدي رسول الله ويقول: إني جلد يا رسول الله، فوجهني في حوائجك، ومرني بما شئت.

وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز، عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي ، وأبو طلحة بين يدي رسول الله مجوَّب عليه بجحفة له.

وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل، فيقول: انثرها لأبي طلحة.

قال: ويشرف النبي ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.

ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم، وأنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقران القرب على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم. ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة أما مرتين وأما ثلاثا.

قال البخاري: وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه، ويسقط فآخذه.

هكذا ذكر البخاري معلقا بصيغة الجزم، ويشهد له قوله تعالى:

{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } 14.

قال البخاري: حدثنا عبدان، أخبرنا أبو حمزة، عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حجَّ البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؟

قال: هؤلاء قريش.

قال: من الشيخ؟

قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟

قال: أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فرَّ يوم أحد؟

قال: نعم.

قال: فتعلمه تغيَّب عن بدر فلم يشهدها؟

قال: نعم.

قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟

قال: نعم.

قال: فكبر.

قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه: أما فراره يوم أُحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت النبي وكانت مريضة، فقال له رسول الله :

«إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه» أما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه فبعث عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة.

فقال النبي بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده فقال: «هذه لعثمان اذهب بهذا الآن معك».

وقد رواه البخاري أيضا في موضع آخر، والترمذي من حديث أبي عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب به.

وقال الأموي في (مغازيه) عن ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد، عن أبيه، عن جده، سمعت رسول الله يقول، وقد كان الناس انهزموا عنه حتى بلغ بعضهم إلى المبقَّى دون الأعوص، وفرَّ عثمان بن عفان، وسعد بن عثمان رجل من الأنصار، حتى بلغوا الجَلعَب جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص.

فأقاموا ثلاثا ثم رجعوا، فزعموا أن رسول الله قال لهم: «لقد ذهبتم فيها عريضة» والمقصود أن أحدا وقع فيها أشياء مما وقع في بدر، منها: حصول النعاس حال التحام الحرب، وهذا دليل على طمأنينة القلوب بنصر الله وتأييده، وتمام توكلها على خالقها وبارئها.

وقد تقدم الكلام على قوله تعالى في غزوة بدر: { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه... } الآية.

وقال ها هنا: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم } يعني: المؤمنين الكُمل، كما قال ابن مسعود، وغيره من السلف: النعاس في الحرب من الإيمان، والنعاس في الصلاة من النفاق، ولهذا قال بعد هذا: { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم... } الآية.

ومن ذلك أن رسول الله استنصر يوم أُحد كما استنصر يوم بدر بقوله: «إن تشأ لا تعبد في الأرض».

كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد وعفان قالا: حدثنا حماد، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله كان يقول يوم أحد: «اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض».

ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن عبد الصمد، عن حماد بن سلمة به.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع جابر بن عبد الله قال: قال رجل للنبي يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟

قال: «في الجنة» فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل.

ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به، وهذا شبيه بقصة عمير بن الحمام التي تقدمت في غزوة بدر رضي الله عنهما وأرضاهما.

فصل فيما لقي النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ من المشركين قبحهم الله

قال البخاري: ما أصاب النبي من الجراح يوم أُحد.

حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله : «اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه - يشير إلى رباعيته - اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله».

ورواه مسلم من طريق عبد الرزاق: حدثنا مخلد بن مالك، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «اشتد غضب الله على من قتله النبي في سبيل الله، اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله» .

وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا ثابت، عن أنس أن رسول الله قال يوم أحد وهو يسلت الدم عن وجهه، وهو يقول: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعو إلى الله» فأنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } 15.

ورواه مسلم عن القعنبي، عن حماد بن سلمة به.

ورواه الإمام أحمد: عن هشيم ويزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس: أن رسول الله كسرت رباعيته، وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه، فقال: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» فأنزل الله تعالى: { ليس لك من الأمر شيء } .

وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب، عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح النبي فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله ، ومن كان يسكب الماء، وبما دووي.

قال: كانت فاطمة بنت رسول الله تغسله، وعلي يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رمادا، ألصقتها فاستمسك الدم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه.

وقال أبو داود الطيالسي في (مسنده): حدثنا ابن المبارك، عن إسحاق، عن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، أخبرني عيسى بن طلحة، عن أم المؤمنين عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أُحد قال: ذاك يوم كله لطلحة.

ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلا يقاتل في سبيل الله دونه، وأراه قال حمية، قال: فقلت: كنْ طلحة، حيث فاتني ما فاتني، فقلت يكون رجلا من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله منه، وهو يخطف المشي خطفا لا أخطفه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح.

فانتهينا إلى رسول الله وقد كسرت رباعيته، وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، قال رسول الله : «عليكما صاحبكما» يريد طلحة وقد نزف، فلم نلتفت إلى قوله.

قال: وذهبت لأنزع ذاك من وجهه، فقال: أقسم عليك بحقي لما تركتني، فتركته فكره تناولها بيده فيؤذي رسول الله فأزم عليها بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني.

قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة رضي الله عنه من أحسن الناس هتما، فأصلحنا من شأن رسول الله .

ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية وضربة أو أقل أو أكثر، وإذا قد قطعت إصبعه فأصلحنا من شأنه.

وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية، ورسول الله وسطها، كل ذلك يصرف عنه.

ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يومئذ يقول: دُلُّوني على محمد، لا نجوت إن نجا، ورسول الله إلى جنبه ما معه أحد، فجاوره، فعاتبه في ذلك صفوان بن أمية، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إليه.

قال الواقدي: ثبت عندي أن الذي رمى في وجنتي رسول الله ابن قمئة، والذي رمى في شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص.

وقد تقدم عن ابن إسحاق نحو هذا، وأن الرباعية التي كسرت له عليه السلام هي اليمنى السفلى.

قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كيسان عمن حدثه، عن سعد بن أبي وقاص قال: و الله ما حرصت على قتل أحد قط، ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص، وإن كان ما علمت لسيء الخلق مبغضا في قومه، ولقد كفاني فيه قول رسول الله : «اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله».

وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عثمان الجزري، عن مقسم أن رسول الله دعا على عتبة بن أبي وقاص حين كسر رباعيته ودمى وجهه، فقال: «اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا» فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار.

وقال أبو سليمان الجوزجاني: حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا إبراهيم ابن محمد، حدثني ابن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن حرب، عن أبيه، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رسول الله داوى وجهه يوم أحد بعظم بالٍ.

هذا حديث غريب رأيته في أثناء كتاب (المغازي) للأموي في وقعة أحد.

ولما نال عبد الله بن قمئة من رسول الله ما نال، رجع وهو يقول: قتلت محمدا، وصرخ الشيطان أزبُّ العقبة يومئذ بأبعد صوت: ألا إن محمدا قد قتل!

فحصل بهتة عظيمة في المسلمين، واعتقد كثير من الناس ذلك، وصمموا على القتال عن جوزة الإسلام حتى يموتوا على ما مات عليه رسول الله ، منهم: أنس بن النضر وغيره، ممن سيأتي ذكره.

وقد أنزل الله تعالى التسلية في ذلك على تقدير وقوعه فقال تعالى:

{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابا مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } 16.

وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في كتابنا التفسير، ولله الحمد.

وقد خطب الصديق رضي الله عنه في أول مقام قامه بعد وفاة رسول الله فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

ثم تلا هذه الآية: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم... } الآية.

قال: فكأن الناس لم يسمعوها قبل ذلك، فما من الناس أحد إلا يتلوها.

وروى البيهقي في (دلائل النبوة) من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال: مر رجل من المهاجرين يوم أحد على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قُتل؟

فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل، فقد بلغ الرسالة فقاتلوا عن دينكم فنزل: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل... } الآية.

ولعل هذا الأنصاري هو أنس بن النضر رضي الله عنه، وهو عم أنس بن مالك.

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس أن عمه غاب عن قتال بدر، فقال: غبتُ عن أول قتال قاتله النبي للمشركين، لئن الله أشهدني قتالا للمشركين ليرينَّ ما أصنع.

فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إني أعتذر إليك عما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد: أنا معك.

قال سعد: فلم أستطع أصنع ما صنع، فوجد فيه بضع وثمانون من بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم.

قال: فكنا نقول فيه وفي أصحابه نزلت { فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر }

ورواه الترمذي عن عبد بن حميد والنسائي، عن إسحاق بن راهويه، كلاهما عن يزيد بن هارون به.

وقال الترمذي: حسن، قلت: بل على شرط الصحيحين من هذا الوجه.

وقال أحمد: حدثنا بهز، وحدثنا هاشم قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: قال أنس عمي، قال هاشم: أنس بن النضر، سميت به ولم يشهد مع رسول الله يوم بدر.

قال: فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه، ولئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله ليرينَّ الله ما أصنع.

قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله يوم أحد.

قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو أين؟ واها لريح الجنة أجده دون أحد.

قال: فقاتلهم حتى قُتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية.

قال: فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر، فما عرفت أخي إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا } 17.

قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه.

ورواه مسلم عن محمد بن حاتم عن بهز بن أسد.

ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن المبارك، وزاد النسائي، وأبو داود، وحماد بن سلمة أربعتهم، عن سليمان بن المغيرة به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال أبو الأسود: عن عروة بن الزبير قال: كان أبي بن خلف أخو بني جمُح قد حلف، وهو بمكة ليقتلن رسول الله ، فلما بلغتْ رسول الله حلفته قال: بل أنا أقتله إن شاء الله.

فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعا وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد، فحمل على رسول الله يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله بنفسه، فقتل مصعب بن عمير.

وأبصر رسول الله ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها بالحربة، فوقع إلى الأرض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خُوار الثور، فقالوا له: ما أجزعك؟ إنما هو خدش.

فذكر لهم قول رسول الله أنا أقتل أبيا. ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون، فمات إلى النار، فسحقا لأصحاب السعير.

وقد رواه موسى بن عقبة في (مغازيه)، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب نحوه.

وقال ابن إسحاق: لما أسند رسول الله في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أي محمد لا نجوتُ إن نجوتَ. فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟

فقال رسول الله : «دعوه!».

فلما دنا منه تناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة، فقال بعض القوم -كما ذُكر لي - فلما أخذها رسول الله انتفض انتفاضة، تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله رسول الله فطعنه في عنقه طعنه تدأدأ منها عن فرسه مرارا.

ذكر الواقدي عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه نحو ذلك.

قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل، إذا أنا بنار تأججت فهبتها، وإذا برجل يخرج منها بسلسلة يجذبها يهيجه العطش، فإذا رجل يقول: لا تسقه، فإنه قتيل رسول الله ، هذا أبي بن خلف.

وقد ثبت في الصحيحين كما تقدم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله».

ورواه البخاري من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: «اشتد غضب الله على من قتله رسول الله بيده في سبيل الله».

وقال البخاري: وقال أبو الوليد: عن شعبة، عن ابن المنكدر، سمعت جابرا قال: لما قُتل أبي جعلت أبكي، وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي ينهونني، والنبي لم ينه، وقال النبي : «لا تبكه أو ما تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع».

هكذا ذكر هذا الحديث ههنا معلقا، وقد أسنده في الجنائز عن بندار، عن غندر بن شعبة.

ورواه مسلم والنسائي من طرق، عن شعبة به.

وقال البخاري: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم أن عبد الرحمن بن عوف أتى بطعام وكان صائما، فقال: قُتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كُفن في بردة إن غطِّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطِّي رجلاه بدا رأسه.

وأراه قال: وقتل حمزة، هو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى برد الطعام.

انفرد به البخاري.

وقال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن خباب بن الأرت قال:

هاجرنا مع النبي نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنَّا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئا، كان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أُحد لم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي : «غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجله الأذخر».

ومنَّا من أينعت له ثمرته فهو يهديها.

وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن الأعمش به.

وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما كان يوم أُحد هزم المشركون فصرخ إبليس لعنة الله عليه: أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي.

قال: قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه.

فقال حذيفة: يغفر الله لكم.

قال عروة: فوالله ما زال في حذيفة بقية خير حتى لقي الله عز وجل.

قلت: كان سبب ذلك أن اليمان، وثابت بن وقش كانا في الأطام مع النساء لكبرهما وضعفهما فقالا: إنه لم يبق من آجالنا إلا ظمء حمار، فنزلا ليحضرا الحرب فجاء طريقهما ناحية المشركين، فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فقتله المسلمون خطأ، وتصدق حذيفة بدِيَّة أبيه على المسلمين، ولم يعاتب أحدا منهم لظهور العذر في ذلك.

فصل رد رسول الله عين قتادة بن النعمان عندما سقطت يوم أحد

قال ابن إسحاق: وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، حتى سقطت على وجنته، فردَّها رسول الله بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما.

وفي الحديث عن جابر بن عبد الله أن قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم أحد حتى سالت على خده، فردها رسول الله مكانها، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما، وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى.

وروى الدارقطني بإسناد غريب عن مالك، عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن أخيه قتادة بن النعمان قال: أصيبت عيناي يوم أحد، فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما رسول الله فأعادهما مكانهما، وبصق فيهما فعادتا تبرقان.

والمشهور الأول أنه أصيبت عينه الواحدة، ولهذا لما وفد ولده على عمر بن عبد العزيز قال له: من أنت؟

فقال له مرتجلا:

أنا ابن الذي سالت على الخد عينه * فردت بكف المصطفى أحسنَ الرد

فعادت كما كانت لأول أمرها * فيا حُسْنَها عينا ويا حُسْنُ ما خدّ

فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:

تلك المكارم لا قعبانِ من لبنٍ * شيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا

ثم وصله فأحسن جائزته رضي الله عنه.

فصل مشاركة أم عمارة في القتال يوم أحد

قال ابن هشام: وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد، فذكر سعيد بن أبي زيد الأنصاري أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلت على أم عمارة فقلت لها: يا خالة أخبريني خبرك.

فقالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين.

فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله ، فقمت أباشر القتال، وأذبُّ عنه بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إلي.

قالت: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت لها: أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة، أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله أقبل يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا.

فاعترضت له أنا، ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله ، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان.

قال ابن إسحاق: وترس أبو دجانة دون رسول الله بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل.

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده.

قال ابن إسحاق: وحدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار قال: انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم، فقال: فما يجلسكم؟

قالوا: قُتل رسول الله .

قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ، ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قُتل، وبه سمي أنس بن مالك.

فحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه.

قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم: أن عبد الرحمن بن عوف أصيب فوه يومئذ، فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.

فصل في أول من عرف رسول الله بعد الهزيمة كعب بن مالك

قال ابن إسحاق: وكان أول من عرف رسول الله بعد الهزيمة، وقول الناس قتل رسول الله - كما ذكر لي الزهري -كعب بن مالك.

قال: رأيت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله ، فأشار رسول الله إلي أن أنصت.

قال ابن إسحاق: فلما عرف المسلمون رسول الله نهضوا به، ونهض معهم نحو الشعب، معه أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، ورهط من المسلمين.

فلما أسند رسول الله في الشعب أدركه أبي بن خلف، فذكر قتله عليه السلام أبيا كما تقدم.

قال ابن إسحاق: وكان أبي بن خلف، كما حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، يلقى رسول الله بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العودَ - فرسا - أعلفه كل يوم فَرَقا من ذرة، أقتلك عليه.

فيقول رسول الله : «بل أنا أقتلك إن شاء الله».

فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدم فقال: قتلني والله محمد.

فقالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إنْ بك بأس.

قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليَّ لقتلني، فمات عدو الله بسرَف وهم قافلون به إلى مكة.

قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك:

لقد ورِثَ الضلالة عن أبيه * أبي يوم بارزه الرسولُ

أتيتَ إليه تحملُ رِمَّ عَظْمٍ * وتُوعِده وأنت به جَهول

وقد قَتلتْ بنو النجّار منكم * أميةَ إذ يغوث: يا عقيل

وتَبَّ ابنا ربيعةَ إذ أطاعا * أبا جهلٍ لأمهما الهبول

وأفلتَ حارثٌ لما شُغلنا * بأسْرِ القوم، أُسرتِهِ قليل

وقال حسان بن ثابت أيضا:

ألا مَن مبلغٌ عني أبيا * فقد ألقيت في سحق السعير

تمُني بالضلالة من بعيد * وتقُسِمُ إنّ قَدرتَ مع النُذور

تمنِّيكَ الأماني من بعيد * وقولُ الكفرِ يرجعُ في غرور

فقد لاقتك طعنةُ ذي حفاظٍ * كريمِ البيتِ ليس بذي فجور

له فضلٌ على الأحياء طُرا * إذا نابتْ مُلمّاتُ الأمور

قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله إلى فم الشعب، خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته ماءً من المهراس، فجاء بها إلى رسول الله ليشرب، منه فوجد له ريحا فعافه ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: «اشتد غضب الله على من دمى نبيه».

وقد تقدم شواهد ذلك من الأحاديث الصحيحة بما فيه الكفاية.

قال ابن إسحاق: فبينا رسول الله في الشعب معه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل.

قال ابن هشام: فيهم خالد بن الوليد.

قال ابن إسحاق: فقال رسول الله : «اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا» فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل، ونهض النبي إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وقد كان بدَّن رسول الله ظاهر بين درعين.

فلما ذهب لينهض لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوى عليها، فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال: سمعت رسول الله يقول يومئذ: «أوجب طلحة» حين صنع برسول الله يومئذ ما صنع.

قال ابن هشام: وذكر عمر مولى عفرة: أن رسول الله صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التي أصابته وصلى المسلمون خلفه قعودا.

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أتيُّ لا يدرى من هو، يقال له: قزمان، فكان رسول الله يقول إذا ذكر: «إنه لمن أهل النار».

قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا فقتل هو وحده ثمانية أو سبعة من المشركين، وكان ذا بأس فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر.

قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر.

قال: بماذا أبشر؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت.

قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته، فقتل به نفسه.

وقد ورد مثل قصة هذا في غزوة خيبر كما سيأتي، إن شاء الله.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن المسيب، عن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله خيبر، فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: «هذا من أهل النار».

فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله الرجل الذي قلت إنه من أهل النار قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات.

فقال النبي : «إلى النار» فكاد بعض القوم يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل فإنه لم يمت ولكن به جراح شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبي بذلك، فقال: «الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله».

ثم أمر بلالا فنادى في الناس: «إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».

وأخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به.

قال ابن إسحاق: و كان ممن قتل يوم أحد مخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن الغيطون، فلما كان يوم أحد قال: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق.

قالوا: إن اليوم يوم السبت.

قال: لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء.

ثم غدا إلى رسول الله فقاتل معه حتى قتل، فقال رسول الله فيما بلغنا: «مخيريق خير يهود».

قال السهيلي: فجعل رسول الله أموال مخيريق - وكانت سبع حوائط - أوقافا بالمدينة لله.

قال محمد بن كعب القرظي: وكانت أول وقف بالمدينة.

وقال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن أبي هريرة أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلِ قط، فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ فيقول: أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش.

قال الحصين: فقلت لمحمود بن أسد كيف كان شأن الأصيرم؟

قال: كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم أحد بدا له فأسلم، ثم أخذ سيفه فغدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة.

قال: فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم ما جاء به، لقد تركناه، وإنه لمنكر لهذا الحديث، فسألوه فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟

فقال: بل رغبة في الإسلام أمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي وغدوت مع رسول الله فقاتلت حتى أصابني ما أصابني، فلم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله فقال: «إنه من أهل الجنة».

قال ابن إسحاق: وحدثني أبي عن أشياخ من بني سلمة قالوا: كان عمرو بن الجموح رجلا أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد، يشهدون مع رسول الله المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا: إن الله قد عذرك.

فأتى رسول الله وقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة.

فقال رسول الله : «أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك» وقال لبنيه: «ما عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة» فخرج معه فقتل يوم أحد رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة -كما حدثني صالح بن كيسان - والنسوة اللائي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله ، يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهن خدما وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.

وذكر موسى بن عقبة أن الذي بقر كبد حمزة وحشي، فحملها إلى هند فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها فقالت:

نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان لي عن عتبةِ من صبر * ولا أخي وعمه وبكر

شفيت نفسي وقضيت نذري * شفيت وحشي غليل صدري

فشكر وحشيٍ علي عمري * حتى ترم أعظمي في قبري

قال: فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت:

خزيت في بدر وبعد بدر * يا بنت وقاع عظيم الكفر

صبحك الله غداة الفجر * م الهاشميين الطوال الزهر

بكل قطاع حسام يفري * حمزة ليثيٌ وعلي صقري

إذ رأم شيب وأبوك غدري * فخضبا منه ضواحي النحر

ونذرك السوء فشر نذر *

قال ابن إسحاق: وكان الحليس بن زيان أخو بني الحارث بن عبد مناة - وهو يومئذ سيد الأحابيش - مر بأبي سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح، ويقول: ذق عقق.

فقال الحليس: يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما.

فقال: ويحك اكتمها عني فإنها كانت زلة.

قال ابن إسحاق: ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف، أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل، أي: ظهر دينك.

فقال رسول الله لعمر: «قم يا عمر فأجبه فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار».

فقال له أبو سفيان: هلم إلي يا عمر.

فقال رسول الله لعمر: «ائته فانظر ما شأنه».

فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟

فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن.

قال: أنت عندي أصدق من ابن قمئة وأبر.

قال ابن إسحاق: ثم نادى أبو سفيان إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت ولا أمرت.

قال: ولما انصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله لرجل من أصحابه: «قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد»

قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله علي بن أبي طالب، فقال: «اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم».

قال علي: فخرجت في أثرهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكة.

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد

قال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفراري، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي، عن ابن رفاعة الزرقي، عن أبيه قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله : «استووا حتى أثني على ربي عز وجل» فصاروا خلفه صفوفا فقال:

«اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف.

اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق».

ورواه النسائي في (اليوم والليلة) عن زياد بن أيوب، عن مروان بن معاوية، عن عبد الواحد بن أيمن، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه به.

فصل سؤال النبي عليه السلام عن سعد بن الربيع أهو حي أم ميت

قال ابن إسحاق: وفرغ الناس لقتلاهم فحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني، أخو بني النجار: أن رسول الله قال: «من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات؟».

فقال رجل من الأنصار: أنا، فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق.

قال: فقال له: إن رسول الله أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟

فقال: أنا في الأموات فأبلغ رسول الله سلامي وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك الأنصار عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.

قال: ثم لم أبرح حتى مات، وجئت النبي فأخبرته خبره.

قلت: كان الرجل الذي التمس سعدا في القتلى: محمد بن سلمة فيما ذكره محمد بن عمر الواقدي، وذكر أنه ناداه مرتين فلم يجبه، فلما قال: إن رسول الله أمرني أن أنظر خبرك أجابه بصوت ضعيف وذكره.

وقال الشيخ أبو عمر في (الاستيعاب): كان الرجل الذي التمس سعدا أبي كعب، فالله أعلم.

وكان سعد بن الربيع من النقباء ليلة العقبة رضي الله عنه، وهو الذي آخى رسول الله بينه وبين عبد الرحمن بن عوف.

قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله فيما بلغني يلتمس حمزة بن عبد المطلب، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثّل به فجدع أنفه وأذناه، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير أن رسول الله قال حين رأى ما رأى: «لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع، وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم».

فلما رأى المسلمون حزن رسول الله وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.

قال ابن إسحاق: فحدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب، وحدثني من لا أتهم عن ابن عباس: أن الله أنزل في ذلك: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ... } الآية 18

قال: فعفا رسول الله وصبر، ونهى عن المثلة.

قلت: هذه الآية مكية، وقصة أحد بعد الهجرة بثلاث سنين فكيف يلتئم هذا، فالله أعلم؟

قال: وحدثني حميد الطويل، عن الحسن، عن سمرة بن جندب قال: ما قام رسول الله في مقام قط ففارقه، حتى يأمر بالصدقة وينهى عن المثلة.

وقال ابن هشام: ولما وقف النبي على حمزة قال: «لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت قط موقفا أغيظ إلي من هذا».

ثم قال: «جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله».

قال ابن هشام: وكان حمزة وأبو سلمة بن عبد الأسد أخو رسول الله من الرضاعة، أرضعتهم ثلاثتهم: ثويبة مولاة أبي لهب.

الصلاة على حمزة وقتلى أحد

وقال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: أمر رسول الله بحمزة، فسجي ببردة، ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات، ثم أتي بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فصلى عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة.

وهذا غريب وسنده ضعيف.

قال السهيلي: ولم يقل به أحد من علماء الأمصار.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا عطاء بن السائب، عن الشعبي، عن ابن مسعود قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أنه ليس أحد منا يريد الدنيا، حتى أنزل الله: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم }

فلما خلف أصحاب رسول الله وعصوا ما أمروا به، أفرد رسول الله في تسعة - سبعة من الأنصار واثنين من قريش وهو عاشرهم - فلما رهقوه قال: «رحم الله رجلا ردهم عنا...» فلم يزل يقول ذا حتى قتل السبعة، فقال رسول الله لصاحبيه: «ما أنصفنا أصحابنا» فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل؟

فقال رسول الله : «قولوا الله أعلى وأجل» فقالوا: الله أعلى وأجل.

فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.

فقال رسول الله : «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم»

ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، يوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسر، حنظلة بحنظلة، وفلان بفلان.

فقال رسول الله : «لا سواء أما قتلانا فأحياء يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون»

قال أبو سفيان: قد كانت في القوم مثلة، وإن كانت لعن غير ملأ منا ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت ولا ساءني ولا سرني.

قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها.

فقال رسول الله : «أأكلت شيئا؟»

قالوا: لا.

قال: «ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار».

قال: فوضع رسول الله حمزة فصلى عليه، وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه، فرفع الأنصاري وترك حمزة، وجيء بآخر فوضعه إلى جنب حمزة فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة.

تفرد به أحمد وهذا إسناد فيه ضعف أيضا من جهة عطاء بن السائب، فالله أعلم.

والذي رواه البخاري أثبت حيث قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن جابر بن عبد الله أخبره: أن رسول الله كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: «أيهم أكثر أخذا للقرآن؟».

فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا.

تفرد به البخاري دون مسلم، ورواه أهل السنن من حديث الليث بن سعد به.

وقال أحمد: حدثنا محمد - يعني ابن جعفر - حدثنا شعبة، سمعت عبد ربه يحدث عن الزهري، عن ابن جابر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي أنه قال في قتلى أحد: «فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة» ولم يصل عليهم.

وثبت أنه صلى عليهم بعد ذلك بسنين عديدة قبل وفاته بيسير، كما قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا زكريا بن عدي، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات.

ثم طلع المنبر فقال: «إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها».

قال: فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله .

ورواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، من حديث يزيد بن أبي حبيب به نحوه.

وقال الأموي: حدثني أبي، حدثنا الحسن بن عمارة، عن حبيب بن أبي ثابت قال: قالت عائشة: خرجنا من السحر مخرج رسول الله إلى أحد، نستطلع الخبر، حتى إذا طلع الفجر إذا رجل محتجر يشتد ويقول:

لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل

قال: فنظرنا فإذا أسيد بن حضير، ثم مكثنا بعد ذلك، فإذا بعير قد أقبل عليه امرأة بين وسقين قالت: فدنونا منها فإذا هي امرأة عمرو بن الجموح، فقلنا لها: ما الخبر؟

قالت: دفع الله عن رسول الله ، واتخذ من المؤمنين شهداء، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا.

ثم قالت لبعيرها: حل، ثم نزلت فقلنا لها: ما هذا؟

قالت: أخي وزوجي.

وقال ابن إسحاق: وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه، وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله لابنها الزبير بن العوام: ألقها فأرجعها لا ترى ما بأخيها.

فقال لها: يا أمه إن رسول الله يأمرك أن ترجعي.

قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله، فما أرضانا ما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فلما جاء الزبير إلى رسول الله وأخبره بذلك، قال: «خلِّ سبيلها» فأتته فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت.

قال ابن إسحاق: ثم أمر به رسول الله فدفن، ودفن معه ابن أخته عبد الله بن جحش، وأمه أميمة بنت عبد المطلب، وكان قد مثل به غير أنه لم ينقر عن كبده رضي الله عنهما.

قال السهيلي: وكان يقال له المجدع في الله.

قال: وذكر سعد أنه هو وعبد الله بن جحش دعيا بدعوة فاستجيبت لهما، فدعا سعد أن يلقى فارسا من المشركين فيقتله ويستلبه فكان ذلك، ودعا عبد الله بن جحش أن يلقاه فارس فيقتله ويجدع أنفه في الله فكان ذلك.

وذكر الزبير بن بكار: أن سيفه يومئذ انقطع فأعطاه رسول الله عرجونا، فصار في يد عبد الله بن حجش سيفا يقاتل به، ثم بيع في تركة بعض ولده بمائتي دينار، وهذا كما تقدم لعكاشة في يوم بدر.

وقد تقدم في صحيح البخاري أيضا: أن رسول الله كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، بل في الكفن الواحد، وإنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التي يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد، ويقدم في اللحد أكثرهما أخذا للقرآن.

وكان يجمع بين الرجلين المتصاحبين في اللحد الواحد، كما جمع بين عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، وبين عمرو بن الجموح لأنهما كانا متصاحبين ولم يغسلوا، بل تركهم بجراحهم ودمائهم.

كما روى ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: أن رسول الله لما انصرف عن القتلى يوم أحد قال: «أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم، والريح ريح مسك»

قال: وحدثني عمي موسى بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم : «ما من جريح يجرح في الله، إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى اللون لون الدم، والريح ريح المسك».

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أمر رسول الله يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وقال: «ادفنوهم بدمائهم وثيابهم»

رواه أبو داود، وابن ماجه من حديث علي بن عاصم به.

وقال الإمام أبو داود في (سننه): حدثنا القعنبي أن سليمان بن المغيرة حدثهم، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر أنه قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله يوم أحد فقالوا: قد أصابنا قرح وجهد فكيف تأمر؟

فقال: «احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد» قيل: يا رسول الله فأيهم يقدم؟

قال: «أكثرهم قرأنا».

ثم رواه من حديث الثوري عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر فذكره، وزاد: «وأعمقوا»

قال ابن إسحاق: وقد احتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله عن ذلك وقال: «ادفنوهم حيث صرعوا»

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا عبد الله، وعتاب، حدثنا عبد الله، حدثنا عمر بن سلمة بن أبي يزيد المديني، حدثني أبي، سمعت جابر بن عبد الله يقول: استشهد أبي بأحد فأرسلني إخواني إليه بناضح لهن فقلن: اذهب فاحتمل أباك على هذا الجمل فادفنه في مقبرة بني سلمة.

فقال: فجئته وأعوان لي فبلغ ذلك نبي الله، وهو جالس بأحد فدعاني فقال: «والذي نفسي بيده لا يدفن إلا مع إخوته» فدفن مع أصحابه بأحد، تفرد به أحمد.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح، عن جابر بن عبد الله: أن قتلى أحد حملوا من مكانهم، فنادى منادي النبي : «أن ردوا القتلى إلى مضاجعهم».

وقد رواه أبو داود، والنسائي، من حديث الثوري، والترمذي، من حديث شعبة والنسائي أيضا، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينه، كلهم عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر بن عبد الله قال:

خرج رسول الله من المدينة إلى المشركين يقاتلهم، وقال لي أبي عبد الله: يا جابر لا عليك أن تكون في نظاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما مصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي.

قال: فبينا أنا في النظارين، إذ جاءت عمتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، إذ لحق رجل ينادي: ألا إن النبي يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت، فرجعناها بهما فدفناهما حيث قتلا.

فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال: يا جابر بن عبد الله، والله لقد أثار أباك عمال معاوية فبدأ فخرج طائفة منه، فأتيته فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتيل.

ثم ساق الإمام قصة وفائه دين أبيه كما هو ثابت في الصحيحين.

وروى البيهقي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: لما أجرى معاوية العين عند قتلى أحد بعد أربعين سنة استصرخناهم إليهم، فأتيناهم فأخرجناهم فأصابت المسحاة قدم حمزة فانبعث دما.

وفي رواية ابن إسحاق، عن جابر قال: فأخرجناهم كأنما دفنوا بالأمس.

وذكر الواقدي: أن معاوية لما أراد أن يجري العين نادى مناديه: من كان له قتيل بأحد فليشهد.

قال جابر: فحفرنا عنهم، فوجدت أبي في قبره كأنما هو نائم على هيئته وما تغير من حاله قليل ولا كثير، ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح ويده على جرحه، فأزيلت عنه فانبعث جرحه دما.

ويقال: إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك رضي الله عنهم أجمعين، وذلك بعد ست وأربعين سنة من يوم دفنوا.

وقد قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا حسين المعلم، عن عطاء، عن جابر قال: لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال لي: ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي ، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله ، وأن علي دينا فاقض، واستوص بأخواتك خيرا.

فأصبحنا وكان أول قتيل، فدفنت معه آخر في قبره، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته هيئته غير أذنه.

وثبت في الصحيحين: من حديث شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر أنه لما قتل أبوه جعل يكشف عن الثوب ويبكي، فنهاه الناس فقال رسول الله: «تبكيه أو لا تبكيه لم تزل الملائكة تظله حتى رفعتموه» وفي رواية أن عمته هي الباكية.

وقال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا فيض بن وثيق البصري، حدثنا أبو عبادة الأنصاري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله لجابر: «يا جابر ألا أبشرك؟»

قال: بلى بشرك الله بالخير.

فقال: «أشعرت أن الله أحيا أباك فقال: تمن عليّ عبدي ما شئت أعطكه. قال: يا رب عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقتل مع نبيك، وأقتل فيك مرة أخرى، قال: إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع».

وقال البيهقي: حدثنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف الإسفرايني، حدثنا أبو سهل بشر بن أحمد، حدثنا أحمد بن الحسين بن نصر، حدثنا علي بن المديني، حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري قال:

سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري ثم السلمي قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: نظر إلى رسول الله فقال: «مالي أراك مهتما؟»

قال: قلت: يا رسول الله قتل أبي وترك دينا وعيالا، فقال: «ألا أخبرك ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا وقال له: يا عبدي سلني أعطك. فقال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال: إنه قد سبق مني القول إنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب فأبلغ من ورائي»

فأنزل الله: { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } الآية 19

وقال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا، عن عبد الله بن محمد بن عقيل سمعت جابرا يقول: قال رسول الله : «ألا أبشرك يا جابر؟».

قلت: بلى.

قال: «إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله، ثم قال له: ما تحب يا عبد الله ما تحب أن أفعل بك؟ قال: أي رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى».

وقد رواه أحمد، عن علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي، عن ابن عقيل، عن جابر، وزاد فقال الله: «إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون».

وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن عبد الله، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله يقول إذا ذكر أصحاب أحد: «أما والله لوددت أني غودرت مع أصحابه بحضن الجبل» يعني سفح الجبل. تفرد به أحمد.

وقد روى البيهقي من حديث عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة أن رسول الله حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير، وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه فدعا له، ثم قرأ: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } الآية 20

قال: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه».

وهذا حديث غريب. وروي عن عبيد بن عمير مرسلا.

وروى البيهقي من حديث موسى بن يعقوب، عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كان النبي يأتي قبور الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب قال: «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار».

ثم كان أبو بكر بعد النبي يفعله، وكان عمر بعد أبي بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله.

قال الواقدي: كان النبي يزورهم كل حول، فإذا بلغ نقرة الشعب يقول: «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» ثم كان أبو بكر يفعل ذلك كل حول، ثم عمر، ثم عثمان، وكانت فاطمة بنت رسول الله تأتيهم فتبكي عندهم وتدعو لهم.

وكان سعد يسلم ثم يقبل على أصحابه فيقول: ألا تسلمون على قوم يردون عليكم.

ثم حكى زيارتهم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وأم سلمة رضي الله عنهم.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم، حدثني الحكم بن نافع، حدثنا العطاف بن خالد، حدثتني خالتي قالت: ركبت يوما إلى قبور الشهداء - وكانت لا تزال تأتيهم - فنزلت عند حمزة فصليت ما شاء الله أن أصلي، وما في الوادي داع ولا مجيب إلا غلاما قائما آخذا برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي قلت هكذا بيدي: السلام عليكم.

قالت: فسمعت رد السلام علي يخرج من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله عز وجل خلقني، وكما أعرف الليل والنهار، فاقشعرت كل شعرة مني.

وقال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال النبي :

«لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب، ولا يزهدوا في الجهاد؟ فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله في الكتاب قوله تعالى: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } ».

وروى مسلم والبيهقي من حديث أبي معاوية، عن الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله فقال:

«أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في أيها شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، قال فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك إطلاعة فقال: اسألوني ما شئتم، فقالوا: يا ربنا وما نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أن لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك مرة أخرى، قال: فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا».

فصل في عدد الشهداء

قال موسى بن عقبة: جميع من استشهد يوم أحد من المهاجرين والأنصار تسعة وأربعون رجلا.

وقد ثبت في الحديث الصحيح عن البخاري عن البراء أنهم قتلوا من المسلمين سبعين رجلا، فالله أعلم.

وقال قتادة، عن أنس: قتل من الأنصار يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون.

وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس أنه كان يقول: قارب السبعين يوم أحد، ويوم بئر معونة، ويوم مؤتة ويوم اليمامة.

وقال مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب: قتل من الأنصار يوم أحد ويوم اليمامة سبعون، ويوم جسر أبي عبيد سبعون، وهكذا قال عكرمة وعروة والزهري، ومحمد بن إسحاق في قتلى أحد، ويشهد له قوله تعالى: { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا } يعني أنهم قتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين.

وعن ابن إسحاق: قتل من الأنصار - لعله من المسلمين - يوم أحد خمسة وستون: أربعة من المهاجرين: حمزة، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان، والباقون من الأنصار. وسرد أسماءهم على قبائلهم.

وقد استدرك عليه ابن هشام زيادة على ذلك خمسة آخرين فصاروا سبعين، على قول ابن هشام.

وسرد ابن إسحاق أسماء الذين قتلوا من المشركين، وهم اثنان وعشرون رجلا.

وعن عروة: كان الشهداء يوم أحد أربعة أو قال سبعة وأربعين.

وقال موسى بن عقبة: تسعة وأربعون، وقتل من المشركين يومئذ ستة عشر رجلا، وقال عروة: تسعة عشر، وقال ابن إسحاق: اثنان وعشرون، وقال الربيع، عن الشافعي: ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي، وقد كان في الأسارى يوم بدر فمنّ عليه رسول الله بلا فدية، واشترط عليه ألا يقاتله.

فلما أسر يوم أحد قال: يا محمد أمنن عليّ لبناتي وأعاهد أن لا أقاتلك، فقال رسول الله : «لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول خدعت محمدا مرتين» ثم أمر به فضربت عنقه.

وذكر بعضهم أنه يومئذ قال رسول الله : «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين».

فصل نعي رسول الله لحمنة بنت جحش أخيها وخالها وزوجها يوم أحد

قال ابن إسحاق: ثم انصرف رسول الله إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش كما ذكر لي، فلما لقيت الناس نعي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت.

فقال رسول الله : «إن زوج المرأة منها لبمكان» لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها.

وقد قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا إسحاق بن محمد الفروي، حدثنا عبد الله بن عمر، عن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جحش، عن أبيه، عن حمنة بنت جحش: أنه قيل لها قتل أخوك، فقالت: رحمه الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فقالوا: قتل زوجك.

قالت: واحزناه.

فقال رسول الله : «إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشيء».

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل، عن محمد عن سعد بن أبي وقاص قال: مر رسول الله بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها، وأخوها، وأبوها مع رسول الله بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله ؟

قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين.

قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.

قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.

قال ابن هشام: الجلل يكون من القليل والكثير، وهو ههنا القليل.

قال امرؤ القيس:

لقتل بني أسد ربهم * ألا كل شيء خلاه جلل

أي: صغير وقليل.

قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله إلى أهله، ناول سيفه ابنته فاطمة فقال: «اغسلي عن هذا دمه يا بنيه، فوالله لقد صدقني في هذا اليوم» وناولها علي بن أبي طالب سيفه فقال: وهذا فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم.

فقال رسول الله : «لئن كنت صدقت القتال، لقد صدقه معك سهل بن حنيف وأبو دجانة».

وقال موسى بن عقبة في موضع آخر: ولما رأى رسول الله سيف علي مخضبا بالدماء قال: «لئن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف»

وروى البيهقي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء علي بن أبي طالب بسيفه يوم أحد قد انحنى فقال لفاطمة: هاك السيف حميدا فإنها قد شفتني.

فقال رسول الله : «لئن كنت أجدت الضرب بسيفك، لقد أجاده سهل بن حنيف، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة».

قال ابن هشام: وسيف رسول الله هذا هو ذو الفقار.

قال: وحدثني بعض أهل العلم، عن ابن أبي نجيح قال: نادى مناد يوم أحد: لا سيف إلا ذو الفقار.

قال: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قال لعلي: لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح علينا.

قال ابن إسحاق: ومر رسول الله بدار بني عبد الأشهل، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله ثم قال: «لكن حمزة لا بواكي له».

فلما رجع سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير إلى دار بني عبد الأشهل أمرا نساءهن أن يتحزمن، ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله .

فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن بعض رجال بني عبد الأشهل قال: لما سمع رسول الله بكاءهن على حمزة، خرج عليهن وهن في باب المسجد يبكين فقال: «ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتن بأنفسكن».

قال: ونهى رسول الله يومئذ عن النوح فيما قال ابن هشام.

وهذا الذي ذكره منقطع ومنه مرسل، وقد أسنده الإمام أحمد فقال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أسامة بن زيد، حدثني نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله لما رجع من أحد، فجعل نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن قال: فقال رسول الله : «ولكن حمزة لا بواكي له».

قال: ثم نام فاستنبه وهن يبكين، قال: «فهن اليوم إذا يبكين يندبن حمزة». وهذا على شرط مسلم.

وقد رواه ابن ماجه، عن هارون بن سعيد، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله مر بنساء بني عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد، فقال رسول الله : «لكن حمزة لا بواكي له».

فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة، فاستيقظ رسول الله فقال: «ويحهن ما انقلبن بعد مرورهن، فلينقلبن ولا يبكين على هالك بعد اليوم».

وقال موسى بن عقبة: ولما دخل رسول الله أزقة المدينة، إذا النوح والبكاء في الدور، قال: «ما هذا؟» قالوا: هذه نساء الأنصار يبكين قتلاهم.

فقال: «لكن حمزة لا بواكي له» واستغفر له فسمع ذلك سعد بن معاذ بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن رواحة، فمشوا إلى دورهم فجمعوا كل نائحة باكية كانت بالمدينة فقالوا: والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عم النبي ، فإنه قد ذكر أنه لا بواكي له بالمدينة، وزعموا أن الذي جاء بالنوائح عبد الله بن رواحة.

فلما سمع رسول الله قال: «ما هذا؟» فأخبر بما فعلت الأنصار بنسائهم فاستغفر لهم، وقال لهم خيرا، وقال: «ما هذا أردت وما أحب البكاء» ونهى عنه.

وهكذا ذكر ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير سواء قال موسى بن عقبة: وأخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر والتفريق عن رسول الله ، وتحزين المسلمين، وظهر غش اليهود، وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل وقالت اليهود: لو كان نبيا ما ظهروا عليه، ولا أصيب منه ما أصيب، ولكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه.

وقال المنافقون مثل قولهم، وقالوا للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذين أصابوا منكم، فأنزل الله القرآن في طاعة من أطاع، ونفاق من نافق، وتعزية المسلمين يعني فيمن قتل منهم، فقال: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم.. } الآيات كلها كما تكلمنا على ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة.

خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما بهم من القرح والجراح في أثر أبي سفيان

قال موسى بن عقبة بعد اقتصاصه وقعة أحد، وذكره رجوعه عليه السلام إلى المدينة: وقدم رجل من أهل مكة على رسول الله فسأله عن أبي سفيان وأصحابه فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون ويقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثم تركتموهم ولم تبتروهم، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم.

فأمر رسول الله - وبهم أشد القرح -بطلب العدو ليسمعوا بذلك وقال: «لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال» فقال عبد الله بن أبي: أنا راكب معك.

فقال: «لا».

فاستجابوا لله ولرسوله على الذي بهم من البلاء فانطلقوا.

فقال الله في كتابه: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ } 21.

قال: وأذن رسول الله لجابر حين ذكر أن أباه أمره بالمقام في المدينة على أخواته.

قال: وطلب رسول الله العدو حتى بلغ حمراء الأسد.

وهكذا روى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير سواء.

وقال محمد بن إسحاق في (مغازيه): وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه ألا يخرجن أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله فأذن له.

قال ابن إسحاق: وإنما خرج رسول الله مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.

قال ابن إسحاق - رحمه الله -: فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من بني عبد الأشهل قال: شهدت أحدا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله بالخروج في طلب العدو قلت لأخي وقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله ؟

والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله وكنت أيسر جرحا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.

قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله حتى انتهى إلى حمراء الأسد - وهي من المدينة على ثمانية أميال - فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.

قال ابن هشام: وقد كان استعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك مرَّ برسول الله وهو مقيم بحمراء الأسد فقال:

يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان ابن حرب، ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله وأصحابه وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم، فلنفرغن منهم.

فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟

قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أرَ مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط.

قال: ويلك ما تقول؟

قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل.

قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل شأفتهم.

قال: فإني أنهاك عن ذلك، ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر.

قال: وما قلت؟

قال: قلت:

كادت تهد من الأصوات راحلتي * إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

تردى بأسد كرام لا تنابلة * عند اللقاء ولا ميل معازيل

فظلت عدوا أظن الأرض مائلة * لما سموا برئيس غير مخذول

فقلت ويل ابن حرب من لقائكم * إذا تغطمطت البطحاء بالجيل

إني نذير لأهل البسل ضاحية * لكل ذي أربة منهم ومعقول

من جيش أحمد لا وخش قنابله * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل

قال فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟

قالوا: المدينة.

قال: ولم؟

قالوا: نريد الميرة.

قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها.

قالوا: نعم.

قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم.

فمر الركب برسول الله وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال: «حسبنا الله ونعم الوكيل». وكذا قال الحسن البصري.

وقد قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، أراه قال: حدثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. تفرد بروايته البخاري.

وقد قال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } قالت لعروة:

يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير، وأبو بكر رضي الله عنهما، لما أصاب رسول الله ما أصاب يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا فقال: من يذهب في إثرهم؟

فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير. هكذا رواه البخاري.

وقد رواه مسلم مختصرا من وجه عن هشام.

وهكذا رواه سعيد بن منصور، وأبو بكر الحميدي جميعا عن سفيان بن عيينة.

وأخرجه ابن ماجه من طريقه عن هشام بن عروة به.

ورواه الحاكم في (مستدركه) من طريق أبي سعيد عن هشام بن عروة به.

ورواه من حديث السدي عن عروة، وقال: في كل منهما صحيح، ولم يخرجاه. كذا قال.

وهذا السياق غريب جدا فإن المشهور عند أصحاب (المغازي) أن الذين خرجوا مع رسول الله إلى حمراء الأسد كل من شهد أحدا، وكانوا سبعمائة كما تقدم، قُتل منهم سبعون، وبقي الباقون.

وقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد الذي كان منه، فرجع إلى مكة وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون في ذي القعدة المدينة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة.

وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المسلمين القرح، واشتكوا ذلك إلى رسول الله ، واشتد عليهم الذي أصابهم.

وإن رسول الله ندب الناس لينطلقوا بهم، ويتبعوا ما كانوا متبعين، وقال لنا: ترتحلون الآن فتأتون الحج، ولا يقدرون على مثلها حتى عام قابل.

فجاء الشيطان يخوف أولياءه، فقال: إن الناس قد جمعوا لكم، فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال: إني ذاهب، وإن لم يتبعني أحد، فانتدب معه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة، وابن مسعود، وحذيفة في سبعين رجلا.

فساروا في طلب أبي سفيان حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله: { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } وهذا غريب أيضا.

وقال ابن هشام: حدثنا أبو عبيدة: أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف يوم أحد أراد الرجوع إلى المدينة، فقال لهم صفوان بن أمية: لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان، فارجعوا فرجعوا.

فقال النبي وهو بحمراء الأسد، حين بلغه أنهم همُّوا بالرجعة: «والذي نفسي بيده لقد سُوّمت لهم حجارة، لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب».

قال: وأخذ رسول الله في وجهه ذلك، قبل رجوعه المدينة معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس جد عبد الملك بن مروان لأمه عائشة بنت معاوية، وأبا عزة الجمحي.

وكان رسول الله قد أسره ببدر، ثم منَّ عليه فقال: يا رسول الله أقلني.

فقال: «لا والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها و تقول خدعت محمدا مرتين، اضرب عنقه يا زبير» فضرب عنقه.

قال ابن هشام: بلغني عن ابن المسيب أنه قال: قال رسول الله : «إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت» فضرب عنقه.

وذكر ابن هشام أن معاوية بن المغيرة بن أبي العاص استأمن له عثمان على أن لا يقيم بعد ثلاث، فبعث رسول الله بعدها زيد بن حارثة وعمار بن ياسر، وقال: «ستجدانه في مكان كذا وكذا فاقتلاه» ففعلا رضي الله عنهما.

قال ابن إسحاق: ولما رجع رسول الله إلى المدينة كان عبد الله بن أبيّ كما حدثني الزهري، له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر، له شرفا في نفسه وفي قومه، وكان فيه شريفا، إذا جلس رسول الله يوم الجمعة وهو يخطب الناس، قام فقال:

أيها الناس، هذا رسول الله بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا. ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع الناس، قام يفعل ذلك كما كان يفعله.

فأخذ المسلمون ثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس أي عدو الله، والله لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجُرا، أن قمت أشدد أمره.

فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك مالك؟ قال: قمت أشدد أمره، فوثب إلي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني، لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره، قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله .

قال: والله ما أبغي أن يستغفر لي.

ثم ذكر ابن إسحاق ما نزل من القرآن في قصة أحد من سورة آل عمران عند قوله: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم } قال إلى تمام ستين آية.

وتكلم عليها، وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير بما فيه الكفاية.

ثم شرع ابن إسحاق في ذكر شهداء أحد وتعدادهم بأسمائهم، وأسماء آبائهم على قبائلهم، كما جرت عادته فذكر من المهاجرين أربعة: حمزة، ومصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان رضي الله عنهم، ومن الأنصار إلى تمام خمسة وستين رجلا.

واستدرك عليه ابن هشام خمسة أخرى فصاروا سبعين على قول ابن هشام.

ثم سمى ابن إسحاق من قُتل من المشركين، وهم: اثنان وعشرون رجلا على قبائلهم أيضا.

قلت: ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي، كما ذكره الشافعي وغيره، وقتله رسول الله صبرا بين يديه أمر الزبير - ويقال عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح - فضرب عنقه.

فصل فيما تقاول به المؤمنون والكفار في وقعة أحد من الأشعار

وإنما نورد شعر الكفار لنذكر جوابها من شعر الإسلام، ليكون أبلغ في وقعها من الأسماع والأفهام، وأقطع لشبهة الكفرة الطغام.

قال الإمام محمد بن إسحاق - رحمه الله -: وكان مما قيل من الشعر يوم أحد قول هبيرة بن أبي وهب المخزومي، وهو على دين قومه من قريش فقال:

ما بال همٍّ عميدٍ بات يطرقني * بالود من هند إذ تعدو عواديها

باتت تعاتبني هندٌ وتعذلني * والحربُ قد شَغلت عني مواليها

مهلا فلا تعذليني إن من خُلُقي * ما قد علمتِ وما إن لستُ أُخفيها

مساعفٌ لبني كعبٍ بما كلفوا * حمال عبءٍ وأثقال أعانيها

وقد حملتُ سلاحي فوق مُشترفٍ * ساطٍ سبوحٍ إذا يجري يباريها

كأنه إذ جرى عَيرٌ بفدفدةٍ * مكدّمٌ لاحقٌ بالعون يحميها

من آل أعوجَ يرتاح النديُّ له * كجذع شعراءَ مستعلٍ مراقيها

أعددته ورقاقَ الحدّ منتخِلا * ومارنا لخطوبٍ قد ألاقيها

هذا وبيضاءُ مثلُ النُّهيِ محكمةٌ * لظَّت عليَّ فما تبدو مساويها

سُقْنا كنانة من أطراف ذي يمَنٍ * عرضَ البلادِ على ما كان يزجيها

قالت كنانةُ أنى تذهبون بنا * قلنا: النخيل فأموها ومن فيها

نحن الفوارس يوم الجرّ من أحد * هابتْ معدٌّ فقلنا نحن نأتيها

هابوا ضرابا وطعنا صادقا خذِما * مما يرون وقد ضُمَّت قواصيها

ثمتَّ رحنا كأنا عارض برد * وقام هام بني النجار يبكيها

كأن هامهم عند الوغى فلقٌ * من قيضِ ربدٍ نفتْه عن أداحيها

أو حنظلٌ ذعذعته الريحُ في غصن * بالٍ تعاوَرُه منها سوافيها

قد نبذل المالَ سحا لا حساب له * ونطعنُ الخيل شزرا في مآقيها

وليلةٍ يصطلي بالفرث جازرُها * يختص بالنَّقَرى المثرين داعيها

وليلةٍ من جمادى ذات أندية * جربا جمُاديةٍ قد بتُّ أسريها

لا ينبحُ الكلب فيها غيرَ واحدةٍ * من القَريس ولا تسري أفاعيها

أوقدت فيها لذي الضراء جاحمةً * كالبرق ذاكيةَ الأركان أحميها

أورثني ذلكم عمروٌ ووالده * من قبله كان بالمشتى يُغاليها

كانوا يُبارونَ أنواء النجوم فما * دنت عن السَوْرة العَليا مساعيها

قال ابن إسحاق: فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال: قال ابن هشام: وتروى لكعب بن مالك وغيره.

قلت: وقول ابن إسحاق أشهر وأكثر، والله أعلم:

سقتم كنانة جهلا من سفاهتكم * إلى الرسول فجندُ الله مخزيها

أوردتموها حياضَ الموت ضاحيةً * فالنار موعدُها والقتل لاقيها

جمعتموهم أحابيشا بلا حسب * أئمة الكفرِ غرَّتكم طواغيها

ألا اعتبرتم بخيلِ الله إذ قتلت * أهل القليب ومن ألقيتَه فيها

كم من أسير فككناهُ بلا ثمنٍ * وجزِّ ناصيةٍ كنا مواليها

قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يجيب هبيرة بن أبي وهب المخزومي أيضا:

ألا هل أتى غسان عنا ودونهم * من الأرض خرقٌ سيرُهُ متنعنع

صحارى و أعلام كأنّ قتامها * من البعدِ نقعٌ هامدً متقطع

تظل به البُزْلُ العراميس رُزَّحا * ويحلو به غيثُ السنين فيمرع

به جيفُ الحسرى يلوحُ صَليها * كما لاح كَتّان التِّجار الموضع

به العين والآرام يمشين خُلفةً * وبيض نعام قيضُه يتقلّع

مجالدنا عن ديننا كل فخمةٍ * مذرَّبةٍ فيها القوانس تلمع

وكلُّ صموتٍ في الصِّوان كأنها * إذا لبست نهي من الماء مُترع

ولكن ببدرٍ سائلوا من لقيتمُ * من الناس والأنباءُ بالغيب تنفع

وأنا بأرض الخوف لو كان أهلها * سوانا لقد أجلوا بليل فأقشعوا

إذا جاء منا راكبٌ كان قولُه * أعِدّوا لما يزجي ابنُ حربٍ ويجمع

فمهما يهمُّ الناس مما يكيدنا * فنحن له من سائر الناس أوسع

فلو غيرُنا كانت جميعا تكيدُه * البرِيَّة قد أعطوا يدا وتوزَّعوا

نُجالد لا تبقى علينا قبيلةٌ * من الناس إلا أن يهابوا ويفظعوا

ولما ابتنوا بالعِرضِ قالت سراتنا * علام إذا لم نمنع العرض نزرع

وفينا رسول الله نتبع أمره * إذا قال فينا القول لا نتظلع

تدلى عليه الروح من عند ربه * ينزَّل من جوّ السماء ويُرفع

نشاوره فيما نريد وقصرُنا * إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع

وقال رسول الله لما بدوا لنا * ذروا عنكمُ هول المنيّات وأطعموا

وكونوا كمن يشري الحياة تقرُّبا * إلى ملك يحيا لديه ويُرجَع

ولكن خُذوا أسيافكم وتوكلوا * على الله إن الأمر لله أجمع

فسرنا إليهم جهرةً في رحالهم * ضُحيّا علينا البيضُ لا نتخشع

بملمومةٍ فيها السنوَّر والقَنا * إذا ضربوا أقدامها لا تورّع

فجئنا إلى موجٍ من البحر وسطه * أحابيش منهم حاسر ومُقنَّع

ثلاثة آلاف ونحن نصيَّة * ثلاث مئين إن كثرنا فأربع

نغاورهم تجري المنية بيننا * نشارعهم حوض المنايا ونشرع

تهادي قسي النبع فينا وفيهم * وما هو إلا اليثربي المقطع

ومنجوفة حرمية صاعدية * يذر عليها السم ساعة تصنع

تصوب بأبدان الرجال وتارة * تمر بأعراض البِصَار تُقعقع

وخيل تراها بالفضاء كأنها * جراد صبا في قرة يتريع

فلما تلاقينا ودارت بنا الرحا * وليس لأمر حمه الله مدفع

ضربناهم حتى تركنا سراتهم * كأنهم بالقاع خشب مصرع

لدن غدوة حتى استفقنا عشية * كأن ذُكانا حر نار تلفع

وراحوا سراعا موجعين كأنهم * جهام هراقت ماءه الريح مقلع

ورحنا وأخرانا بطاء كأننا * أسود على لحم ببشة ضُلّع

فنلنا ونال القوم منا وربما * فعلنا ولكن ما لدى الله أوسع

ودارت رحانا واستدارت رحاهم * وقد جعلوا كل من الشر يشبع

ونحن أناس لا نرى القتل سبة * على كل من يحمي الذمار ويمنع

جلاد على ريب الحوادث لا نرى * على هالك عينا لنا الدهر تدمع

بنو الحرب لا نعيا بشيء نقوله * ولا نحن مما جرت الحرب نجزع

بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش * ولا نحن من أظفارنا نتوجع

وكنا شهابا يتقي الناس حره * ويُفرِج عنه من يليه ويسفع

فخرت علي ابن الزِّبَعْري وقد سرى * لكم طلب من آخر الليل متبع

فسل عنك في عليا معد وغيرها * من الناس من أخزى مقاما وأشنع

ومن هو لم يترك له الحرب مفخرا * ومن خده يوم الكريهة أضرع

شددنا بحول الله والنصر شدة * عليكم وأطراف الأسنة شرع

تكر القنا فيكم كأن فروعها * عزالى مزاد ماؤها يتهزع

عمدنا إلى أهل اللواء ومن يَطِر * بذكر اللواء فهو في الحمد أسرع

فحانوا وقد أعطوا يدا وتخاذلوا * أبى الله إلا أمره وهو أصنع

قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري في يوم أحد وهو يومئذ مشرك بعد:

يا غراب البين أسمعت فقل * إنما تنطق شيئا قد فعل

إن للخير وللشر مدى * وكلا ذلك وجه وقبل

والعطيات خساس بينهم * وسواء قبر مثر ومقل

كل عيش ونعيم زائل * وبنات الدهر يلعبن بكل

أبلغا حسان عني آية * فقريض الشعر يشفي ذا الغلل

كم ترى بالجر من جمجمة * وأكف قد أترت ورجل

وسرابيل حسان سريت * عن كماة أهلكوا في المنتزل

كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل

صادق النجدة قِرْم بارع * غير ملتاث لدى وقع الأسل

فسل المهراس ما ساكنه * بين أقحاف وهام كالحجل

ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل

ثم خفوا عن ذاكم رقصا * رقص الحفان يعلو في الجبل

فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل

لا ألوم النفس إلا أننا * لو كررنا لفعلنا المفتعل

بسيوف الهند تعلو هامهم * عَلَلا تعلوهم بعد نهل

قال ابن إسحاق: فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه:

ذهبت بابن الزبعري وقعة * كان منا الفضل فيها لو عدل

ولقد نلتم ونلنا منكم * وكذاك الحرب أحيانا دُول

نضع الأسياف في أكتافكم * حيث نهوى عَللا بعد نهَل

نخرج الأصبح من أستاهكم * كسلاح النِّيب يأكلن العصل

إذ تولون على أعقابكم * هربا في الشعب أشباه الرِسَل

إذ شددنا شدة صادقة * فاجأناكم إلى سفح الجبل

بخناطيل كأشداق الملا * من يلاقوه من الناس يهل

ضاق عنا الشِّعب إذ نجزعه * وملأنا الفرط منه والرجل

برجال لستم أمثالهم * أيدوا جبريل نصرا فنزل

وعلونا يوم بدر بالتقى * طاعة الله وتصديق الرسل

وقتلنا كل رأس منهم * وقتلنا كل جحجاج رفل

وتركنا في قريش عورة * يوم بدر وأحاديث المثل

ورسول الله حقا شاهدا * يوم بدر والتنابيل الهبل

في قريش من جموع جمعوا * مثل ما يجمع في الخصب الهمل

نحن لا أمثالكم وُلْد آستِها * نحضر البأس إذا البأس نزل

قال ابن إسحاق: وقال كعب يبكي حمزة ومن قتل من المسلمين يوم أحد رضي الله عنهم:

نشجت وهل لك من منشج * وكنت متى تدكر تلجج

تذكر قوم أتاني لهم * أحاديث في الزمن الأعوج

فقلبك من ذكرهم خافق * من الشوق والحزن المنضج

وقتلاهم في جنان النعيم * كرام المداخل والمخرج

بما صبروا تحت ظل اللواء * لواء الرسول بذي الأضوج

غداة أجابت بأسيافها * جميعا بنو الأوس والخزرج

وأشياع أحمد إذ شايعوا * على الحق ذي النور والمنهج

فما برحوا يضربون الكماة * ويمضون في القسطل المرهج

كذلك حتى دعاهم مليك * إلى جنة دوحة المولج

وكلهم مات حر البلاء * على ملة الله لم يحرج

كحمزة لما وفى صادقا * بذي هبة صارم سلجج

فلاقاه عبد بني نوفل * يبربر كالجمل الأدعج

فأوجره حربة كالشهاب * تلهب في اللهب الموهج

ونعمان أوفى بميثاقه * وحنظلة الخير لم يحُنج

عن الحق حتى غدت روحه * إلى منزل فاخر الزبرج

أولئك لا من ثوى منكم * من النار في الدرك المرتج

قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة ومن أصيب من المسلمين يوم أحد، وهي على روي قصيدة أمية بن أبي الصلت في قتلى المشركين يوم بدر.

قال ابن هشام: ومن أهل العلم بالشعر من ينكر هذه لحسان والله أعلم:

يا ميُّ قومي فاندبي بسحيرة شجو النوائح * كالحاملات الوقر بالثقل الملحات الدوالح

المعولات الخامشات وجوه حرات صحائح * وكأن سيل دموعها الأنصاب تخضب بالذبائح

ينقضن أشعارا لهن هناك بادية المسائح * وكأنها أذناب خيل بالضحى شمس روامح

من بين مشرور ومجزور يذعذع بالبوارح * يبكين شجو مسَّلبات كدحتهن الكوادح

ولقد أصاب قلوبها مجل له جلب قوارح * إذ أقصد الحدثان من كنا نرجي إذ نشايح

أصحاب أحد غالهم دهر ألم له جوارح * من كان فارسنا وحامينا إذا بعث المسالح

يا حمزُ لا والله لا أنساك ما صرَّ اللقائح * لمناخ أيتام وأضياف وأرملة تلامح

ولما ينوب الدهر في حرب لحرب وهي لافح * يا فارسا يا مدرها يا حمز قد كنت المصامح

عنا شديدات الخطوب إذا ينوب لهن فادح * ذكرتني أسد الرسول وذاك مدرهنا المنافح

عنا وكان يعد إذ عد الشريفون الجحاجح * يعلو القماقم جهرة سبط اليدين أغر واضح

لا طائش رعش ولا ذو علة بالحمل آنح * بحر فليس يغب جارا منه سَيْبُ أو منادح

أودى شباب إلى الحفائظ والثقيلون المراجح * المطعمون إذا المشاتي ما يصفقهن ناضح

لحم الجلاد وفوقه من شحمه شطب شرائح * ليدافعوا عن جارهم ما رأم ذو الضغن المكاشح

لهفي لشبان رُزئناهم كأنهم المصابح * شم بطارقة غطارفة خضارمة مسامح

المشترون الحمد بالأموال أن الحمد رابح * والجامزون بلجمهم يوما إذا ما صاح صائح

من كان يرمي بالنواقر من زمان غير صالح * ما أن تزال ركابه يرسمن في غبر صحاصح

راحت تَبارى وهو في ركب صدورهم رواشح * حتى تؤوب له المعالي ليس من فوز السفائح

يا حمز قد أوحدتني كالعود شذبه الكوافح * أشكو إليك وفوقك الترب المكور والصفائح

من جندل يلقيه فوقك إذ أجاد الضرح ضارح * في واسع يحشونه بالترب سوته المماسح

فعزاؤنا أنا نقول وقولنا برح بوارح * من كان أمسى وهو عما أوقع الحدثان جانح

فليأتنا فلتبك عيناه لهلكانا النوافح * القائلين الفاعلين ذوي السماحة والممادح

من لا يزال ندى يديه له طوال الدهر مائح

قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان.

قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يبكي حمزة وأصحابه:

طرقت همومك فالرقاد مسهَّد * وجزعت أن سلخ الشباب الأغيد

ودعت فؤادك للهوى ضمرية * فهواك غوري وصحوك منجد

فدع التمادي في الغواية سادرا * قد كنت في طلب الغواية تفند

ولقد أتى لك أن تناهى طائعا * أو تستفيق إذا نهاك المرشد

ولقد هُددتُ لفقد حمزة هدة * ظلت بنات الجوف منها ترعد

ولو أنه فجعت حراء بمثله * لرأيت رأسي صخرها يتبدد

قِرم تمكن في ذؤابة هاشم * حيث النبوة والندى والسؤدد

والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت * ريح يكاد الماء منها يجمد

والتارك القِرنَ الكميَّ مجدلا * يوم الكريهة والقنا يتقصد

وتراه يرفل في الحديد كأنه * ذو لِبدة شَثن البراثن أربد

عم النبي محمد وصفيه * ورد الحمام فطاب ذاك المورد

وأتى المنية معلما في أسرة * نصروا النبي ومنهم المستشهد

ولقد إخال بذاك هندا بشرت * لتميت داخل غصة لا تبرد

مما صبحنا بالعقنقل قومها * يوما تغيب فيه عنها الأسعد

وببئر بدر إذ يرد وجوههم * جبريل تحت لوائنا ومحمد

حتى رأيت لدى النبي سراتهم * قسمين نقتل من نشاء ونطرد

فأقام بالعطن المعطن منهم * سبعون عتبة منهم والأسود

وابن المغيرة قد ضربنا ضربة * فوق الوريد لها رشاش مزبد

وأمية الجمحي قوم مَيْلَه * عضب بأيدي المؤمنين مهند

فأتاك فل المشركين كأنهم * والخيل والخليل تثفنهم نعام شرد

شتان من هو في جهنم ثاويا * أبدا ومن هو في الجنان مخلد

وقال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة وأصحابه يوم أحد. قال ابن هشام: وأنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك، فالله أعلم:

بكت عيني وحق لها بكاها * وما يغني البكاء ولا العويل

على أسد الإله غداة قالوا * أحمزةُ ذاكم الرجل القتيل

أصيب المسلمون به جميعا * هناك وقد أصيب به الرسول

أبا يعلى لك الأركان هدت * وأنت الماجد البر الوصول

عليك سلام ربك في جنان * مخالطها نعيم لا يزول

ألا يا هاشم الأخيار صبرا * فكل فعالكم حسن جميل

رسول الله مصطبر كريم * بأمر الله ينطق إذ يقول

ألا من مبلغ عني لؤيا * فبعد اليوم دائلة تدول

وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا * وقائعنا بها يشفى الغليل

نسيتم ضربنا بقليب بدر * غداة أتاكم الموت العجيل

غداة ثوى أبو جهل صريعا * عليه الطير حائمة تجول

وعتبة وابنه خرّا جميعا * وشيبة عضه السيف الصقيل

ومتركنا أمية مجلعبا * وفي حيزومه لدن نبيل

وهام بني ربيعة سائلوها * ففي أسيافنا منها فلول

ألا يا هند فابكي لا تملي * فأنت الواله العبرى الهبول

ألا يا هند لا تبدي شماتا * بحمزة إن عزكم ذليل

قال ابن إسحاق: وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة بن عبد المطلب، وهي أم الزبير عمة النبي ورضي الله عنهم أجمعين:

أسائلة أصحاب أحد مخافة * بنات أبي من أعجم وخبير

فقال الخبير إن حمزة قد ثوى * وزير رسول الله خير وزير

دعاه إله الحق ذو العرش دعوة * إلى جنة يحيا بها وسرور

فذاك ما كنا نرجي ونرتجي * لحمزة يوم الحشر خير مصير

فوالله لا أنساك ما هبت الصبا * بكاء وحزنا محضري ومسيري

على أسد الله الذي كان مِدرها * يذود عن الإسلام كل كفور

فياليت شلوي عند ذاك وأعظمي * لدى أضبع تعتادني ونسور

أقول وقد أعلى النعي عشيرتي * جزى الله خيرا من أخ ونصير

قال ابن إسحاق: وقالت نُعم، امرأة شماس بن عثمان تبكي زوجها، والله أعلم، ولله الحمد والمنة:

يا عين جودي بفيض غير إبساس * على كريم من الفتيان لباس

صعب البديهة ميمون نقيبته * حمّال ألوية ركاب أفراس

أقول لما أتى الناعي له جزعا * أودى الجواد وأودى المطعم الكاسي

وقلت لما خلت منه مجالسه * لا يبعد الله منا قرب شماس

قال فأجابها أخوها أبو الحكم بن سعيد بن يربوع يعزيها فقال:

اقني حياءك في ستر وفي كرم * فإنما كان شماس من الناس

لا تقتلي النفس إذ حانت منيته * في طاعة الله يوم الروع والباس

قد كان حمزة ليث الله فاصطبري * فذاق يومئذ من كأس شماس

وقالت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان حين رجعوا من أحد:

رجعت وفي نفسي بلابل جمّـة * وقد فاتني بعض الذي كان مطلبي

من أصحاب بدر من قريش وغيرهم * بني هاشم منهم ومن أهل يثرب

ولكنني قد نلت شيئا ولم يكن * كما كنت أرجو في مسيري ومركبي

وقد أورد ابن إسحاق في هذا أشعارا كثيرة، تركنا كثيرا منها خشية الإطالة وخوف الملالة، وفيما ذكرنا كفاية ولله الحمد.

وقد أورد الأموي في (مغازيه) من الأشعار أكثر مما ذكره ابن إسحاق كما جرت عادته، ولا سيما ههنا فمن ذلك ما ذكره لحسان بن ثابت أنه قال: أنه قال في غزوة أحد فالله أعلم:

طاوعوا الشيطان إذ أخزاهم * فاستبان الخزي فيهم والفشل

حين صاحوا صيحة واحدة * مع أبي سفيان قالوا اعل هبل

فأجبناهم جميعا كلنا * ربنا الرحمن أعلى وأجَلّ

أثبتوا تستعملوها مرة * من حياض الموت والموت نهل

واعلموا أنا إذا ما نُضَحُتْ * عن خيال الموت قِدْر تشتعل

وكأن هذه الأبيات قطعة من جوابه لعبد الله بن الزبعري والله أعلم.

آخر الكلام على وقعة أحد

فصل قد تقدم ما وقع في هذه السنة الثالثة من الحوادث والغزوات والسرايا، ومن أشهرها وقعة أحد كانت في النصف من شوال منها، وقد تقدم بسطها ولله الحمد.

وفيها في أحد توفي شهيدا أبو يعلى، ويقال أبو عمارة أيضا حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ، الملقب بأسد الله وأسد رسوله، وكان رضيع النبي هو وأبو سلمة بن عبد الأسد، أرضعتهم ثويبة مولاة أبي لهب كما ثبت ذلك في الحديث المتفق عليه.

فعلى هذا يكون قد جاوز الخمسين من السنين يوم قتل رضي الله عنهم، فإنه كان من الشجعان الأبطال، ومن الصديقين الكبار، وقتل معه يومئذ تمام السبعين رضي الله عنهم أجمعين.

وفيها عقد عثمان بن عفان على أم كلثوم بنت رسول الله بعد وفاة أختها رقية، وكان عقده عليها في ربيع الأول منها، وبنى بها في جمادى الآخرة منها كما تقدم فيها ذكره الواقدي.

وفيها قال ابن جرير: ولد لفاطمة بنت رسول الله الحسن بن علي بن أبي طالب، قال: وفيها علقت بالحسين رضي الله عنهم.

سنة أربع من الهجرة النبوية

في المحرم منها كانت سرية أبي سلمة بن عبد الأسد أبي طليحة الأسدي، فانتهى إلى ما يقال له قَطَن.

قال الواقدي: حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد اليربوعي، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة وغيره قالوا: شهد أبو سلمة أحدا، فجرح جرحا على عضده، فرجع إلى منزله فأقام شهرا يداوى، فلما كان المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة دعاه رسول الله فقال:

اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها، وعقد له لواء وقال: سر حتى تأتي أرض بني أسد فأغر عليهم، وأوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا، وخرج معه في تلك السرية خمسون ومائة فانتهى إلى أدنى قطن وهو ماء لبني أسد، وكان هناك طليحة الأسدي وأخوه سلمة ابنا خويلد، وقد جمعا حلفاء من بني أسد ليقصدوا حرب النبي ، فجاء رجل منهم إلى النبي فأخبره بما تمالأوا عليه فبعث معه أبا سلمة في سريته هذه.

فلما انتهوا إلى أرضهم تفرقوا وتركوا نعما كثيرا لهم من الإبل والغنم، فأخذ ذلك كله أبو سلمة، وأسر منهم معه ثلاثة مماليك، وأقبل راجعا إلى المدينة، فأعطى ذلك الرجل الأسدي الذي دلهم نصيبا وافرا من الغنم، وأخرج صفي النبي عبدا وخمس الغنيمة وقسمها بين أصحابه ثم قدم المدينة.

قال عمر بن عثمان: فحدثني عبد الملك بن عبيد، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن عمر بن أبي سلمة قال: كان الذي جرح أبي أبو أسامة الجشمي، فمكث شهرا يداويه فبرأ، فلما برأ بعثه رسول الله في المحرم، يعني من سنة أربع إلى قطن، فغاب بضع عشرة ليلة، فلما دخل المدينة انتقض به جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الأولى.

قال عمر: واعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشر، ثم تزوجها رسول الله ودخل بها في ليال بقين من شوال، فكانت أمي تقول: ما بأس بالنكاح في شوال والدخول فيه، قد تزوجني رسول الله في شوال وبني فيه.

قال: وماتت أم سلمة في ذي القعدة سنة تسع وخمسين. رواه البيهقي.

قلت: سنذكر في أواخر هذه السنة في شوالها تزويج النبي بأم سلمة، وما يتعلق بذلك من ولاية الابن أمه في النكاح، ومذاهب العلماء في ذلك إن شاء الله تعالى، وبه الثقة.

غزوة الرجيع

قال الواقدي: وكانت في صفر، يعني سنة أربع بعثهم رسول الله إلى أهل مكة ليجيزوه.

قال: والرجيع على ثمانية أميال من عسفان.

قال البخاري: حدثني إبراهيم بن موسى: أخبرنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي، عن أبي هريرة قال:

بعث النبي سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رأم، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم.

فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلا.

فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها.

فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم، فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة بعد بدر، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث يستحدُّ بها فأعارته.

قالت: فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله.

وكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ من ثمره، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن مابي جزع من الموت لزدت. فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو.

ثم قال: اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا، ثم قال:

ولست أبالي حين أُقتل مسلما * على أي شق كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع

قال: ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدَّبْر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن عمرو، سمع جابر بن عبد الله يقول: الذي قتل خبيبا هو أبو سروعة. قلت: واسمه عقبة بن الحارث، وقد أسلم بعد ذلك، وله حديث في الرضاع، وقد قيل: إن أبا سروعة وعقبة أخوان، فالله أعلم.

هكذا ساق البخاري في كتاب (المغازي) من صحيحه قصة الرجيع، ورواه أيضا في التوحيد، وفي الجهاد من طرق: عن الزهري، عن عمرو بن أبي سفيان، وأسد بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة، ومنهم من يقول: عمر بن أبي سفيان والمشهور عمرو.

وفي لفظ للبخاري: بعث رسول الله عشرة رهط سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وساق بنحوه.

وقد خالفه محمد بن إسحاق، وموسى بن عقبة، وعروة بن الزبير، في بعض ذلك.

ولنذكر كلام ابن إسحاق ليعرف ما بينهما من التفاوت والاختلاف، على أن ابن إسحاق إمام في هذا الشأن، غير مدافع كما قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق.

قال محمد بن إسحاق: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله بعد أحد رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام.

فبعث رسول الله معهم نفرا ستة من أصحابه وهم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب.

قال ابن إسحاق: وهو أمير القوم، وخالد بن البكير الليثي - حليف بني عدي - وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخو بني عمرو بن عوف، وخبيب بن عدي أخو بني جَحْجَبى بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة أخو بني بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر رضي الله عنهم.

هكذا قال ابن إسحاق أنهم كانوا ستة، وكذا ذكر موسى بن عقبة وسماهم كما قال ابن إسحاق، وعند البخاري أنهم كانوا عشرة، وعنده أن كبيرهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدور الهدأة، غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم.

فأما مرثد، وخالد بن البكير، وعاصم بن ثابت فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا، وقال عاصم بن ثابت والله أعلم، ولله الحمد والمنة:

ما علتي وأنا جَلْدُ نابل * والقوس فيها وتر عنابل

تزل عن صفحتها المعابل * الموت حق والحياة باطل

وكل ما حم الإله نازل * بالمرء والمرء إليه آيل

إن لم أقاتلكم فأمي هابل

وقال عاصم أيضا:

أبو سليمان وريشُ المقعد * وضالةٌ مثلُ الجحيمِ الموقد

إذا النواجي افترشتْ لم أُرعِدِ * ومجنأ من جلد ثورٍ أجرد

ومؤمن بما على محمد

وقال أيضا:

أبو سليمان ومثلي راما * وكان قومي مَعْشرا كراما

قال: ثم قاتل حتى قتل وقتل صاحباه. فلما قُتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن سهيل، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أُحد لئن قدرتْ على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر، فمنعته الدَّبْر فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسي فيذهب عنه، فنأخذه، فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما فذهب به.

وقد كان عاصم قد أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركا أبدا تنجسا.

فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركا أبدا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته، كما امتنع منه في حياته.

قال ابن إسحاق: وأما خبيب، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، فلانوا ورقُّوا ورغبوا في الحياة، وأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القِران ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران.

وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة، فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة.

قال ابن إسحاق: فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لأمه ليقتله بأبيه.

قال: وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له: نسطاس إلى التنعيم، و أخرجه من الحرم ليقتله.

واجتمع رهط من قريش فيهم: أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قَدِمَ ليُقتل: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟

قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي.

قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحد كحب أصحاب محمد محمدا، قال: ثم قتله نسطاس.

قال: وأما خبيب بن عدي: فحدثني عبد الله بن أبي نجيح، أنه حُدِّث عن ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب، وكانت قد أسلمت، قالت: كان عندي خبيب حبس في بيتي، فلقد اطلعت عليه يوما وإن في يده لقطفا من عنب، مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم في أرض الله عنبا يؤكل.

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي نجيح أنهما قالا: قالت: قال لي حين حضره القتل: ابعثي إليَّ بحديدة أتطهر بها للقتل. قالت: فأعطيت غلاما من الحي الموسى، فقلت له: ادخل بها على هذا الرجل البيت.

فقالت: فوالله إن هو إلا أن ولى الغلام بها إليه، فقلت: ماذا صنعتُ! أصاب والله الرجل، وثأره يقتل هذا الغلام، فيكون رجلا برجل، فلما ناوله الحديدة أخذها من يده، ثم قال: لعمرك، ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إليَّ، ثم خلى سبيله.

قال ابن هشام: ويقال إن الغلام ابنها.

قال ابن إسحاق: قال عاصم: ثم خرجوا بخبيب حتى جاؤوا به إلى التنعيم ليصلبوه، وقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا: دونك فاركع، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طوَّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة.

قال: فكان خبيب أول من سنَّ هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين.

قال: ثم رفعوه على خشبة، فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يُصنع بنا، ثم قال: اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، ثم قتلوه.

وكان معاوية ابن أبي سفيان يقول: حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبي سفيان، فلقد رأيته يلقيني إلى الأرض فرقا من دعوة خُبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دُعي عليه، فاضطجع لجنبه زلّت عنه.

وفي (مغازي) موسى بن عقبة: أن خبيبا وزيد بن الدثنة قتلا في يوم واحد، وأن رسول الله سمع يوم قُتلا وهو يقول: وعليكما أو عليك السلام خبيب قتلته قريش.

وذكر أنهم لما صلبوا زيد بن الدثنة رموه بالنبل ليفتنوه عن دينه، فما زاده إلا إيمانا وتسليما.

وذكر عروة وموسى بن عقبة أنهم لما رفعوا خبيبا على الخشبة نادوه يناشدونه أتحب أن محمدا مكانك؟

قال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه، فضحكوا منه.

وهذا ذكره ابن إسحاق في قصة زيد بن الدثنة، فالله أعلم.

قال موسى بن عقبة: زعموا أن عمرو بن أمية دفن خبيبا.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عقبة بن الحارث قال: سمعته يقول: والله ما أنا قتلت خبيبا لأنا كنت أصغر من ذلك، ولكنَّ أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا قال: كان عمر بن الخطاب استعمل سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي على بعض الشام، فكانت تصيبه غشية وهو بين ظهري القوم، فذُكر ذلك لعمر، وقيل إن الرجل مصاب، فسأله عمر في قدمة قدمها عليه فقال: يا سعيد ما هذا الذي يصيبك؟

فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي، وأنا في مجلس قط إلا غُشي عليَّ، فزادته عند عمر خيرا.

وقد قال الأموي: حدثني أبي قال: قال ابن إسحاق: وبلغنا أن عمر قال: من سره أن ينظر إلى رجل نسيج وحده فلينظر إلى سعيد بن عامر.

قال ابن هشام: أقام خبيب في أيديهم حتى انسلخت الأشهر الحرم، ثم قتلوه.

وقد روى البيهقي من طريق إبراهيم بن إسماعيل: حدثني جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، عن جده عمرو بن أمية: أن رسول الله كان بعثه عينا وحده.

قال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون، فأطلقته فوقع إلى الأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم التفتُّ فلم أر شيئا، فكأنما بلعته الأرض، فلم تُذكر لخبيب رمة حتى الساعة.

ثم روى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: لما قتل أصحاب الرجيع قال ناس من المنافقين: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا، لا هم أقاموا في أهلهم، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله فيهم: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } 22 وما بعدها.

وأنزل الله في أصحاب السرية { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } 23.

قال ابن إسحاق: وكان مما قيل من الشعر في هذه الغزوة قول خبيب حين أجمعوا على قتله.

قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها له:

لقد جمّع الأحزاب حولي وألّبوا * قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

وكلهمُ مبدي العداوةِ جاهدٌ * عليَّ لأني في وثاقٍ بمضبع

وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم * وقُرِّبْتُ من جِذع طويل ممنّع

إلى الله أشكو غُربتي ثم كُربتي * وما أرصدَ الأعداء لي عند مصرعي

فذا العرش صبرني على ما يراد بي * فقد بَضَعوا لحمي وقد ياس مطمعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ * يبارك على أوصال شِلوٍ ممزع

وقد خيروني الكفرَ والموت دونه * وقد هملت عيناي من غير مجزع

وما بي حذارُ الموت إني لميتٌ * ولكن حذاري جحمُ نار ملفع

فوالله ما أرجو إذا متّ مسلما * على أي جنب كان في الله مضجعي

فلستُ بمبدٍ للعدو تخشعا * ولا جزعا أني إلى الله مرجعي

وقد تقدم في صحيح البخاري بيتان من هذه القصيدة وهما قوله:

فلست أبالي حين أُقتل مسلما * على أي شِقٍ كان في الله مصرعي

وذلك في ذاتِ الإله وإن يشأ * يباركْ على أوصال شِلوٍ ممزع

وقال حسان بن ثابت يرثي خبيبا فيما ذكره ابن إسحاق:

ما بالُ عينك لا ترقى مدامعُها * سحا على الصدر مثل اللؤلؤ الفلق

على خبيب فتى الفتيان قد علموا * لا فشل حين تلقاه ولا نزق

فاذهب خبيب جزاك الله طيبةً * وجنة الخلد عند الحور في الرفق

ماذا تقولون إن قال النبي لكم * حين الملائكة الأبرار في الأفق

فيم قتلتم شهيد الله في رجل * طاغ قد أوعث في البلدان والرفق

قال ابن هشام: تركنا بعضها لأنه قد أقذع فيها.

وقال حسان يهجو الذين غدروا بأصحاب الرجيع من بني لحيان فيما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم ولله الحمد والمنة والتوفيق والعصمة:

إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له * فأتِ الرجيع فسل عن دار لحيان

قوم تواصوا بأكل الجار بينهم * فالكلب والقرد والإنسان مثلان

لو ينطق التيس يوما قام يخطبهم * وكان ذا شرف فيهم وذا شأن

وقال حسان بن ثابت أيضا، يهجو هذيلا وبني لحيان على غدرهم بأصحاب الرجيع رضي الله عنهم أجمعين:

لعمري لقد شانت هذيل بن مدرك * أحاديث كانت في خبيب وعاصم

أحاديث لحيان صلوا بقبيحها * ولحيان جرامون شر الجرائم

أناسٌ هم من قومهم في صميمهم * بمنزلة الزمعان دبر القوادم

هم غادروا يوم الرجيع وأسلمت * أمانتهم ذا عفة ومكارم

رسول رسولَ الله غدرا ولم تكن * هذيل توقى منكرات المحارم

فسوف يرون النصر يوما عليهم * بقتل الذي تحميه دون الحرائم

أبابيل دبر شمس دون لحمه * حمت لحم شهاد عظيم الملاحم

لعل هذيلا أن يروا بمصابه * مصارع قتلى أو مقاما لماتم

ونوقع فيها وقعة ذات صولة * يوافى بها الركبان أهل المواسم

بأمر رسول الله إن رسوله * رأى رأي ذي حزم بلحيان عالم

قبيلةٌ ليس الوفاء يهمهُم * وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم

إذا الناس حلوا بالفضاء رأيتهم * بمجرى مسيل الماء بين المخارم

محلهم دار البوار ورأيهم * إذا نابهم أمر كرأي البهائم

وقال حسان رضي الله عنه أيضا يمدح أصحاب الرجيع ويسميهم بشعره، كما ذكره ابن إسحاق رحمه الله تعالى:

صلى الإله على الذين تتابعوا * يوم الرجيع فأكرموا وأثيبوا

رأس السرية مرثد وأميرهم * وابن البكير أمامهم وخبيب

وابن لطارقَ وابن دثنة منهم * وافاه ثم حمامه المكتوب

والعاصم المقتول عند رجيعهم * كسب المعالي إنه لكسوب

منع المقادة أن ينالوا ظهرهُ * حتى يجالد إنه لنجيب

قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان.

سرية عمرو بن أمية الضمري

قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه وعبد الله بن أبي عبيدة، عن جعفر بن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية الضمري، وعبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عوف، وزاد بعضهم على بعض قالوا:

كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة: أما أحد يغتال محمدا فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا؟

فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله، وقال له: إن أنت وفيتني وخرجت إليه حتى أغتاله، فإني هاد بالطريق خريت، معي خنجر مثل خافية النسر.

قال: أنت صاحبنا، وأعطاه بعيرا ونفقة، وقال: اطوِ أمرك فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد.

قال: قال العربي: لا يعلمه أحد.

فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا، وصبَّح ظهر الحي يوم سادسه، ثم أقبل يسأل عن رسول الله حتى أتى المصلى، فقال له قائل: قد توجه إلى بني عبد الأشهل.

فخرج الأعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بني عبد الأشهل، فعقل راحلته، ثم أقبل يؤم رسول الله فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده، فلما دخل ورآه رسول الله قال لأصحابه: «إن هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده».

فوقف وقال: أيكم ابن عبد المطلب؟

فقال له رسول الله : «أنا ابن عبد المطلب».

فذهب ينحني على رسول الله كأنه يُساره، فجبذه أسيد بن حضير وقال: تنح عن رسول الله ، وجذب بداخل إزاره فإذا الخنجر.

فقال: يا رسول الله هذا غادر فأسقط في يد الأعرابي، وقال: دمي دمي يا محمد. وأخذه أسيد بن حضير يلببه، فقال له النبي : «اصدقني ما أنت، وما أقدمك؟ فإن صدقتني نفعك الصدق، وإن كذبتني فقد اطلعتُ على ما هممت به».

قال العربي: فأنا أمن؟ قال: «وأنت أمن...» فأخبره بخبر أبي سفيان، وما جعل له فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير ثم دعا به من الغد فقال: قد أمنتك فاذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك.

قال: وما هو؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفْرقُ من الرجال، فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت، ثم اطلعت على ما هممت به فما سبقت به الركبان، ولم يطلع عليه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان.

فجعل النبي يتبسم، وأقام أياما ثم استأذن النبي فخرج من عنده، ولم يسمع له بذكر، وقال رسول الله لعمرو بن أمية الضمري، ولسلمة بن أسلم بن حريش: «أخرجا حتى تأتيا أبا سفيان ابن حرب فإن أصبتما منه غرة فاقتلاه»

قال عمرو: فخرجت أنا وصاحبي حتى أتينا بطن يأجج فقيدنا بعيرنا، وقال لي صاحبي: يا عمرو هل لك في أن نأتي مكة فنطوف بالبيت سبعا ونصلي ركعتين؟

فقلت: أنا أعلم بأهل مكة منك، إنهم إذا أظلموا رشُّوا أفنيتهم ثم جلسوا بها، و إني أعرف بمكة من الفرس الأبلق، فأبى علي فانطلقنا فأتينا مكة، فطفنا أسبوعا وصلينا ركعتين، فلما خرجت لقيني معاوية بن أبي سفيان فعرفني، وقال: عمرو بن أمية واحزناه.

فنذر بنا أهل مكة فقالوا: ما جاء عمرو في خير، وكان عمرو فاتكا في الجاهلية، فحشد أهل مكة وتجمعوا، وهرب عمرو وسلمة، وخرجوا في طلبهما واشتدوا في الجبل.

قال عمرو: فدخلت في غار، فتغيبت عنهم حتى أصبحت، وباتوا يطلبوننا في الجبل، وعمى الله عليهم طريق المدينة أن يهتدوا له، فلما كان ضحوة الغد أقبل عثمان بن مالك بن عبيد التيمي يختلي لفرسه حشيشا، فقلت لسلمة بن أسلم: إذا أبصرنا أشعر بنا أهل مكة، وقد انفضوا عنا، فلم يزل يدنو من باب الغار حتى أشرف علينا.

قال: فخرجت إليه فطعنته طعنة تحت الثدي بخنجري، فسقط وصاح فاجتمع أهل مكة فأقبلوا بعد تفرقهم، ورجعت إلى مكاني فدخلت فيه، وقلت لصاحبي: لا تتحرك فأقبلوا حتى أتوه وقالوا من قتلك؟

قال: عمرو بن أمية الضمري، فقال أبو سفيان: قد علمنا أنه لم يأت لخير، ولم يستطع أن يخبرهم بمكاننا فإنه كان بآخر رمق فمات، وشغلوا عن طلبنا بصاحبهم فحملوه، فمكثنا ليلتين في مكاننا حتى سكن عنا الطلب، ثم خرجنا إلى التنعيم، فقال صاحبي: يا عمرو بن أمية هل لك في خبيب بن عدي ننزله؟

فقلت له: أين هو؟ قال: هو ذاك مصلوب حوله الحرس. فقلت: أمهلني وتنح عني، فإن خشيت شيئا فانج إلى بعيرك فاقعد عليه، فأت رسول الله فأخبره الخبر، ودعني فإني عالم بالمدينة.

ثم استدرت عليه حتى وجدته فحملته على ظهري، فما مشيت به إلا عشرين ذراعا حتى استيقظوا، فخرجوا في أثري، فطرحت الخشبة فما أنسى وجيبها - يعني صوتها - ثم أهلت عليه التراب برجلي، فأخذت طريق الصفراء فأعيوا ورجعوا، وكنت لا أدري مع بقاء نفسي.

فانطلق صاحبي إلى البعير فركبه، وأتى النبي فأخبره، وأقبلت حتى أشرفت على الغليل: غليل ضنجنان فدخلت في غار معي قوسي وأسهمي وخنجري، فبينما أنا فيه إذ أقبل رجل من بني الديل بن بكر أعور طويل، يسوق غنما ومعزى فدخل الغار وقال: من الرجل؟

فقلت: رجل من بني بكر.

فقال: وأنا من بني بكر، ثم اتكأ ورفع عقيرته يتغنى ويقول:

فلست بمسلم ما دمت حيا * ولست أدين دين المسلمينا

فقلت في نفسي: والله إني لأرجو أن أقتلك.

فلما نام قمت إليه فقتلته شر قتلة قتلها أحد قط، ثم خرجت حتى هبطت، فلما أسهلت في الطريق إذا رجلان بعثهما قريش يتجسسان الأخبار فقلت: استأسرا فأبى أحدهما فرميته فقتلته، فما رأى ذلك الآخر استأسر، فشددته وثاقا.

ثم أقبلت به إلى النبي ، فلما قدمت المدينة أتى صبيان الأنصار وهم يلعبون، وسمعوا أشياخهم يقولون: هذا عمرو، فاشتد الصبيان إلى النبي فأخبروه، وأتيته بالرجل قد ربطت إبهامه بوتر قوسي، فلقد رأيت النبي وهو يضحك، ثم دعا لي بخير.

وكان قدوم سلمة قبل قدوم عمرو بثلاثة أيام. رواه البيهقي. وقد تقدم أن عمرا لما أهبط خبيبا لم ير له رمة ولا جسدا، فلعله دفن مكان سقوطه، والله أعلم.

وهذه السرية إنما استدركها ابن هشام على ابن إسحاق، وساقها بنحو من سياق الواقدي لها، لكن عنده أن رفيق عمرو بن أمية في هذه السرية جبار بن صخر، فالله أعلم، ولله الحمد.

سرية بئر معونة

وقد كانت في صفر منها، وأغرب مكحول رحمه الله حيث قال: إنها كانت بعد الخندق.

قال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز، عن أنس بن مالك قال:

بعث رسول الله سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال لها بئر معونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، وإنما نحن مجتازون في حاجة للنبي فقتلوهم، فدعا النبي عليهم شهرا في صلاة الغداة، وذاك بدء القنوت وما كنا نقنت.

ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بنحوه.

ثم قال البخاري: حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعد، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رعلا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان.

قال أنس: فقرأنا فيهم قرأنا، ثم إن ذلك رفع، بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا.

ثم قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك أن النبي بعث حراما أخا لأم سليم في سبعين راكبا، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل، خير رسول الله بين ثلاث خصال فقال:

يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف، فطعن عامر في بيت أم فلان فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة من آل فلان، ائتوني بفرسي فمات على ظهر فرسه، فانطلق حرام أخو أم سليم وهو رجل أعرج، ورجل من بني فلان فقال: كونا قريبا حتى آتيهم، فإن أمنوني كنتم قريبا، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم.

فقال: أتؤمنوني حتى أبلغ رسالة رسول الله ؟ فجعل يحدثهم وأومأوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه.

قال همام: أحسبه حتى أنفذه بالرمح، فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة، فلحق الرجل فقتلوا كلهم غير الأعرج، وكان في رأس جبل، فأنزل الله علينا، ثم كان من المنسوخ: أنا لقد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا.

فدعا النبي ثلاثين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وعصية الذين عصوا الله ورسوله.

وقال البخاري: حدثنا حبان، حدثنا عبد الله، أخبرني معمر، حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس أنه سمع أنس بن مالك يقول لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه وقال: فزت ورب الكعبة.

وروى البخاري، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة أخبرني أبي قال: لما قتل الذين ببئر معونة، وأسر عمرو بن أمية الضمري قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ وأشار إلى قتيل.

فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة.

قال: لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء، حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وضع فأتي النبي خبرهم فنعاهم، فقال: «إن أصحابكم قد أصيبوا وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا» فأخبرهم عنهم.

وأصيب يومئذ فيهم عروة بن أسماء بن الصلت فسمي عروة به، ومنذر بن عمرو وسمي به منذر.

هكذا وقع في رواية البخاري مرسلا عن عروة.

وقد رواه البيهقي من حديث يحيى بن سعيد، عن أبى أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة فساق من حديث الهجرة، وأدرج في آخره ما ذكره البخاري ههنا فالله أعلم.

وروى الواقدي، عن مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود وعن عروة، فذكر القصة وشأن عامر بن فهيرة، وأخبار عامر بن الطفيل أنه رفع إلى السماء، وذكر أن الذي قتله جبار بن سلمى الكلابي، قال: ولما طعنه بالرمح قال: فزت ورب الكعبة، ثم سأل جبار بعد ذلك: ما معنى قوله فزت؟ قالوا: يعني بالجنة.

فقال: صدق والله، ثم أسلم جبار بعد ذلك لذلك.

وفي (مغازي) موسى بن عقبة، عن عروة أنه قال: لم يوجد جسد عامر بن فهيرة، يرون أن الملائكة وارته.

وقال يونس، عن ابن إسحاق: فأقام رسول الله - يعني بعد أحد - بقية شوال، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، فحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما من أهل العلم قالوا:

قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله بالمدينة، فعرض عليه الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك.

فقال : إني أخشى عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا لهم جار، فبعث رسول الله المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين، فيهم: الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر في رجال من خيار المسلمين.

فساروا حتى نزلوا بئر معونة - وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم - فلما نزلوا بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في الكتاب حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم، وقالوا: لن نخفر أبا براء.

وقد عقد لهم عقدا وجوارا فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم - عصية ورعلا وذكوان والقارة - فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا أسيافهم، ثم قاتلوا القوم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه به رمق، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق.

وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف، فلم ينبئهما بمصاب القوم إلا الطير تحوم حول العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة.

فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى؟

فقال: أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني لم أكن لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لأخبر عنه الرجال.

فقاتل القوم حتى قتل، وأخذ عمرو أسيرا، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه فيما زعم.

قال: وخرج عمرو بن أمية، حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عهد من رسول الله ، وجوار لم يعلمه عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟

قالا: من بني عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما وقتلهما، وهو يرى أن قد أصاب بهما ثأرا من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله .

فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله أخبره الخبر، فقال رسول الله : «لقد قتلت قتيلين لأدينهما» ثم قال رسول الله : «هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارها متخوفا».

فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب أصحاب رسول الله بسببه وجواره.

فقال حسان بن ثابت في إخفار عامر أبا براء، ويحرض بني أبي براء على عامر:

بني أم البنين ألم يرعكم * وأنتم من ذوائب أهل نجد

تهكم عامر بأبي براء * ليخفره وما خطأ كعمد

ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي * فما أحدثت في الحدثان بعدي

أبوك أبو الحروب أبو براء * وخالك ماجد حكم بن سعد

قال ابن هشام: أم البنين أم أبي براء، وهي بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.

قال: فحمل ربيعة بن عامر بن مالك على عامر بن الطفيل، فطعنه في فخذه فأشواه، ووقع عن فرسه وقال: هذا عمل أبي براء، إن أمت فدمي لعمي فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي.

وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري نحو سياق محمد بن إسحاق، قال موسى: وكان أمير القوم المنذر بن عمرو، وقيل مرثد بن أبي مرثد.

وقال حسان بن ثابت يبكي قتلى بئر معونة، فيما ذكره ابن إسحاق رحمه الله، والله أعلم:

على قتلى معونة فاستهلي * بدمع العين سحا غير نزر

على خيل الرسول غداة لاقوا * ولاقتهم مناياهم بقدر

أصابهم الفناء بعقد قوم * تخوَّن عقد حبلهم بغدر

فيالهفي لمنذر إذ تولى * وأعنق في منيته بصبر

وكائن قد أصيب غداة ذاكم * من أبيض ماجد من سر عمرو

غزوة بني النضير وفيها سورة الحشر

في صحيح البخاري عن ابن عباس: أنه كان يسميها سورة بني النضير.

وحكى البخاري، عن الزهري، عن عروة أنه قال: كانت بنو النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد، وقد أسنده ابن أبي حاتم في تفسيره: عن أبيه، عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري به.

وهكذا روى حنبل بن إسحاق، عن هلال بن العلاء، عن عبد الله بن جعفر الرقي، عن مطرف بن مازن اليماني، عن معمر، عن الزهري، فذكر غزوة بدر في سابع عشر رمضان سنة ثنتين.

قال: ثم غزا بني النضير، ثم غزا أحدا في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع.

وقال البيهقي: وقد كان الزهري يقول: هي قبل أحد.

قال: وذهب آخرون إلى أنها بعدها وبعد بئر معونة أيضا.

قلت: هكذا ذكر ابن إسحاق كما تقدم، فإنه بعد ذكره بئر معونة، ورجوع عمرو بن أمية وقتله ذينك الرجلين من بني عامر، ولم يشعر بعهدهما الذي معهما من رسول الله ، ولهذا قال له رسول الله : «لقد قتلت رجلين لأدينهما».

قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية للعهد الذي كان أعطاهما، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عهد وحلف، فلما أتاهم قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت.

ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟

فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله في نفر من أصحابه، فيهم: أبو بكر، وعمر، وعلي.

فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة، فلما استلبث النبي أصحابه، قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به.

قال الواقدي: فبعث رسول الله محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام، ويعدونهم النصر، فقويت عند ذلك نفوسهم، وحمى حيي بن أحطب وبعثوا إلى رسول الله أنهم لا يخرجون، ونابدوه بنقض العهود، فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم.

قال الواقدي: فحاصروهم خمس عشرة ليلة.

وقال ابن إسحاق: وأمر النبي بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في شهر ربيع الأول.

قال ابن إسحاق: فسار حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال، ونزل تحريم الخمر حينئذ، وتحصنوا في الحصون، فأمر رسول الله بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟

قال: وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم: عبد الله بن أبي، ووديعة، ومالك بن أبي قوقل، وسويد، وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة.

وقال العوفي، عن ابن عباس: أعطى كل ثلاثة بعيرا يتعقبونه وسقا. رواه البيهقي.

وروي من طريق يعقوب بن محمد، عن الزهري، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن مسلمة: أن رسول الله بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال.

وروى البيهقي وغيره: أنه كانت لهم ديون مؤجلة، فقال رسول الله : «ضعوا وتعجلوا» وفي صحته نظر، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.

فكان من أشراف من ذهب منهم إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، فلما نزلوها دان لهم أهلها.

فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقبلوا بالنساء والأبناء والأموال، معهم الدفوف والمزامير والقيان، يعزفن خلفهم بزهاء وفخر ما رؤي مثله لحي من الناس في زمانهم.

قال: وخلوا الأموال لرسول الله - يعني النخيل والمزارع - فكانت له خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقرا فأعطاهما، وأضاف بعضهم إليهما الحارث بن الصمة. حكاه السهيلي.

قال ابن إسحاق: ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان وهما: يامين بن عمير بن كعب بن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما.

قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين: أن رسول الله قال ليامين: «ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني؟» فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش، فقتله لعنه الله.

قال ابن إسحاق: فأنزل الله فيهم سورة الحشر بكمالها، يذكر فيها ما أصابهم به من نقمته، وما سلط عليهم به رسوله، وما عمل به فيهم.

ثم شرع ابن إسحاق يفسرها، وقد تكلمنا عليها بطولها مبسوطة في كتابنا التفسير، ولله الحمد.

قال الله تعالى: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } 24.

سبح سبحانه وتعالى نفسه الكريمة، وأخبر أنه يسبح له جميع مخلوقاته العلوية والسفلية، وأنه العزيز وهو منيع الجناب، فلا ترام عظمته وكبرياؤه، وأنه الحكيم في جميع ما خلق وجميع ما قدر وشرع، فمن ذلك تقديره وتدبيره وتيسيره لرسول الله وعباده المؤمنين في ظفرهم بأعدائهم اليهود الذين شاقوا الله ورسوله، وجانبوا رسوله وشرعه، وما كان من السبب المفضي لقتالهم كما تقدم، حتى حاصرهم المؤيد بالرعب والرهب مسيرة شهر.

ومع هذا فأسرهم بالمحاصرة بجنوده ونفسه الشريفة ست ليال، فذهب بهم الرعب كل مذهب، حتى صانعوا وصالحوا على حقن دمائهم، وأن يأخذوا من أموالهم ما استقلت به ركابهم، على أنهم لا يصحبون شيئا من السلاح إهانة لهم واحتقارا، فجعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار.

ثم ذكر تعالى أنه لو لم يصبهم الجلاء: وهو التسيير والنفي من جوار الرسول من المدينة لأصابهم ما هو أشد منه من العذاب الدنيوي وهو القتل، مع ما ادخر لهم في الآخرة من العذاب الأليم المقدر لهم.

ثم ذكر تعالى حكمة ما وقع من تحريق نخلهم، وترك ما بقي لهم، وإن ذلك كله سائغ فقال: ما قطعتم من لينة - وهو جيد الثمر - أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله، إن الجميع قد أذن فيه شرعا وقدرا فلا حرج عليكم فيه، ولنعم ما رأيتم من ذلك، وليس هو بفساد كما قاله شرار العباد إنما هو إظهار للقوة، وإخزاء للكفرة الفجرة.

وقد روى البخاري ومسلم جميعا، عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله حرق نخل بني النضير، وقطع وهي بالبويرة، فأنزل الله: { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليجزي الفاسقين }

وعند البخاري، من طريق جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة، ولها يقول حسان بن ثابت:

وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير

فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول:

أدام الله ذلك من صنيع * وحرق في نواحيها السعير

ستعلم أينا منها بستر * وتعلم أي أرضينا نضير

قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير، وقتل كعب بن الأشرف، فالله أعلم:

لقد خزيت بغدرتها الحبور * كذاك الدهر ذو صرف يدور

وذلك أنهم كفروا برب * عظيم أمره أمر كبير

وقد أوتوا معا فهما وعلما * وجاءهم من الله النذير

نذير صادق أدى كتابا * وآيات مبينة تنير

فقالوا ما أتيت بأمر صدق * وأنت بمنكر منا جدير

فقال بلى لقد أديت حقا * يصدقني به الفهم الخبير

فمن يتبعه يهد لكل رشد * ومن يكفر به يخزَ الكفور

فلما أشربوا غدرا وكفرا * وجد بهم عن الحق النفور

أرى الله النبي برأي صدق * وكان الله يحكم لا يجور

فأيده وسلطه عليهم * وكان نصيره نعم النصير

فغودر منهم كعب صريعا * فذلت بعد مصرعه النضير

على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور

بأمر محمد إذ دس ليلا * إلى كعب أخا كعب يسير

فماكره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور

فتلك بنو النضير بدار سوء * أبارهم بما اجترموا المبير

غداة أتاهم في الزحف رهوا * رسول الله وهو بهم بصير

وغسان الحماة مؤازروه * على الأعداء وهو لهم وزير

فقال السلم ويحكم فصدوا * وخالف أمرهم كذب وزور

فذاقوا غب أمرهم وبالا * لكل ثلاثة منهم بعير

وأجلوا عامدين لقينقاع * وغودر منهم نخل ودور

وقد ذكر ابن إسحاق جوابها لسمال اليهودي فتركناها قصدا.

قال ابن إسحاق: وكان مما قيل في بني النضير قول ابن لقيم العبسي، ويقال: قالها قيس بن بحر بن طريف الأشجعي:

أهلي فداء لامرئ غير هالك * أحل اليهود بالحسي المزنم

يقيلون في خمر العضاه وبدلوا * أهيضب عودا بالودي المكمم

فإن يك ظني صادقا بمحمد * تروا خيله بين الضلا ويرمرم

يؤم بها عمرو بن بهثة إنهم * عدو وما حي صديق كمجرم

عليهن أبطال مساعير في الوغى * يهزون أطراف الوشيج المقوم

وكل رقيق الشفرتين مهند * توورثن من أزمان عاد وجرهم

فمن مبلغ عني قريشا رسالة * فهل بعدهم في المجد من متكرم

بأن أخاهم فاعلمن محمدا * تليد الندى بين الحجون وزمزم

فدينوا له بالحق تجسم أموركم * وتسمو من الدنيا إلى كل معظم

نبي تلافته من الله رحمة * ولا تسألوه أمر غيب مرجم

فقد كان في بدر لعمري عبرة * لكم يا قريش والقليب الملمم

غداة أتى في الخزرجية عامدا * إليكم مطيعا للعظيم المكرم

معانا بروح القدس ينكى عدوه * رسولا من الرحمن حقا بمعلم

رسولا من الرحمن يتلو كتابه * فلما أنار الحق لم يتلعثم

أرى أمره يزداد في كل موطن * علوا لأمر جعل الله محكم

قال ابن إسحاق: وقال علي بن أبي طالب، وقال ابن هشام: قالها رجل من المسلمين، ولم أر أحدا يعرفها لعلي:

عرفت ومن يعتدل يعرف * وأيقنت حقا ولم أصدف

عن الكلم المحكم اللاء من * لدى الله ذي الرأفة الأراف

رسائل تدرسُ في المؤمنين * بهن اصطفى أحمد المصطفى

فأصبح أحمد فينا عزيزا * عزيز المقامة والموقف

فيا أيها الموعدوه سفاها * ولم يأت جورا ولم يعنف

ألستم تخافون أدنى العذاب * وما أمن الله كالأخوف

وإن تصرعوا تحت أسيافه * كمصرع كعب أبي الأشرف

غداة رأى الله طغيانه * وأعرض كالجمل الأجنف

فأنزل جبريل في قتله * بوحي إلى عبده ملطف

فدس الرسول رسولا له * بأبيض ذي هبة مرهف

فباتت عيون له معولات * متى ينع كعب لها تذرف

وقلن لأحمد ذرنا قليلا * فإنا من النوح لم نشتف

فخلاهم ثم قال اظعنوا * دحورا على رغم الأنف

وأجلى النضير إلى غربة * وكانوا بدار ذوي زخرف

إلى أذرعات ردافا وهم * على كل ذي دبر أعجف

وتركنا جوابها أيضا من سماك اليهودي قصدا.

ثم ذكر تعالى حكم الفيء، وأنه حكم بأموال بني النضير لرسول الله وملكها له، فوضعها رسول الله حيث أراه الله تعالى، كما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال:

كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله خاصة، فكان يعزل نفقة أهل سنة، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل.

ثم بين تعالى حكم الفيء وأنه للمهاجرين، والأنصار، والتابعين لهم بإحسان على منوالهم وطريقتهم، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب.

قال الإمام أحمد: حدثنا عارم وعفان، قالا: حدثنا معتمر سمعت أبي يقول: حدثنا أنس بن مالك عن نبي الله أن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات، أو كما شاء الله، حتى فتحت عليه قريظة والنضير.

قال: فجعل يرد بعد ذلك. قال: وإن أهلي أمروني أن آتي نبي الله فأسأله الذي كان أهله أعطوه، أو بعضه، وكان نبي الله أعطاه أم أيمن، أو كما شاء الله.

قال: فسألت النبي فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي، وجعلت تقول: كلا والله الذي لا إله إلا هو، لا أعطيكهن وقد أعطانيهن، أو كما قالت.

فقال النبي : «لك كذا وكذا».

وتقول: كلا والله.

قال: ويقول: «لك كذا وكذا».

وتقول: كلا والله.

قال: «ويقول لك كذا وكذا» حتى أعطاها، حسبت أنه قال: عشرة أمثاله، أو قال: قريبا من عشرة أمثاله، أو كما أخرجاه بنحوه من طرق عن معتمر به.

ثم قال تعالى ذاما للمنافقين الذين مالوا إلى بني النضير في الباطن، كما تقدم ووعدوهم النصر فلم يكن من ذلك شيء، بل خذلوهم أحوج ما كانوا إليهم، وغروهم من أنفسهم فقال:

{ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدا أَبَدا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ } 25

ثم ذمهم تعالى على جبنهم، وقلة علمهم، وخفة عقلهم النافع، ثم ضرب لهم مثلا قبيحا شنيعا بالشيطان حين قال للإنسان اكفر، فلما كفر قال إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين، فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها، وذلك جزاء الظالمين.

قصة عمرو بن سعدي القرظي

حين مر على ديار بني النضير، وقد صارت يبابا ليس بها داع ولا مجيب، وقد كانت بنو النضير أشرف من بني قريظة، حتى حداه ذلك على الإسلام وأظهر صفة رسول الله من التوراة.

قال الواقدي: حدثنا إبراهيم بن جعفر، عن أبيه قال: لما خرجت بنو النضير من المدينة، أقبل عمرو بن سعدى فأطاف بمنازلهم، فرأى خرابها وفكر، ثم رجع إلى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة، فنفخ في بوقهم فاجتمعوا، فقال الزبير بن باطا: يا أبا سعيد أين كنت منذ اليوم لم تزل وكان لا يفارق الكنيسة، وكان يتأله في اليهودية.

قال: رأيت اليوم عبرا قد عبرنا بها، رأيت منازل إخواننا خالية بعد ذلك العز والجلد، والشرف الفاضل والعقل البارع، قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل.

ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة، وقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف ذي عزهم، ثم بيَّته في بيته أمنا، وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم، وهم أهل جد يهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم، وكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب.

يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمدا والله إنكم لتعلمون أنه نبي قد بشرنا به، وبأمره ابن الهيبان أبو عمير، وابن حراش، وهما أعلم يهود جاءانا يتوكفان قدومه وأمرانا باتباعه، جاءانا من بيت المقدس، وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما، ودفناهما بحرتنا هذه، فأسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم، ثم أعاد هذا الكلام ونحوه، وخوفهم بالحرب والسباء والجلاء.

فقال الزبير بن باطا: قد والتوراة قرأت صفته في كتاب باطا التوراة، التي نزلت على موسى ليس في المثاني الذي أحدثنا.

قال: فقال له كعب بن أسد ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه؟

قال: أنت يا كعب.

قال كعب: فلم والتوراة ما حلت بينك وبينه قط.

قال الزبير: بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا، فإن اتبعته اتبعناه، وإن أبيت أبينا، فأقبل عمرو بن سعدى على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال عمرو ما عندي في أمره إلا ما قلت: ما تطيب نفسي أن أصير تابعا. رواه البيهقي.

غزوة بني لحيان

ذكرها البيهقي في (الدلائل) وإنما ذكرها ابن إسحاق فيما رأيته من طريق هشام، عن زياد عنه، في جمادى الأولى من سنة ثنتين من الهجرة بعد الخندق وبني قريظة، وهو أشبه مما ذكره البيهقي، والله أعلم.

وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار وغيره قالوا: لما أصيب خبيب وأصحابه، خرج رسول الله طالبا بدمائهم ليصيب من بني لحيان غرة، فسلك طريق الشام ليرى أنه لا يريد بني لحيان، حتى نزل بأرضهم من هذيل، ليصيب منهم غرة، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال.

فقال رسول الله : «لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة» فخرج في مائتي راكب حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم ثم انصرفا، فذكر أبو عياش الزرقي: أن رسول الله صلى بعُسفان صلاة الخوف.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عياش قال: كنا مع رسول الله بعُسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله صلاة الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم.

ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم.

قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر، { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } قال: فحضرت فأمرهم رسول الله فأخذوا السلاح، فصففنا خلفه صفين، ثم ركع فركعنا جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا، جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء.

قال: ثم ركع فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد الصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون، فسجدوا، ثم سلم عليهم ثم انصرف.

قال: فصلاها رسول الله مرتين: مرة بأرض عسفان، ومرة بأرض بني سليم.

ثم رواه أحمد، عن غندر، عن شعبة، عن منصور به نحوه.

وقد رواه أبو داود، عن سعيد بن منصور، عن جرير بن عبد الحميد.

والنسائي، عن الفلاس، عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن محمد بن المثنى وبندار، عن غندر، عن شعبة ثلاثتهم، عن منصور به.

وهذا إسناد على شرط الصحيحين، ولم يخرجه واحد منهما، لكن روى مسلم من طريق أبي خيثمة زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، عن جابر قال: غزونا مع رسول الله قوما من جهينة فقاتلوا قتالا شديدا، فلما أن صلى الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله بذلك.

وذكر لنا رسول الله قال: «وقالوا إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد..» فذكر الحديث كنحو ما تقدم.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: صلى رسول الله بأصحابه الظهر بنخل، فهمَّ به المشركون ثم قالوا: دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه الصلاة هي أحب إليهم من أبنائهم.

قال: فنزل جبريل على رسول الله فأخبره، فصلى بأصحابه صلاة العصر، فصفهم صفين بين أيديهم رسول الله، والعدو بين يدي رسول الله ، فكبر وكبروا جميعا، وركعوا جميعا، ثم سجد الذين يلونهم والآخرون قيام، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون، ثم تقدم هؤلاء وتأخر هؤلاء، فكبروا جميعا وركعوا جميعا، ثم سجد الذين يلونه والآخرون قيام، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون.

وقد استشهد البخاري في صحيحه برواية هشام هذه، عن أبي الزبير، عن جابر.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا سعيد بن عبيد الهنائي، حدثنا عبد الله بن شقيق، حدثنا أبو هريرة: أن رسول الله نزل بين صنجنان وعسفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة.

وإن جبريل أتى رسول الله وأمره أن يقيم أصحابه شطرين فيصلي ببعضهم، ويقدم الطائفة الأخرى وراءهم، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ثم تأتي الأخرى فيصلون معه، ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم ليكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله ، ولرسول الله ركعتان.

ورواه الترمذي، والنسائي، من حديث عبد الصمد به. وقال الترمذي: حسن صحيح.

قلت: إن كان أبو هريرة شهد هذا فهو بعد خيبر، وإلا فهو من مرسلات الصحابي ولا يضر ذلك عند الجمهور، والله أعلم.

ولم يذكر في سياق حديث جابر عند مسلم، ولا عند أبي داود الطيالسي، أمر عسفان ولا خالد بن الوليد، لكن الظاهر أنها واحدة.

بقي الشأن في أن غزوة عسفان قبل الخندق أو بعدها، فإن من العلماء منهم الشافعي من يزعم أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد يوم الخندق، فإنهم أخّروا الصلاة يومئذ عن ميقاتها لعذر القتال، ولو كانت صلاة الخوف مشروعة إذ ذاك لفعلوها ولم يؤخروها، ولهذا قال بعض أهل المغازي: إن غزوة بني لحيان التي صلى فيها صلاة الخوف بعسفان، كانت بعد بني قريظة.

وقد ذكر الواقدي بإسناده، عن خالد بن الوليد قال: لما خرج رسول الله إلى الحديبية لقيته بعسفان، فوقفت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا، فأطلعه الله على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف.

قلت: وعمرة الحديبية كانت في ذي القعدة، سنة ست بعد الخندق وبني قريظة كما سيأتي.

وفي سياق حديث أبي عياش الزرقي ما يقتضي أن آية صلاة الخوف نزلت في هذه الغزوة يوم عسفان، فاقتضى ذلك أنها أول صلاة خوف صلاها، والله أعلم، وسنذكر إن شاء الله تعالى كيفية صلاة الخوف، واختلاف الروايات فيها في كتاب (الأحكام الكبير) إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.

غزوة ذات الرقاع

قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهري ربيع وبعض جمادى، ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر.

قال ابن هشام: ويقال عثمان بن عفان.

قال ابن إسحاق: فسار حتى نزل نخلا وهي غزوة ذات الرقاع.

قال ابن هشام: لأنهم رّقعوا فيها راياتهم، ويقال لشجرة هناك اسمها ذات الرقاع.

وقال الواقدي: بجبل فيه بقع حمر وسود وبيض.

وفي حديث أبي موسى: إنما سميت بذلك لما كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق من شدة الحر.

قال ابن إسحاق: فلقي بها جمعا عظيما من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا حتى صلى رسول الله بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف الناس.

وقد أسند ابن هشام حديث صلاة الخوف ههنا: عن عبد الوارث بن سعيد التنوري، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله، وعن عبد الوارث، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر، وعن عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر.

ولكن لم يذكر في هذه الطرق غزوة نجد، ولا ذات الرقاع، ولم يتعرض لزمان ولا مكان، وفي كون غزوة ذات الرقاع التي كانت بنجد لقتال بني محارب وبني ثعلبة بن غطفان قبل الخندق نظر.

وقد ذهب البخاري إلى أن ذلك كان بعد خيبر، واستدل على ذلك بأن أبا موسى الأشعري شهدها كما سيأتي، وقدومه إنما كان ليالي خيبر صحبة جعفر وأصحابه، وكذلك أبو هريرة، وقد قال: صليت مع رسول الله في غزوة نجد صلاة الخوف.

ومما يدل على أنها بعد الخندق: أن ابن عمر إنما أجازه رسول الله في القتال أول ما أجازه يوم الخندق.

وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: غزوت مع رسول الله قبل نجد، فذكر صلاة الخوف.

وقول الواقدي: إنه عليه السلام خرج إلى ذات الرقاع في أربعمائة، ويقال: سبعمائة من أصحابه ليلة السبت لعشر خلون من المحرم سنة خمس فيه نظر، ثم لا يحصل به نجاة من أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق، لأن الخندق كان في شوال سنة خمس على المشهور، وقيل: في شوال سنة أربع، فتحصل على هذا القول مخلص من حديث ابن عمر، فأما حديث أبي موسى وأبي هريرة فلا.

قصة غورث بن الحارث

قال ابن إسحاق في هذه الغزوة: حدثني عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله أن رجلا من بني محارب، يقال له: غورث، قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا؟

قالوا: بلى، وكيف تقتله؟

قال: أفتك به.

قال: فأقبل إلى رسول الله وهو جالس، وسيف رسول الله في حجره، فقال: يا محمد، انظر إلى سيفك هذا؟

قال: نعم، فأخذه ثم جعل يهزه ويهم، فكبته الله، ثم قال: يا محمد أما تخافني؟

قال: لا ما أخاف منك.

قال: أما تخافني وفي يدي السيف؟

قال: لا، يمنعني الله منك.

ثم عمد إلى سيف النبي فرده عليه، فأنزل الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } 26.

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان: أنها إنما نزلت في عمرو بن جحاش، أخي بني النضير وما همَّ به.

هكذا ذكر ابن إسحاق قصة غورث هذا، عن عمرو بن عبيد القدري، رأس الفرقة الضالة، وهو وإن كان لا يتهم بتعمد الكذب في الحديث، إلا أنه ممن لا ينبغي أن يروى عنه لبدعته ودعائه إليها.

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه، ولله الحمد.

فقد أورد الحافظ البيهقي ها هنا طرقا لهذا الحديث من عدة أماكن، وهي ثابتة في الصحيحين من حديث الزهري، عن سنان بن أبي سنان، وأبي سلمة، عن جابر: أنه غزا مع رسول الله غزوة نجد، فلما قفل رسول الله أدركته القائلة في واد كثير العضاه، فتفرق الناس يستظلون بالشجر، وكان رسول الله تحت ظل شجرة، فعلق بها سيفه.

قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله يدعونا فأجبناه، وإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله : «إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا» فقال: من يمنعك مني؟

قلت: «الله».

فقال: من يمنعك مني؟

قلت: «الله» فشأم السيف وجلس، ولم يعاقبه رسول الله وقد فعل ذلك.

وقد رواه مسلم أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله ، حتى إذا كنا بذات الرقاع، وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله ، فجاءه رجل من المشركين وسيف رسول الله معلق بشجرة، فأخذ سيف رسول الله فاخترطه، وقال لرسول الله : تخافني؟

قال: «لا».

قال: فمن يمنعك مني؟

قال: «الله يمنعني منك».

قال: فهدده أصحاب رسول الله فأغمد السيف وعلقه، قال: ونودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين.

قال: فكانت لرسول الله أربع ركعات، وللقوم ركعتان.

وقد علقه البخاري بصيغة الجزم عن أبان به.

قال البخاري: وقال مسدد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر: أن اسم الرجل غورث بن الحارث.

وأسند البيهقي من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال: قاتل رسول الله محارب وغطفان بنخل، فرأوا من المسلمين غِرة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث، حتى قام على رأس رسول الله بالسيف وقال: من يمنعك مني؟

قال: «الله» فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله السيف وقال: «من يمعنك مني؟»

قال: كن خير آخذ.

قال: «تشهد أن لا إله إلا الله؟»

قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس.

ثم ذكر صلاة الخوف وأنه صلى أربع ركعات بكل طائفة ركعتين.

وقد أورد البيهقي هنا طرق صلاة الخوف بذات الرقاع، عن صالح بن خوات بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة. وحديث الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر، في صلاة الخوف بنجد، وموضع ذلك كتاب (الأحكام) والله أعلم.

قصة الذي أصيبت امرأته يومذاك

قال محمد بن إسحاق: حدثني عمي صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله في غزوة ذات الرقاع من نخل، فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فلما انصرف رسول الله قافلا، أتى زوجها وكان غائبا.

فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد دما، فخرج يتبع إثر رسول الله ، فنزل رسول الله منزلا فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟

فانتدب رجل من المهاجرين، ورجل من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله.

قال: «فكونا بفم الشعب من الوادي» وهما: عمار بن ياسر، وعباد بن بشر، فلما خرجا إلى فم الشعب قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل تحب أن أكفيكه، أوله أم آخره؟

قال: بل اكفني أوله، فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي.

قال: وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرمى بسهم فوضعه فيه، فانتزعه ووضعه وثبت قائما.

قال: ثم رمى بسهم آخر فوضعه فيه، فنزعه فوضعه وثبت قائما.

قال: ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهبَّ صاحبه، فقال: اجلس فقد أثبتُّ.

قال: فوثب الرجل فلما رآهما عرف أنه قد نذرا به، فهرب.

قال: ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله أفلا أهببتني أول ما رماك؟

قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع علي الرمي ركعت فأذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها.

هكذا ذكره ابن إسحاق في (المغازي).

وقد رواه أبو داود، عن أبي توبة، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن إسحاق به.

وقد ذكر الواقدي، عن عبد الله العمري، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه حديث صلاة الخوف بطوله.

قال: وكان رسول الله قد أصاب في محالهم نسوة، وكان في السبي جارية وضيئة، وكان زوجها يحبها، فحلف ليطلبن محمدا ولا يرجع حتى يصيب دما أو يخلص صاحبته.

ثم ذكر من السياق نحو ما أورده محمد بن إسحاق.

قال الواقدي: وكان جابر بن عبد الله يقول: بينا أنا مع رسول الله إذ جاء رجل من أصحابه بفرخ طائر، ورسول الله ينظر إليه، فأقبل إليه أبواه أو أحدهما، حتى طرح نفسه في يدي الذي أخذ فرخه، فرأيت أن الناس عجبوا من ذلك، فقال رسول الله : «أتعجبون من هذا الطائر أخذتم فرخه، فطرح نفسه رحمة لفرخه، فوالله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه».

قصة جمل جابر

قال محمد بن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله ، جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله فقال: «مالك يا جابر؟»

قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا.

قال: «أنخه».

قال: فأنخته، وأناخ رسول الله ثم قال: «أعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع عصا من الشجرة» ففعلت، فأخذها رسول الله فنخسه بها نخسات، ثم قال: «اركب» فركبت فخرج، والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة.

قال: وتحدثت مع رسول الله فقال: «أتبيعني جملك هذا يا جابر؟»

قال: قلت بل أهبه لك.

قال: «لا ولكن بعنيه».

قال: قلت: فسُمْنيه.

قال: «قد أخذته بدرهم».

قال: قلت: لا، إذا تغبنني يا رسول الله.

قال: «فبدرهمين».

قال: قلت: لا.

قال: فلم يزل يرفع لي رسول الله حتى بلغ الأوقية.

قال: فقلت: أفقد رضيت؟

قال: نعم، قلت: فهو لك.

قال: «قد أخذته» ثم قال: «يا جابر هل تزوجت بعد».

قال: قلت: نعم يا رسول الله.

قال: «أثيبا أم بكرا؟» قال: قلت: بل ثيبا.

قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك».

قال قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن فتقوم عليهن.

قال: «أصبت إن شاء الله، أما إنا لو جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت، فأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها».

قال: فقلت: والله يا رسول الله مالنا نمارق.

قال: «إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا».

قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله بجزور ونحرت، فأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله دخل ودخلنا.

قال: فحدثت المرأة الحديث، وما قال لي رسول الله ، قالت: فدونك فسمع وطاعة، فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله ، ثم جلست في المسجد قريبا منه، قال: وخرج رسول الله فرأى الجمل فقال: «ما هذا؟».

قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر.

قال: «فأين جابر؟» فدعيت له.

قال: فقال: «يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك».

قال: ودعا بلالا فقال: «اذهب بجابر فأعطه أوقية».

قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية، وزادني شيئا يسيرا.

قال: فوالله ما زال ينمي عندي، ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا. يعني يوم الحرة.

وقد أخرجه صاحب الصحيح من حديث عبيد الله بن عمر العمري، عن وهب بن كيسان، عن جابر بنحوه.

قال السهيلي: في هذا الحديث إشارة إلى ما كان أخبر به رسول الله جابر بن عبد الله: أن الله أحيا والده وكلمه فقال له: تمن علي، وذلك أنه شهيد، وقد قال الله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } وزادهم على ذلك في قوله: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } .

ثم جمع لهم بين العوض والمعوض، فرد عليهم أرواحهم التي اشتراها منهم فقال: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون } والروح للإنسان بمنزلة المطية كما قال عمر بن عبد العزيز.

قال: فلذلك اشترى رسول الله من جابر جمله وهو مطيته، فأعطاه ثمنه، ثم رده عليه وزاده مع ذلك.

قال: ففيه تحقيق لما كان أخبره به عن أبيه، وهذا الذي سلكه السهيلي ها هنا إشارة غريبة وتخيل بديع، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقد ترجم الحافظ البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) على هذا الحديث في هذه الغزوة فقال: باب ما كان ظهر في غزاته هذه من بركاته وآياته في جمل جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

وهذا الحديث له طرق عن جابر، وألفاظ كثيرة، وفيه اختلاف كثير في كمية ثمن الجمل، وكيفية ما اشترط في البيع، وتحرير ذلك واستقصاؤه لائق بكتاب البيع من الأحكام والله أعلم.

وقد جاء تقييده بهذه الغزوة، وجاء تقييده بغيرها كما سيأتي، ومستبعد تعداد ذلك، والله أعلم.

غزوة بدر الآخرة

وهي بدر الموعد التي توعدوا إليها من أحد كما تقدم.

قال ابن إسحاق: ولما رجع رسول الله إلى المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبا، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول.

قال ابن إسحاق: فنزل رسول الله بدرا، وأقام عليه ثمانية ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران، وبعض الناس يقول: قد بلغ عسفان.

ثم بدا له في الرجوع فقال: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.

قال: وأتى مخشي بن عمرو الضمري، وقد كان وادع النبي في غزوة ودان على بني ضمرة، فقال: يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟

قال: «نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك».

قال: لا والله يا محمد ما لنا بذلك من حاجة، ثم رجع رسول الله إلى المدينة ولم يلق كيدا.

قال ابن إسحاق: وقد قال عبد الله بن رواحة يعني في انتظارهم أبا سفيان ورجوعه بقريش عامه ذلك، قال ابن هشام: وقد أنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك:

وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد * لميعاده صدقا وما كان وافيا

فأقسمُ لو لاقيتنا فلقِيتَنا * لأبت ذميما وافتقدت المواليا

تركنا به أوصال عتبة وابنه * وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا

عصيتم رسول الله أف لدينكم * وأمركم السيء الذي كان غاويا

فإني وإن عنفتموني لقائل * فدى لرسول الله أهلي وماليا

أطعناه لم نعدله فينا بغيره * شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا

قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في ذلك:

دعوا فلجات الشام قد حال دونها *جلاد كأفواه المخاض الأوارك

بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك

إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك

أقمنا على الرس النزوع ثمانيا * بأرعن جرار عريض المبارك

بكل كميت جَوزُه نصف خَلْقه * وقُبٍّ طوال مشرفات الحوارك

ترى العرفج العامي تذري أصوله * مناسم أخفاف المطي الرواتك

فإن تلق في تطوافنا والتماسنا * فرات بن حيان يكن رهن هالك

وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده * يزد في سواد لونه لون حالك

فأبلغ أبا سفيان عني رسالة * فإنك من غر الرجال الصعالك

قال: فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وقد أسلم فيما بعد ذلك:

أحسان إنا يا ابن آكلة الفغا * وجدَّك نغتال الخروق كذلك

خرجنا وما تنجو اليعافير بيننا * ولو وألت منا بشد مدارك

إذا ما انبعثنا من مُناخ حسبته * مد من أهل الموسم المتعارك

أقمت على الرس النزوع تريدنا * وتتركنا في النخل عند المدارك

على الزرع تمشي خيلنا وركابنا * فما وطئت ألصقنه بالدكادك

أقمنا ثلاثا بين سَلع وفارع * بجُرد الجياد والمطي الرواتك

حسبتم جلاد القوم عند فنائكم * كمأخذكم بالعين أرطال آنك

فلاتبعث الخيل الجياد وقل لها * على نحو قول المعصم المتماسك

سعدتم بها وغيركم كان أهلها * فوارس من أبناء فهر بن مالك

فإنك لا في هجرة إن ذكرتها * ولا حرمات دينها أنت ناسك

قال ابن هشام: تركنا منها أبياتا لاختلاف قوافيها، وقد ذكر موسى بن عقبة، عن الزهري وابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير:

أن رسول الله استنفر الناس لموعد أبي سفيان، وانبعث المنافقون في الناس يثبطونهم، فسلم الله أولياءه، وخرج المسلمون صحبة رسول الله إلى بدر، وأخذوا معهم بضائع وقالوا: إن وجدنا أبا سفيان وإلا اشترينا من بضائع موسم بدر.

ثم ذكر نحو سياق ابن إسحاق في خروج أبي سفيان إلى مجنة ورجوعه، وفي مقاولة الضمري، وعرض النبي المنابذة فأبى ذلك.

قال الواقدي: خرج رسول الله إليها في ألف وخمسمائة من أصحابه، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وكان خرجوه إليها في مستهل ذي القعدة يعني سنة أربع، والصحيح قول ابن إسحاق: أن ذلك في شعبان من هذه السنة الرابعة، ووافق قول موسى بن عقبة أنها في شعبان، لكن قال في سنة ثلاث وهذا وهم.

فإن هذه تواعدوا إليها من أحد، وكان أحد في شوال سنة ثلاث كما تقدم، والله أعلم.

قال الواقدي: فأقاموا ببدر مدة الموسم الذي كان يعقد فيها ثمانية أيام، فرجعوا وقد ربحوا من الدرهم درهمين، وقال غيره: فانقلبوا كما قال الله عز وجل: { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } 27.

فصل في جملة من الحوادث الواقعة سنة أربع من الهجرة

قال ابن جرير: وفي جمادى الأولى من هذه السنة مات عبد الله بن عثمان بن عفان رضي الله عنه، يعني من رقية بنت رسول الله ، وهو ابن ست سنين، فصلى عليه رسول الله ، ونزل في حفرته والده عثمان بن عفان رضي الله عنه.

قلت: وفيه توفي أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، وأمه برة بنت عبد المطلب عمة رسول الله ، وكان رضيع رسول الله ، ارتضعا من ثويبة مولاة أبي لهب، وكان إسلام أبي سلمة وأبي عبيدة وعثمان بن عفان والأرقم بن أبي الأرقم قديما في يوم واحد.

وقد هاجر هو وزوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة، ثم عاد إلى مكة وقد ولد لهما بالحبشة أولاد، ثم هاجر من مكة إلى المدينة، وتبعته أم سلمة إلى المدينة كما تقدم، وشهد بدرا وأحدا، ومات من آثار جرح جرحه بأحد رضي الله عنه وأرضاه، له حديث واحد في الاسترجاع عند المصيبة، سيأتي في سياق تزويج رسول الله بأم سلمة قريبا.

قال ابن جرير: وفي ليال خلون من شعبان منها، ولد الحسين بن علي من فاطمة بنت رسول الله ، ورضي الله عنهم.

قال: وفي شهر رمضان من هذه السنة تزوج رسول الله زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية.

وقد حكى أبو عمر ابن عبد البر، عن علي بن عبد العزيز الجرجاني أنه قال: كانت أخت ميمونة بنت الحارث. ثم استغربه وقال: لم أره لغيره. وهي التي يقال لها أم المساكين لكثرة صدقاتها عليهم، وبرها لهم وإحسانها إليهم، وأصدقها ثنتي عشرة أوقية ونشا، ودخل بها في رمضان، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها.

قال أبو عمر ابن عبد البر، عن علي بن عبد العزيز الجرجاني: ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف.

قال ابن الأثير في (أسد الغابة): وقيل كانت تحت عبد الله بن جحش، فقتل عنها يوم أحد.

قال أبو عمر: ولا خلاف أنها ماتت في حياة رسول الله ، وقيل: لم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة حتى توفيت رضي الله عنها.

وقال الواقدي: في شوال من هذه السنة تزوج رسول الله أم سلمة بنت أبي أمية.

قلت: وكانت قبله عند زوجها أبي أولادها أبي سلمة ابن عبد الأسد، وقد كان شهد أحدا كما تقدم، وجرح يوم أحد فداوى جرحه شهرا حتى برئ، ثم خرج في سرية فغنم منها نعما ومغنما جيدا، ثم أقام بعد ذلك سبعة عشر يوما، ثم انتقض عليه جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الأولى من هذه السنة.

فلما حلت في شوال خطبها رسول الله إلى نفسها بنفسه الكريمة، وبعث إليها عمر بن الخطاب في ذلك مررا، فتذكر أنها امرأة غيرى - أي: شديدة الغيرة - وأنها مصبية - أي: لها صبيان - يشغلونها عنه، ويحتاجون إلى مؤنة تحتاج معها أن تعمل لهم في قوتهم.

فقال: أما الصبية فإلى الله وإلى رسوله - أي: نفقتهم ليس إليك، وأما الغيرة فأدعو الله فيذهبها، فأذنت في ذلك وقالت لعمر آخر ما قالت له: قم فزوج النبي - تعني قد رضيت وأذنت - فتوهم بعض العلماء أنها تقول لابنها عمر بن أبي سلمة، وقد كان إذ ذاك صغيرا لا يلي مثله العقد، وقد جمعت في ذلك جزءا مفردا بينت فيه الصواب في ذلك، ولله الحمد والمنة.

وإن الذي ولي عقدها عليه ابنها سلمة بن أبي سلمة - وهو أكبر ولدها - وساغ هذا لأن أباه ابن عمها، فللابن ولاية أمه إذا كان سببا لها من غير جهة البنوة بالإجماع، وكذا إذا كان معتقا أو حاكما، فأما محض البنوة فلا يلي بها عقد النكاح عند الشافعي وحده، وخالفه الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله، ولبسط هذا موضع آخر يذكر فيه، وهو كتاب النكاح من (الأحكام الكبير) إن شاء الله.

قال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ليث - يعني ابن سعد - عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله فقال: لقد سمعت من رسول الله قولا سررت به، قال: «لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا فعل به».

قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت، وقلت: اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: من أين لي خير من أبي سلمة، فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله وأنا أدبغ إهابا لي، فغسلت يدي من القرظ وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف، فقعد عليها فخطبني إلى نفسي.

فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله ما بي أن لا تكون بك الرغبة، ولكني امرأة بي غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن، وأنا ذات عيال.

فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسيذهبها الله عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي.

فقالت: فقد سلمت لرسول الله .

فقالت أم سلمة: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه رسول الله .

وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، عن عمر بن أبي سلمة، عن أمه أم سلمة، عن أبي سلمة به.

وقال الترمذي: حسن غريب.

وفي رواية للنسائي، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه.

ورواه ابن ماجه، عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن يزيد بن هارون، عن عبد الملك بن قدامة الجمحي، عن أبيه عمر بن أبي سلمة به.

وقال ابن إسحاق: ثم انصرف رسول الله يعني من بدر الموعد راجعا إلى المدينة، فأقام بها حتى مضى ذو الحجة، وولى تلك الحجة المشركون وهي سنة أربع.

وقال الواقدي: وفي هذه السنة - يعني سنة أربع - أمر رسول الله زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود.

قلت: فثبت عنه في الصحيح أنه قال: تعلمته في خمسة عشر يوما، والله أعلم.

سنة خمس من الهجرة النبوية غزوة دومة الجندل

قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله دومة الجندل.

قال ابن هشام: في ربيع الأول يعني من سنة خمس، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري.

قال ابن إسحاق: ثم رجع إلى المدينة قبل أن يصل إليها، ولم يلق كيدا فأقام بالمدينة بقية سنته. هكذا قال ابن إسحاق.

وقد قال محمد بن عمر الواقدي بإسناده عن شيوخه، عن جماعة من السلف قالوا: أراد رسول الله أن يدنو إلى أداني الشام، وقيل له: إن ذلك مما يفزع قيصر، وذكر له أن بدومة الجندل جمعا كبيرا، وأنهم يظلمون من مر بهم، وكان لها سوق عظيم، وهم يريدون أن يدنو من المدينة.

فندب رسول الله الناس فخرج في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عذرة يقال له: مذكور، هاد خريت.

فلما دنا من دومة الجندل أخبره دليله بسوائم بني تميم، فسار حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا، فنزل رسول الله بساحتهم، فلم يجد فيها أحد، فأقام بها أياما وبث السرايا.

ثم رجعوا وأخذ محمد بن سلمة رجلا منهم، فأتي به رسول الله فسأله عن أصحابه فقال: هربوا أمس، فعرض عليه رسول الله الإسلام فأسلم، ورجع رسول الله إلى المدينة.

قال الواقدي: وكان خروجه عليه السلام إلى دومة الجندل في ربيع الآخر سنة خمس.

قال: وفيه توفيت أم سعد بن عبادة وابنها مع رسول الله في هذه الغزوة.

وقد قال أبو عيسى الترمذي في (جامعه): حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن أم سعد ماتت والنبي غائب، فلما قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر، وهذا مرسل جيد، وهو يقتضي أنه عليه السلام غاب في هذه الغزوة شهرا فما فوقه، على ما ذكره الواقدي رحمه الله.

غزوة الخندق أو الأحزاب

وقد أنزل الله تعالى فيها صدر سورة الأحزاب فقال تعالى

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّا وَلَا نَصِيرا * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ * أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرا * يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانا وَتَسْلِيما * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورا رَحِيما * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرا } 28.

وقد تكلمنا على كل من هذه الآيات الكريمات في التفسير، ولله الحمد والمنة، ولنذكر ها هنا ما يتعلق بالقصة إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، نص على ذلك ابن إسحاق، وعروة بن الزبير، وقتادة والبيهقي، وغير واحد من العلماء سلفا وخلفا.

وقد روى موسى بن عقبة، عن الزهري أنه قال: ثم كانت وقعة الأحزاب في شوال سنة أربع.

وكذلك قال الإمام مالك بن أنس، فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى بن داود عنه.

قال البيهقي: ولا اختلاف بينهم في الحقيقة لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين، وقبل استكمال خمس، ولا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد، واعدوا المسلمين إلى بدر العام المقابل، فذهب النبي وأصحابه كما تقدم في شعبان سنة أربع، ورجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام، فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتعين أن الخندق في شوال من سنة خمس، والله أعلم.

وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين، ولا خلاف أن أُحدا في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة الثانية لسنة الهجرة، ولم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الأول إلى آخرها، كما حكاه البيهقي.

وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي، وقد صرح بأن بدرا في الأولى، وأحدا في سنة ثنتين، وبدر الموعد في شعبان سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع، وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالك من ربيع الأول سنة الهجرة، فصارت الأقوال ثلاثة، والله أعلم.

والصحيح قول الجمهور أن أحدا في شوال سنة ثلاث، وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، والله أعلم.

فأما الحديث المتفق عليه في الصحيحين من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: عرضت على رسول الله يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني، فقد أجاب عنها جماعة من العلماء منهم البيهقي بأنه عرض يوم أحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الأحزاب في أواخر الخامسة عشرة.

قلت: ويحتمل أنه أراد أنه لما عرض عليه يوم الأحزاب كان قد استكمل خمس عشرة سنة التي يجاز لمثلها الغلمان، فلا يبقى على هذا زيادة عليها، ولهذا لما بلَّغ نافع عمر بن عبد العزيز هذا الحديث قال:

إن هذا الفرق بين الصغير والكبير، ثم كتب به إلى الآفاق، واعتمد على ذلك جمهور العلماء، والله أعلم.

وهذا سياق القصة مما ذكره ابن إسحاق وغيره.

قال ابن إسحاق: ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس، فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة ومن لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا، وبعضهم يحدث ما لا يحدث بعض قالوا:

إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم: سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.

فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه.

قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين أنزل الله فيهم: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا } 29

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله ، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاؤوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب النبي ، وأخبروهم أنهم يكونون معهم عليه، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك واجتمعوا معهم فيه.

فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع.

فلما سمع بهم رسول الله وما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة.

قال ابن هشام: يقال إن الذي أشار به سلمان.

قال الطبري، والسهيلي: أول من حفر الخنادق منوشهر بن أيرج بن أفريدون، وكان في زمن موسى عليه السلام.

قال ابن إسحاق: فعمل فيه رسول الله ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون، وتخلف طائفة من المنافقين يعتذرون بالضعف، ومنهم من ينسل خفية بغير إذنه ولا علمه عليه الصلاة والسلام.

وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى:

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } 30.

قال ابن إسحاق: فعمل المسلمون فيه حتى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جُعيل سماه رسول الله عمرا، فقالوا فيما يقولون:

سماه من بعد جُعَيلِ عمرا * وكان للبائس يوما ظهرا

وكانوا إذا قالوا عمرا، قال معهم رسول الله عمرا، وإذا قالوا ظهرا قال لهم ظهرا.

وقد قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن حميد سمعت أنسا قال: خرج رسول الله إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: «اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر الأنصار والمهاجره» فقالوا مجيبين له:

نحن الذين بايعوا محمدا * على الجهاد ما بقينا أبدا

وفي الصحيحين من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس نحوه.

وقد رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد، عن أنس بنحوه.

وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم ويقولون:

نحن الذين بايعوا محمدا * على الإسلام ما بقينا أبدا

قال: يقول النبي مجيبا لهم: «اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة»

قال: يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن.

وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: كنا مع رسول الله في الخندق وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله : «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار».

ورواه مسلم، عن القعنبي، عن عبد العزيز به.

وقال البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه، أو أغبر بطنه يقول:

والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا

ورفع بها صوته: أبينا أبينا.

ورواه مسلم من حديث شعبة به.

ثم قال البخاري: حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، حدثني إبراهيم بن يوسف، حدثني أبي، عن أبي إسحاق، عن البراء يحدث قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبد الله بن رواحة، وهو ينقل من التراب يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا

ثم يمد صوته بآخرها.

وقال البيهقي في (الدلائل): أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل بن الفضل البجلي، حدثنا إبراهيم بن يوسف البلخي، حدثنا المسيب بن شريك، عن زياد بن أبي زياد، عن أبي عثمان، عن سلمان: أن رسول الله ضرب في الخندق وقال:

بسم الله وبه هُدينا * ولو عبدنا غيره شقينا

يا حبذا ربا وحبَّ دينا

وهذا حديث غريب من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان، حدثنا شعبة، عن معاوية ابن قرة، عن أنس أن رسول الله قال وهم يحفرون الخندق: «اللهم لا خير إلا خير الآخرة فأصلح الأنصار والمهاجرة».

وأخرجاه في الصحيحين من حديث غندر، عن شعبة.

قال ابن إسحاق: وقد كان في حفر الخندق أحاديث بلغتني من الله فيها عبرة في تصديق رسول الله وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون.

فمن ذلك أن جابر بن عبد الله كان يحدث: أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كُدْيَة، فشكوها إلى رسول الله ، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح الماء على تلك الكدية.

فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق نبيا، لانهالت حتى عادت كالكثيب، ما ترد فأسا ولا مسحاة. هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

وقد قال البخاري - رحمه الله -: حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه قال: أتيت جابرا فقال: أنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْيًة شديدة، فجاؤوا النبي فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: «أنا نازل».

ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فأخذ النبي المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل، أو أهيم. فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت النبي شيئا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟

قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: «كم هو؟» فذكرت له، فقال: «كثير طيب، قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي».

فقال: «قوموا» فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك، جاء النبي بالمهاجرين والأنصار ومن معهم.

قالت: هل سألك؟ قلت: نعم.

فقال: «ادخلوا ولا تضاغطوا» فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز، ويغرف حتى شبعوا، وبقي بقية. قال: كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة. تفرد به البخاري.

وقد رواه الإمام أحمد عن وكيع، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه أيمن الحبشي مولى بني مخزوم، عن جابر بقصة الكدية، وربط الحجر على بطنه الكريم.

ورواه البيهقي في (الدلائل) عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر قصة الكدية والطعام، وطوله أتم من رواية البخاري قال فيه:

لما علم النبي بمقدار الطعام، قال للمسلمين جميعا: «قوموا إلى جابر» فقاموا، قال: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وقلت: جاءنا بخلق على صاع من شعير وعناق، ودخلت على امرأتي أقول: افتضحت جاءك رسول الله بالخندق أجمعين.

فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟

قلت: نعم.

فقالت: الله ورسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا.

قال: فكشفت عني غما شديدا.

قال: فدخل رسول الله فقال: «خدمي ودعيني من اللحم» وجعل رسول الله يثرد، ويغرف اللحم، ويخمر هذا، ويخمر هذا، فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين، ويعود التنور والقدر أملأ ما كانا.

ثم قال رسول الله : «كلي وأهدي» فلم تزل تأكل وتهدي يومها.

وقد رواه كذلك أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر به، وأبسط أيضا.

وقال في آخره: وأخبرني أنهم كانوا ثمانمائة، أو قال ثلثمائة.

وقال يونس بن بكير: عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر فذكر القصة بطولها في الطعام فقط، وقال: وكانوا ثلثمائة.

ثم قال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن أبي الزبير، حدثنا ابن ميناء، سمعت جابر بن عبد الله قال: لما حفر الخندق رأيت من النبي خمصا، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله خمصا شديدا.

فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها فطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله فقالت: لا تفضحني برسول الله وبمن معه.

فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحت بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاح رسول الله فقال: «يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع سؤرا فحيهلا بكم».

فقال رسول الله : «لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء» فجئت، وجاء رسول الله يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت، فأخرجت لنا عجينا فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق وبارك.

ثم قال: «ادع خبازة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك، ولا تنزلوها» وهم ألف، فأُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا كما هو.

ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن أبي عاصم به نحوه.

وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث، وفي سياقه غرابة من بعض الوجوه فقال:

حدثني سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال: عملنا مع رسول الله في الخندق، وكانت عندي شويهة غير جد سمينة قال: فقلت والله لو صنعناها لرسول الله قال: وأمرت امرأتي، فطحنت لنا شيئا من شعير، فصنعت لنا منه خبزا، وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله .

فلما أمسينا وأراد رسول الله الانصراف عن الخندق، قال وكنا نعمل فيه نهارا، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا فقلت: يا رسول الله إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير، فأنا أحب أن تنصرف معي إلى منزلي.

قال: وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله وحده.

قال: فلما أن قلت ذلك، قال: «نعم» ثم أمر صارخا فصرخ، أن انصرفوا مع رسول الله إلى بيت جابر بن عبد الله.

قال: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.

قال: فأقبل رسول الله ، وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، قال: فبرك وسمى الله تعالى، ثم أكل، وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا، وجاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها.

والعجب أن الإمام أحمد إنما رواه من طريق سعيد بن ميناء، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق عنه، عن جابر مثله سواء.

قال محمد بن إسحاق: وحدثني سعيد بن ميناء أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما.

قالت: فأخذتها وانطلقت بها فمررت برسول الله ، وأنا ألتمس أبي وخالي فقال: «تعالي يا بنية ما هذا معك؟»

قالت: قلت يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه.

فقال: «هاتيه».

قالت: فصببته في كفي رسول الله ، فما ملأتهما. ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب.

ثم قال لإنسان عنده: «اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء» فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.

هكذا رواه ابن إسحاق وفيه انقطاع.

وهكذا رواه الحافظ البيهقي من طريقه، ولم يزد.

قال ابن إسحاق: وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى.

قال: ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت، لمع تحت المعول وأنت تضرب؟

قال: «أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟» قال: قلت: نعم.

قال: «أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق».

قال البيهقي: وهذا الذي ذكره ابن إسحاق قد ذكره موسى بن عقبة في (مغازيه).

وذكره أبو الأسود عن عروة.

ثم روى البيهقي من طريق محمد بن يونس الكديمي، وفي حديثه نظر.

لكن رواه ابن جرير في (تاريخه) عن محمد بن بشار وبندار، كلاهما عن محمد بن خالد بن عثمة، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، فذكر حديثا فيه أن رسول الله خطَّ الخندق بين كل عشرة أربعين ذراعا.

قال: واحتق المهاجرون والأنصار في سلمان، فقال رسول الله : «سلمان منا أهل البيت».

قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان، وحذيفة، والنعمان بن مقرن، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا بلغنا الندى، ظهرت لنا صخرة بيضاء مروة، فكسرت حديدنا، وشقت علينا.

فذهب سلمان إلى رسول الله وهو في قبة تركية، فأخبره عنها، فجاء فأخذ المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربة فصدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعني المدينة - حتى كأنها مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله تكبير فتح، وكبر المسلمون.

ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، وذكر ذلك سلمان والمسلمون لرسول الله ، وسألوه عن ذلك النور، فقال:

«لقد أضاء لي من الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثالثة أضاءت قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا» واستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعود صادق.

قال: ولما طلعت الأحزاب قال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما، وقال المنافقون: يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل فيهم: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورا } 31 وهذا حديث غريب.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هارون بن ملول، حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو قال: لما أمر رسول الله بالخندق، فخندق على المدينة قالوا: يا رسول الله إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها.

فقام النبي وقمنا معه، فلما أتاها أخذ المعول فضرب أخرى فكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال: «فتحت فارس» ثم ضرب أخرى فكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال «فتحت الروم» ثم ضرب أخرى فكبر.

فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال: «جاء الله بحمير أعوانا وأنصارا» وهذا أيضا غريب من هذا الوجه، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي فيه ضعف، فالله أعلم.

وقال الطبراني أيضا: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا أبو نميلة، حدثنا نعيم بن سعيد الغري أن عكرمة حدث عن ابن عباس قال: احتفر رسول الله الخندق، وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع.

فلما رأى ذلك رسول الله قال: «هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة؟»

قال رجل: نعم.

قال: «أما لا، فتقدم فدلنا عليه» فانطلقوا إلى بيت الرجل فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه منه، فأرسلت امرأته أن جئ، فإن رسول الله قد أتانا.

فجاء الرجل يسعى وقال: بأبي وأمي، وله معزة ومعها جديها، فوثب إليها فقال النبي : «الجدي من ورائها» فذبح الجدي، وعمدت المرأة إلى طحينة لها فعجنتها وخبزت، فأدركت القدر، فثردت قصعتها فقربتها إلى رسول الله وأصحابه.

فوضع رسول الله إصبعه فيها وقال: «بسم الله اللهم بارك فيها أطعموا» فأكلوا منها حتى صدروا، ولم يأكلوا منها إلا ثلثها وبقي ثلثاها، فسرح أولئك العشرة الذين كانوا معه أن اذهبوا وسرحوا إلينا بعدتكم، فذهبوا فجاء أولئك العشرة، فأكلوا منها حتى شبعوا، ثم قام ودعا لربة البيت، وسمت عليها، وعلى أهل بيتها.

ثم مشوا إلى الخندق فقال: «اذهبوا بنا إلى سلمان» وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال رسول الله : «دعوني فأكون أول من ضربها» فقال: «بسم الله» فضربها، فوقعت فلقة ثلثها، فقال: «الله أكبر قصور الشام ورب الكعبة».

ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال: «الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة» فقال عندها المنافقون: نحن نخندق على أنفسنا، وهو يعدنا قصور فارس والروم.

ثم قال الحافظ البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا محمد بن غالب بن حرب، حدثنا هوذة، حدثنا عوف، عن ميمون بن أستاذ الزهري، حدثني البراء بن عازب الأنصاري قال:

لما كان حين أمرنا رسول الله بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة، لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إلى رسول الله ، فلما رآها أخذ المعول وقال: «بسم الله» وضرب ضربة فكسر ثلثها.

وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله» ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض».

ثم ضرب الثالثة فقال: «بسم الله» فقطع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة» وهذا حديث غريب أيضا، تفرد به ميمون بن أستاذ هذا، وهو بصري روى عن البراء، وعبد الله بن عمرو وعنه حميد الطويل، والجريري، وعوف الأعرابي.

قال أبو حاتم، عن إسحاق بن منصور، عن ابن معين: كان ثقة.

وقال علي بن المديني: كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه.

وقال النسائي: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ضمرة، عن أبي زرعة السيباني، عن أبي سكينة - رجل من البحرين - عن رجل من أصحاب النبي قال: لما أمر رسول الله بحفر الخندق، عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر.

فقام النبي وأخذ المعول، ووضع رداءه ناحية الخندق، وقال: { وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله برقة.

ثم ضرب الثانية وقال: { وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلمات الله وهو السميع العليم } فندر الثلث الآخر وبرقت برقة، فرآها سلمان.

ثم ضرب الثالثة وقال: { وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } فندر الثلث الباقي.

وخرج رسول الله فأخذ رداءه وجلس، فقال سلمان: يا رسول الله رأيتك حين ضربت لا تضرب إلا كانت معها برقة، قال رسول الله : «يا سلمان رأيت ذلك؟» قال: أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله.

قال: «فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها، ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني».

فقال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله ادع أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم. فدعا بذلك.

قال: «ثم ضربت الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها، حتى رأيتها بعيني» قالوا: يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم، فدعا.

ثم قال: «ثم ضربت الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى، حتى رأيتها بعيني».

ثم قال رسول الله : «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك وما تركوكم هكذا» رواه النسائي مطولا وإنما روى منه أبو داود «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم» عن عيسى بن محمد الرملي، عن ضمرة بن ربيعة، عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني به.

ثم قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر، وزمان عثمان، وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة، ولا تفتحونها إلى يوم القيامة، إلا وقد أعطى الله محمدا مفاتيحها قبل ذلك.

وهذا من هذا الوجه منقطع أيضا، وقد وصل من غير وجه ولله الحمد.

فقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: «بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي».

وقد رواه البخاري منفردا به عن يحيى بن بكير، وسعد بن عفير، كلاهما عن الليث به. وعنده قال أبو هريرة: فذهب رسول الله وأنتم تنتثلونها.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي» وهذا إسناد جيد قوي على شرط مسلم، ولم يخرجوه.

وفي الصحيحين: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله».

وفي الحديث الصحيح: «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها».

فصل نزول قريش بمجتمع الأسيال يوم الخندق

قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجرف وزغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمى، إلى جانب أحد.

وخرج رسول الله والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء، فجعلوا فوق الأطام.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم.

قلت: وهذا معنى قوله تعالى: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } 32.

قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قوله تعالى: { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار } قالت: ذلك يوم الخندق.

قال موسى بن عقبة: ولما نزل الأحزاب حول المدينة أغلق بنو قريظة حصنهم دونهم.

قال ابن إسحاق: وخرج حيي بن أخطب النضري، حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقدهم وعهدهم، فلما سمع به كعب أغلق باب حصنه دون حيي، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه: ويحك يا كعب افتح لي.

قال: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا.

قال: ويحك افتح لي أكلمك.

قال: ما أنا بفاعل، قال: والله إن أغلقت دوني إلا خوفا على جشيشتك أن آكل معك منها، فاحفظ الرجل، ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام.

قال: وما ذاك؟

قال: جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة وبغطفان، على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى، إلى جانب أحد، وقد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه.

فقال كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه، يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي! فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا وفاءً وصدقا.

وقد تكلم عمر بن سعد القرظي فأحسن فيما ذكره موسى بن عقبة: ذكرهم ميثاق رسول الله وعهده ومعاقدتهم إياه على نصره وقال: إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوه.

قال ابن إسحاق: فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب، حتى سمع له - يعني في نقض عهد رسول الله وفي محاربته مع الأحزاب - على أن أعطاه حيي عهد الله وميثاقه لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد العهد، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله .

قال موسى بن عقبة: وأمر كعب بن أسد بنو قريظة حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش وغطفان رهائن، تكون عندهم لئلا ينالهم ضيم إن هم رجعوا ولم يناجزوا محمدا، قالوا: وتكون الرهائن تسعين رجلا من أشرافهم، فنازلهم حيي على ذلك، فعند ذلك نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد إلا بني سعنة أسد وأسيد وثعلبة، فإنهم خرجوا إلى رسول الله .

قال ابن إسحاق: فلما انتهى الخبر إلى رسول الله وإلى المسلمين، بعث سعد بن معاذ وهو يومئذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة وهو يومئذ سيد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير.

قال: «انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحقٌ ما بلغنا عنهم، فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس».

قال: فخرجوا حتى أتوهم.

قال موسى بن عقبة: فدخلوا معهم حصنهم، فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف، فقالوا: الآن وقد كسر جناحنا وأخرجهم يريدون بني النضير، ونالوا من رسول الله ، فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم، فأغضبوه فقال له سعد بن معاذ: إنا والله ما جئنا لهذا، ولما بيننا أكبر من المشاتمة.

ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال: إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة، وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير، أو أمر منه.

فقالوا: أكلت أير أبيك.

فقال: غير هذا من القول كان أجمل بكم وأحسن.

وقال ابن إسحاق: نالوا من رسول الله وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد.

فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان رجلا فيه حدة فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم لما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله فسلموا عليه، ثم قالوا: عضل والقارة أي: كغدرهم بأصحاب الرجيع: خبيب وأصحابه.

فقال رسول الله : «الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين».

قال موسى بن عقبة: ثم تقنع رسول الله بثوبه حين جاءه الخبر عن بني قريظة، فاضطجع ومكث طويلا، فاشتد على الناس البلاء والخوف حين رأوه اضطجع، وعرفوا أنه لم يأته عن بني قريظة خير، ثم إنه رفع رأسه وقال: «أبشروا بفتح الله ونصره».

فلما أن أصبحوا، دنا القوم بعضهم من بعض، وكان بينهم رمي بالنبل والحجارة.

قال سعيد بن المسيب: قال رسول الله : «اللهم إني أسألك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد».

قال ابن إسحاق: وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير - أخو بني عمرو بن عوف -: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.

وحتى قال أوس بن قيظي: يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك عن ملأ من رجال قومه، فأذن لنا أن نرجع إلى دارنا فإنها خارج من المدينة.

قلت: هؤلاء وأمثالهم المرادون بقوله تعالى: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارا } 33.

قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله مرابطا، وأقام المشركون يحاصرونه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بينهم حرب إلا الرميا بالنبل، فلما اشتد على الناس البلاء، بعث رسول الله كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ومن لا أتهم عن الزهري إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه.

فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة، فلما أراد رسول الله أن يفعل ذلك، بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به ولا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟

فقال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما»

فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.

فقال النبي : «أنت وذاك» فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا عليها.

قال: فأقام النبي وأصحابه محاصرين، ولم يكن بينهم وبين عدوهم قتال، إلا أن فوارس من قريش - منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أحد بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهر المخزوميان، وضرار بن الخطاب بن مرداس، أحد بني محارب بن فهر - تلبسوا للقتال.

ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع.

وخرج علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين، حتى أخذوا عليه الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما خرج هو وخيله قال: من يبارز؟

فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: يا عمرو إنك كنت هاعدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه.

قال: أجل.

قال له علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام.

قال: لا حاجة لي بذلك.

قال: فإني أدعوك إلى النزال.

قال له: لمَ يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك.

قال له علي: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه، فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه وخرجت خيلهم منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة.

قال ابن إسحاق: وقال علي بن أبي طالب في ذلك:

نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصواب

فصدرت حين تركته متجدلا * كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو أنني * كنت المقطر بزَّنى أثوابي

لا تحسبن الله خاذل دينه * ونبيه يا معشر الأحزاب

قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر يشك فيها لعلي.

قال ابن هشام: وألقى عكرمة رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو، فقال في ذلك حسان بن ثابت:

فر وألقى لنا رمحه * لعلك عكرم لم تفعل

ووليت تعدو كعدو الظليـ * ـم ما إن يحور عن المعدل

ولم تلو ظهرك مستأنسا * كأن قفاك قفا فرعل

قال ابن هشام: الفراعل صغار الضباع.

وذكر الحافظ البيهقي في (دلائل النبوة): عن ابن إسحاق في موضع آخر من السيرة قال: خرج عمرو بن عبد ود وهو مقنع بالحديد، فنادى من يبارز؟

فقام علي بن أبي طالب فقال: أنا لها يا نبي الله.

فقال: «إنه عمرو اجلس».

ثم نادى عمرو: ألا رجل يبرز؟

فجعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها، أفلا تبرزون إلي رجلا؟

فقام علي فقال: أنا يا رسول الله؟

فقال: «اجلس».

ثم نادى الثالثة فقال:

ولقد بححت من النداء * لجمعهم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجع * موقف القرن المناجز

ولذاك إني لم أزل * متسرعا قبل الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى * والجود من خير الغرائز

قال: فقام علي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أنا.

فقال: «إنه عمرو».

فقال: وإن كان عمرا. فأذن له رسول الله فمشى إليه حتى أتى وهو يقول:

لا تعجلن فقد أتاك * مجيب صوتك غير عاجز

في نية وبصيرة * والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقي * م عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء * يبقى ذكرها عند الهزاهز

فقال له عمرو: من أنت؟

قال: أنا علي.

قال: ابن عبد مناف؟

قال: أنا علي بن أبي طالب.

فقال: يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهريق دمك؟

فقال له علي: لكني والله لا أكره أن أهريق دمك، فغضب فنزل وسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضبا واستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو في درقته فقدها، وأثبت فيها السيف، وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله التكبير، فعرفنا أن عليا قد قتله، فثم يقول علي:

أعلي تقتحم الفوارس هكذا * عني وعنهم أخروا أصحابي

اليوم يمنعني الفرار حفيظتي * ومصمم في الرأس ليس بنابي

إلى أن قال:

عبد الحجارة من سفاهة رأيه * وعبدت رب محمد بصواب

إلى آخرها.

قال: ثم أقبل علي نحو رسول الله ووجهه يتهلل فقال له عمر بن الخطاب: هلا استلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منها؟ فقال: ضربته فاتقاني بسوءته، فاستحييت ابن عمي أن أسلبه.

قال: وخرجت خيوله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق.

وذكر ابن إسحاق فيما حكاه، عن البيهقي: أن عليا طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه، فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال: «هو لكم لا نأكل ثمن الموتى».

وقال الإمام أحمد: حدثنا نصر بن باب، حدثنا حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال: قتل المسلمون يوم الخندق رجلا من المشركين، فأعطوا بجيفته مالا، فقال رسول الله : «ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية» فلم يقبل منهم شيئا.

وقد رواه البيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن حجاج وهو ابن أرطأة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن رجلا من المشركين قتل يوم الأحزاب، فبعثوا إلى رسول الله : أن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم اثني عشر ألفا، فقال رسول الله : «لا خير في جسده ولا في ثمنه».

وقد رواه الترمذي، من حديث سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وقال غريب.

وقد ذكر موسى بن عقبة: أن المشركين إنما بعثوا يطلبون جسد نوفل بن عبد الله المخزومي حين قتل، وعرضوا عليه الدية، فقال: «إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، فلا أرب لنا في ديته، ولسنا نمنعكم أن تدفنوه».

وذكر يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: وخرج نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، فسأل المبارزة فخرج إليه الزبير بن العوام، فضربه فشقه باثنتين حتى فلَّ في سيفه فلا، وانصرف وهو يقول:

إني امرؤ أحمي وأحتمي * عن النبي المصطفى الأمي

وقد ذكر ابن جرير: أن نوفلا لما تورط في الخندق رماه الناس بالحجارة، فجعل يقول قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب، فنزل إليه علي فقتله وطلب المشركون رمته من رسول الله بالثمن، فأبى عليهم أن يأخذ منهم شيئا، ومكنهم من أخذه إليهم.

وهذا غريب من وجهين.

وقد روى البيهقي: من طريق حماد بن يزيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: جعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان في الأطم، ومعي عمر بن أبي سلمة، فجعل يطأطئ لي، فأصعد على ظهره فأنظر إليهم كيف يقتتلون، وأطأطئ له فيصعد فوق ظهري فينظر.

قال: فنظرت إلى أبي وهو يحمل مرة ها هنا ومرة ها هنا، فما يرتفع له شيء إلا أتاه، فلما أمسى جاءنا إلى الأطم.

قلت: يا أبة رأيتك اليوم وما تصنع.

قال: ورأيتني يا بني؟

قلت: نعم.

قال: فدى لك أبي وأمي.

قال ابن إسحاق: وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، أخو بني حارثة: أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة.

قال: وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن.

قالت عائشة: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب. قالت: فمر سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربته يرفل بها ويقول:

لبّثْ قليلا يشهد الهيجا جمَل * لا بأس بالموت إذا حان الأجل

فقالت له أمه: الحق بني فقد والله أخرت.

قالت عائشة: فقلت لها يا أم سعد، والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي.

قالت: وخفت عليه، حيث أصاب السهم منه، فرُمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل.

قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: رماه حيان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي، فلما أصابه قال: خذها مني وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.

قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك أنه كان يقول: ما أصاب سعدا يومئذ إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم.

وقد قال أبو أسامة في ذلك شعرا قاله لعكرمة بن أبي جهل:

أعكرم هلاّ لمتني إذ تقول لي * فداك بآطام المدينة خالدَ

ألست الذي ألزمت سعدا مريشة * لها بين أثناء المرافق عاند

قضى نحبه منها سعيد فأعولت * عليه مع الشمط العذارى النواهد

وأنت الذي دافعت عنه وقد دعا * عبيدة جمعا منهم إذ يكابد

على حين ما هم جائر عن طريقه * وآخر مرعوبٌ عن القصد قاصد

قال ابن إسحاق: والله أعلم أي ذلك كان.

قال ابن هشام: ويقال إن الذي رمى سعدا خفاجة بن عاصم بن حبان.

قلت: وقد استجاب الله دعوة وليه سعد بن معاذ في بني قريظة، أقر الله عينه فحكم فيهم بقدرته وتيسيره، وجعلهم هم الذين يطلبون ذلك كما سيأتي بيانه، فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، حتى قال له رسول الله : لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع، حصن حسان بن ثابت، قالت: وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان، فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إذ أتانا آت.

فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما أمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل رسول الله وأصحابه فانزل إليه فاقتله.

قال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.

قالت: فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت، ثم أخذت عمودا، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل فاستلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل.

قال: مالي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب.

قال موسى بن عقبة: وأحاط المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم، فحاصروهم قريبا من عشرين ليلة، وأخذوا بكل ناحية حتى لا يدرى أتم أم لا.

قال: ووجهوا نحو منزل رسول الله كتيبة غليظة، فقاتلوهم يوما إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة، فلم يقدر النبي ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا، فانكفأت الكتيبة مع الليل، فزعموا أن رسول الله قال: «شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقلوبهم» وفي رواية «وقبورهم نارا».

فلما اشتد البلاء نافق ناس كثير، وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله ما بالناس من البلاء والكرب، جعل يبشرهم ويقول: «والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق أمنا، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله».

وقد قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا روح، حدثنا هشام، عن محمد، عن عبيدة، عن علي، عن النبي أنه قال يوم الخندق: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس».

وهكذا رواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي به.

ورواه مسلم والترمذي، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن عبيدة، عن علي به. وقال الترمذي: حسن صحيح.

ثم قال البخاري: حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب.

قال النبي : «والله ما صليتها» فنزلنا مع رسول الله بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.

وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم، والترمذي، والنسائي من طرق، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت، حدثنا هلال، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قاتل النبي عدوا، فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها، فلما رأى ذلك قال: «اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى فاملأ بيوتهم نارا، واملأ قبورهم نارا» ونحو ذلك تفرد به أحمد، وهو من رواية هلال بن خباب العبدي الكوفي، وهو ثقة يصحح له الترمذي وغيره.

وقد استدل طائفة من العلماء بهذه الأحاديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، كما هو منصوص عليه في هذه الأحاديث، وألزم القاضي الماوردي مذهب الشافعي بهذا لصحة الحديث.

وقد حررنا ذلك نقلا واستدلالا عند قوله تعالى: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } خطأ استشهاد: إغلاق </ref> مفقود لوسم <ref>.

قال: فدعا رسول الله بلالا فأمره، فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك، وذلك قبل أن ينزل.

قال حجاج في صلاة الخوف: { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانا } 34.

وقد رواه النسائي عن الفلاس، عن يحيى القطان، عن ابن أبي ذئب به.

قال: شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس فذكره.

وقال أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا أبو الزبير، عن نافع بن جبير، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه: أن المشركين شغلوا رسول الله يوم الخندق عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء الله.

قال: فأمر بلالا فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا مؤمل - يعني ابن إسماعيل- حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن عبد الكريم - يعني ابن أبي المخارق- عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله:

أن النبي شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى الظهر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العشاء، ثم قال: «ما على وجه الأرض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم».

تفرد به البزار وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقد رواه بعضهم، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن أبي عبيدة، عن عبد الله.

فصل في دعائه عليه السلام على الأحزاب

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا الزبير - يعني ابن عبد الله - حدثنا ربيح بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟

قال: «نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا».

قال: فضرب الله وجوه أعدائه بالريح.

وقد رواه ابن أبي حاتم في (تفسيره) عن أبيه، عن أبي عامر - وهو العقدي - عن الزبير بن عبد الله مولى عثمان بن عفان، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه عن أبي سعيد، فذكره وهذا هو الصواب.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين، عن ابن أبي ذئب، عن رجل من بني سلمة، عن جابر بن عبد الله: أن النبي أتى مسجد الأحزاب فوضع رداءه، وقام ورفع يديه مدا يدعو عليهم ولم يصل.

قال: ثم جاء ودعا عليهم وصلى.

وثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» وفي الرواية: «اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم».

وروى البخاري، عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله كان يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده».

وقال ابن إسحاق: وأقام رسول الله وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم.

قال: ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان أتى رسول الله فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت.

فقال رسول الله : «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم.

قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم.

فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها.

وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه.

قالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب، ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني.

قالوا: نفعل.

قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم؟

فأرسل إليهم: أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا، ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني.

قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.

قال: فاكتموا عني.

قالوا: نفعل، ثم قال لهم ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم.

فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنيع الله تعالى لرسوله أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان، إلى بني قريظة: عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان.

فقال لهم: إنا لسنا بدار مقام، هلك الخف والحافر، فأعدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه.

فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابهم ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك منه.

فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا ولله لا ندفع إليكم رجلا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.

فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم.

فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله ما نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم، وبعث الله الريح في ليلة شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم.

وهذا الذي ذكره ابن إسحاق من قصة نعيم بن مسعود أحسن مما ذكره موسى بن عقبة.

وقد أورده عنه البيهقي في (الدلائل) فإنه ذكر ما حاصله: أن نعيم بن مسعود كان يذيع ما يسمعه من الحديث، فاتفق أنه مر برسول الله ذات يوم عشاء، فأشار إليه أن تعال، فجاء فقال: «ما وراءك؟».

فقال: إنه قد بعثت قريش وغطفان إلى بني قريظة يطلبون منهم أن يخرجوا إليهم فيناجزوك، فقالت قريظة: نعم، فأرسلوا إلينا بالرهن، وقد ذكر فيما تقدم: أنهم إنما نقضوا العهد على يدي حيي بن أخطب، بشرط أن يأتيهم برهائن تكون عندهم توثقة.

قال: فقال له رسول الله : «إني مسر إليك شيئا فلا تذكره» قال: «إنهم قد أرسلوا إلي يدعونني إلى الصلح، وأرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم».

فخرج نعيم بن مسعود عامدا إلى غطفان، وقال رسول الله : «الحرب خدعة، وعسى أن يصنع الله لنا».

فأتى نعيم غطفان وقريشا فأعلمهم، فبادر القوم وأرسلوا إلى بني قريظة عكرمة وجماعة معه، واتفق ذلك ليلة السبت، يطلبون منهم أن يخرجوا للقتال معهم، فاعتلت اليهود بالسبت، ثم أيضا طلبوا الرهن توثقة، فأوقع الله بينهم واختلفوا.

قلت: وقد يحتمل أن تكون قريظة لما يئسوا من انتظام أمرهم مع قريش وغطفان، بعثوا إلى رسول الله يريدون منه الصلح على أن يرد بني النضير إلى المدينة، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: فلما انتهى إلى رسول الله ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جمعهم، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا.

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله أرأيتم رسول الله وصحبتموه؟

قال: نعم يا ابن أخي.

قال: فكيف كنتم تصنعون؟

قال: والله لقد كنا نجتهد.

قال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.

قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله بالخندق، وصلى رسول الله هويا من الليل، ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقول فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع - فشرط له رسول الله الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة؟

فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد، فلما لم يقم أحد دعاني، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال: «يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا».

قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه؟

قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت؟

قال: فلان ابن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل.

ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله إلي لا تحدث شيئا حتى تأتيني لقتلته بسهم.

قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل، فلما رآني أدخلني إلى رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم، وهذا منقطع من هذا الوجه.

وقد روى هذا الحديث مسلم بن الحجاج في صحيحه: من حديث الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال له رجل: لو أدركت رسول الله قاتلت معه وأبليت، فقال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟

لقد رأيتنا مع رسول الله ليلة الأحزاب، في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله : «ألا رجل يأتيني بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة؟» فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله.

ثم قال: «يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم» فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال: «اذهب ائتني بخبر القوم، ولا تذعرهم عليَّ».

قال: فمضيت، كأنما أمشي في حمام، حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد قوسي وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله : «لا تذعرهم علي» ولو رميته لأصبته.

فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت رسول الله ، فأصابني برد حين رجعت وقررت، فأخبرت رسول الله ، وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أبرح نائما حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله : «قم يا نومان».

وقد روى الحاكم والحافظ البيهقي في (الدلائل) هذا الحديث مبسوطا من حديث عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، قال: ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا.

فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحا منها في أصوات ريحها، أمثال الصواعق وهي ظلمة، ما يرى أحدنا أصبعه.

فجعل المنافقون يستأذنون النبي ويقولون: إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم ويتسللون، ونحن ثلاثمائة ونحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله رجلا رجلا.

حتى أتى عليَّ وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي، ما يجاوز ركبتي، قال: فأتاني وأنا جاث على ركبتي، فقال: «من هذا؟» فقلت: حذيفة، فقال: «حذيفة!» فتقاصرت للأرض، فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم، فقمت فقال: «إنه كائن في القوم خبر، فأتني بخبر القوم» قال: وأنا من أشد الناس فزعا، وأشدهم قرا.

قال: فخرجت، فقال رسول الله : «اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته».

قال: فوالله ما خلق الله فزعا، ولا قرا في جوفي، إلا خرج من جوفي فما أجد فيه شيئا.

قال: فلما وليت، قال: «يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني».

قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم، نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم، يقول بيديه على النار، ويمسح خاصرته، ويقول: الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك.

فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله : «لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني» فأمسكت، ورددت سهمي إلى كنانتي.

ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل، لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضرب بها.

ثم إني خرجت نحو رسول الله ، فلما انتصفت بي الطريق أو نحو من ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاه.

قال: فرجعت إلى رسول الله وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول الله بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل علي شملته، وكان رسول الله إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم، أخبرته أني تركتهم يرحلون.

قال: وأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا } 35 يعني الآيات كلها، إلى قوله: { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا } 36.

أي: صرف الله عنهم عدوهم، بالريح التي أرسلها عليهم والجنود من الملائكة وغيرهم، التي بعثها الله إليهم، وكفى الله المؤمنين القتال أي: لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم، بل صرفهم القوي العزيز بحوله وقوته.

لهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: كان رسول الله يقول: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده».

وفي قوله: { وكفى الله المؤمنين القتال } إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبينهم، وهكذا وقع ولم ترجع قريش بعدها إلى حرب المسلمين، كما قال محمد بن إسحاق رحمه الله.

فلما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله فيما بلغنا: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم، ولكنكم تغزونهم» قال: فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة، وهذا بلاغ من ابن إسحاق.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق، سمعت سليمان بن صرد رضي الله عنه يقول: قال رسول الله : «الآن نغزوهم ولا يغزوننا».

وهكذا رواه البخاري من حديث إسرائيل، وسفيان الثوري، كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي، عن سليمان بن صرد به.

قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم الخندق ثلاثة من بني عبد الأشهل، وهم: سعد بن معاذ - وستأتي وفاته مبسوطة - وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة الجشميان السلميان، وكعب بن زيد النجاري، أصابه سهم غرب فقتله.

قال: وقُتل من المشركين ثلاثة وهم: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، اقتحم الخندق بفرسه فتورط فيه فقتل هناك، وطلبوا جسده بثمن كبير كما تقدم، وعمرو بن عبد ود العامري، قتله علي بن أبي طالب.

قال ابن هشام: وحدثني الثقة أنه حدث عن الزهري أنه قال: قتل علي يومئذ عمرو بن عبد ود، وابنه حسل بن عمرو.

قال ابن هشام: ويقال عمرو بن عبد ود، ويقال عمرو بن عبد.

فصل في غزوة بني قريظة

وما أحل الله تعالى بهم من البأس الشديد، مع ما أعد الله لهم في الآخرة من العذاب الأليم، وذلك لكفرهم ونقضهم العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله ، وممالأتهم الأحزاب عليه، فما أجدى ذلك عنهم شيئا، وباؤا بغضب من الله ورسوله، والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة.

وقد قال الله تعالى: { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرا } 37.

قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا عبد الله، حدثنا موسى بن عقبة، عن سالم ونافع عن عبد الله أن رسول الله كان إذا قفل من الغزو والحج والعمرة، يبدأ فيكبر ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».

قال محمد بن إسحاق رحمه الله: ولما أصبح رسول الله انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة و المسلمون، ووضعوا السلاح، فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله ، كما حدثني الزهري معتجرا بعمامة من استبرق، على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟

قال: «نعم» فقال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم.

فأمر رسول الله مؤذنا فأذن في الناس: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة».

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

وقال البخاري: حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما رجع النبي من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل، أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح والله ما وضعناه! فاخرج إليهم.

قال: «فإلى أين؟» قال: ها هنا، وأشار إلى بني قريظة. فخرج النبي .

وقال أحمد: وحدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله لما فرغ من الأحزاب دخل المغتسل ليغتسل، وجاء جبريل فرأيته من خلل البيت قد عصب رأسه الغبار، فقال: يا محمد أوضعتم أسلحتكم؟

فقال: «وضعنا أسلحتنا» فقال: إنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهد إلى بني قريظة.

ثم قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جرير بن حازم، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل، حين سار رسول الله إلى بني قريظة.

ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله يوم الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي العصر حتى نأتيها.

وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي فلم يعنف واحدا منهم.

وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد بن أسماء به.

وقال الحافظ البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن خالد بن علي، حدثنا بشر بن حرب، عن أبيه، حدثنا الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عمه عبيد الله أخبره:

أن رسول الله لما رجع من طلب الأحزاب، وضع عنه اللأمة واغتسل واستحم، فتبدى له جبريل عليه السلام فقال: عذيرك من محارب إلا أراك قد وضعت اللأمة، وما وضعناها بعد.

قال: فوثب النبي فزعا، فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر إلا في بني قريظة، قال: فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروب الشمس.

فقال بعضهم: إن رسول الله عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله ، فليس علينا إثم. وصلى طائفة من الناس احتسابا، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس، فصلوها حين جاؤوا بني قريظة احتسابا فلم يعنف رسول الله واحدا من الفريقين.

ثم روى البيهقي من طريق عبد الله العمري، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله كان عندها فسلم علينا رجل ونحن في البيت، فقام رسول الله فزعا، وقمت في أثره فإذا بدحية الكلبي.

فقال: «هذا جبريل أمرني أن أذهب إلى بني قريظة» وقال: «قد وضعتم السلاح، لكنا لم نضع، طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد» وذلك حين رجع رسول الله من الخندق.

فقام رسول الله فزعا، وقال لأصحابه: «عزمت عليكم أن لا تصلوا صلاة العصر حتى تأتوا بني قريظة» فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقالت طائفة من المسلمين:

إن رسول الله لم يرد أن تدعوا الصلاة فصلوا، وقالت طائفة: والله إنا لفي عزيمة رسول الله وما علينا من إثم، فصلت طائفة إيمانا واحتسابا، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا، ولم يعنف رسول الله واحدا من الفريقين.

وخرج رسول الله فمر بمجالس بينه وبين بني قريظة، فقال: «هل مر بكم أحد؟» فقالوا: مر علينا دحية الكلبي، على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج، فقال: «ذلك جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم، ويقذف في قلوبهم الرعب».

فحاصرهم النبي ، وأمر أصحابه أن يستروه بالجحف حتى يسمع كلامهم فناداهم: يا إخوة القردة والخنازير.

فقالوا: يا أبا القاسم لم تكن فحاشا، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ.

وكانوا حلفاءه فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم.

ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها.

وقد اختلف العلماء في المصيب من الصحابة يومئذ من هو؟ بل الإجماع على أن كلا من الفريقين مأجور ومعذور غير معنف، فقالت طائفة من العلماء: الذين أخروا الصلاة يومئذ عن وقتها المقدر لها حتى صلوها في بني قريظة هم المصيبون، لأن أمرهم يومئذ تأخير الصلاة خاص فيقدم على عموم الأمر بها في وقتها المقدر لها شرعا.

قال أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب (السيرة): وعلم الله أنا لو كنا هناك، لم نصل العصر إلا في بني قريظة، ولو بعد أيام.

وهذا القول منه ماش على قاعدته الأصلية في الأخذ بالظاهر.

وقالت طائفة أخرى من العلماء: بل الذين صلوا الصلاة في وقتها، لما أدركتهم وهم في مسيرهم هم المصيبون، لأنهم فهموا أن المراد إنما هو تعجيل السير إلى بني قريظة، لا تأخير الصلاة، فعملوا بمقتضى الأدلة الدالة على أفضلية الصلاة في أول وقتها، مع فهمهم عن الشارع ما أراد، ولهذا لم يعنفهم، ولم يأمرهم بإعادة الصلاة في وقتها التي حولت إليه يومئذ كما يدعيه أولئك.

وأما أولئك الذين أخروا فعذروا بحسب ما فهموا، وأكثر ما كانوا يؤمرون بالقضاء، وقد فعلوه.

وأما على قول من يجوز تأخير الصلاة لعذر القتال، كما فهمه البخاري، حيث احتج على ذلك بحديث ابن عمر المتقدم في هذا، فلا إشكال على من أخر، ولا على من قدم أيضا، والله أعلم.

ثم قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله علي بن أبي طالب، ومعه رايته، وابتدرها الناس.

وقال موسى بن عقبة في (مغازيه) عن الزهري: فبينما رسول الله في مغتسله كما يزعمون، قد رجل أحد شقيه، أتاه جبريل على فرس، عليه لأمته، حتى وقف بباب المسجد، عند موضع الجنائز، فخرج إليه رسول الله فقال له جبريل: غفر الله لك، أو قد وضعت السلاح؟

قال: «نعم» فقال جبريل: لكنا لم نضعه منذ نزل بك العدو، وما زلت في طلبهم حتى هزمهم الله - ويقولون إن على وجه جبريل لأثر الغبار - فقال له جبريل: إن الله قد أمرك بقتال بني قريظة، فأنا عامد إليهم بمن معي من الملائكة نزلزل بهم الحصون، فاخرج بالناس.

فخرج رسول الله في أثر جبريل، فمر على مجلس بني غنم وهم ينتظرون رسول الله فسألهم فقال: «مر عليكم فارس آنفا؟» قالوا: مر علينا دحية الكلبي على فرس أبيض، تحته نمط أو قطيفة ديباج، عليه اللأمة.

فذكروا أن رسول الله قال: «ذاك جبريل».

وكان رسول الله يشبه دحية الكلبي بجبريل، فقال: «ألحقوني ببني قريظة، فصلوا فيهم العصر» فقاموا وما شاء الله من المسلمين، فانطلقوا إلى بني قريظة، فحانت صلاة العصر وهم بالطريق، فذكروا الصلاة فقال بعضهم لبعض: ألم تعلموا أن رسول الله أمركم أن تصلوا العصر في بني قريظة.

وقال آخرون: هي الصلاة، فصلى منهم قوم، وأخرت طائفة الصلاة حتى صلوها في بني قريظة بعد أن غابت الشمس، فذكروا لرسول الله من عجل منهم الصلاة، ومن أخرها، فذكروا أن رسول الله لم يعنف واحدا من الفريقين.

قال: فلما رأى علي بن أبي طالب رسول الله مقبلا، تلقاه وقال: ارجع يا رسول الله فإن الله كافيك اليهود.

وكان علي قد سمع منهم قولا سيئا لرسول الله وأزواجه رضي الله عنهن، فكره أن يسمع ذلك رسول الله ، فقال رسول الله : «لمَ تأمرني بالرجوع؟» فكتمه ما سمع منهم.

فقال: «أظنك سمعت فيَّ منهم أذى، فامض فإن أعداء الله لو رأوني لم يقولوا شيئا مما سمعت».

فلما نزل رسول الله بحصنهم، وكانوا في أعلاه نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافهم حتى أسمعهم فقال: «أجيبوا يا معشر يهود، يا إخوة القردة، قد نزل بكم خزي الله عز وجل»

فحاصرهم رسول الله بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، ورد الله حيي بن أخطب حتى دخل حصن بني قريظة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، فصرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر - وكانوا حلفاء الأنصار - فقال أبو لبابة: لا آتيهم حتى يأذن لي رسول الله .

فقال له رسول الله : «قد أذنت لك» فأتاهم أبو لبابة فبكوا إليه، وقالوا: يا أبا لبابة ماذا ترى، وماذا تأمرنا، فإنه لا طاقة لنا بالقتال.

فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، وأمر عليه أصابعه، يريهم إنما يراد بهم القتل.

فلما انصرف أبو لبابة سقط في يده، ورأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة، فقال: والله لا أنظر في وجه رسول الله ، حتى أحدث لله توبة نصوحا يعلمها الله من نفسي.

فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد، وزعموا أنه ارتبط قريبا من عشرين ليلة.

فقال رسول الله حين غاب عليه أبو لبابة: «أما فرغ أبو لبابة من حلفائه؟» فذكر له ما فعل. فقال: «لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت له، وإذ قد فعل هذا فلن أحركه من مكانه، حتى يقضي الله فيه ما يشاء.

وهكذا رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة.

وكذا ذكره محمد بن إسحاق في (مغازيه) في مثل سياق موسى بن عقبة، عن الزهري، ومثل رواية أبي الأسود عن عروة.

قال ابن إسحاق: ونزل رسول الله على بئر من آبار بني قريظة، من ناحية أموالهم، يقال لها بئر أنى، فحصرهم خمسا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب.

وقد كان حيي بن أخطب دخل معهم حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاءً لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه.

فلما أيقنوا أن رسول الله غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر، ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا بما شئتم منها.

قالوا: وما هن؟

قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتُأمنون به على دمائكم، وأموالكم، وأبنائكم، ونسائكم قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره.

قال: فإذا أبيتم عليَّ هذه فهلم، فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه، رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك، ولم نترك نسلا نخشى عليه، وإن نظهر، فلعمري لنجدن النساء والأبناء.

قالوا: أنقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير العيش بعدهم؟

قال: فإن أبيتم علي هذه، فالليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة.

قالوا: أنفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عنك، من المسخ فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما.

ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقالوا يا أبا لبابة: أترى أن ننزل على حكم محمد؟

قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح.

قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله أن لا أطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.

قال ابن هشام: وأنزل الله فيما قال سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } 38.

قال ابن هشام: أقام مرتبطا ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة، فتحله حتى يتوضأ ويصلي، ثم يرتبط حتى نزلت توبته في قوله تعالى: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحا وَآخَرَ سَيِّئا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 39.

وقول موسى بن عقبة: إنه مكث عشرين ليلة مرتبطا به، والله أعلم.

وذكر ابن إسحاق: أن الله أنزل توبته على رسوله من آخر الليل وهو في بيت أم سلمة، فجعل يبتسم، فسألته أم سلمة فأخبرها بتوبة الله على أبي لبابة، فاستأذنته أن تبشره فأذن لها، فخرجت فبشرته، فثار الناس إليه يبشرونه، وأرادوا أن يحلوه من رباطه، فقال: والله لا يحلني إلا رسول الله ، فلما خرج رسول الله إلى صلاة الفجر حله من رباطه، رضي الله عنه وأرضاه.

قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم أسلموا في تلك الليلة التي أنزلت فيها قريظة على حكم رسول الله ، وخرج في تلك عمرو بن سُعدى القرظي فمر بحرس رسول الله وعليهم محمد بن مسلمة تلك الليلة، فلما رآه قال: من هذا؟

قال: أنا عمرو بن سعدى - وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله وقال: لا أغدر بمحمد أبدا - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه:

اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، ثم خلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب لم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا، فذكر شأنه لرسول الله فقال: «ذاك رجل نجاه الله بوفائه».

قال: وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة، فأصبحت رمته ملقاة ولم يدر أين ذهب، فقال رسول الله فيه تلك المقالة، والله أعلم أي ذلك كان.

قال ابن إسحاق: فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله ، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت، يعنون عفوه عن بني قينقاع، حين سأله فيهم عبد الله ابن أبيّ كما تقدم.

قال ابن إسحاق: فلما كلمته الأوس قال رسول الله : «يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟».

قالوا: بلى.

قال: «فذلك إلى سعد بن معاذ».

وكان رسول الله قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده، وكانت تداوي الجرحى، فلما حكمه في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما جميلا.

ثم أقبلوا معه إلى رسول الله وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله والمسلمين، قال رسول الله : «قوموا إلى سيدكم».

فأما المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: قد عم رسول الله المسلمين، فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمر إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.

فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، إن الحكم فيهم لما حكمت؟

قالوا: نعم.

قال: وعلي من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله ، وهو معرض عن رسول الله إجلالا له، فقال رسول الله : «نعم».

قال سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي قال: قال رسول الله لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة».

وقال ابن هشام: حدثني من أثق به من أهل العلم: إن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير بن العوام وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو أقتحم حصنهم.

فقالوا: يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمعت أبا أمامة بن سهل، سمعت أبا سعيد الخدري قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ قال: فأرسل رسول الله إلى سعد فأتاه على حمار، فلما دنا قريبا من المسجد قال:

قال رسول الله : «قوموا لسيدكم أو خيركم» ثم قال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك.

قال: نقتل مقاتلتهم ونسبي ذريتهم.

قال: فقال رسول الله : «قضيت بحكم الله» وربما قال: «قضيت بحكم الملك» وفي رواية «الملك» أخرجاه في الصحيحين من طرق عن شعبة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حجين، ويونس قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أنه قال: رمى يوم الأحزاب سعد بن معاذ فقطعوا أكحله، فحسمه رسول الله بالنار، فانتفخت يده فنزفه فحسمه أخرى، فانتفخت يده فنزفه.

فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقه فما قطر قطرة حتى نزلوا على حكم سعد، فأرسل إليه فحكم أن تقتل رجالهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم، يستعين بهم المسلمون.

فقال رسول الله : «أصبت حكم الله فيهم» وكانوا أربعمائة، فلما فرغ من قتلهم انفتق عرقه فمات.

وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة، عن الليث به. وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، عن هشام، أخبرني أبي عن عائشة قالت: لما رجع رسول الله من الخندق ووضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل وعلى رأسه الغبار فقال: قد وضعت السلاح، فوالله ما وضعتها، أُخرج إليهم.

قال رسول الله : «فأين؟» قال: ها هنا، وأشار إلى بني قريظة، فخرج رسول الله إليهم.

قال هشام: فأخبرني أبي أنهم نزلوا على حكم النبي ، فرد الحكم فيهم إلى سعد، قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية وتقسم أموالهم.

قال هشام: قال أبي: فأخبرت أن رسول الله قال: «لقد حكمت فيهم بحكم الله».

وقال البخاري: حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له: حِبَّان بن العرقة، رماه في الأكحل، فضرب النبي خيمة في المسجد ليعوده من قريب.

فلما رجع رسول الله من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعته، أُخرج إليهم.

قال النبي : «فأين؟» فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله ، فنزلوا على حكمه، فرد الحكم إلى سعد، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم.

قال هشام: فأخبرني أبي عن عائشة: أن سعدا قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء، فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتي فيها.

فانفجرت من لبته، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا هو سعد يغدو جرحه دما فمات منها.

وهذا رواه مسلم من حديث عبد الله بن نمير به.

قلت: كان دعا أولا بهذا الدعاء قبل أن يحكم في بني قريظة ولهذا قال فيه: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة فاستجاب الله له، فلما حكم فيهم وأقر الله عينه أيَّ قرار، دعا ثانيا بهذا الدعاء، فجعلها الله له شهادة رضي الله عنه وأرضاه. وسيأتي ذكر وفاته قريبا إن شاء الله.

وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر عن عائشة مطولا جدا وفيه فوائد فقال: حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة بن وقاص قال: أخبرتني عائشة قالت: خرجت يوم الخندق أقفو الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة.

قالت: فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه، فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت: وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، فمر وهو يرتجز ويقول:

لبث قليلا يدركَ الهيجا جملٌ * ما أحسنَ الموت إذا حانَ الأجل

قالت: فقمت فاقتحمت حديقة فإذا نفر من المسلمين، فإذا فيها عمر بن الخطاب، وفيهم رجل عليه سبغة له - تعني المغفر - فقال عمر: ما جاء بك والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوّز، فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض فتحت ساعتئذ فدخلت فيها.

فرفع الرجل السبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيد الله فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عز وجل.

قالت: ويرمي سعدا رجل من قريش يقال له: ابن العرقة وقال: خذها، وأنا ابن العرقة، فأصاب أكحله فقطعه، فدعا الله سعد فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.

قالت: وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، قالت: فرقأ كلمة، وبعث الله الريح على المشركين، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا.

فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله إلى المدينة، وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد في المسجد.

قالت: فجاء جبريل وإن على ثناياه لنقع الغبار، فقال: أقد وضعت السلاح لا والله ما وضعت الملائكة السلاح بعد، أخرج إلى بني قريظة فقاتلهم.

قالت: فلبس رسول الله لأمته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، فمر على بني غنم وهم جيران المسجد حوله فقال: «من مر بكم؟».

قالوا: مر بنا دحية الكلبي - وكان دحية الكلبي تشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه السلام - فأتاهم رسول الله فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة.

فلما اشتد حصرهم، واشتد البلاء قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله ، فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله : «انزلوا على حكم سعد بن معاذ».

فأُتي به على حمار عليه أكاف من ليف قد حمل عليه، وحف به قومه فقالوا: يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت، قالت: ولا يرجع إليهم شيئا، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم.

قالت: قال أبو سعيد: فلما طلع قال رسول الله : «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» قال عمر: سيدنا الله، قال: «أنزلوه» فأنزلوه.

قال رسول الله : «اُحكم فيهم» فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم.

فقال رسول الله : «لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله».

ثم دعا سعد فقال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئا فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك.

قالت: فانفجر كلمه، وكان قد برئ حتى لا يرى منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله .

قالت عائشة: فحضره رسول الله ، وأبو بكر، وعمر قالت: فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر، من بكاء أبي بكر، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله: { رحماء بينهم } .

قال علقمة: فقلت: يا أمة فكيف كان رسول الله يصنع؟

قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته.

وهذا الحديث إسناده جيد، وله شواهد من وجوه كثيرة، وفيه التصريح بدعاء سعد مرتين مرة قبل حكمه في بني قريظة، ومرة بعد ذلك كما قلناه أولا، ولله الحمد والمنة، وسنذكر كيفية وفاته ودفنه وفضله في ذلك رضي الله عنه وأرضاه، بعد فراغنا من القصة.

قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار قلت: هي نسيبة ابنة الحارث بن كرز بن حبيب بن عبد شمس، وكانت تحت مسيلمة الكذاب، ثم خلف عليها عبد الله بن عامر بن كريز.

ثم خرج إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، فخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد، رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة. والمكثر لهم يقول: كانوا ما بين الثمانمائة والتسعمائة.

قلت: وقد تقدم فيما رواه الليث عن أبى الزبير عن جابر: أنهم كانوا أربعمائة، فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: وقد قالوا لكعب بن أسد، وهم يُذهب بهم إلى رسول الله أرسالا: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون، ألا ترون الداعي لا ينزع، ومن ذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل.

فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم، وأُتي بحيي بن أخطب وعليه حلة له فقاحية، قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل.

فلما نظر إلى رسول الله قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل.

ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوال الثعلبي:

لعمرك ما لام ابن أخطبَ نفسه * ولكنه مَنْ يخذلِ الله يخُذل

لجاهدَ حتى أبلغَ النفس عُذرها * وقلقل يبغي العزّ كل مقلقل

وذكر ابن إسحاق قصة الزبير بن باطا، وكان شيخا كبيرا قد عمي، وكان قد منَّ يوم بعاث على ثابت بن قيس بن شماس، وجزَّ ناصيته، فلما كان هذا اليوم أراد أن يكافئه فجاءه فقال: هل تعرفني يا أبا عبد الرحمن؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ فقال له ثابت: أريد أن أكافئك فقال: إن الكريم يجزي الكريم.

فذهب ثابت إلى رسول الله فاستطلقه فأطلقه له، ثم جاءه فأخبره فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ فذهب إلى رسول الله فاستطلق له امرأته وولده، فأطلقهم له ثم جاءه فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك؟

فأتى ثابت إلى رسول الله فاستطلق مال الزبير بن باطا فأطلقه له، ثم جاءه فأخبره فقال له: يا ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى حي كعب بن أسد؟

قال: قتل.

قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟

قال: قتل.

قال: قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا: عزال بن شموال؟

قال: قتل.

قال: فما فعل المجلسان؟ - يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة - قال: ذهبوا قتلوا.

قال: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله فيلة دلو ناضح، حتى ألقى الأحبة. فقدمه ثابت فضربت عنقه.

فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله: ألقى الأحبة، قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا.

قال ابن إسحاق: فيلة بالفاء والياء المثناة من أسفل.

وقال ابن هشام: بالقاف والباء الموحدة.

وقال ابن هشام: الناضح البعير الذي يستقي عليه الماء لسقي النخل.

وقال أبو عبيدة: معناه إفراغه دلو.

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله قد أمر كل بقتل من أنبت منهم.

فحدثني شعبة بن الحجاج عن عبد الملك بن عُمير، عن عطية القرظي قال: كان رسول الله قد أمر أن يقتل من بني قريظة كل من أنبت منهم، وكنت غلاما فوجدوني لم أنبت، فخلوا سبيلي.

ورواه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي نحوه.

وقد استدل به من ذهب من العلماء إلى أن إنبات الشعر الخشن حول الفرج دليل على البلوغ، بل هو بلوغ في أصح قولي الشافعي، ومن العلماء من يقرن بين صبيان أهل الذمة يكون بلوغا في حقهم دون غيرهم، لأن المسلم قد يتأذى بذلك لمقصد.

وقد روى ابن إسحاق عن أيوب بن عبد الرحمن، أن سلمى بنت قيس، أم المنذر استطلقت من رسول الله رفاعة بن شموال، وكان قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك فأطلقه لها، وكانت قالت: يا رسول الله إن رفاعة يزعم أنه سيصلى ويأكل لحمل الجمل، فأجابها إلى ذلك فأطلقه.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، قالت: والله إنها لعندي تحدث معي، تضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله يقتل رجالها في السوق، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟

قالت: أنا والله، قالت: قلت لها: ويلك مالك؟ قالت: أقتل! قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته، قالت: فانطلق بها فضربت عنقها.

وكانت عائشة تقول: فوالله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل.

وهكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه عن محمد بن إسحاق به.

قال ابن إسحاق: هي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته، يعني: فقتلها رسول الله به.

قال ابن إسحاق في موضع آخر: وسماها نباتة امرأة الحكم القرظي.

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله قسَّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، بعد ما أخرج الخمس، وقسَّم للفارس ثلاثة أسهم، سهمين للفرس، وسهما لراكبه، وسهما للراجل، وكانت الخيل يومئذ ستا وثلاثين.

قال: وكان أول فيء وقعت فيه السهمان وخمس.

قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله سعيد بن زيد بسبايا من بني قريظة إلى نجد، فابتاع بها خيلا وسلاحا.

وكان رسول الله قد اصطفى من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، وكان عليها حتى توفي عنها، وهي في ملكه، وقد كان رسول الله عرض عليها الإسلام فامتنعت، ثم أسلمت بعد ذلك.

فسُر رسول الله بإسلامها، وقد عرض عليها أن يعتقها ويتزوجها، فاختارت أن تستمر على الرق ليكون أسهل عليها، فلم تزل عنده حتى توفي عليه الصلاة والسلام.

ثم تكلم ابن إسحاق على ما نزل من الآيات في قصة الخندق من أول سورة الأحزاب، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسيرها، ولله الحمد والمنة.

وقد قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم بني قريظة: خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو الخزرجي، طرحت عليه رحا فشدخته شدخا شديدا، فزعموا أن رسول الله قال: «إن له لأجر شهيدين» قلت: كان الذي ألقى عليه الرحى تلك المرأة التي لم يقتل من بني قريظة امرأة غيرها كما تقدم، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: ومات أبو سنان بن محصن بن حُرثان، من بني أسد بن خزيمة، ورسول الله محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم اليوم.

وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه

قد تقدم: أن حبان بن العرقة لعنه الله، رماه بسهم فأصاب أكحله فحسمه رسول الله كيا بالنار فاستمسك الجرح، وكان سعد قد دعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة، وذلك حين نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله من العهود، والمواثيق، والذمام، ومالوا عليه مع الأحزاب.

فلما ذهب الأحزاب وانقشعوا عن المدينة، وباءت بنو قريظة بسواد الوجه، والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، وسار إليهم رسول الله ليحاصرهم كما تقدم، فلما ضيق عليهم وأخذهم من كل جانب، أنابوا أن ينزلوا على حكم رسول الله فيحكم فيهم بما أراد الله، فرد الحكم فيهم إلى رئيس الأوس.

وكانوا حلفاءهم في الجاهلية وهو: سعد بن معاذ، فرضوا بذلك، ويقال: بل نزلوا ابتداءً على حكم سعد، لما يرجون من حنوه عليهم، وإحسانه وميله إليهم، ولم يعلموا بأنهم أبغض إليه من أعدادهم من القردة والخنازير، لشدة إيمانه وصديقيته رضي الله عنه وأرضاه.

فبعث إليه رسول الله وكان في خيمة في المسجد النبوي، فجيء به على حمار تحته إكاف قد وطئ تحته لمرضه، ولما قارب خيمة الرسول أمر عليه السلام من هناك بالقيام له.

قيل: لينزل من شدة مرضه، وقيل: توقيرا له بحضرة المحكوم عليهم، ليكون أبلغ في نفوذ حكمه، والله أعلم.

فلما حكم فيهم بالقتل، والسبي، وأقر الله عينه، وشفى صدره منهم، وعاد إلى خيمته من المسجد النبوي صحبه رسول الله ، دعا الله عز وجل أن تكون له شهادة، واختار الله له ما عنده، فانفجر جرحه من الليل، فلم يزل يخرج منه الدم حتى مات رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق: فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه، فمات منه شهيدا.

قال ابن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاهة الزرقي قال: حدثني من شئت من رجال قومي: أن جبريل أتى رسول الله حين قبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق، فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟

قال: فقام رسول الله سريعا يجر ثوبه إلى سعد، فوجده قد مات رضي الله عنه.

هكذا ذكره ابن إسحاق رحمه الله.

وقد قال الحافظ البيهقي في (الدلائل): حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبي وشعيب بن الليث قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر بن عبد الله قال:

جاء جبريل إلى رسول الله فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات، فتحت له أبواب السماء، وتحرك له العرش؟

قال: فخرج رسول الله فإذا سعد بن معاذ.

قال: فجلس رسول الله على قبره وهو يدفن، فبينما هو جالس إذ قال: «سبحان الله» مرتين، فسبَّح القوم، ثم قال: «الله أكبر، الله أكبر» فكبر القوم، ثم قال رسول الله : «عجبت لهذا العبد الصالح، شُدد عليه في قبره، حتى كان هذا حين فرِّج له».

وروى الإمام أحمد والنسائي: من طريق يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، ويحيى بن سعيد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر قال: قال رسول الله لسعد يوم مات وهو يدفن: «سبحان الله لهذا الصالح الذي تحرك له عرش الرحمن، وفتحت له أبواب السماء، شُدِّد عليه، ثم فرج الله عنه».

وقال محمد بن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة، عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، عن جابر بن عبد الله قال: لما دفن سعد ونحن مع رسول الله ، سبَّح رسول الله فسبح الناس معه، ثم كبر فكبر الناس معه، فقالوا: يا رسول الله ممَّ سبحت؟: «قال لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه».

وهكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق به.

قال ابن هشام: ومجاز هذا الحديث قول عائشة، قال رسول الله : «إن للقبر ضمة، لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ».

قلت: وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن سعد ابن إبراهيم، عن نافع، عن عائشة، عن النبي قال: «إن للقبر ضغطة، ولو كان أحد ناجيا منها لنجا سعد بن معاذ».

وهذا الحديث سنده على شرط الصحيحين، إلا أن الإمام أحمد رواه عن غندر عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن إنسان، عن عائشة به.

ورواه الحافظ البزار عن نافع، عن ابن عمر قال: حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا داود، عن عبد الرحمن، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله : «لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك إلى الأرض لم يهبطوا قبل ذلك، ولقد ضمه القبر ضمة» ثم بكى نافع.

وهذا إسناد جيد، لكن قال البزار: رواه غيره عن عبيد الله عن نافع مرسلا.

ثم رواه البزار عن سليمان بن سيف، عن أبي عتاب، عن سكين بن عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله : «لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطئوا الأرض قبلها» وقال حين دفن: «سبحان الله لو انفلت أحد من ضغطة القبر لانفلت منها سعد».

وقال البزار: حدثنا إسماعيل بن حفص، عن محمد بن فضيل، حدثنا عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعد بن معاذ.

فقيل: إنما يعني: السرير، ورفع أبويه على العرش.

قال: تفتحت أعواده.

قال: ودخل رسول الله قبره، فاحتبس فلما خرج قيل له: يا رسول الله ما حبسك؟

قال: «ضم سعد في القبر ضمة، فدعوت الله فكشف عنه».

قال البزار: تفرد به عطاء بن السائب.

قلت: وهو متكلم فيه.

وقد ذكر البيهقي رحمه الله بعد روايته ضمة سعد رضي الله عنه في القبر أثرا غريبا فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد ابن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد: ما بلغكم من قول رسول الله في هذا؟

فقالوا: ذُكر لنا أن رسول الله سُئل عن ذلك فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الفضل بن مساور، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: سمعت النبي يقول: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ».

وعن الأعمش: حدثنا أبو صالح، عن جابر، عن النبي مثله فقال رجل لجابر: فإن البراء بن عازب يقول: اهتز السرير.

فقال: إنه كان بين هذين الحيين ضغائن، سمعت النبي يقول: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ».

ورواه مسلم عن عمرو الناقد، عن عبد الله بن إدريس، وابن ماجه، عن علي بن محمد، عن أبي معاوية كلاهما، عن الأعمش به، وليس عندهما زيادة قول الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر.

وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله يقول - وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم -: «اهتز لها عرش الرحمن».

ورواه مسلم عن عبد بن حميد، والترمذي عن محمود بن غيلان كلاهما عن عبد الرزاق به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عوف، حدثنا أبو نضرة، سمعت أبا سعيد عن النبي : «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ».

ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى به.

وقال أحمد: حدثنا عبد الوهاب عن سعيد، قال قتادة: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله قال: «وجنازته موضوعة اهتز لها عرش الرحمن».

ورواه مسلم عن محمد بن عبد الله الأزدي، عن عبد الوهاب به.

وقد روى البيهقي من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن البصري قال: اهتز عرش الرحمن فرحا بروحه.

وقال الحافظ البزار: حدثنا زهير بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: لما حملت جنازة سعد قال المنافقون: ما أخف جنازته وذلك لحكمه في بني قريظة، فسئل رسول الله فقال: لا ولكن الملائكة تحملته.

إسناد جيد.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت البراء بن عازب يقول: أهديت للنبي حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال: «أتعجبون من لين هذه، لمناديل سعد بن معاذ خير منها أو ألين».

ثم قال: رواه قتادة والزهري، سمعنا أنسا عن النبي .

وقال أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد - هو ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله جبة، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، فلبسها فعجب الناس منها فقال: «والذي نفسي بيده لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذه».

وهذا إسناد على شرط الشيخين ولم يخرجوه، وإنما ذكره البخاري تعليقا.

وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، حدثني واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال محمد: وكان واقد من أحسن الناس وأعظمهم وأطولهم قال: دخلت على أنس بن مالك فقال لي: من أنت؟

قلت: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ.

فقال: إنك بسعد لشبيه، ثم بكى وأكثر البكاء، وقال: رحمة الله على سعد كان من أعظم الناس وأطولهم.

ثم قال: بعث رسول الله جيشا إلى أكيدر دومة، فأرسل إلى رسول الله بجبة من ديباج منسوج فيها الذهب، فلبسها رسول الله فقام على المنبر، وجلس فلم يتكلم، ثم نزل فجعل الناس يلمسون الجبة وينظرون إليها.

فقال رسول الله : «أتعجبون منها، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون».

وهكذا رواه الترمذي، والنسائي، من حديث محمد بن عمرو به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

قال ابن إسحاق: بعد ذكر اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ، وفي ذلك يقول رجل من الأنصار:

وما اهتز عرش الله من موت هالك * سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو

قال: وقالت أمه يعني كبيشسة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة الخدرية الخزرجية حين احتمل سعد على نعشه تندبه:

ويل أم سعد سعدا * صرامة وحدّا

وسؤددا ومجدا * وفارسا معدا

سد به مسدا * يقدّها ما قدّا

قال: يقول رسول الله : «كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ».

قلت: كانت وفاته بعد انصراف الأحزاب بنحو من خمس وعشرين ليلة، إذ كان قدوم الأحزاب في شوال سنة خمس كما تقدم، فأقاموا قريبا من شهر، ثم خرج رسول الله لحصار بني قريظة، فأقام عليهم خمسا وعشرين ليلة.

ثم نزلوا على حكم سعد، فمات بعد حكمه عليهم بقليل، فيكون ذلك في أواخر ذي القعدة، أو أوائل ذي الحجة من سنة الحجة من سنة خمس، والله أعلم.

وهكذا قال محمد بن إسحاق: إن فتح بنى قريظة كان في ذي القعدة وصدر ذي الحجة.

قال: وولي تلك الحجة المشركون.

قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يرثي سعد بن معاذ رضي الله عنه:

لقد سجمت من دمع عيني عبرة * وحق لعيني أن تفيض على سعد

قتيل ثوى في معرك فجعت به * عيون ذواري الدمع دائمة الوجد

على ملة الرحمن وارث جنَّة * مع الشهداء وفدها أكرم الوفد

فإن تك قد وعدتنا وتركتنا * وأمسيت في غبراء مظلمة اللحد

فأنت الذي يا سعد أبت بمشهد * كريم وأثواب المكارم والمجد

بحكمك في حيي قريظة بالذي * قضى الله فيهم ما قضيت على عمد

فوافق حكم الله حكمك فيهم * ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد

فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى * شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد

فنعم مصير الصادقين إذا دعوا * إلى الله يوما للوجاهة والقصد

فصل الأشعار في الخندق وبني قريظة

قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة، حدثنا عدي بن ثابت أنه سمع البراء بن عازب قال: قال النبي لحسان: «اهجهم أو هاجهم وجبريل معك».

قال البخاري: وزاد إبراهيم بن طهمان، عن الشيباني، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: قال النبي يوم قريظة لحسان بن ثابت: «أهج المشركين فإن جبريل معك».

وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم، والنسائي من طرق عن شعبة بدون الزيادة التي ذكرها البخاري يوم بني قريظة.

قال ابن إسحاق رحمه الله: وقال ضرار بن الخطاب بن مرداس أخو بني محارب بن فهر في يوم الخندق، قلت: وذلك قبل إسلامه:

ومشفقة تظن بنا الظنونا * وقد قدنا عرندسة طحونا

كأن زهاءها أحد إذا ما * بدت أركانه للناظرينا

ترى الأبدان فيها مسبغات * على الأبطال واليلب الحصينا

وجردا كالقداح مسومات * نؤم بها الغَواة الخاطئينا

كأنهم إذا صالوا وصُلنا * بباب الخندقين مصافحونا

أناسٌ لا نرى فيهم رشيدا * وقد قالوا ألسنا راشدينا

فأحجرناهم شهرا كريتا * وكنا فوقهم كالقاهرينا

نُراوحهم ونغدو كل يوم * عليهم في السلاح مدججينا

بأيدينا صوارم مرهفات * نقدُّ بها المفارق والشئونا

كأن وميضهن معرِّيات * إذا لاحت بأيدي مصلتينا

وميضُ عقيقةٍ لمعت بليلٍ * ترى فيها العقائق مستبينا

فلولا خندق كانوا لديه * لدمرنا عليهم أجمعينا

ولكن حال دونهم وكانوا * به من خوفنا متعوذينا

فإن نرحل فأنا قد تركنا * لدى أبياتكم سعدا رهينا

إذا جن الظلام سمعت نوحا * على سعدٍ يرجعن الحنينا

وسوف نزوركم عما قريبٍ * كما زرناكم متوازرينا

بجمعٍ من كنانة غير عُزلٍ * كأسد الغاب إذ حمَت العرينا

قال: فأجابه كعب بن مالك أخو بني سلمة رضي الله عنه فقال:

وسائلةٍ تسائل ما لقينا * ولو شهدتُ رأتنا صابرينا

صبرنا لا نرى لله عدلا * على ما نابنا متوكلينا

وكان لنا النبي وزير صدقٍ * به نعلو البرية أجمعينا

نقاتلُ معشرا ظلموا وعقوا * وكانوا بالعداوة مرصدينا

نعالجهم إذا نهضوا إلينا * بضرب يعجل المتسرعينا

ترانا في فضافض سابغاتٍ * كغُدران الملا مُتَسَرْبلينا

وفي أيماننا بيض خفاف * بها نشفي مِراح الشاغبينا

بباب الخندقين كأن أسدا * شوابكهن يحمين العرينا

فوارسنا إذا بكروا وراحوا * على الأعداء شوسا معلمينا

لننصر أحمدا والله حتى * نكون عبادَ صدقٍ مخلصينا

ويعلم أهل مكة حين ساروا * وأحزاب أتوا متحزبينا

بأن الله ليس له شريك * وأن الله مولى المؤمنينا

فأما تقتلوا سعدا سفاها * فإن الله خير القادرينا

سيدخله جناتا طيباتٍ * تكون مقامة للصالحينا

كما قد ردَّكم فلا شريدا * بغيظكم خزايا خائبينا

خزايا لم تنالوا ثم خيرا * وكدتم أن تكونوا دامرينا

بريحٍ عاصف هبتْ عليكم * فكنتم تحتها متكمِّهينا

قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري السهمي في يوم الخندق، قلت: وذلك قبل أن يسلم:

حيِّ الديار محا معارفَ رسمها * طولُ البلى وتراوحُ الأحقاب

فكأنما كتب اليهودُ رسومها * ألا الكنيف ومعقد الأطناب

قفرا كأنك لم تكن تلهو بها * في نعمةٍ بأوانس أتراب

فاترك تذكُّر ما مضى من عيشةٍ * ومحلَّة خلقِ المقام يباب

واذكر بلاء معاشرٍ واشكرهمُ * ساروا بأجمعهم من الأنصاب

أنصاب مكةَ عامدين ليثرب * في ذي غياطلَ جحفلٍ جبجاب

يدع الحرُون مناهجا معلومة * في كل نشْزٍ ظاهرٍ وشِعاب

فيها الجيادُ شوازبٌ مجنوبةٌ * قُبَّ البطون واحقُ الأقراب

من كل سلهبةٍ وأجردَ سلهب * كالسيدِ بادر غفلةَ الرقاب

جيشُ عيينةُ قاصد بلوائه * فيه وصخرُ قائد الأحزاب

قرمان كالبدرين أصبح فيهما * غيث الفقير ومعقلُ الهرّاب

حتى إذا وردوا المدينة وارتدوا * للموت كل مجرَّب قضَّاب

شهرا وعشرا قاهرين محمدا * وصحابُهُ في الحرب خيرُ صحاب

نادوا برحلتهم صبيحةَ قلتم * كدنا نكون بها مع الخيَّاب

لولا الخنادقُ غادروا من جمعهم * قتلى لطيرٍ سُغّب وذئاب

قال: فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال:

هل رسم دراسة المقام يباب * متكلم لمحاورٍ بجواب

قفر عفا رهمُ السحاب رسومَه * وهبوب كل مطلةٍ مرباب

ولقد رأيتُ بها الحلول يزينُهم * بيض الوجوه ثواقبُ الأحساب

فدع الديارَ وذكر كل خريدةٍ * بيضاءَ أنسةِ الحديث كَعاب

واشكُ الهموم إلى الإله وما ترى * من معشرٍ ظلموا الرسول غضاب

ساروا بأجمعهم إليه وألَّبوا * أهل القرى وبواديَ الأعراب

جيشٌ عيينةُ وابن حربٍ فيهم * متخمطون بحلبةِ الأحزاب

حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا * قتل الرسول ومغنم الأسلاب

وغدوا علينا قادرين بأيدهم * رُدوا بغيظهم على الأعقاب

بهبوبِ معصفةٍ تُفرِّق جمعهم * وجنودُ ربك سيد الأرباب

فكفى الإله المؤمنينَ قتالهم * وأثابهم في الأجر خير ثواب

من بعد ما قنطوا ففرَّق جمعهم * تنزيل نصر مليكنا الوهاب

وأقر عين محمدٍ وصحابه * وأذل كل مكذِّب مرتاب

عاتي الفؤاد موقعٌ ذي ريبة * في الكفر ليس بطاهر الأثواب

عِلَق الشقاءُ بقلبه ففؤاده * في الكفر آخر هذه الأحقاب

قال: وأجابه كعب بن مالك رضي الله عنه أيضا فقال:

أبقى لنا حدثُ الحروب بقية * من خير نحلةِ ربنا الوهاب

بيضاءَ مشرفة الذُرى ومعاطنا * حُمَّ الجذوع غزيرة الأحلاب

كاللوب يُبذل جمُّها وحفيلها * للجار وابن العمِّ والمنتاب

ونزائعا مثل السراج نمى بها * علفُ الشعير وجزَّة المقضاب

عرَّى الشَّوى منها وأردف نحضها * جردُ المتون وسائر الأراب

قَوْدا تُراح إلى الصباح إذا غدت * فعلَ الضِّراء تُراحُ للكلاب

وتحوط سائمة الديار وتارةً * تُردي العدى وتئوبُ بالأسلاب

حوشُ الوحوش مطارةً عند الوغى * عبسُ اللقاء مبينة الأنجاب

عُلفت على دَعَةٍ فصارت بُدنا * دُخْسُ البضيع خفيفة الأقصاب

يغدون بالزغف المضاعف شكَّه * وبمترصاتٍ في الثَّقاف صياب

وصوارمٍ نزعَ الصياقلُ عُلبها * وبكل أروعَ ماجدِ الأنساب

يصلُ اليمين بمارنٍ متقارب * وكلت وقيعته إلى خَباب

وأغرّ أزرق في القناة كأنه * في طُيْخة الظلماء ضوءُ شهاب

وكتيبةٍ ينفي القران قتيرُها * وتردُّ حد قواحِزِ النشاب

جأوى ململمةً كأن رماحها * في كل مجمعةٍ صريمة غاب

تأوي إلى ظل اللواء كأنه * في صعدة الخطي فيءُ عُقاب

أعيت أبا كربٍ وأعيت تبعا * وأبت بسالتها على الأعراب

ومواعظٍ من ربنا نهدي بها * بلسان أزهر طيب الأثواب

عرضت علينا فاشتهينا ذكرها * من بعد ما عرضت على الأحزاب

حكما يراها المجرمون بزعمهم * حرجا ويفهمها ذوو الألباب

جاءت سخينةُ كي تغالب ربها * فليغلبن مغالبُ الغلاب

قال ابن هشام: حدثني من أثق به، حدثني عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير: أن رسول الله قال له لما سمع منه هذا البيت: «لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا».

قلت: ومراده بسخينة قريش، وإنما كانت العرب تسميهم بذلك لكثرة أكلهم الطعام السخن، الذي لا يتهيأ لغيرهم غالبا من أهل البوادي، فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك أيضا:

من سرَّه ضربٌ يمعمع بعضه * بعضا كمعمعة الإناء المحرق

فليأت مأسدة تسن سيوفها * بين الذاد وبين جذع الخندق

دربوا بضرب المعلّمين وأسلموا * مهجات أنفسهم لربِّ المشرق

في عُصبةٍ نصرَ الإله نبيَّه * بهمُ وكان بعبده ذا مرفق

في كل سابغةٍ تخطّ فُضُولها * كالنهي هبَّتْ ريحه المترقرق

بيضاءَ محكمةٍ كأن قتيرها * حدق الجنادب ذات شك موثق

جدلاء يحفرها نجاد مهندٍ * صافي الحديدة صارمٍ ذي رونق

تلكم مع التقوى تكون لباسَنا * يوم الهياج وكل ساعة مصدق

نصلُ السيوف إذا قصرن بخطونا * قدما ونلحقها إذا لم تلحق

فترى الجماجم ضاحيا هاماتها * بُله الأكف كأنها لم تخلق

نلقى العدو بفخمةٍ ملمومةٍ * تنفي الجموع كقصد رأس المشرق

ونعدُّ للأعداء كل مقلص * ورد ومحجول القوائم أبلق

تردى بفرسان كأن كماتهم * عند الهياج أسودُ طل ملتق

صُدقٍ يعاطون الكماة حتوفهم * تحت العماية بالوشيج المزهق

أمر الإله بربطها لعدوه * في الحرب إن الله خير موفق

لتكون غيظا للعدو وحيِّطا * للدار إن دلفت خيول النزق

ويعيننا الله العزيز بقوة * منه وصدق الصبر ساعة نلتقي

ونطيع أمر نبينا ونجيبه * وإذا دعا لكريهة لم نسبق

ومتى ينادى للشدائد نأتها * ومتى نرى الحومات فيها نعتق

من يتبع قول النبي فإنه * فينا مطاع الأمر حق مصدق

فبذاك ينصرنا ويظهر عزنا * ويصيبنا من نيل ذاك بمرفق

إن الذين يكذبون محمدا * كفروا وضلوا عن سبيل المتقي

قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك أيضا:

لقد علم الأحزاب حين تألبوا * علينا وراموا ديننا ما نوادع

أضاميمُ من قيس بن غيلان أصفقت * وخندف لم يدروا بما هو واقع

يذودوننا عن ديننا ونذودهم * عن الكفر والرحمن رادٌ وسامع

إذا غايظونا في مقام أعاننا * على غيظهم نصر من الله واسع

وذلك حفظ الله فينا وفضله * علينا ومن لم يحفظ الله ضائع

هدانا لدين الحق واختاره لنا * ولله فوق الصانعين صانع

قال ابن هاشم: وهذه الأبيات في قصيدة له - يعني طويلة -، قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في مقتل بني قريظة:

لقد لقيت قريظة ما ساءها * وما وجدت لذل من نصير

أصابهم بلاء كان فيه * سوى ما قد أصاب بني النضير

غداة أتاهم يهوي إليهم * رسول الله كالقمر المنير

له خيل مجنبةٌ تغادي * بفرسان عليها كالصقور

تركناهم وما ظفروا بشيءٍ * دماؤهم عليها كالعبير

فهم صرعى تحوم الطير فيهم * كذاك يدان ذو العند الفجور

فأنذر مثلها نصحا قريشا * من الرحمن إن قبلت نذيري

قال: وقال حسان بن ثابت أيضا في بني قريظة:

تعاقد معشر نصروا قريشا *وليس لهم ببلدتهم نصير

هم أوتوا الكتاب فضيعوه * وهم عميٌّ من التوراة بور

كفرتم بالقرآن وقد أتيتم * بتصديق الذي قال النذير

فهان على سراة بني لؤيٍ * حريق بالبويرة مستطير

فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقال:

أدام الله ذلك من صنيعٍ * وحرَّق في طائفها السعير

ستعلم أينا منها بنزه * وتعلم أي أرضينا تضير

فلو كان النخيل بها ركابا * لقالوا لا مقام لكم فسيروا

قلت: وهذا قاله أبو سفيان بن الحارث قبل أن يسلم.

وقد تقدم في صحيح البخاري بعض هذه الأبيات.

وذكر ابن إسحاق جواب حسان في ذلك لجبل بن جوال الثعلبي تركناه قصدا.

قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت أيضا يبكي سعدا وجماعة ممن استشهد يوم بني قريظة:

ألا يا لقومي هل لما حم دافع * وهل ما مضى من صالح العيش راجع

تذكرت عصرا قد مضى فتهافتت * بنات الحشا وأنهل مني المدامع

صبابة وجد ذكرتني إخوة * وقتلى مضى فيها طفيل ورافع

وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت * منازلهم فالأرض منهم بلاقع

وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم * ظلال المنايا والسيوف اللوامع

دعا فأجابوه بحق وكلهم * مطيع له في كل أمر وسامع

فما نكلوا حتى توالوا جماعة * ولا يقطع الآجال إلا المصارع

لأنهم يرجون منه شفاعة * إذا لم يكن إلا النبيون شافع

فذلك يا خير العباد بلاؤنا * إجابتنا لله والموت ناقع

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا * لأولنا في ملة الله تابع

ونعلم أن الملك لله وحده * وأن قضاء الله لا بد واقع

مقتل أبي رافع اليهودي

قال ابن إسحاق: ولما انقضى شأن الخندق وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق - وهو أبو رافع - فيمن حزب الأحزاب على رسول الله ، وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف، فاستأذن الخزرج رسول الله في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر، فأذن لهم.

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: وكان مما صنع الله لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار الأوس والخزرج، كانا يتصاولان مع رسول الله تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا فيه غناء عن رسول الله إلا وقالت الخزرج:

والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك.

قال: ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله ، قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا.

قال: فتذكروا من رجل لرسول الله في العداوة كابن الأشرف؟

فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا الرسول في قتله، فأذن لهم.

فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث ابن ربعي، وخزاعى بن أسود حليف لهم من أسلم.

فخرجوا وأمر عليهم رسول الله عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة، فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر، أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا بيتا في الدار حتى أغلقوه على أهله.

قال: وكان في علية له إليها عجلة، قال: فأسندوا إليها حتى قاموا على بابه، فاستأذنوا فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟

قالوا: أناس من العرب نلتمس الميرة.

قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليه الحجرة تخوفا أن يكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه.

قال: فصاحت امرأته فنوهت بنا، فابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الله إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة.

قال: فلما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهي رسول الله فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل.

قال: فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قطني قطني أي: حسبي حسبي.

قال: وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر، قال فوقع من الدرجة فوثبت يده وثبا شديدا، وحملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم فندخل فيه، فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبونا، حتى إذا يئسوا رجعوا إليه فاكتنفوه وهو يقضي.

قال: فقلنا كيف لنا بأن نعلم بأن عدو الله قد مات؟

قال: فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس.

قال: فوجدتها - يعني امرأته - ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدثهم، وتقول: أما والله قد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت نفسي وقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد، ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه فقالت: فاظ وإله يهود، فما سمعت كلمة كانت ألذ على نفسي منها.

قال: ثم جاءنا فأخبرنا فاحتملنا صاحبنا، وقدمنا على رسول الله فأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه.

قال: فقال: «هاتوا أسيافكم» فجئنا بها فنظر إليها فقال: لسيف عبد الله بن أنيس هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام.

قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك:

لله در عصابة لاقيتهم * يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف

يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحا كأسد في عرين مغرف

حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفا ببيض ذفف

مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف

هكذا أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق رحمه الله.

وقد قال الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: بعث النبي رهطا إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا وهو نائم فقتله.

قال البخاري: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: بعث رسول الله إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار، وأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم قال عبد الله لأصحابه:

اجلسوا مكانكم فإني منطلق متلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على ود.

قال: فقمت إلى الأقاليد وأخذتها، وفتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل.

فقلت: إن القوم سدروا لي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت.

قلت: أبا رافع. قال: من هذا؟

فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف ضربة وأنا دهش فما أغنيت شيئا، وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟

فقال: لأمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف.

قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت صبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا، حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة حتى انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته.

فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعي أبا رافع ناصر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي فحدثته فقال: «ابسط رجلك» فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها قط.

قال البخاري: حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، حدثنا شريح، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق سمعت البراء قال: بعث رسول الله إلى أبي رافع عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن عتبة في ناس معهم، فانطلقوا حتى دنوا من الحصن، فقال لهم عبد الله بن عتيك: امكثوا أنتم حتى أنطلق أنا فأنظر.

قال: فتلطفت حتى أدخل الحصن، ففقدوا حمارا لهم فخرجوا بقبس يطلبونه، قال: فخشيت أن أعرف قال: فغطيت رأسي وجلست كأني أقضي حاجة، ثم نادى صاحب الباب فقال: من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه، فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن، فتعشوا عند أبي رافع وتحدثوا حتى ذهب ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الأصوات ولا أسمع حركة خرجت.

قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة، فأخذته ففتحت به باب الحصن.

قال: قلت: إن نذر بي القوم انطلقت على مهل، ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم، فإذا البيت مظلم قد طفئ سراجه، فلم أدر أين الرجل.

فقلت: يا أبا رافع.

قال: من هذا؟

فعمدت نحو الصوت فأضربه وصاح فلم تغن شيئا، قال: ثم جئته كأني أغيثه، فقلت: ما لك يا أبا رافع؟ وغيرت صوتي.

قال: لا أعجبك لأمك الويل دخل علي رجل فضربني بالسيف.

قال: فعمدت إليه أيضا فأضربه أخرى، فلم تغن شيئا فصاح وقام أهله، ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث فإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف في بطنه ثم أنكفئ عليه، حتى سمعت صوت العظم، ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل، فأسقط منه فانخلعت رجلي فعصبتها، ثم أتيت أصحابي أحجل، فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية.

فلما كان وجه الصبح صعد الناعية فقال: أنعي أبا رافع.

قال: فقمت أمشي ما بي قلبه، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله فبشرته.

تفرد به البخاري بهذه السياقات من بين أصحاب الكتب الستة.

ثم قال: قال الزهري: قال أبي بن كعب: فقدموا على رسول الله وهو على المنبر، فقال: «أفلحت الوجوه» قال: أفلح وجهك يا رسول الله.

قال: «أفتكتموه» قالوا: نعم. قال: «ناولني السيف» فسله فقال: أجل هذا طعامه في ذباب السيف.

قلت: يحتمل أن عبد الله بن عتيك لما سقط من تلك الدرجة انفكت قدمه، وانكسرت ساقه، ووثبت رجله، فلما عصبها استكن ما به لما هو فيه من الأمر الباهر.

ولما أراد المشي أعين على ذلك لما هو فيه من الجهاد النافع، ثم لما وصل إلى رسول الله واستقرت نفسه ثاوره الوجع في رجله، فلما بسط رجله ومسح رسول الله ذهب ما كان بها ما بأس في الماضي، ولم يبق بها وجع يتوقع حصوله في المستقبل، جمعا بين هذه الرواية والتي تقدمت، والله أعلم.

هذا وقد ذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) مثل سياق محمد بن إسحاق، وسمى الجماعة الذين ذهبوا إليه كما ذكره ابن إسحاق، وإبراهيم، وأبو عبيد.

مقتل خالد بن سفيان الهذلي

ذكره الحافظ البيهقي في (الدلائل) تلو مقتل أبي رافع.

قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه قال: دعاني رسول الله فقال: «إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني، وهو بعرنة فائته فاقتله».

قال: قلت: يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه.

قال: «إذا رأيته وجدت له قشعريرة».

قال: فخرجت متوشحا سيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلا، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله من القشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي للركوع والسجود.

فلما انتهيت إليه قال: من الرجل؟

قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لذلك.

قال: أجل أنا في ذلك.

قال: فمشيت معه شيئا، حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله فرآني قال: «أفلح الوجه».

قال: قلت: قتلته يا رسول الله.

قال: «صدقت».

قال: ثم قام معي رسول الله فدخل في بيته، فأعطاني عصا فقال: «أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس».

قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟

قال: قلت أعطانيها رسول الله وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله فتسأله عن ذلك.

قال: فرجعت إلى رسول الله فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟

قال: «آية بيني وبينك يوم القيامة إن أقل الناس المتخصرون يومئذ».

قال: فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت في كفنه، ثم دفنا جميعا.

ثم رواه الإمام أحمد: عن يحيى بن آدم، عن عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن بعض ولد عبد الله بن أنيس - أو قال عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس - عن عبد الله بن أنيس فذكر نحوه.

وهكذا رواه أبو داود: عن أبي معمر، عن عبد الوارث، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، فذكر نحوه.

ورواه الحافظ البيهقي: من طريق محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن أنيس، عن أبيه فذكره.

وقد ذكر قصة عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة، في (مغازيهما) مرسلة، فالله أعلم.

قال ابن هشام: وقال عبد الله بن أنيس في قتله خالد بن سفيان:

تركت ابن ثور كالحوار وحوله * نوائح تفري كل جيب معدد

تناولته والظعن خلفي وخلفه * بأبيض من ماء الحديد المهند

عجوم لهام الدارعين كأنه * شهاب غضي من ملهب متوقد

أقول له والسيف يعجم رأسه * أنا ابن أنيس فارس غير قعدد

أنا ابن الذي لم ينزل الدهر قدره * رحيب فناء الدار غير مزند

وقلت له: خذها بضربة ماجد * خفيف على دين النبي محمد

وكنت إذا هم النبي بكافر * سبقت إليه باللسان وباليد

قلت: عبد الله بن أنيس بن حرام: أبو يحيى الجهني صحابي مشهور كبير القدر، كان فيمن شهد العقبة وشهد أحدا والخندق وما بعد ذلك، وتأخر موته بالشام إلى سنة ثمانين على المشهور، وقيل توفي سنة أربع وخمسين، والله أعلم.

وقد فرق علي بن الزبير، وخليفة بن خياط بينه وبين عبد الله بن أنيس أبي عيسى الأنصاري، الذي روى عن النبي أنه دعا يوم أحد بأداوة فيها ماء، فحل فمها وشرب منها.

كما رواه أبو داود، والترمذي من طريق عبد الله العمري، عن عيسى بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه.

ثم قال الترمذي: وليس إسناده يصح، وعبد الله العمري ضعيف من قبل حفظه.

قصة عمرو بن العاص مع النجاشي

قال محمد بن إسحاق بعد مقتل أبي رافع: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب بن أوس أبي الثقفي، عن حبيب بن أبي أوس، حدثني عمرو بن العاص من فيه قال: لما انصرفنا يوم الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإني لقد رأيت أمرا فما ترون فيه؟

قالوا: وما رأيت؟

قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا إن نكن تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير.

قالوا: إن هذا لرأي.

قلت: فاجمعوا لنا ما نهدي له، فكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه.

قال: فدخل عليه، ثم خرج من عنده.

قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.

قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع.

فقال: مرحبا بصديقي هل أهديت لي من بلادك شيئا؟

قال: قلت: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا.

قال: ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.

قال: فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت الأرض لدخلت فيها فرقا، ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه.

قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله؟

قال: قلت: أيها الملك أكذاك هو؟

قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى بن عمران على فرعون وجنوده.

قال: قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟

قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامدا إلى رسول الله لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة.

فقلت: أين أبا سليمان؟

فقال: والله لقد استقام الميسم، وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم فحتى متى؟

قال: قلت: والله ما جئت إلا لأسلم.

قال: فقدمنا المدينة على النبي فتقدم خال بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر.

قال: فقال رسول الله : «يا عمرو بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها».

قال: فبايعته ثم انصرفت.

قال ابن إسحاق: وقد حدثني من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة كان معهما أسلم حين أسلما، فقال عبد الله بن أبي الزبعري السهمي:

أنشد عثمان بن طلحة خلفنا * وملقى نعال القوم عند المقبل

وما عقد الإباء من كل حلقة * وما خالد من مثلها بمحلل

أمفتاح بيت غير بيتك تبتغي * وما تبتغي من بيت مجد مؤثل

فلا تأمنن خالدا بعد هذه * وعثمان جاءا بالدهيم المعضل

قلت: كان إسلامهم بعد الحديبية، وذلك أن خالد بن الوليد كان يومئذ في خيل المشركين كما سيأتي بيانه، فكان ذكر هذا الفصل في إسلامهم بعد ذلك أنسب.

ولكن ذكرنا ذلك تبعا للإمام محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى، لأن أول ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان بعد وقعة الخندق، الظاهر أنه ذهب بقية سنة خمس، والله أعلم.

فصل في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة

ذكر البيهقي بعد وقعة الخندق من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً } 40.

قال: هو تزويج النبي بأم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين.

ثم قال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا علي بن عيسى قال: حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، أنبأنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن أم حبيبة أنها كانت عند عبد الله بن جحش، وكان رحل إلى النجاشي فمات.

وأن رسول الله تزوج بأم حبيبة وهي بأرض الحبشة، وزوجها إياه النجاشي ومهرها أربعة آلاف درهم، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وجهزها من عنده، وما بعث رسول الله بشيء.

قال: وكان مهور أزواج النبي أربعمائة، قلت: والصحيح أن مهور أزواج النبي كانت ثنتي عشرة أوقية ونشا، والوقية: أربعون درهما. والنش: النصف. وذلك يعدل خمسمائة درهم.

ثم روى البيهقي: من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة أن عبيد الله بن جحش مات بالحبشة نصرانيا، فخلف على زوجته أم حبيبة رسول الله زوجها منه عثمان بن عفان رضي الله عنه.

قلت: أما تنصر عبيد الله بن جحش فقد تقدم بيانه، وذلك على أثر ما هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة، استزله الشيطان فزين له دين النصارى، فصار إليه حتى مات عليه لعنه الله، وكان يعير المسلمين فيقول لهم: أبصرنا وصأصأتم، وقد تقدم شرح ذلك في هجرة الحبشة.

وأما قول عروة: إن عثمان زوجها منه فغريب، لأن عثمان كان قد رجع إلى مكة قبل ذلك، ثم هاجر إلى المدينة وصحبته زوجته رقية كما تقدم، والله أعلم.

والصحيح ما ذكره يونس، عن محمد بن إسحاق قال: بلغني أن الذي ولي نكاحها ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص.

قلت: وكان وكيل رسول الله في قبول العقد أصحمة النجاشي ملك الحبشة، كما قال يونس، عن محمد بن إسحاق: حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: بعث رسول الله عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وساق عنه أربعمائة دينار.

وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن زهير، عن إسماعيل بن عمرو: أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشي، جارية يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ووهنه، فاستأذنت علي، فأذنت لها فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله كتب إلي أن أزوجكه.

فقلت: بشرك الله بالخير.

وقالت: يقول لك الملك وكلي من يزوجك.

قالت: فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته، وأعطيت أبرهة سوارين من فضة، وخذمتين من فضة كانتا علي، وخواتيم من فضة في كل أصابع رجلي سرورا بما بشرتني به، فلما أن كان من العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب، ومن كان هناك من المسلمين أن يحضروا.

وخطب النجاشي وقال: الحمد لله الملك القدوس المؤمن العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، أما بعد:

فإن رسول الله طلب أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله ، وقد أصدقها أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم.

فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد:

فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول الله ، ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإن من سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا.

قلت: فلعل عمرو بن العاص لما رأى عمرو بن أمية خارجا من عند النجاشي بعد الخندق إنما كان في قضية أم حبيبة فالله أعلم.

لكن قال الحافظ البيهقي: ذكر أبو عبد الله ابن منده أن تزويجه عليه السلام بأم حبيبة كان في سنة ست، وأن تزويجه بأم سلمة كان في سنة أربع.

قلت: وكذا قال خليفة، وأبو عبيد الله معمر بن المثنى، وابن البرقي، وأن تزويج أم حبيبة كان في سنة ست، وقال بعض الناس: سنة سبع.

قال البيهقي: هو أشبه.

قلت: قد تقدم تزويجه عليه السلام بأم سلمة في أواخر سنة أربع، وأما أم حبيبة فيحتمل أن يكون قبل ذلك، ويحتمل أن يكون بعده، وكونه بعد الخندق أشبه لما تقدم من ذكر عمرو بن العاص، أنه رأى عمرو بن أمية عند النجاشي، فهو في قضيتها، والله أعلم.

وقد حكى الحافظ ابن الأثير في (الغابة): عن قتادة أن أم حبيبة لما هاجرت من الحبشة إلى المدينة، خطبها رسول الله وتزوجها.

وحكي عن بعضهم أنه تزوجها بعد إسلام أبيها بعد الفتح. واحتج هذا القائل بما رواه مسلم: من طريق عكرمة بن عمار اليماني، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس أن أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن.

قال: «نعم».

قال: تؤمرني على أن أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.

قال: «نعم»

قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك.

قال: «نعم»

قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها.

الحديث بتمامه.

قال ابن الأثير: وهذا الحديث مما أنكر على مسلم، لأن أبا سفيان لما جاء يجدد العقد قبل الفتح، دخل على ابنته أم حبيبة، فثنت عنه فراش النبي ، فقال: والله ما أدري أرغبت بي عنه، أو به عني؟

قالت: بل هذا فراش رسول الله ، وأنت رجل مشرك.

فقال: والله لقد أصابك بعدي يا بنية شر.

وقال ابن حزم: هذا الحديث وضعه عكرمة بن عمار، وهذا القول منه لا يتابع عليه.

وقال آخرون: أراد أن يجدد العقد لما فيه بغير إذنه من الغضاضة عليه.

وقال بعضهم: لأنه اعتقد انفساخ نكاح ابنته بإسلامه.

وهذه كلها ضعيفة، والأحسن في هذا أنه أراد أن يزوجه ابنته الأخرى مرة، لما رأى في ذلك من الشرف له، واستعان بأختها أم حبيبة كما في الصحيحين، وإنما وهم الراوي في تسميته أم حبيبة، وقد أوردنا لذلك خبرا مفردا.

قال أبو عبيد القاسم بن سلام: توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: توفيت قبل معاوية لسنة، وكانت وفاة معاوية في رجب سنة ستين.

تزويجه بزينب بنت جحش

ابن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدية أم المؤمنين، وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله ، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه.

قال قتادة، والواقدي، وبعض أهل المدينة: تزوجها عليه السلام سنة خمس، زاد بعضهم في ذي القعدة.

قال الحافظ البيهقي: تزوجها بعد بني قريظة.

وقال خليفة بن خياط، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وابن منده: تزوجها سنة ثلاث.

والأول أشهر، وهو الذي سلكه ابن جرير، وغير واحد من أهل التاريخ.

وقد ذكر غير واحد من المفسرين، والفقهاء، وأهل التاريخ في سبب تزويجه إياها عليه السلام حديثا ذكره أحمد بن حنبل في مسنده، تركنا إيراده قصدا لئلا يضعه من لا يفهم على غير موضعه.

وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرا مَقْدُورا } 41.

وقد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه كفاية، فالمراد بالذي أنعم الله عليه ها هنا: زيد بن حارثة مولى رسول الله ، أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه رسول الله بالعتق، وزوجه بابنة عمه زينب بنت جحش.

قال مقاتل بن حبان: وكان صداقه لها عشرة دنانير، وستين درهما، وخمارا، وملحفة، ودرعا، وخمسين مدا، وعشرة أمداد من تمر، فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زوجها يشكو إلى رسول الله فكان يقول له: «اتق الله وأمسك عليك زوجك».

قال الله: { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } .

قال علي بن الحسين زيد العابدين، والسدي: كان رسول الله قد علم أنها ستكون من أزواجه، فهو الذي كان في نفسه عليه السلام.

وقد تكلم كثير من السلف ها هنا بآثار غريبة، وبعضها فيه نظر، تركناها.

قال الله تعالى: { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها } ذلك أن زيدا طلقها، فلما انقضت عدتها بعث إليها رسول الله يخطبها إلى نفسها ثم تزوجها، وكان الذي زوجها منه رب العالمين تبارك وتعالى.

كما ثبت في صحيح البخاري: عن أنس بن مالك أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي فتقول: زوجكن أهليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.

وفي رواية من طريق عيسى بن طهمان عن أنس قال: كانت زينب تفخر على نساء النبي وتقول: أنكحني الله من السماء.

وفيها أنزلت آية الحجاب { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } الآية.

وروى البيهقي من حديث حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: جاء زيد يشكو زينب فجعل رسول الله يقول: «اتق الله وأمسك عليك زوجك».

قال أنس: فلو كان رسول الله كاتما شيئا لكتم هذه، فكانت تفخر على أزواج النبي تقول: زوجكن أهليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.

ثم قال: رواه البخاري عن أحمد، عن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن حماد بن زيد.

ثم روى البيهقي: من طريق عفان، عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: جاء زيد يشكو إلى رسول الله من زينب بنت جحش فقال النبي : «أمسك عليك أهلك» فنزلت { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } .

ثم قال أخرجه البخاري: عن محمد بن عبد الرحيم، عن يعلى بن منصور، عن محمد مختصرا.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: كانت زينب تقول للنبي : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهم: إن جدي وجدك واحد - تعني عبد المطلب - فإنه أبو أبي النبي وأبو أمها أميمة بنت عبد المطلب، وإني أنكحنيك الله عز وجل من السماء، وإن السفير جبريل عليه السلام.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم - يعني ابن القاسم - حدثنا النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال النبي لزيد: «اذهب فاذكرها علي».

فانطلق حتى أتاها، وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، إن رسول الله ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله بذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل.

ثم قامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله فدخل عليها بغير إذن.

قال أنس: ولقد رأيتنا حين دخل عليها رسول الله أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله واتبعته، فجعل يتبع حجر نسائه، يسلم عليهم ويقلن: يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟

فما أدري أنا أخبرته، والقوم قد خرجوا أو أخبر.

قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم... } الآية، وكذا رواه مسلم، والنسائي، من طريق سليمان بن المغيرة.

نزول الحجاب صبيحة عرس زينب

فناسب نزول الحجاب في هذا العرس صيانة لها، ولأخواتها من أمهات المؤمنين، وذلك وفق الرأي العمري.

قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله الرقاش، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبي حدثنا أبو مجلز، عن أنس بن مالك قال: لما تزوج رسول الله زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا وجلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا.

فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، وجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي... } الآية.

وقد رواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم، والنسائي، من طرق، عن معتمر.

ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس نحوه.

وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: بُني على النبي بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعيا، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقلت: يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه، قال: «ارفعوا طعامكم».

وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته» قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، كيف وجدت أهلك بارك الله لك؟ فتقرَّى حجر نسائه كلهن، ويقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة.

ثم رجع النبي فإذا رهط ثلاثة في البيت يتحدثون، وكان النبي شديد الحياء، فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا، فخرج حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب، وأخرى خارجه أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب.

تفرد به البخاري من هذا الوجه، ثم رواه منفردا به أيضا: عن إسحاق هو ابن نصر، عن عبد الله بن بكير السهمي، عن حميد بن أنس بنحو ذلك، وقال: رجلان بدل ثلاثة، فالله أعلم.

قال البخاري: وقال إبراهيم بن طهمان، عن الجعد أبي عثمان، عن أنس فذكر نحوه.

وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو المظفر، حدثنا جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان اليشكري، عن أنس بن مالك قال: أعرس رسول الله ببعض نسائه، فصنعت أم سليم حيسا، ثم حطته في ثور فقالت: اذهب إلى رسول الله وأخبره إن هذا منا له قليل.

قال أنس: والناس يومئذ في جهد، فجئت به فقلت: يا رسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك، وهي تقرئك السلام وتقول: إن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قال: «ضعه في ناحية البيت».

ثم قال: «اذهب فادع لي فلانا وفلانا» فسمى رجالا كثيرا.

قال: ومن لقيت من المسلمين، فدعوت من قال لي، ومن لقيت من المسلمين، فجئت والبيت والصفة والحجرة ملاء من الناس، فقلت: يا أبا عثمان كم كانوا؟

قال: كانوا زهاء ثلثمائة.

قال أنس: فقال لي رسول الله : «جيء» فجئت به إليه، فوضع يده عليه، ودعا، وقال ما شاء الله، ثم قال: «ليتلحق عشرة عشرة ويسموا، وليأكل كل أنسان مما يليه» فجعلوا يسمون، ويأكلون، حتى أكلوا كلهم.

فقال لي رسول الله : «ارفعه».

قال: فجئت فأخذت الثور، فنظرت فيه فلا أدري أهو حين وضعته أكثر أم حين رفعته؟

قال: وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله ، وزوج رسول الله التي دخل بها معهم، مولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول الله ، وكان أشد الناس حياء، ولو علموا كان ذلك عليهم عزيزا.

فقام رسول الله فسلم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب، فخرجوا وجاء رسول الله حتى أرخى الستر، ودخل البيت وأنا في الحجرة، فمكث رسول الله في بيته يسيرا، وأنزل الله القرآن فخرج وهو يقرأ هذه الآية:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيما } 42.

قال أنس: فقرأهن عليَّ قبل الناس، وأنا أحدث الناس بهن عهدا.

وقد رواه مسلم، والترمذي، والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الجعد أبي عثمان به.

وقد روى هذا الحديث البخاري، والترمذي، والنسائي، من طرق: عن أبي بشر الأحمسي الكوفي، عن أنس بنحوه.

ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي نضرة العبدي، عن أنس بنحوه، ولم يخرجوه.

ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد، ومن حديث الزهري عن أنس نحو ذلك.

قلت: كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها من المهاجرات الأول، وكانت كثيرة الخير والصدقة، وكان اسمها أولا بره، فسماها النبي زينب، وكانت تكنى بأم الحكم.

قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت امرأة قط خيرا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم أمانة وصدقة.

وثبت في الصحيحين كما سيأتي في حديث الإفك، عن عائشة أنها قالت: وسأل رسول الله عني زينب بنت جحش، وهي التي كانت تساميني من نساء النبي ، فعصمها الله بالورع، فقالت: يا رسول الله احمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا.

وقال مسلم بن الحجاج في (صحيحه): حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله : «أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا».

قالت: فكنا نتطاول أينا أطول يدا، قالت: فكانت زينب أطولنا يدا، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق.

انفرد به مسلم.

قال الواقدي وغيره من أهل السير، والمغازي، والتواريخ: توفيت سنة عشرين من الهجرة، وصلى عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودفنت بالبقيع، وهي أول امرأة صنع لها النعش.

سنة ست من الهجرة

قال البيهقي: كان يقال في المحرم، منها سرية محمد بن مسلمة قبل نجد، وأسروا فيها ثمامة بن أنال اليمامي، قلت: لكن في سياق ابن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة: أنه شهد ذلك، وهو إنما هاجر بعد خيبر، فيؤخر إلى ما بعدها، والله أعلم.

وهي السنة التي كان في أوائلها غزوة بني لحيان على الصحيح.

قال ابن إسحاق: وكان فتح بني قريظة في ذي القعدة، وصدر من ذي الحجة، وولى تلك الحجة المشركون، يعني في سنة خمس كما تقدم.

قال: ثم أقام رسول الله بالمدينة ذا الحجة، والمحرم، وصفرا، وشهري ربيع، وخرج في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى بني لحيان، يطلب بأصحاب الرجيع حبيب وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام، ليصيب من القوم غرة.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، والمقصود أنه عليه السلام لما انتهى إلى منازلهم، هربوا من بين يديه، فتحصنوا في رؤوس الجبال، فمال إلى عسفان، فلقي بها جمعا من المشركين، وصلى بها صلاة الخوف.

وقد تقدم ذكر هذه الغزوة في سنة أربع، وهنالك ذكرها البيهقي، والأشبه ما ذكره ابن إسحاق أنها كانت بعد الخندق، وقد ثبت أنه صلى بعسفان يوم بني لحيان، فلتكتب هاهنا، وتحول من هناك اتباعا لإمام أصحاب المغازي في زمانه وبعده، كما قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق.

وقد قال كعب بن مالك في غزوة بني لحيان:

لو أن بني لحيان كانوا تناظروا * لقوا عصبا في دارهم ذات مصدق

لقوا سرعانا يملأ السرب روعه * أمام طحون كالمجرَّة فيلق

ولكنهم كانوا وبارا تتبعت * شعاب حجازٍ غير ذي متنفق

غزوة ذي قرد

قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله المدينة، فلم يقم بها إلا ليالي قلائل، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، في خيل من غطفان على لقاح النبي بالغابة، وفيها رجل من بني غفار ومعه امرأته، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ومن لا أتهم، عن عبد الله بن كعب بن مالك - كل قد حدث في غزوة ذي قرد بعض الحديث - أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله، ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله، معه فرس له يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم.

فأشرف في ناحية سلع ثم صرخ: واصباحاه! ثم خرج يشتد في آثار القوم وكان مثل السبع، حتى لحق بالقوم، فجعل يردهم بالنبل ويقول:

خذها وأنا ابن الأكوع * اليوم يوم الرضَّع

فإذا وجهت الخيل نحوه، انطلق هاربا ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى، ثم قال:

خذها وأنا ابن الأكوع * اليوم يوم الرضع

قال: فيقول قائلهم: أويكعنا هو أول النهار.

قال: وبلغ رسول الله صياح ابن الأكوع، فصرخ بالمدينة: «الفزع الفزع» فترامت الخيول إلى رسول الله ، فكان أول من انتهى إليه من الفرسان:

المقداد بن الأسود، ثم عباد بن بشر، وسعد بن زيد، وأسيد بن ظهير - يشك فيه - وعكاشة بن محصن، ومحرز بن نضلة أخو بني أسد بن خزيمة، وأبو قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة، وأبو عياش عبيد بن زيد بن الصامت أخو بني زريق.

قال: فلما اجتمعوا إلى رسول الله أمَّر عليهم سعد بن زيد، ثم قال: «اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس».

وقد قال النبي لأبي عياش فيما بلغني عن رجال من بني زريق: «يا أبا عياش لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك فلحق بالقوم».

قال أبو عياش: فقلت يا رسول الله أنا أفرس الناس، ثم ضربت الفرس فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني، فعجبت من ذلك، فزعم رجال من زريق أن رسول الله أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص، أو عائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة، وكان ثامنا.

قال: وبعض الناس يعد سلمة بن الأكوع ثامنا، ويطرح أسيد بن ظهير، فالله أعلم أي ذلك كان.

قال: ولم يكن سلمة بن الأكوع يومئذ فارسا قد كان أول من لحق بالقوم على رجليه.

قال: فخرج الفرسان حتى تلاحقوا، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة، وكان يقال له: الأخرم، ويقال له: قمير، وكانت الفرس التي تحته لمحمود بن مسلمة، وكان يقال للفرس ذو اللمة.

فلما انتهى إلى العدو قال لهم: قفوا معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من أدباركم من المهاجرين والأنصار، قال: فحمل عليه رجل منهم فقتله، وجال الفرس، فلم يقدر عليه حتى وقف على أرية من بني عبد الأشهل، أي: رجع إلى مربطه الذي كان فيه بالمدينة.

قال ابن إسحاق: ولم يقتل يومئذ من المسلمين غيره.

قال ابن هشام: وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنه قد قتل معه أيضا وقاص بن مجرز المدلجي.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك: أن محرزا كان على فرس لعكاشة بن محصن يقال لها: الجناح، فقتل محرز واستلب جناح، فالله أعلم.

قال: ولما تلاحقت الخيل، قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة وغشاه برده، ثم لحق بالناس، وأقبل رسول الله في المسلمين.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

فإذا حبيب مسجى ببرد أبي قتادة، فاسترجع الناس وقالوا: قُتل أبو قتادة، فقال رسول الله : «ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل لأبي قتادة» ووضع عليه برده، لتعرفوا أنه صاحبه.

قال: وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا، وابنه عمرو بن أوبار وهما على بعير واحد، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعا، واستنقذوا بعض اللقاح.

قال: وسار رسول الله حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وتلاحق به الناس، فأقام عليه يوما وليلة، وقال له سلمة بن الأكوع: يا رسول الله لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح، وأخذت بأعناق القوم.

فقال رسول الله - فيما بلغني -: «إنهم الآن ليغبقون في غطفان» فقسم رسول الله في أصحابه في كل مائة رجل جزورا، وأقاموا عليه، ثم رجع قافلا حتى قدم المدينة.

قال: وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل النبي حتى قدمت عليه المدينة فأخبرته الخبر، فلما فرغت قالت: يا رسول الله إني قد نذرت الله أن أنحرها أن نجاني الله عليها.

قال: فتبسم رسول الله ثم قال: «بئسما جزيتيها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة الله».

قال ابن إسحاق: والحديث في ذلك عن أبي الزبير المكي، عن الحسن البصري.

هكذا أورد ابن إسحاق هذه القصة بما ذكر من الإسناد والسياق.

وقد قال البخاري رحمه الله بعد قصة الحديبية، وقبل خيبر غزوة ذي قرد، وهي الغزوة التي أغاروا على لقاح النبي قبل خيبر بثلاث: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، سمعت سلمة بن الأكوع يقول: خرجت قبل أن يؤذن بالأولى، وكانت لقاح النبي ترعى بذي قرد.

قال: فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال: أخذت لقاح النبي .

فقلت: من أخذها؟

قال: غطفان.

قال: فصرخت ثلاث صرخات واصباحاه.

قال: فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم، وقد أخذوا يستقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي وكنت راميا وأقول: أنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرضع، وأرتجز حتى استنقذت اللقاح منهم، واستلبت منهم ثلاثين بردة.

قال: وجاء النبي والناس فقلت: يا رسول الله قد حميت القوم الماء وهم عطاش، فابعث إليهم الساعة.

فقال: «يا ابن الأكوع ملكت فأسجح» ثم رجعنا وردفني رسول الله على ناقته حتى قدمنا المدينة.

وهكذا رواه مسلم عن قتيبة به.

ورواه البخاري: عن أبي عاصم السهلي، عن يزيد بن أبي عبيدة، عن مولاة سلمة بنحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: قدمنا المدينة زمن الحديبية مع رسول الله ، فخرجت أنا ورباح غلام النبي بظهر رسول الله ، وخرجت بفرس لطلحة بن عبيد الله أريد أن أنديه مع الإبل.

فلما كان بغلس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله فقتل راعيها، وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل فقلت: يا رباح اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة.

وأخبر رسول الله أنه قد أغير على سرحه.

قال: وقمت على تل، فجعلت وجهي من قبل المدينة، ثم ناديت ثلاث مرات: يا صباحاه!

قال: ثم اتبعت القوم معي سيفي ونبلي فجعلت أرميهم وأعقر بهم، وذلك حين يكثر الشجر، فإذا رجع إلي فارس جلست له في أصل شجرة، ثم رميت فلا يقبل فارس إلا عقرت به فجعلت أرميهم وأنا أقول:

أنا ابن الأكوع * واليوم يوم الرضع

قال: فألحق برجل منهم فأرميه وهو على راحلته، فيقع سهمي في الرجل حتى انتظم كتفه، فقلت:

خذها وأنا ابن الأكوع * واليوم يوم الرضع

فإذا كنت في الشجر أحرقتهم بالنبل، فإذا تضايقت الثنايا علوت الجبل فرديتهم بالحجارة، فما زال ذاك شأني وشأنهم أتبعهم وأرتجز حتى ما خلق الله شيئا من ظهر رسول الله إلا خلفته وراء ظهري، فاستنقذته من أيديهم.

ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا، وأكثر من ثلاثين بردة، يستخفون منها ولا يلقون من ذلك شيئا إلا جعلت عليه حجارة، وجمعته على طريق رسول الله ، حتى إذا امتد الضحى أتاهم عيينة بن بدر الفزاري مددا لهم، وهم في ثنية ضيقة، ثم علوت الجبل فأنا فوقهم.

فقال عيينة: ما هذا الذي أرى؟

قالوا: لقينا من هذا البرح ما فارقنا بسحر حتى الآن، وأخذ كل شيء بأيدينا وجعله وراء ظهره.

فقال عيينة: لولا أن هذا يرى أن وراءه طلبا لقد ترككم، ليقم إليه نفر منكم.

فقام إليه نفر منهم أربعة فصعدوا في الجبل، فلما أسمعتهم الصوت قلت: أتعرفونني؟

قالوا: ومن أنت؟

قلت: أنا ابن الأكوع، والذي كرم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني.

فقال رجل منهم: إن أظن.

قال: فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله يخللون الشجر، وإذا أولهم الأخرم الأسدي، وعلى أثره أبو قتادة فارس رسول الله ، وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندي، فولى المشركون مدبرين، وأنزل من الجبل فأعرض للأخرم، فأخذ عنان فرسه.

فقلت: يا أخرم ائذن القوم - يعني احذرهم - فإني لا أمن أن يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله وأصحابه.

قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق، والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة.

قال: فخليت عنان فرسه، فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة، ويعطف عليه عبد الرحمن، فاختلفا طعنتين فعقر الأخرم بعبد الرحمن، وطعنه عبد الرحمن فقتله، فتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن، فاختلفا طعنتين، فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة، وتحول أبو قتادة على فرس الأخرم.

ثم إني خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار صحابة النبي شيئا، ويعرضون قبل غيبوبة الشمس إلى شعب فيه ماء، يقال له ذو قَرَدٍ، فأرادوا أن يشربوا منه فأبصروني أعدوا وراءهم، فعطفوا عنه وأسندوا في الثنية ثنية ذي بئر، وغربت الشمس وألحق رجلا فأرميه فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع.

قال: فقال: يا ثكل أم أكوع بكرة.

فقلت: نعم، أي: عدو نفسه.

وكان الذي رميته بكرة وأتبعته سهما آخر، فعلق به سهمان ويخلفون فرسين، فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله وهو على الماء الذي أجليتهم عنه ذو قرد، وإذا بنبي الله في خمسمائة، وإذا بلال قد نحر جزورا مما خلفت، فهو يشوي لرسول الله من كبدها وسنامها، فأتيت رسول الله فقلت:

يا رسول الله خلني، فأنتخب من أصحابك مائة، فآخذ على الكفار بالعشوة، فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته.

فقال: «أكنت فأعلى ذلك يا سلمة؟»

قال: قلت: نعم والذي أكرمك.

فضحك رسول الله حتى رأيت نواجذه في ضوء النار، ثم قال: «إنهم يقرون الآن بأرض غطفان».

فجاء رجل من غطفان فقال: مروا على فلان الغطفاني، فنحر لهم حزورا، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها، وخرجوا هرابا، فلما أصبحنا قال رسول الله : «خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة».

فأعطاني رسول الله سهم الفارس والراجل جميعا، ثم أردفني وراءه على العضباء، راجعين إلى المدينة.

فلما كان بيننا وبينها قريب من ضحوة وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق، جعل ينادي: هل من مسابق، إلا رجل يسابق إلى المدينة؟ فأعاد ذلك مرارا وأنا وراء رسول الله مردفي، فقلت له: أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا؟

قال: لا إلا رسول الله .

قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي خلني فلأسابق الرجل.

قال: «إن شئت».

قلت: أذهب إليك، فطفر عن راحلته وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة، ثم إني ربطت عليه شرفا أو شرفين - يعني استبقيت من نفسي - ثم أني عدوت حتى ألحقه فأصك بين كتفيه بيدي.

قلت: سبقتك والله أو كلمة نحوها.

قال: فضحك، وقال: إن أظن، حتى قدمنا المدينة.

وهكذا رواه مسلم من طرق عن عكرمة بن عمار بنحوه، وعنده فسبقته إلى المدينة فلم نلبث إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر.

ولأحمد هذا السياق.

ذكر البخاري، والبيهقي هذه الغزوة بعد الحديبية وقبل خيبر، وهو أشبه مما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم.

فينبغي تأخيرها إلى أوائل سنة سبع من الهجرة، فإن خيبر كانت في صفر منها.

وأما قصة المرأة التي نجت على ناقة النبي ونذرت نحرها لنجاتها عليها، فقد أوردها ابن إسحاق بروايته عن أبي الزبير، عن الحسن البصري مرسلا.

وقد جاء متصلا من وجوه أخر.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، فأسر الرجل، فأخذت العضباء معه.

قال: فمر به رسول الله وهو في وثاق ورسول الله على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علام تأخذوني وتأخذون سابقة الحاج؟

فقال رسول الله : «نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف».

قال: وكانت ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي .

وقال: فيما قال إني مسلم.

فقال رسول الله : «لو قتلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح».

قال: ومضى رسول الله فقال: يا محمد إني جائع فأطعمني، وإني ظمآن فاسقني.

فقال رسول الله : «هذه حاجتك» ثم فدي بالرجلين، وحبس رسول الله العضباء لرحله.

ثم قال: إن المشركين أغاروا على سرح المدينة فذهبوا به وكانت العضباء فيه، وأسروا امرأة من المسلمين.

قال: وكانوا إذا نزلوا أراحوا إبله بأفنيتهم.

قال: فقامت المرأة ذات ليلة بعد ما ناموا فجعلت كلما أتت على بعير رغا حتى أتت على العضباء، فأتت على ناقة ذلول مجرسة فركبتها، ثم وجهتها قبل المدينة.

قال: ونذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، فقيل: ناقة رسول الله .

قال: وأخبر رسول الله بنذرها، أو أتته فأخبرته.

فقال: «بئس ما جزيتيها» أو «بئس ما جزتها أن أنجاها الله عليها لتنحرنها».

قال: ثم قال رسول الله : «لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم».

ورواه مسلم: عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد.

قال ابن إسحاق: وكان مما قيل من الأشعار في غزوة ذي قرد قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

لولا الذي لاقت ومس نسورها * بجنوب ساية أمس في التقواد

للقبنكم يحملن كل مدجج * حامي الحقيقة ماجد الأجداد

ولسر أولاد اللقيطة أننا * سلم غداة فوارس المقداد

كنا ثمانية وكانوا جحفلا * لجبا فشكوا بالرماح بداد

كنا من القوم الذين يلونهم * ويقدمون عنان كل جواد

كلا ورب الراقصات إلى منى * يقطعن عرض مخارم الأطواد

حتى نبيل الخيل في عرصاتكم * ونئوب بالملكات والأولاد

رهوا بكل مقلص وطمرةٍ * في كل معترك عطفن وواد

أفنى دوابرها ولاح متونها * يوم تقاد به ويوم طراد

فكذاك إن جيادنا ملبونة * والحرب مشعلة بريح غواد

وسيوفنا بيض الحدائد تجتلي * جنن الحديد وهامة المرتاد

أخذ الإله عليهم لحرامه * ولعزة الرحمن بالأسداد

كانوا بدار ناعمين فبدلوا * أيام ذي قرد وجوه عناد

قال ابن إسحاق: فغضب سعد بن زيد أمير سرية الفوارس المتقدمين أمام رسول الله على حسان، وحلف لا يكلمه أبدا وقال: انطلق إلى خيلي وفوارسي فجعلها للمقداد.

فاعتذر إليه حسان بأنه وافق الروي اسم المقداد، ثم قال أبياتا يمدح بها سعد بن زيد:

إذا أردتم الأشد الجلدا * أو ذا غناء فعليكم سعدا

سعد بن زيد لا يهد هدا

قال: فلم تقع منه بموقع.

وقال حسان بن ثابت في يوم ذي قرد:

أظن عيينة إذ زارها * بأن سوف يهدم فيها قصورا

فأكذبت ما كنت صدقته * وقلتم سنغنم أمرا كبيرا

فعفت المدينة إذ زرتها * وأنست للأسد فيها زئيرا

وولوا سراعا كشد النعام * ولم يكشفوا عن ملط حصيرا

أمير علينا رسول المليك * أحبب بذاك إلينا أميرا

رسول يصدق ما جاءه * ويتلو كتابا مضيئا منيرا

وقال كعب بن مالك في يوم ذي قرد يمدح الفرسان يومئذ من المسلمين:

أيحسب أولاد اللقيطة أننا * على الخيل لسنا مثلهم في الفوارس

وأنا أناس لا نرى القتل سبة * ولا ننثني عند الرماح المداعس

وأنا لنقري الضيف من قمع الذرى * ونضرب رأس الأبلج المتشاوس

نرد كماة المعلمين إذا انتحوا * بضرب يسلي نخوة المتقاعس

بكل فتى حامي الحقيقة ماجد * كريم كسرحان العضاة مخالس

يذودون عن أحسابهم وبلادهم * ببيض تقد الهام تحت القوانس

فسائل بني بدر إذا ما لقيتهم * بما فعل الإخوان يوم التمارس

إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتم * ولا تكتموا أخباركم في المجالس

وقولوا زللنا عن مخالب خادر * به وحر في الصدر ما لم يمارس

غزوة بني المصطلق من خزاعة

قال البخاري: وهي غزوة المريسيع.

قال محمد بن إسحاق: وذلك في سنة ست.

وقال موسى بن عقبة: سنة أربع.

وقال النعمان بن راشد عن الزهري كان حديث الإفك في غزوة المريسيع.

هكذا رواه البخاري عن مغازي موسى بن عقبة أنها كانت في سنة أربع، والذي حكاه عنه وعن عروة أنها كانت في شعبان سنة خمس.

وقال الواقدي: كانت لليلتين من شعبان سنة خمس في سبعمائة من أصحابه.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار بعد ما أورد قصة ذي قرد: فأقام رسول الله بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجب، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان سنة ست.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري.

ويقال: نميلة بن عبد الله الليثي.

قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان، كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق قالوا: بلغ رسول الله أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث التي تزوجها رسول الله بعد هذا.

فلما سمع بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحم الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم، ونقل رسول الله أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه.

وقال الواقدي: خرج رسول الله لليلتين مضتا من شعبان سنة خمس من الهجرة في سبعمائة من أصحابه إلى بني المصطلق، وكانوا حلفاء بني مدلج، فلما انتهى إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق، ويقال إلى عمار بن ياسر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، ثم أمر عمر بن الخطاب فنادى في الناس: أن قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، فأبوا فتراموا بالنبل.

ثم أمر رسول الله المسلمين فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم رجل واحد، وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد.

وثبت في الصحيحين: من حديث عبد الله بن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فقال: قد أغار رسول الله على بني المصطلق، وهم غارون في أنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم، فأصاب يومئذ - أحسبه قال - جويرية بنت الحارث.

وأخبرني عبد الله بن عمر بذلك، وكان بذلك الجيش.

قال ابن إسحاق: وقد أصيب رجل من المسلمين يقال له هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ.

وذكر ابن إسحاق: أن أخاه مقيس بن صبابة قدم من مكة مظهرا للإسلام فطلب دية أخيه هشام من رسول الله لأنه قتل خطأ، فأعطاه ديته، ثم مكث يسيرا ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ورجع مرتدا إلى مكة، وقال في ذلك:

شفى النفس أن قد بات بالقاع مسندا * يضرج ثوبيه دماء الأخادع

وكانت هموم النفس من قبل قتله * تلم فتحميني وطاء المضاجع

حللت به وتري وأدركت ثؤرتي * وكنت إلى الأوثان أول راجع

ثأرت به فهرا وحملت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع

قلت: ولهذا كان مقيس هذا من الأربعة الذين أهدر رسول الله يوم الفتح دماءهم، وإن وجدوا معلقين بأستار الكعبة.

قال ابن إسحاق: فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم غلام حدث.

فقال: أوقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.

فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله.

فقال رسول الله : «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن أذن بالرحيل».

وذلك في ساعة لم يكن رسول الله يرتحل فيها، فارتحل الناس.

وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله حين بلغه أن زيد بن أرقم بلغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وكان في قومه شريفا عظيما.

فقال من حضر رسول الله من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل حدبا على ابن أبي، ودفعا عنه، فلما استقل رسول الله وسار، لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، وقال: يا رسول الله والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها.

فقال له رسول الله : «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟».

قال: أي صاحب يا رسول الله؟

قال: عبد الله بن أبي.

قال: وما قال؟

قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل

قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز.

ثم قال: يا رسول الله ارفق لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

ثم مشى رسول الله بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما.

وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي، ثم راح رسول الله بالناس، وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع، يقال له: بقعاء.

فلما راح رسول الله هبت على الناس ريح شديدة، فآذتهم وتخوفوها، فقال رسول الله : «لا تخوفوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار».

فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع، وكان عظيما من عظماء اليهود وكهفا للمنافقين مات ذلك اليوم.

وهكذا ذكر موسى بن عقبة، والواقدي.

وروى مسلم من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر نحو هذه القصة، إلا أنه لم يسم الذي مات من المنافقين.

قال: هبت ريح شديدة والنبي في بعض أسفاره، فقال: «هذه لموت منافق».

فلما قدمنا المدينة إذا هو قد مات عظيم من عظماء المنافقين.

قال ابن إسحاق: ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، فأخذ رسول الله بأُذن زيد بن أرقم وقال: «هذا الذي أوفى لله بأذنه».

قلت: وقد تكلمنا على تفسيرها بتمامها في كتابنا التفسير بما فيه كفاية عن إعادته ها هنا، وسردنا طرق هذا الحديث عن زيد بن أرقم، ولله الحمد والمنة، فمن أراد الوقوف عليه أو أحب أن يكتبه ها هنا فليطلبه من هناك، وبالله التوفيق.

قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول أتى رسول الله فقال:

يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فأعلى فمر لي به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من الرجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر، فأدخل النار.

فقال رسول الله : «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا».

وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه.

فقال رسول الله لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: «كيف ترى يا عمر أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته».

فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري.

وقد ذكر عكرمة، وابن زيد وغيرهما: أن ابنه عبد الله رضي الله عنه وقف لأبيه عبد الله بن أبي بن سلول عند مضيق المدينة، فقال: قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله في ذلك، فلما جاء رسول الله استأذنه في ذلك، فأذن له فأرسله حتى دخل المدينة.

قال ابن إسحاق: وأصيب يومئذ من بني المصطلق ناس، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين مالكا وابنه.

قال ابن هشام: وكان شعار المسلمين: يا منصور أمت أمت.

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله أصاب منهم سبيا كثيرا فقسمهم في المسلمين.

وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرني إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز أنه قال:

دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل، فقال أبو سعيد: خرجنا مع رسول الله في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيا من سبي العرب فاشتهينا النساء، وأشدت علينا العزوبة وأحببنا العزل، وقلنا نعزل ورسول الله بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك فقال: «ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا كائنة».

وهكذا رواه.

قال ابن إسحاق: وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار.

فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت: لما قسم رسول الله سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله لتستعينه في كتابتها قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت.

فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي.

قال: «فهل لك في خير من ذلك؟».

قالت: وما هو يا رسول الله؟

قال: «أقضي عنك كتابك وأتزوجك».

قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت.

قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله قد تزوج جويرية بنت الحارث.

فقال الناس: أصهار رسول الله فأرسلوا ما بأيديهم.

قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها.

ثم ذكر ابن إسحاق قصة الإفك بتمامها في هذه الغزوة، وكذلك البخاري، وغير واحد من أهل العلم، وقد حررت طرق ذلك كله في تفسير سورة النور، فليلحق بكماله إلى ها هنا وبالله المستعان.

وقال الواقدي: حدثنا حرام، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قالت جويرية بنت الحارث: رأيت قبل قدوم النبي بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر به أحدا من الناس، حتى قدم رسول الله ، فلما سبينا رجوت الرؤيا.

قالت: فأعتقني رسول الله وتزوجني، والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذي أرسلوهم، وما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر، فحمدت الله تعالى.

قال الواقدي: ويقال إن رسول الله جعل صداقها عتق أربعين من بني المصطلق.

وذكر موسى بن عقبة، عن بني المصطلق: أن أباها طلبها وافتداها، ثم خطبها منه رسول الله فزوجه إياها.

قصة الإفك

وهذا سياق محمد بن إسحاق حديث الإفك: قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن علقمة بن وقاص وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن عبيد الله بن عتبة.

قال الزهري: وكل قد حدثني بهذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد جمعت كل الذي حدثني القوم.

قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، وعبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، عن نفسها حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا، يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه، وكل كان عنها ثقة، فكلهم حدث عنها بما سمع.

قالت: كان رسول الله إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كان غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهن معه، فخرج بي رسول الله .

قالت: وكان النساء إذ ذاك يأكلن العلق، لم يهجهن اللحم فيثقلن، وكنت إذا رحل لي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين كانوا يرحلون لي فيحملونني ويأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير، فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به.

قالت: فلما فرغ رسول الله من سفره ذلك، وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات به بعض الليل، ثم أذن مؤذن في الناس بالرحيل، فارتحل الناس وخرجت لبعض حاجتي، وفي عنقي عقد لي فيه جزع ظفار، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته.

وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون لي البعير، وقد كانوا فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه، كما كنت أصنع فاحتملوه فشدوه على البعير، ولم يشكوا أني فيه ثم أخذوا برأس البعير، فانطلقوا به فرجعت إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب، قد انطلق الناس.

قالت: فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو افتقدت لرجع الناس إلي.

قالت: فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجاته، فلم يبت مع الناس فرأى سوادي فأقبل حتى وقف علي، وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ظعينة رسول الله ؟ وأنا متلففة في ثيابي.

قال: ما خلفك يرحمك الله؟

قالت: فما كلمته.

ثم قرب إلي البعير فقال: اركبي، واستأخر عني.

قالت: فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعا يطلب الناس، فوالله ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي، فقال أهل الإفك ما قالوا، وارتج العسكر، والله ما أعلم بشيء من ذلك.

ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة لا يبلغني من ذلك شيء، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله وإلى أبوي لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا، إلا أني قد أنكرت من رسول الله بعض لطفه بي، كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي، فلم يفعل ذلك بي في شكواي ذلك، فأنكرت ذلك منه.

كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني قال: «كيف تيكم؟» لا يزيد على ذلك.

قالت: حتى وجدت في نفسي، فقلت: يا رسول الله حين رأيت ما رأيت من جفائه لي لو أذنت لي، فانتقلت إلى أمي فمرضتني؟

قال: «لا عليك».

قالت: فانقلبت إلى أمي، ولا علم لي بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع عشرين ليلة، وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، إنما كنا نخرج في فسح المدينة، وإنما كانت النساء يخرجن في كل ليلة في حوائجهن، فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب.

قالت: فوالله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح - ومسطح لقب واسمه عوف - قالت: فقلت: بئس لعمرو الله ما قلت لرجل من المهاجرين وقد شهد بدرا.

قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟

قالت: قلت: وما الخبر؟

فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك.

قلت: أو قد كان هذا؟

قالت: نعم والله لقد كان.

قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي، ورجعت فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي؛ قالت: وقلت لأمي: يغفر الله لك تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟

قالت: أي بنية خففي عليك الشأن، فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها.

قالت: وقد قام رسول الله في الناس فخطبهم ولا أعلم بذلك، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت عليهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي».

قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله ، ولم تكن امرأة من نسائه تناصيني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارني لأختها فشقيت بذلك.

فلما قال رسول الله تلك المقالة، قال أسيد بن حضير: يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا أمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم.

قالت: فقام سعد بن عبادة، وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا فقال: كذبت لعمر الله ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا.

فقال أسيد بن حضير: كذبت لعمر الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين.

قالت: وتساور الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر، ونزل رسول الله فدخل علي، فدعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا وقاله.

ثم قال: يا رسول الله أهلك، وما نعلم منهم إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل.

وأما علي فإنه قال: يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية فإنها ستصدقك.

فدعا رسول الله بريرة يسألها، قالت: فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا ويقول: أصدقي رسول الله .

قالت: فتقول والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أني كنت أعجن عجيني فأمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله.

قالت: ثم دخل علي رسول الله وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي، فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله، وإن كنت قد فارقت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده».

قالت: فوالله إن هو إلا أن قال لي ذلك، فقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئا، وانتظرت أبوي أن يجيبا عني رسول الله فلم يتكلما.

قالت: وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسي، وأصغر شأنا من أن ينزل الله في قرأنا يقرأ به ويصلى به، ولكني كنت أرجو أن يرى النبي في نومه شيئا يكذب الله به عني، لما يعلم من براءتي، ويخبر خبرا، وأما قرآنا ينزل في فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك.

قالت: فلما لم أرَ أبوي يتكلمان، قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله ؟

فقالا: والله ما ندري بما نجيبه.

قالت: ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل علي آل أبي بكر في تلك الأيام.

قالت: فلما استعجما علي استعبرت فبكيت، ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أني منه بريئة، لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني.

قالت: ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت: ولكن سأقول كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.

قالت: فوالله ما برح رسول الله مجلسه، حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجي بثوبه، ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فوالله ما فزعت وما باليت قد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي.

وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سري عن رسول الله حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس.

قالت: ثم سري عن رسول الله فجلس وإنه ليتحدر من وجهه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: «أبشري يا عائشة قد أنزل الله عز وجل براءتك» قالت: قلت الحمد لله.

ثم خرج إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم.

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن الزهري، وهذا السياق فيه فوائد جمة، وذكر حد القذف لحسان ومن معه رواه أبو داود في سننه.

قال ابن إسحاق: وقال قائل من المسلمين في ضرب حسان وأصحابه:

لقد ذاق حسان الذي كان أهله * وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم * وسخطة ذي العرش الكريم فأترحوا

وآذوا رسول الله فيها فجللوا * مخازي تبقى عمموها وفضِّحوا

وصبت عليهم محصدات كأنها * شآبيب قطر في ذرا المزن تسفح

وقد ذكر ابن إسحاق أن حسان بن ثابت قال شعرا يهجو فيه صفوان بن المعطل، وجماعة من قريش ممن تخاصم على الماء من أصحاب جهجهاه كما تقدم، أوله هي:

أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا * وابن الفريعة أمسى بيضة البلد

قد ثكلت أمه من كنت صاحبه * أو كان منتشبا في برثن الأسد

ما لقتيلي الذي أعدو فآخذه * من دية فيه يعطاها ولا قود

ما البحر حين تهب الريح شامية * فيغطئل ويرمي العبر بالزبد

يوما بأغلب مني حين تبصرني * مِلْغيظ أفري كفري العارض البرد

أما قريش فإني لا أسالمها * حتى ينيبوا من الغياث للرشد

ويتركوا اللات والعزى بمعزلة * ويسجدوا كلهم للواحد الصمد

ويشهدوا أن ما قال الرسول لهم * حق فيوفوا بحق الله والوكد

قال: فاعترضه صفوان بن المعطل فضربه بالسيف وهو يقول:

تلقَ ذباب السيف عني فإنني * غلام إذا هوجيت لست بشاعر

وذكر أن ثابت بن قيس بن شماس أخذ صفوان حين ضرب حسان فشده وثاقا، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ فقال: ضُرب حسان بالسيف، فقال عبد الله: هل علم رسول الله بشيء من ذلك؟

قال: لا، فأطلقه.

ثم أتوا كلهم رسول الله فقال ابن المعطل: يا رسول الله آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته، فقال رسول الله : «يا حسان أتشوهت على قومي إذ هداهم الله».

ثم قال: «أحسن يا حسان فيما أصابك» فقال: هي لك يا رسول الله، فعوضه منها بيرحاء التي تصدق بها أبو طلحة وجارية قبطية يقال لها: سيرين، جاءه منها ابنه عبد الرحمن.

قال: وكانت عائشة تقول: سُئل عن ابن المعطل فوجد رجلا حصورا ما يأتي النساء، ثم قتل بعد ذلك شهيدا رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق: ثم قال حسان بن ثابت يعتذر من الذي كان قال في شأن عائشة:

حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

عقيلة حي من لؤي بن غالب * كرام المساعي مجدهم غير زائل

وإن الذي قد قيل ليس بلائط * بك الدهر بل قيل امرئ بي ما حل

فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم * فلا رفعت سوطي إلى أناملي

فكيف وودي ما حييت ونصرتي * لآل رسول الله زين المحافل

وإن لهم عزا ترى الناس دونه * قصارا وطال العز كل التطاول

ولتكتب ها هنا الآيات من سورة النور، وهي من قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ... } إلى { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } 43.

وما أوردناه هنالك من الأحاديث والطرق والآثار عن السلف والخلف، وبالله التوفيق.

غزوة الحديبية

وقد كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف، وممن نصَّ على ذلك الزهري، ونافع مولى ابن عمر، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق بن يسار وغيرهم.

وهو الذي رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة أنها كانت في ذي القعدة سنة ست.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا إسماعيل بن الخليل عن علي بن مسهر، أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال: خرج رسول الله إلى الحديبية في رمضان، وكانت الحديبية في شوال، وهذا غريب جدا عن عروة.

وقد روى البخاري ومسلم جميعا: عن هدبة، عن همام، عن قتادة أن أنس بن مالك أخبره أن رسول الله اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا العمرة التي مع حجته عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، ومن الجعرانة في ذي القعدة، حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته.

وهذا لفظ البخاري.

وقال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله بالمدينة رمضان وشوال، وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي.

قال ابن إسحاق: واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول الله بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا: خرج رسول الله عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا، وساق معه الهدي سبعين بدنة.

وكان الناس سبعمائة رجل، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر، وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.

قال الزهري: وخرج رسول الله حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم.

قال: فقال رسول الله : «يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش فوالله، لا أزال أجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة».

ثم قال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟».

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين فأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله للناس: «قولوا نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك.

فقال: «والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها».

قال ابن شهاب: فأمر رسول الله الناس فقال: «اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض في طريق يخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة».

قال: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش، وخرج رسول الله حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس: خلأت.

فقال: «ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطه يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها».

ثم قال للناس: «انزلوا».

قيل له: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه، فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن.

قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم: أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله ناجية بن جندب سائق بدن رسول الله .

قال ابن إسحاق: وقد زعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذي نزلت بسهم رسول الله ، فالله أعلم أي ذلك كان.

ثم استدل ابن إسحاق للأول أن جارية من الأنصار جاءت البئر وناجية أسفله يميح فقالت:

يا أيها المائح دلوي دونكا * إني رأيت الناس يحمدونكا

يثنون خيرا ويمجدونكا

فأجابها فقال:

قد علمت جارية يمانيه * أني أنا المائح واسمي ناجية

وطعنة ذات رشاش واهيه * طعنتها عند صدور العادية

قال الزهري في حديثه: فلما اطمأن رسول الله أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته.

ثم قال لهم نحو ما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، وإن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم وقالوا: وإن جاء ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة، ولا تحدث بذلك عنا العرب.

قال الزهري: وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكة، قال: ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله مقبلا قال: «هذا رجل غادر».

فلما انتهى إلى رسول الله وكلمه، قال له رسول الله نحوا مما قال لبديل وأصحابه.

فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله ، ثم بعثوا بحليس بن علقمة أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة.

فلما رآه رسول الله قال: «إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله إعظاما لما رأى، فقال لهم ذلك.

قال: فقالوا له اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن الحليس غضب عند ذلك وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاهدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد.

قالوا: مه كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

قال الزهري في حديثه: ثم بعثوا إلى رسول الله عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي.

قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.

فخرج حتى أتى رسول الله فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.

قال: وأبو بكر الصديق رضي الله عنه خلف رسول الله فقال: امصص بظر اللات أنحن ننكشف عنه.

قال: من هذا يا محمد؟

قال: «هذا ابن أبي قحافة».

قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ولكن هذه بهذه.

قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله في الحديد.

قال: فجعل يقرع يده إذ يتناول لحية رسول الله ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل أن لا تصل إليك.

قال: فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك.

قال: فتبسم رسول الله فقال له عروة: من هذا يا محمد؟

قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة».

قال: أي غدر وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس؟

قال الزهري: فكلمه رسول الله بنحو ما كلم به أصحابه وأخبره أنه لم يأت يريد حربا، فقام من عند رسول الله وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه.

فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله .

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، أمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا.

فأخذوا فأتى بهم رسول الله فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله بالحجارة والنبل.

ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال يا رسول الله: إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان.

فدعا رسول الله عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته.

فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله ما أرسله به.

فقالوا لعثمان حين بلغ رسالة رسول الله : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف.

قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ، واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قد قتل.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا رسول الله إلى البيعة، وكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله على الموت.

وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر، فبايع رسول الله الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين إلا حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، وكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بأبط ناقته قد ضبأ إليها يستر من الناس.

ثم أتى رسول الله أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.

قال ابن هشام: وذكر وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: أن أول من بايع رسول الله بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي.

قال ابن هشام: وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر: أن رسول الله بايع لعثمان فضرب بإحدى يديه على الأخرى.

وهذا الحديث الذي ذكره ابن هشام بهذا الإسناد ضعيف لكنه ثابت في الصحيحين.

قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله وقالوا: آت محمدا وصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوة أبدا.

فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله مقبلا قال: «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل».

فلما انتهى سهيل إلى رسول الله تكلم فأطال الكلام، تراجعا ثم جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله ؟

قال: بلى.

قال: أولسنا بالمسلمين؟

قال: بلى.

قال: أوليسوا بالمشركين؟

قال: بلى.

قال: فعلام نعطي الدينة في ديننا؟

قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله.

قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى رسول الله فقال: يا رسول الله ألست برسول الله؟

قال: «بلى».

قال: أولسنا بالمسلمين؟

قال: «بلى».

قال: أوليسوا بالمشركين؟

قال: «بلى».

قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا قال أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني، وكان عمر رضي الله عنه يقول ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرا.

قال: ثم دعا رسول الله علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم».

قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا ولكن أكتب باسمك اللهم.

قال: فقال رسول الله : «اكتب باسمك اللهم» فكتبها.

ثم قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو».

قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.

قال: فقال رسول الله : «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا أسلال ولا أغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه».

فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت فيها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.

قال: فبينا رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله ، وقد كان أصحاب رسول الله قد خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله .

فلما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم، حتى كادوا يهلكون، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا.

قال: «صدقت» فجعل ينتره بتلبيبه ويجره يعني يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني! فزاد ذلك الناس إلى ما بهم.

فقال رسول الله : «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، أنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وأنا لا نغدر بهم».

قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب، قال: ويدني قائم السيف منه.

قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه.

قال: فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية.

فلما فرغ رسول الله من الكتاب أشهد على الصلح رجالا من المسلمين، ورجالا من المشركين أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص، وهو يومئذ مشرك، وعلي بن أبي طالب، وكتب وكان هو كاتب الصحيفة.

وكان رسول الله مضطربا في الحل وكان يصلي في الحرم، فلما فرغ من الصلح قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فلما رأى الناس أن رسول الله قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله : «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟

قال: «يرحم الله المحلقين».

قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟

قال: «يرحم الله المحلقين».

قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟

قال: «والمقصرين».

قالوا يا رسول الله: فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟

قال: «لم يشكو».

وقال عبد الله بن أبي نجيح: حدثني مجاهد، عن ابن عباس: أن رسول الله أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين.

هذا سياق محمد بن إسحاق رحمه الله لهذه القصة، وفي سياق البخاري كما سيأتي مخالفة في بعض الأماكن لهذا السياق كما ستراها إن شاء الله وبه الثقة، ولنوردها بتمامها ونذكر في الأحاديث الصحاح والحسان ما فيه.... إن شاء الله تعالى، وعليه التكلان وهو المستعان.

قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله، عن زيد بن خالد قال: خرجنا مع رسول الله عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة، فصلى بنا رسول الله الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: «أتدرون ماذا قال ربكم؟».

فقلنا: الله ورسوله أعلم.

فقال: «قال الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنجم كذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي».

وهكذا رواه في غير موضع من صحيحه، ومسلم من طرق عن الزهري.

وقد روي عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة.

وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: تعدون الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية.

كنا مع النبي أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا.

انفرد به البخاري.

وقال ابن إسحاق في قوله تعالى: { فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحا قَرِيبا } 44 صلح الحديبية.

قال الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس كلم بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.

قال ابن هشام: والدليل على ما قاله الزهري: أن رسول الله خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة رجل في قول جابر، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.

وقال البخاري: حدثنا يوسف بن عيسى، حدثنا ابن فضيل، حدثنا حصين، عن سالم، عن جابر قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، فقال رسول الله : «ما لكم؟»

قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشرب إلا ما في ركوتك، فوضع النبي يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون.

قال: فشربنا وتوضأنا.

فقلنا لجابر: كم كنتم يومئذ؟

قال: لو كنا مائة ألف لكفأنا، كنا خمس عشرة مائة.

وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم من طرق: عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد عن جابر به.

وقال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة.

فقال لي سعيد: حدثني جابر كانوا خمس عشرة مائة، الذين بايعوا النبي يوم الحديبية.

تابعه أبو داود: حدثنا قرة، عن قتادة، تفرد به البخاري.

ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابرا قال: قال لنا رسول الله يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض» وكنا ألفا وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة.

وقد روى البخاري أيضا، ومسلم من طرق: عن سفيان بن عيينة به.

وهكذا رواه الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: إن عبدا لحاطب جاء يشكوه فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار.

فقال رسول الله : «كذبت لا يدخلها شهد بدرا والحديبية» رواه مسلم.

وعند مسلم أيضا من طرق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: أخبرتني أم ميسر أنها سمعت الله رسول الله صلى عليه وسلم يقول عند حفصة: «لا يدخل أحد النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها».

فقالت حفصة: بلى يا رسول الله، فانتهرها فقالت حفصة: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } 45

فقال رسول الله : قد قال تعالى: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّا } 46.

قال البخاري: وقال عبيد الله بن معاذ: حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، حدثني عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين.

تابعه محمد بن بشار: حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، هكذا رواه البخاري معلقا عن عبد الله.

وقد رواه مسلم عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة به.

وعن محمد بن المثنى، عن أبي داود، عن إسحاق بن إبراهيم، عن النضر بن شميل كلاهما عن شعبة به.

ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن مروان والمسور بن مخرمة قالا: خرج النبي عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم منها.

تفرد به البخاري، وسيأتي هذا السياق بتمامه، والمقصود أن هذه الروايات كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن إسحاق من أن أصحاب الحديبية كانوا سبع مائة، وهو والله أعلم إنما قال ذلك تفقها من تلقاء نفسه، من حيث أن البدن كن سبعين بدنة، وكل منها عن عشرة على اختياره، فيكون المهلون سبع مائة، ولا يلزم أن يهدي كلهم، ولا أن يحرم كلهم أيضا.

فقد ثبت أن رسول الله بعث طائفة منهم فيهم أبو قتادة ولم يحرم أبو قتادة حتى قتل ذلك الحمار الوحشي فأكل منه هو وأصحابه، وحملوا منه إلى رسول الله في أثناء الطريق فقال: «هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها».

قالوا: لا.

قال: «فكلوا ما بقي من الحمار».

وقد قال البخاري: حدثنا شعبة بن الربيع، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة: أن أباه حدثه قال: انطلقنا مع النبي عام الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا شبابة بن سوار الفزاري، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد، فلم أعرفها.

حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، حدثنا طارق، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه: أنه كان فيمن بايع تحت الشجرة فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا.

وقال البخاري أيضا: حدثنا محمود، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون فقلت: ما هذا المسجد؟

قالوا: هذه الشجرة حيث بايع النبي بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله تحت الشجرة قال: فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها.

ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد لم يعلموها وعلمتموها أنتم! فأنتم أعلم.

ورواه البخاري، ومسلم من حديث الثوري، وأبي عوانة، وشبابة عن طارق.

وقال البخاري: حدثنا سعيد، حدثني أخي، عن سليمان، عن عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم قال: لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال ابن زيد: على ما يبايع ابن حنظلة الناس؟

قيل له: على الموت.

فقال: لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله ، وكان شهد معه الحديبية.

وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم من طرق، عن عمرو بن يحيى به.

وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله يوم الحديبية؟

قال: على الموت.

ورواه مسلم من حديث يزيد بن أبي عبيد. وفي صحيح مسلم عن سلمة أنه بايع ثلاث مرات: في أوائل الناس، ووسطهم، وأواخرهم.

وفي الصحيح عن معقل بن يسار أنه كان آخذا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله وهو يبايع الناس، وكان أول من بايع رسول الله يومئذ: أبو سنان، وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن، وقيل: سنان بن أبي سنان.

وقال البخاري: حدثني شُجاع بن الوليد، سمع النضر بن محمد، حدثنا صخر بن الربيع، عن نافع قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر وليس كذلك.

ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ورسول الله يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله فانطلق، فذهب معه حتى بايع رسول الله ، وهي التي تحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر.

وقال هشام بن عمار: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عمر بن محمد العمري، أخبرني نافع عن ابن عمر أن الناس كانوا مع النبي يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجرة، فإذا الناس محدِّقون بالنبي .

فقال: يا عبد الله أنظر ما شأن الناس، قد أحدقوا برسول الله ، فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع.

تفرد به البخاري من هذين الوجهين.

سياق البخاري لعمرة الحديبية

قال في كتاب (المغازي): حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه، وثبتني معمر، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه، قالا:

خرج النبي عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي، وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عينا له من خزاعة، وسار النبي حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه قال: إن قريشا قد جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ومانعوك.

فقال: أشيروا أيها الناس عليَّ أترون أن أميل إلى عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله قد قطع عينا من المشركين، وإلا تركنا لهم محروبين.

قال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: «امضوا على اسم الله» هكذا رواه ها هنا، ووقف ولم يزد شيئا على هذا.

وقال في كتاب (الشهادات): حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، أخبرني الزهري، أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا:

خرج رسول الله زمن الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي : «إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين».

فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي حتى إذا كان بالثنية التي هبط عليهم منها، بركت به راحلته فقال الناس: حل حل، فألحت.

فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء.

فقال رسول الله : «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل».

ثم قال: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها».

ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.

فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة - وكانوا عيبة نصح رسول الله من أهل تهامة - فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.

فقال النبي : «إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن أمر الله».

قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا.

فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء.

وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول.

قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول الله ، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم ألست بالوالد؟

قالوا: بلى.

قال: أولستم بالولد؟

قالوا: بلى.

قال: فهل تتهموني؟

قالوا: لا.

قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟

قالوا: بلى.

قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه.

فقالوا: ائته.

فأتاه فجعل يكلم النبي .

فقال النبي نحوا من قوله لبديل.

فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوها، وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك.

فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟

قال: من ذا؟

قالوا: أبو بكر.

قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.

قال: وجعل يكلم النبي ، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله ، ضرب يده بنعل السيف وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله .

فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟

قالوا: المغيرة بن شعبة.

فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟

وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم.

فقال النبي : «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء».

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله بعينيه.

قال: فوالله ما تنخم رسول الله نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له.

فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا.

والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه.

فقالوا: ائته.

فلما أشرف على النبي وأصحابه قال رسول الله : «هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له».

فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.

فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعونى آتيه.

قالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، فلما أشرف عليهم قال رسول الله : «هذا مكرز وهو رجل فاجر».

فجعل يكلم النبي ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.

قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة: أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال رسول الله : «لقد سهل لكم من أمركم»

قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل فقال: هات فاكتب بيننا وبينكم كتابا.

فدعا النبي الكاتب، فقال النبي : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم».

فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب.

فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم.

فقال النبي : «اكتب باسمك اللهم» ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله».

فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله.

فقال رسول الله : «والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله».

قال الزهري: وذلك لقوله: «لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها».

فقال له النبي : «على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به».

قال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل. فكتب.

فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا.

قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟

فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين.

فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي.

فقال النبي : «إنا لم نقض الكتاب بعد».

قال: فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبدا.

قال النبي : «فأجزه لي».

قال: ما أنا بمجيزه لك.

قال: «بلى فافعل».

قال: ما أنا بفاعل.

قال مكرز: بلى قد أجزناه لك.

قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد لقيت - وكان قد عذب عذابا شديدا في الله -

فقال عمر رضي الله عنه: فأتيت رسول الله فقلت: ألست نبي الله حقا؟

قال: «بلى».

قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟

قال: «بلى».

قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟

قال: «إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري».

قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟

قال: «بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟».

قال: قلت: لا.

قال: «فإنك آتيه ومطوف به».

قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟

قال: بلى.

قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟

قال: بلى.

قال: قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟

قال: أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق.

قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟

قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟

فقلت: لا.

قال: فإنك آتيه ومطوف به.

قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.

قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا».

قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس.

فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.

ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } حتى بلغ { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } 47.

فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية.

ثم رجع النبي إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم.

فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت.

فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله حين رآه: «لقد رأى هذا ذعرا» فلما انتهى إلى النبي قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول.

فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم.

فقال النبي : «ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد».

فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.

قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم.

فأرسلت قريش إلى النبي تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو أمن، فأرسل النبي إليهم، فأنزل الله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } حتى بلغ { الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } 48.

وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.

فهذا سياق فيه زيادات وفوائد حسنة ليست في رواية ابن إسحاق عن الزهري.

فقد رواه عن الزهري عن جماعة منهم: سفيان بن عيينة، ومعمر، ومحمد بن إسحاق، كلهم عن الزهري، عن عروة، عن مروان ومسور، فذكر القصة.

وقد رواه البخاري في أول كتاب الشروط عن يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة عن أصحاب رسول الله فذكر القصة.

وهذا هو الأشبه فإن مروان ومسورا كانا صغيرين يوم الحديبية، والظاهر أنهما أخذاه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

وقال البخاري: حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا مالك بن مغول، سمعت أبا حصين قال: قال أبو وائل: لما قدم سهيل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره فقال:

اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا لأمر يقطعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسد منها خصما إلا انفجر علينا خصم، ما ندري كيف نأتي له.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن رسول الله كان يسير في بعض أسفاره، وكان عمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله ، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه.

فقال عمر بن الخطاب: ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك.

قال عمر: فحركت بعيري، ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل فيَّ قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي.

قال: فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله فسلمت عليه، فقال: «لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس».

ثم قرأ: { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } .

قلت: وقد تكلمنا على سورة الفتح بكمالها في كتابنا التفسير بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة، ومن أحب أن يكتب ذلك هنا فليفعل.

فصل في السرايا التي كانت في سنة ست من الهجرة

وتلخيص ذلك ما أورده الحافظ البيهقي، عن الواقدي:

في ربيع الأول منها أو الآخر بعث رسول الله عكاشة بن محصن في أربعين رجلا إلى الغمر، وفيهم ثابت بن أقرن وسباع بن وهب، فأغذا السير ونذر القوم بهم، فهربوا منه ونزل على مياههم، وبعث في آثارهم وأخذ منهم مائتي بعير فاستاقها إلى المدينة.

وفيها كان بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة بأربعين رجلا أيضا، فساروا إليهم مشاة، حتى أتوها في عماية الصبح، فهربوا منه في رؤوس الجبال، فأسر منهم رجلا فقدم به على رسول الله ، وبعثه محمد بن مسلمة في عشرة نفر، وكمن القوم لهم حتى باتوا، فما شعروا إلا بالقوم فقتل أصحاب محمد بن مسلمة كلهم، وأفلت هو جريحا.

وفيها كان بعث زيد بن حارثة بالحموم، فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من محال بني سليم، فأصابوا منها نعما وشاءً وأسروا من المشركين، وكان فيهم زوج حليمة هذه، فوهبه رسول الله لزوجها وأطلقهما.

وفيها كان بعث زيد بن حارثة أيضا في جمادى الأولى إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا، فهربت منه الأعراب فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا، ثم رجع بعد أربع ليال.

وفيها خرج زيد بن حارثة في جمادى الأولى إلى العيص.

قال: وفيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع فاستجار بزينب بنت رسول الله فأجارته.

وقد ذكر ابن إسحاق قصته حين أخذت العير التي كانت معه، وقتل أصحابه وفر هو من بينهم حتى قدم المدينة، وكانت امرأته زينب بنت رسول الله قد هاجرت بعد بدر، فلما جاء المدينة استجار بها فأجارته بعد صلاة الصبح، فأجاره لها رسول الله ، وأمر الناس برد ما أخذوا من عيره فردوا كل شيء كانوا أخذوه منه حتى لم يفقد منه شيئا.

فلما رجع بها إلى مكة وأدى إلى أهلها ما كان لهم معه من الودائع أسلم، وخرج من مكة راجعا إلى المدينة، فرد عليه رسول الله زوجته بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحا ولا عقدا كما تقدم بيان ذلك.

وكان بين إسلامه وهجرتها ست سنين، وقد بينا أنه لا منافاة بين الروايتين، وأن إسلامه تأخر عن وقت تحريم المؤمنات على الكفار بسنتين، وكان إسلامه في سنة ثمان في سنة الفتح، لا كما تقدم في كلام الواقدي من أنه سنة ست، فالله أعلم.

وذكر الواقدي في هذه السنة أن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من عند قيصر قد أجازه بأموال وخلع، فلما كان بحسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق فلم يتركوا معه شيئا، فبعث إليهم رسول الله زيد بن حارثة أيضا رضي الله عنه.

قال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة قال: خرج علي رضي الله عنه في مائة رجل إلى أن نزل إلى حي من بني أسد بن بكر، وذلك أنه بلغ رسول الله أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار إليهم بالليل وكمن بالنهار، وأصاب عينا لهم فأقر له أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر.

قال الواقدي رحمه الله تعالى: وفي سنة ست في شعبان كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، وقال له رسول الله : «إن هم أطاعوا فتزوج بنت ملكهم» فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن بنت ملكهم تماضر بنت الأصبع الكلبية، وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.

قال الواقدي: في شوال سنة ست كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله ، واستاقوا النعم، فبعث رسول الله في آثارهم كرز بن جابر في عشرين فارسا، فردوهم وكان من أمرهم ما أخرجه البخاري ومسلم: من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك:

أن رهطا من عكل وعرينة - وفي رواية: من عكل أو عرينة - أتوا رسول الله فقالوا: يا رسول الله أنا أناس أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، فاستوخمنا المدينة، فأمر لهم رسول الله بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة، قتلوا راعي رسول الله واستاقوا الذود، وكفرو بعد إسلامهم.

فبعث النبي في طلبهم فأمر بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَّر أعينهم، وتركهم في الحَّرة حتى ماتوا وهم كذلك.

قال قتادة: فبلغنا أن رسول الله كان إذا خطب بعد ذلك حض على الصدقة، ونهى عن المثلة.

وهذا الحديث قد رواه جماعة عن قتادة.

ورواه جماعة عن أنس بن مالك.

وفي رواية مسلم: عن معاوية بن قرة، عن أنس: أن نفرا من عرينة أتوا رسول الله فأسلموا وبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم - وهو البرسام - فقالوا: هذا الموم قد وقع يا رسول الله، لو أذنت لنا فرجعنا إلى الإبل.

قال: «نعم فاخرجوا فكونوا فيها» فخرجوا فقتلوا الراعيين، وذهبوا بالإبل، وعنده سار من الأنصار قريب عشرين، فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفا يقتص أثرهم، فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَّر أعينهم.

وفي صحيح البخاري: من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس أنه قال: قدم رهط من عكل فأسلموا واجتووا المدينة، فأتوا رسول الله فذكروا ذلك له فقال: «الحقوا بالإبل واشربوا من أبوالها وألبانها».

فذهبوا وكانوا فيها ما شاء الله، فقتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فجاء الصريخ إلى رسول الله ، فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت فكواهم بها، وقطع أيديهم وأرجلهم، وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ولم يحمهم.

وفي رواية عن أنس قال: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من العطش.

قال أبو قلابة: فهؤلاء قتلوا، وسرقوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله .

وقد روى البيهقي: من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن سليمان، عن محمد بن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله لما بعث في آثارهم قال: «اللهم عمِ عليهم الطريق واجعلها عليهم أضيق من مسك جمل».

قال: فعمَّى الله عليهم السبيل فأدركوا، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمَّل أعينهم.

وفي صحيح مسلم: إنما سملهم لأنهم سملوا أعين الرعاء.

فصل فيما وقع من الحوادث في هذه السنة

أعني سنة ست من الهجرة، فيها نزل فرض الحج كما قرره الشافعي رحمه الله، زمن الحديبية في قوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } 49 ولهذا ذهب إلى أن الحج على التراخي لا على الفور، لأنه لم يحج إلا في سنة عشر.

وخالفه الثلاثة: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، فعندهم أن الحج يجب على كل من استطاعه على الفور، ومنعوا أن يكون الوجوب مستفادا من قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } وإنما في هذه الآية الأمر بالإتمام بعد الشروع فقط، واستدلوا بأدلة قد أوردنا كثيرا منها عند تفسير هذه الآية من كتابنا التفسير، ولله الحمد والمنة، بما فيه الكفاية.

وفي هذه السنة حُرِّمت المسلمات على المشركين تخصيصا لعموم ما وقع به الصلح عام الحديبية، على أنه لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك إلا رددته علينا، فنزل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ... } الآية 50.

وفي هذه السنة كانت غزوة المريسيع، التي كان فيها قصة الإفك ونزول براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما تقدم.

وفيها كانت عمرة الحجيبية، وما كان من صد المشركين رسول الله ، وكيف وقع الصلح بينهم على وضع الحرب بينهم عشر سنين، فأمن الناس فيهن بعضهم بعضا، وعلى أنه لا إغلال ولا إسلال، وقد تقدم كل ذلك مبسوطا في أماكنه، ولله الحمد والمنة.

وولي الحج في هذه السنة المشركون.

قال الواقدي: وفيها في ذي الحجة منها: بعث رسول الله ستة نفر، مصطحبين حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، وشجاع بن وهب بن أسد بن جذيمة، شهد بدرا، إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يعني: ملك عرب النصارى.

ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، وهو هرقل ملك الروم، وعبد الله بن حذافة السهمي، إلى كسرى ملك الفرس، وسليط بن عمرو العامري، إلى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري، إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة وهو أصحمة بن الحر.

سنة سبع من الهجرة غزوة خيبر في أولها

قال شعبة: عن الحاكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله: { وأثابهم فتحا قريبا } قال: خيبر.

وقال موسى بن عقبة: لما رجع رسول الله من الحديبية مكث عشرين يوما أو قريبا من ذلك، ثم خرج إلى خيبر، وهي التي وعده الله إياها.

وحكى موسى عن الزهري أن افتتاح خيبر في سنة ست، والصحيح أن ذلك في أول سنة سبع كما قدمنا.

قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله بالمدينة حين رجع من الحديبية، ذا الحجة، وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر.

وقال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن مروان والمسور قالا: انصرف رسول الله عام الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة، فقدم المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر.

فنزل بالرجيع - واد بين خيبر وغطفان - فتخوف أن تمدهم غطفان فبات به حتى أصبح، فغدا عليهم.

قال البيهقي: وبمعناه رواه الواقدي عن شيوخه في خروجه أول سنة سبع من الهجرة.

وقال عبد الله بن إدريس عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر قال: لما كان افتتاح خيبر في عقيب المحرم، وقدم النبي في آخر صفر.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا حسيم يعني: ابن عراك، عن أبيه، أن أبا هريرة قدم المدينة في رهط من قومه، والنبي في خيبر، وقد استخلف سباع بن عرفطة، يعني: الغطفاني، على المدينة.

قال: فانتهيت إليه، وهو يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى: { كهيعص } وفي الثانية: { ويل للمطففين } فقلت في نفسي: ويل لفلان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص.

قال: فلما صلى رددنا شيئا حتى أتينا خيبر، وقد افتتح النبي خيبر.

قال: فكلم المسلمين، فأشركونا في سهامهم.

وقد رواه البيهقي من حديث سليمان بن حرب، عن وهيب، عن خيثم بن عراك، عن أبيه، عن نفر من بني غفار، قال: إن أبا هريرة قدم المدينة، فذكره.

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر، وبنى له فيها مسجدا، ثم على الصهباء.

ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له: الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله .

فبلغني أن غطفان لما سمعوا بذلك جمعوا، ثم خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة، خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أموالهم وأهليهم، وخلوا بين رسول الله وبين خيبر.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير أن سويد بن النعمان أخبره أنه خرج مع رسول الله عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء - وهي من أدنى خيبر - صلى العصر ثم دعا بالأزواد، فلم يؤتَ إلا بالسويق، فأمر به فثرى، فأكل وأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ثم صلى ولم يتوضأ.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله إلى خيبر، فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر لا تسمعنا من هنيهاتك - وكان عامر رجلا شاعرا - فنزل يحدو بالقوم يقول:

لا هُم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فاغفر فداء لك ما أبقينا * وألقين سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا * إنا إذا صيح بنا أبينا

وبالصياح عولوا علينا

فقال رسول الله : «من هذا السائق؟» قالوا: عامر بن الأكوع.

قال: «يرحمه الله» فقال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به.

فأتينا خيبر فناصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم إن الله فتحها عليهم، فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم، أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول الله : «ما هذه النيران على أي شيء توقدون؟»

قالوا: على لحم.

قال: «على أي لحم؟».

قالوا: لحم الحمر الأنسية.

قال النبي : «اهريقوها واكسروها» فقال رجل: يا رسول الله أونهريقها ونغسلها؟

فقال: «أو ذاك».

فلما تصاف الناس كان سيف عامر قصيرا، فتناول به ساق يهودي ليضربه، فيرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه.

فلما قفلوا قال سلمة: رآني رسول الله وهو آخذ بيدي، قال: «ما لك؟».

قلت: فداك أبي وأمي، زعموا أن عامرا حبط عمله.

قال النبي : «كذب من قاله، إن له لأجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه لجاهد مجاهد، قل عربي مشى بها مثله».

ورواه مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل، وغيره، عن يزيد بن أبي عبيد مثله.

ويكون منصوبا على الحالية من نكرة، وهو سائغ، إذا دلت على تصحيح معنى، كما جاء في الحديث: «فصلى وراءه رجل قياما».

وقد روى ابن إسحاق قصة عامر بن الأكوع من وجه آخر فقال: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي الهيثم بن نصر بن دهر الأسلمي، أن أباه حدثه، أنه سمع رسول الله يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع، وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع: «انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك».

فقال: فنزل يرتجز لرسول الله :

والله لو الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

إنا إذا قوم بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

فقال رسول الله : «يرحمك ربك» فقال عمر بن الخطاب: وجبت يا رسول الله لو أمتعتنا به. فقتل يوم خيبر شهيدا.

ثم ذكر صفة قتله كنحو ما ذكره البخاري.

قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن أبي معتب بن عمرو أن رسول الله لما أشرف على خيبر قال لأصحابه وأنا فيهم: «قفوا».

ثم قال: «اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها اقدموا بسم الله».

وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.

وقد رواه الحافظ البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن العطاردي، عن يونس بن بكير، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن صالح بن كيسان، عن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن جده قال:

خرجنا مع رسول الله إلى خيبر، حتى إذا كنا قريبا وأشرفنا عليها، قال رسول الله للناس: «قفوا» فوقف الناس.

فقال: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، اقدموا بسم الله الرحمن الرحيم».

قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإن لم يسمع أذانا أغار، فنزلنا خيبر ليلا فبات رسول الله حتى أصبح لم يسمع أذانا.

فركب وركبنا معه، وركبت خلف أبي طلحة، وإن قدمي لتمس قدم رسول الله ، واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله والجيش، قالوا: محمد والخميس معه، فأدبروا هرابا.

فقال رسول الله : «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».

قال ابن إسحاق: حدثنا هارون عن حميد عن أنس بمثله.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، أن رسول الله أتى خيبر ليلا، وكان إذا أتى قوما بليل لم يغر بهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله محمد والخميس.

فقال رسول الله : «خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».

تفرد به دون مسلم.

وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا أبو عيينة، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: صبحنا خيبر بكرة، فخرج أهلها بالمساحي، فلما أبصروا بالنبي قالوا: محمد والله، محمد والخميس!

فقال رسول الله : «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».

قال: فأصبنا من لحوم الحمر، فنادى منادي النبي : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس. تفرد به البخاري دون مسلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: لما أتى النبي خيبر، فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومساحيهم، فلما رأوه ومعه الجيش نكصوا فرجعوا إلى حصنهم.

فقال النبي : «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».

تفرد به أحمد، وهو على شرط الصحيحين.

وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: صلى النبي الصبح قريب من خيبر بغلس، ثم قال: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».

فخرجوا يسعون بالسكك، فقتل النبي المقاتلة، وسبى الذرية، وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي ، فجعل عتقها صداقها.

قال عبد العزيز بن صهيب لثابت: يا أبا محمد أأنت قلت لأنس ما أصدقها، فحرك ثابت رأسه تصديقا له.

تفرد به دون مسلم.

وقد أورد البخاري ومسلم النهي عن لحوم الحمر الأهلية من طرق تذكر في كتاب (الأحكام).

وقد قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو طاهر الفقيه، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي، حدثنا محمد بن حميد الأبيوردي، حدثنا محمد بن الفضل، عن مسلم الأعور الملائي، عن أنس بن مالك قال:

كان رسول الله يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويجيب دعوة الملوك، ويركب الحمار، وكان يوم بني قريظة والنضير على حمار، ويوم خيبر على حمار مخطوم برسن ليف، وتحته أكاف من ليف.

وقد روى هذا الحديث بتمامه الترمذي، عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، وابن ماجه، عن محمد بن الصباح، عن سفيان، وعن عمر بن رافع، عن جرير، كلهم عن مسلم وهو ابن كيسان الملائي الأعور الكوفي، عن أنس به.

وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديثه، وهو يضعف.

قلت: والذي ثبت في الصحيح عند البخاري عن أنس أن رسول الله أجرى في رفاق خيبر، حتى انحسر الإزار عن فخذه، فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس لا على حمار.

ولعل هذا الحديث إن كان صحيحا محمول على أنه ركبه في بعض الأيام وهو محاصرها، والله أعلم.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي، حدثنا زياد بن الربيع، عن أبي عمران الجوني قال: نظر أنس إلى الناس يوم الجمعة، فرأى طيالسة فقال كأنهم الساعة يهود خيبر.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: كان علي بن أبي طالب تخلف عن رسول الله في خيبر، وكان رمدا، فقال: أنا أتخلف عن النبي ؟ فلحق به.

فلما بتنا الليلة التي فتحت خيبر، قال: لأعطين الراية غدا، أو ليأخذن الراية غدا رجل يحبه الله ورسوله، يفتح عليه، فنحن نرجوها.

فقيل: هذا علي فأعطاه، ففتح عليه.

وروى البخاري أيضا، ومسلم، عن قتيبة، عن حاتم به.

ثم قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد: أن رسول الله قال يوم خيبر: «لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله».

قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على النبي كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟».

فقالوا: هو يا رسول الله، يشتكي عينيه.

قال: «فأرسل إليه» فأتى، فبصق رسول الله في عينيه، ودعا له فبرأ، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.

فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟

فقال : «انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم».

وقد رواه مسلم، والنسائي جميعا، عن قتيبة به.

وفي صحيح مسلم، والبيهقي من حديث سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه».

قال عمر: فما أحببت الإمارة إلا يومئذ، فدعا عليا، فبعثه، ثم قال: «اذهب فقاتل حتى يفتح الله عليك، ولا تلتفت».

قال علي: على ما أقاتل الناس؟

قال: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» لفظ البخاري.

وقال الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن المقدام، وجحش بن المثنى، قالا: حدثنا إسرائيل، حدثنا عبد الله بن عصمة العجلي، سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: إن رسول الله أخذ الراية فهزها، ثم قال: «من يأخذها بحقها؟»

فجاء فلان فقال: أنا، قال: «امض».

ثم جاء رجل آخر فقال: «امض».

ثم قال النبي : «والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلا لا يفر».

فقال: «هاك يا علي» فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر، وفدك، وجاء بعجوتها وقديدها.

تفرد به أحمد، وإسناده لا بأس به، وفيه غرابة، وعبد الله بن عصمة، ويقال ابن أعصم، وهكذا يكنى بأبي علوان العجلي، وأصله من اليمامة سكن الكوفة، وقد وثقه ابن معين.

وقال أبو زرعة: لا بأس به.

وقال أبو حاتم: شيخ.

وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ كثيرا، وذكره في الضعفاء، وقال: يحدث عن الإثبات مما لا يشبه حديث الثقات، حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة.

وقال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن أبيه، عن سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه قال: بعث النبي أبا بكر رضي الله عنه إلى بعض حصون خيبر فقاتل، ثم رجع ولم يكن فتح، وقد جهد.

ثم بعث عمر رضي الله عنه فقاتل، ثم رجع ولم يكن فتح، فقال رسول الله : «لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، وليس بفرَّار».

قال سلمة: فدعا رسول الله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو يومئذ أرمد، فتفل في عينيه، ثم قال: «خذ الراية وامض بها حتى يفتح الله عليك».

فخرج بها، والله يصول، يهرول هرولة، وأنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟

قال: أنا علي بن أبي طالب.

فقال اليهودي: غلبتم، وما أُنزل على موسى، فما رجع حتى فتح الله على يديه.

وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا العطاردي، عن يونس بن بكير، عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، أخبرني أبي قال: لما كان يوم خيبر أخذ اللواء أبو بكر، فرجع ولم يفتح له، و لما كان الغد أخذه عمر فرجع و لم يفتح له، وقتل محمود بن مسلمة، ورجع الناس.

فقال رسول الله : «لأدفعن لوائي غدا إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، لن يرجع حتى يفتح الله له» فبتنا طيبة نفوسنا أن الفتح غدا، فصلى رسول الله صلاة الغداة.

ثم دعا باللواء وقام قائما، فما منا من رجل له منزلة من رسول الله إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها، ورفعت رأسي لمنزلة كانت لي منه.

فدعا علي بن أبي طالب وهو يشتكي عينيه، قال: فمسحها، ثم دفع إليه اللواء، ففتح له، فسمعت عبد الله بن بريدة يقول: حدثني أبي أنه كان صاحب مرحب.

قال يونس: قال ابن إسحاق: كان أول حصون خيبر فتحا حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته.

ثم روى البيهقي عن يونس بن بكير، عن المسيببن مسلمة الأزدي، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله ربما أخذته الشقيقة، فلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما نزل خيبر أخذته الشقيقة، فلم يخرج إلى الناس، وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله ، ثم نهض فقاتل قتالا شديدا، ثم رجع.

فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الأول.

ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله ، فقال: «لأعطينها غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يأخذها عنوة» وليس ثم علي.

فتطاولت لها قريش، ورجا كل رجل منهم أن يكون صاحب ذلك، فأصبح.

وجاء علي بن أبي طالب على بعير له، حتى أناخ قريبا وهو أرمد، قد عصب عينه بشقة برد قطري، فقال رسول الله : «ما لك؟»

قال: رمدت بعدك.

قال: «ادن مني» فتفل في عينه، فما وجعها حتى مضى لسبيله.

ثم أعطاه الراية فنهض بها وعليه جبة أرجوان حمراء، قد أخرج خملها فأتى مدينة خيبر، وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز ويقول:

قد علمت خيبر أني مرحب * شاكٍ سلاحي بطلٌ مجرب

إذا الليوثُ أقبلت تلهب * وأحجمت عن صولة المغلب

فقال علي رضي الله عنه:

أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليثِ غاباتٍ شديد القسوره

أكيلكم بالصاع كيل السندره

قال: فاختلفا ضربتين، فبدره علي بضربه فقدَّ الحجر والمغفر ورأسه، ووقع في الأضراس، وأخذ المدينة.

وقد روى الحافظ البزار: عن عباد بن يعقوب، عن عبد الله بن بكر، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قصة بعث أبي بكر، ثم عمر يوم خيبر، ثم بعث علي، فكان الفتح على يديه، وفي سياقه غرابة ونكارة، وفي إسناده من هو متهم بالتشيع، والله أعلم.

وقد روى مسلم، والبيهقي، واللفظ له من طريق عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، فذكر حديثا طويلا وذكر فيه رجوعهم من غزوة بني فزارة قال: فلم نمكث إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر.

قال: وخرج عامر فجعل يقول:

والله لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

ونحن من فضلك ما استغنينا * فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

قال: فقال رسول الله : «من هذا القائل؟».

فقالوا: عامر، فقال: «غفر لك ربك».

قال: وما خصَّ رسول الله قط أحدا به إلا استشهد.

فقال عمر وهو على جمل: لولا متعتنا بعامر.

قال: فقدمنا خيبر فخرج مرحب وهو يخطر بسيفه، ويقول:

قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلهب

قال: فبرز له عامر رضي الله عنه وهو يقول:

قد علمت خيبر أني عامر * شاكي السلاح بطل مغامر

قال: فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر فذهب يسعل له، فرجع على نفسه، فقطع أكحله فكانت فيها نفسه.

قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه.

قال: فأتيت رسول الله وأنا أبكي، فقال: «ما لك؟».

فقلت: قالوا إن عامرا بطل عمله.

فقال: «من قال ذلك؟».

فقلت: نفر من أصحابك، فقال: «كذب أولئك بل له الأجر مرتين».

قال: وأرسل رسول الله إلى علي رضي الله عنه يدعوه وهو أرمد، وقال: «لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله» قال فجئت به أقوده، قال: فبصق رسول الله في عينه فبرأ، فأعطاه الراية فبرز مرحب وهو يقول:

قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلهب

قال: فبرز له علي وهو يقول:

أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غاباتٍ كريه المنظره

أوفيهم بالصاع كيل السندره

قال: فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله. وكان الفتح.

هكذا وقع في هذا السياق أن عليا هو الذي قتل مرحبا اليهودي، لعنه الله.

وقال أحمد: حدثنا حسين بن حسن الأشقر، حدثني قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: لما قتلت مرحبا، جئت برأسه إلى رسول الله .

وقد روى موسى عن عقبة، عن الزهري أن الذي قتل مرحبا هو محمد بن مسلمة.

وكذلك قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن سهل أحد بني حارثة، عن جابر بن عبد الله قال: خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر، وهو يرتجز ويقول:

قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب

أطعن أحيانا وحينا أضرب * إذا الليوث أقبلت تلهب

إن حماي للحمى لا يقرب

قال: فأجابه كعب بن مالك:

قد علمت خيبر أني كعب * مفرج الغماء جريء صلب

إذ شبت الحرب وثار الحرب * معي حسام كالعقيق عضب

يطأكمو حتى يذل الصعب * بكف ماضٍ ليس فيه عيب

قال: وجعل مرحب يرتجز ويقول: هل من مبارز؟

فقال رسول الله : «من لهذا؟».

فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور والثائر، قتلوا أخي بالأمس.

فقال: «قم إليه، اللهم أعنه عليه».

قال: فلما دنا أحدهما من صاحبه، دخلت بينهما شجرة عمرية من الشجر العشر المسد، فجعل كل واحد منهما يلوذ من صاحبه بها، كلما لاذ بها أحدهما اقتطع بسيفه ما دونه، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن.

ثم حمل على محمد بن مسلمة فضربه فأتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها، فعضت فاستله، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله.

وقد رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق بنحوه.

قال ابن إسحاق: وزعم بعض الناس أن محمدا ارتجز حين ضربه وقال:

قد علمت خيبر أني ماض * حلو إذا شئت وسمُّ قاض

وهكذا رواه الواقدي: عن جابر وغيره من السلف: أن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحبا.

ثم ذكر الواقدي أن محمدا قطع رجلي مرحب، فقال له: أجهز علي.

فقال: لا ذق الموت كما ذاقه محمود بن مسلمة، فمر به علي وقطع رأسه، فاختصما في سلبه إلى رسول الله ، فأعطى رسول الله محمد بن مسلمة سيفه، ورمحه، ومغفره، وبيضته.

قال: وكان مكتوبا على سيفه:

هذا سيف مرحب * من يذقه يعطب

ثم ذكر ابن إسحاق أن أخا مرحب وهو ياسر، خرج بعده وهو يقول: هل من مبارز؟

فزعم هشام ابن عروة أن الزبير خرج له، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: يقتل ابني يا رسول الله!

فقال: «بل ابنك يقتله إن شاء الله».

فالتقيا فقتله الزبير.

قال: فكان الزبير إذا قيل له: والله إن كان سيفك يومئذ صارما.

يقول: والله ما كان بصارم، ولكني أكرهته.

وقال يونس عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن الحسن عن بعض أهله، عن أبي رافع مولى رسول الله ، قال: خرجنا مع علي إلى خيبر، بعثه رسول الله برايته.

فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل منهم من يهود، فطرح ترسه من يده، فتناول علي باب الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.

وفي هذا الخبر جهالة وانقطاع ظاهر.

ولكن روى الحافظ البيهقي، والحاكم، من طريق مطلب بن زياد، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر الباقر، عن جابر: أن عليا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فافتتحوها وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا.

وفيه ضعف أيضا.

وفي رواية ضعيفة عن جابر: ثم اجتمع عليه سبعون رجلا، وكان جهدهم أن أعادوا الباب.

وقال البخاري: حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضربة؟

قال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيت النبي فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة.

ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل قال: التقى النبي والمشركون في بعض مغازيه فاقتتلوا، فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه، فقيل: يا رسول الله ما أجزأ منا أحد، ما أجزأ فلان.

قال: إنه من أهل النار.

فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟

فقال رجل من القوم: لأتبعنه فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح فاستعجل الموت فوضع نصاب سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه.

فجاء الرجل إلى النبي فقال: أشهد أنك رسول الله.

وقال: «وما ذاك؟».

فأخبره فقال: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وأنه من أهل الجنة».

رواه أيضا عن قتيبة، عن يعقوب عن أبي حازم، عن سهل، فذكره مثله أو نحوه.

ثم قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري،: أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: شهدنا خيبر فقال رسول الله لرجل ممن معه يدعي الإسلام: «هذا من أهل النار».

فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة حتى كاد بعض الناس يرتاب.

فوجد الرجل ألم جراحه فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهما فنحر بها نفسه فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا: يا رسول الله صدَّق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه. فقال: «قم يا فلان فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر».

وقد روى موسى بن عقبة، عن الزهري قصة العبد الأسود الذي رزقه الله الإيمان والشهادة في ساعة واحدة.

وكذلك رواها ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة قالا: وجاء عبد حبشي أسود من أهل خيبر، كان في غنم لسيده فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم، قال: ما تريدون؟

قالوا: نقاتل هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي.

فوقع في نفسه ذكر النبي، فأقبل بغنمه حتى عمد لرسول الله فقال: إلى ما تدعو؟

قال: «أدعوك إلى الإسلام إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن لا تعبدوا إلا الله»

قال: فقال العبد: فماذا يكون لي إن شهدت بذلك وآمنت بالله؟

قال رسول الله : «الجنة إن مت على ذلك».

فأسلم العبد، فقال: يا نبي الله إن هذه الغنم عندي أمانة.

فقال رسول الله : «أخرجها من عسكرنا وارمها بالحصا فإن الله سيؤدي عنك أمانتك». ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها، فعرف اليهودي أن غلامه قد أسلم.

فقام رسول الله فوعظ الناس فذكر الحديث في إعطائه الراية عليا، ودنوه من حصن اليهود، وقتله مرحبا، وقتل مع علي ذلك العبد الأسود، فاحتمله المسلمون إلى عسكرهم، فأدخل في الفسطاط، فزعموا أن رسول الله اطلع في الفسطاط، ثم اطلع على أصحابه، فقال: «لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير، قد كان الإسلام في قلبه حقا، وقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين».

وقد روى الحافظ البيهقي: من طريق ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع رسول الله في غزوة خيبر، فخرجت سرية فأخذوا إنسانا معه غنم يرعاها، فذكر نحو قصة هذا العبد الأسود، وقال فيه: قتل شهيدا وما سجد لله سجدة.

ثم قال البيهقي: حدثنا محمد بن محمد بن محمد الفقيه، حدثنا أبو بكر القطان، حدثنا أبو الأزهر، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس: أن رجلا أتى رسول الله فقال: يا رسول الله إني رجل أسود اللون، قبيح الوجه، لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة؟

قال: «نعم».

فتقدم فقاتل حتى قتل، فأتى عليه رسول الله وهو مقتول، فقال: «لقد حسن الله وجهك وطيب روحك، وكثر مالك».

وقال: «لقد رأيت زوجتيه من الحور العين يتنازعان جبته عليه، يدخلان فيما بين جلده وجبته».

ثم روى البيهقي من طريق ابن جريج: أخبرني عكرمة بن خالد عن ابن أبي عمار، عن شداد بن الهاد: أن رجلا من الأعراب جاء رسول الله فآمن به واتبعه، فقال: أُهاجر معك، فأوصى به النبي بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله فقسمه، وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه؛ فقال: ما هذا؟

قالوا: قسم قسمه لك رسول الله .

فأخذه فجاء به النبي ، فقال: ما هذا يا محمد؟

قال: «قسم قسمته لك».

فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمي ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة.

فقال: «إن تصدق الله يصدقك».

ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتى به رسول الله يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي : «هو هو؟».

قالوا: نعم.

قال: «صدق الله فصدقه».

وكفنه النبي في جبة النبي ، ثم قدمه فصلى عليه، وكان مما ظهر من صلاته: «اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك، قتل شهيدا وأنا عليه شهيد».

وقد رواه النسائي عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج به نحوه.

فصل فتح رسول الله عليه السلام للحصون

قال ابن إسحاق: وتدَّنى رسول الله الأموال يأخذها مالا مالا، ويفتتحها حصنا حصنا، وكان أول حصونهم فتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فقتلته، ثم القموص حصن بني أبي الحقيق.

وأصاب رسول الله منهم سبايا منهن صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وبنتي عم لها، فاصطفى رسول الله صفية لنفسه، وكان دحية بن خليفة قد سأل رسول الله صفية، فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها.

قال: وفشت السبايا من خيبر في المسلمين، وأكل الناس لحوم الحمر، فذكر نهي رسول الله إياهم عن أكلها.

وقد اعتنى البخاري بهذا الفصل، فأورد النهي عنها من طرق جيدة وتحريمها مذهب جمهور العلماء سلفا وخلفا، وهو مذهب الأئمة الأربعة.

وقد ذهب بعض السلف منهم: ابن عباس إلى إباحتها، وتنوعت أجوبتهم عن الأحاديث الواردة في النهي عنها؛ فقيل: لأنها كانت ظهرا يستعينون بها في الحمولة، وقيل: لأنها لم تكن خمست بعد، وقيل: لأنها كانت تأكل العذرة يعني: جلالة.

والصحيح أنه نهى عنها لذاتها، فإنه في الأثر الصحيح أنه نادى منادي رسول الله أن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس، فأكفئوها والقدور تفور بها، وموضع تقرير ذلك في كتاب (الأحكام).

قال ابن إسحاق: حدثني سلام بن كركرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله - ولم يشهد جابر خيبر - أن رسول الله حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر، أذن لهم في لحوم الخيل.

وهذا الحديث أصله ثابت في الصحيحين، من حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخَّص في الخيل».

لفظ البخاري.

قال ابن إسحاق: وحدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مكحول، أن النبي نهاهم يومئذ عن أربع: عن إتيان الحبالى من النساء، وعن أكل الحمار الأهلي، وعن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم. وهذا مرسل.

وقال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق مولى نجيب، عن حسن الصنعاني، قال: غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري المغرب، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال له: جربة، فقام فيها خطيبا فقال: أيها الناس، إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله يقول فينا يوم خيبر، قام فينا رسول الله فقال:

«لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماء زرع غيره يعني: إتيان الحبالى من السبي، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس يوما من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه».

وهكذا روى هذا الحديث أبو داود من طريق محمد بن إسحاق.

ورواه الترمذي عن حفص بن عمرو الشيباني، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن ربيعة بن سليم، عن بشر بن عبيد الله، عن رويفع بن ثابت مختصرا، وقال: حسن.

وفي صحيح البخاري: عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن أكل الثوم.

وقد حكى ابن حزم عن علي وشريك بن حنبل، أنهما ذهبا إلى تحريم البصل والثوم النيء، والذي نقله الترمذي عنهما الكراهة، فالله أعلم.

وقد تكلم الناس في الحديث الوارد في الصحيحين من طريق الزهري، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية، عن أبيهما، عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية.

هذا لفظ الصحيحين من طريق مالك وغيره، عن الزهري، وهو يقتضي تقييد تحريم نكاح المتعة بيوم خيبر، وهو مشكل من وجهين:

أحدهما: أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يتمتعون بهن، إذ قد حصل لهم الاستغناء بالسباء عن نكاح المتعة.

الثاني: أنه قد ثبت في صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة، عن معبد، عن أبيه أن رسول الله أذن لهم في المتعة زمن الفتح، ثم لم يخرج من مكة حتى نها عنها وقال: «إن الله قد حرمها إلى يوم القيامة».

فعلى هذا يكون قد نهى عنها ثم أذن فيها، ثم حرمت، فيلزم النسخ مرتين، وهو بعيد.

ومع هذا فقد نصَّ الشافعي على أنه لا يعلم شيئا أبيح ثم حرم، ثم أبيح ثم حرم، غير نكاح المتعة، وما حداه على هذا رحمه الله إلا اعتماده على هذين الحديثين كما قدمناه.

وقد حكى السهيلي وغيره عن بعضهم: أنه ادعى أنها أبيحت ثلاث مرات، وحرمت ثلاث مرات.

وقال آخرون: أربع مرات، وهذا بعيد جدا، والله أعلم.

واختلفوا أي وقت أول ما حرمت، فقيل: في خيبر، وقيل: في عمرة القضاء، وقيل: في عام الفتح، وهذا يظهر، وقيل: في أوطاس، وهو قريب من الذي قبله، وقيل: في تبوك، وقيل: في حجة الوداع.

رواه أبو داود.

وقد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث علي رضي الله عنه بأنه وقع فيه تقديم وتأخير، وإنما المحفوظ فيه ما رواه الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن الحسن وعبد الله ابني محمد، عن أبيهما - وكان حسن أرضاهما في أنفسهما - أن عليا قال لابن عباس:

إن رسول الله نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر.

قالوا: فاعتقدنا الراوي أن قوله خيبر ظرف للمنهي عنهما، وليس كذلك، إنما هو ظرف للنهي عن لحوم الحمر؛ فأما نكاح المتعة فلم يذكر له ظرفا، وإنما جمعه معه لأن عليا رضي الله عنه بلغه أن ابن عباس أباح نكاح المتعة، ولحوم الحمر الأهلية، كما هو المشهور عنه.

فقال له أمير المؤمنين علي: إنك امرؤ تائه أن رسول الله نهى عن نكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فجمع له النهي ليرجع عما كان يعتقده في ذلك من الإباحة.

وإلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي تغمده الله برحمته أمين.

ومع هذا ما رجع ابن عباس عما كان يذهب إليه من إباحة الحمر والمتعة، أما النهي عن الحمر فتأوله بأنها كانت حمولتهم، وأما المتعة فإنما كان يبيحها عند الضرورة في الأسفار، وحمل النهي على ذلك في حال الرفاهية والوجدان.

وقد تبعه على ذلك طائفة من أصحابه وأتباعهم، ولم يزل ذلك مشهورا عن علماء الحجاز إلى زمن ابن جريج وبعده.

وقد حكي عن الإمام أحمد بن حنبل رواية كمذهب ابن عباس وهي ضعيفة، وحاول بعض من صنف في الحلال نقل رواية عن الإمام بمثل ذلك، ولا يصح أيضا، والله أعلم. وموضع تحرير ذلك في كتاب (الأحكام) وبالله المستعان.

قال ابن إسحاق: ثم جعل رسول الله يتدنى الحصون والأموال، فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدثه بعض من أسلم أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله فقالوا: يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله شيئا يعطيهم إياه.

فقال: «اللهم إنك قد عرفت حالهم، وإن ليست لهم قوة، وإن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غنى، وأكثرها طعاما وودكا».

فغدا الناس ففتح عليهم حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه.

قال ابن إسحاق: ولما افتتح رسول الله من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنهم الوطيح والسلالم، وكان آخر حصون خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول الله بضع عشر ليلة.

قال ابن هشام: وكان شعارهم يوم خيبر: يا منصور أمت أمت.

قال ابن إسحاق: وحدثني بريدة بن سفيان الأسدي الأسلمي، عن بعض رجال بني سلمة، عن أبي اليسر بن كعب بن عمرو، قال: إني لمع رسول الله بخيبر ذات عشية، إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم، ونحن محاصروهم.

فقال رسول الله : «من رجل يطعمنا من هذه الغنم؟».

قال أبو اليسر: فقلت أنا يا رسول الله.

قال: «فافعل».

قال: فخرجت أشتد مثل الظليم، فلما نظر إلي رسول الله موليا قال: «اللهم أمتعنا به».

قال: فأدركت الغنم وقد دخلت أولها الحصن، فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم جئت بهما أشتد كأنه ليس معي شيء حتى ألقيتهما عند رسول الله فذبحوهما فأكلوهما.

فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله موتا، وكان إذا حدث هذا الحديث بكى، ثم قال: أمتعوا بي لعمري حتى كنت من آخرهم.

وقال الحافظ البيهقي في (الدلائل): أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، أو عن أبي قلابة قال: لما قدم النبي خيبر، قدم والثمرة خضرة.

قال: فأسرع الناس إليها فحموا، فشكوا ذلك إليه، فأمرهم أن يقرسوا الماء في الشنان ثم يجرونه عليهم إذا أتى الفجر، ويذكرون اسم الله عليه، ففعلوا ذلك فكأنما نشطوا من عقل.

قال البيهقي: ورويناه عن عبد الرحمن بن رافع موصولا، وعنه بين صلاتي المغرب والعشاء.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى وبهز، قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، حدثنا عبد الله بن مغفل، قال: دلى جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت: لا أعطى أحدا منه شيئا.

قال: فالتفتُّ فإذا رسول الله يبتسم.

وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل، قال: كنا نحاصر قصر خيبر، فأُلقي إلينا جراب في شحم، فذهبت فأخذته فرأيت النبي فاستحيت.

وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة.

ورواه مسلم أيضا عن شيبان بن فروخ، عن عثمان بن المغيرة.

وقال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن مغفل المزني قال: أصبت من فيء خيبر جراب شحم، قال: فاحتملته على عنقي إلى رحلي وأصحابي، قال: فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها فأخذ بناحيته، وقال: هلم حتى تقسمه بين المسلمين، قال: وقلت: لا والله لا أعطيكه، قال: وجعل يجاذبني الجراب.

قال: فرآنا رسول الله ونحن نصنع ذلك، فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم خلِّ بينه وبينه، قال: فأرسله فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه.

وقد استدل الجمهور بهذا الحديث على الإمام مالك في تحريمه شحوم ذبائح اليهود، وما كان غلبهم عليه غيرهم من المسلمين، لأن الله تعالى قال: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } قال لكم.

قال: وليس هذا من طعامهم، فاستدلوا عليه بهذا الحديث، وفيه نظر، وقد يكون هذا الشحم مما كان حلالا لهم، والله أعلم.

وقد استدلوا بهذا الحديث على أن الطعام لا يخمس ويعضد، ذلك ما رواه الإمام أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو معاوية، حدثنا إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال:

قلت: كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله ، فقال: أصبنا طعاما يوم خيبر، وكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه ثم ينصرف.

تفرد به أبو داود، وهو حسن.

ذكر قصة صفية بنت حيي النضرية

كان من شأنها أنه لما أجلى رسول الله يهود بني النضير من المدينة كما تقدم، فذهب عامتهم إلى خيبر، وفيهم حيي بن أخطب، وبنو أبي الحقيق، وكانوا ذوي أموال وشرف في قومهم، وكانت صفية إذ ذاك طفلة دون البلوغ.

ثم لما تأهلت للتزويج تزوجها بعض بني عمها، فلما زفت إليه وأدخلت إليه بنى بها، ومضى على ذلك ليالي، رأت في منامها كأن قمر السماء قد سقط في حجرها، فقصت رؤياها على ابن عمها فلطم وجهها وقال: أتتمنين ملك يثرب أن يصير بعلك، فما كان إلا مجيء رسول الله وحصاره إياهم، فكانت صفية في جملة السبي، وكان زوجها في جملة القتلى.

ولما اصطفاها رسول الله ، وصارت في حوزه وملكه كما سيأتي، وبنى بها بعد استبرائها وحلها، وجد أثر تلك اللطمة في خدها، فسألها ما شأنها، فذكرت له ما كانت رأت من تلك الرؤيا الصالحة رضي الله عنها وأرضاها.

قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: صلى النبي الصبح قريبا من خيبر بغلس، ثم قال: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».

فخرجوا يسعون في السكك، فقتل النبي المقاتلة، وسبى الذرية، وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي ، فجعل عتقها صداقها.

ورواه مسلم أيضا من حديث حماد بن زيد، وله طرق عن أنس.

وقال البخاري: حدثنا آدم، عن شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سبى النبي صفية فأعتقها وتزوجها.

قال ثابت لأنس: ما أصدقها؟

قال: أصدقها نفسها فأعتقها.

تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقال البخاري: حدثنا عبد الغفار بن داود، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ح، وحدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا ابن وهب، أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن عمرو مولى المطلب، عن أنس بن مالك قال:

قدمنا خيبر فلما فتح الحصن، ذُكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب، وقد قتل زوجها وكانت عروسا، فاصطفاها النبي لنفسه، فخرج بها حتى بلغ بها سُدَّ الصهباء حلت، فبنى بها رسول الله ، ثم صنع حيسا في نطع صغير، ثم قال لي: «آذن من حولك» فكانت تلك وليمته على صفية.

ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي يحوي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب.

تفرد به دون مسلم.

وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، أخبرني حميد أنه سمع أنسا يقول: أقام رسول الله بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يُبنى عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالأنطاع فبسطت، فألقي عليها التمر والأقط والسمن، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أوما ملكت يمينه؟

فقالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه. فلما ارتحل وطأ لها خلفه، ومد الحجاب.

انفرد به البخاري.

وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: صارت صفية لدحية الكلبي، ثم صارت لرسول الله .

وقال أبو داود: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: جمع السبي - يعني: بخيبر - فجاء دحية فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي، قال: «اذهب فخذ جارية» فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى رسول الله فقال: يا نبي الله أعطيت دحية، قال يعقوب: صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير ما تصلح إلا لك.

قال: «ادعوا بها» فلما نظر إليها النبي قال: «خذ جارية من السبي غيرها» وإن رسول الله أعتقها وتزوجها.

وأخرجاه من حديث ابن علية.

وقال أبو داود: حدثنا محمد بن خلاد الباهلي، حدثنا بهز بن أسد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، عن أنس قال: وقع في سهم دحية جارية جميلة، فاشتراها رسول الله بسبعة أرؤس، ثم دفعها إلى أم سلمة تصنعها وتهيئها.

قال حماد: وأحسبه قال: «وتعتد في بيتها صفية بنت حيي».

تفرد به أبو داود.

قال ابن إسحاق: فلما افتتح رسول الله القموص حصن بني أبي الحقيق، أُتي بصفية بنت حيي ابن أخطب، وأخرى معها، فمر بهما بلال - وهو الذي جاء بهما - على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت، وصكت وجهها، وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله قال:

«أعزبوا عني هذه الشيطانة» وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أن رسول الله قد اصطفاها لنفسه.

وقال رسول الله لبلال - فيما بلغني - حين رأى بتلك اليهودية ما رأى: «أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟»

وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، أن قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدا، فلطم وجهها لطمة خضَّر عينها منها.

فأُتي بها رسول الله وبها أثر منه، فسألها «ما هذا؟» فأخبرته الخبر.

قال ابن إسحاق: وأتي رسول الله بكنانة بن الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه فجحد أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله رجل من اليهود، فقال لرسول الله : إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله لكنانة: «أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك؟».

قال: نعم.

فأمر رسول الله بالخربة فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبى أن يؤديه، فأمر به رسول الله الزبير بن العوام، فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده.

وكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.

فصل محاصرة النبي عليه السلام أهل خيبر في حُصنيهم

قال ابن إسحاق: وحاصر رسول الله أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم، حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم، وأن يحقن دماءهم ففعل، وكان رسول الله قد حاز الأموال كلها: الشق، والنطاة، والكتيبة، وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين، فلما سمع أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله يسألونه أن يسيرهم، ويحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال ففعل.

وكان ممن مشى بين رسول الله وبينهم في ذلك، محيصة بن مسعود أخو بني حارثة، فلما نزل أهل خيبر على ذلك، سألوا رسول الله أن يعاملهم في الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم، وأعمر لها، فصالحهم رسول الله على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، وعامل أهل فدك بمثل ذلك.

فصل فتح حصونها وقسيمة أرضها

قال الواقدي: لما تحولت اليهود من حصن ناعم وحصن الصعب بن معاذ، إلى قلعة الزبير، حاصرهم رسول الله ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود يُقال له: غزَّال، فقال: يا أبا القاسم، تُؤمنني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة، وتخرج إلى أهل الشق فإن أهل الشق قد هلكوا رعبا منك؟

قال: فأمنه رسول الله على أهله وماله، فقال له اليهودي: إنك لو أقمت شهرا تحاصرهم ما بالوا لك، إن لهم تحت الأرض دبولا يخرجون بالليل فيشربون منها، ثم يرجعن إلى قلعتهم.

فأمر رسول الله بقطع دبولهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، وقتل من المسلمين يومئذ نفر، وأصيب من اليهود عشرة، وافتتحه رسول الله ، وكان آخر حصون النطاة، وتحول إلى الشق وكان به حصون ذوات عدد.

فكان أول حصن بدأ به منها حصن أبي، فقام رسول الله على قلعة يقال لها: سموان، فقاتل عليها أشد القتال، فخرج منهم رجل يقال له: عزول، فدعا إلى البراز، فبرز إليه الحباب بن المنذر، فقطع يده اليمنى من نصف ذراعه، ووقع السيف من يده، وفر اليهودي راجعا، فاتبعه الحباب فقطع عرقوبه.

وبرز منهم آخر، فقام إليه رجل من المسلمين فقتله اليهودي، فنهض إليه أبو دجانة فقتله، وأخذ سلبه، وأحجموا عن البراز، فكبر المسلمون ثم تحاملوا على الحصن، فدخلوه وأمامهم أبو دجانة، فوجدوا فيه أثاثا، ومتاعا، وغنما، وطعاما، وهرب من كان فيه من المقاتلة، وتقحموا الجزر كأنهم الضباب، حتى صاروا إلى حصن البزاة بالشق، وتمنعوا أشد الامتناع. (جص:226)

فزحف إليهم رسول الله وأصحابه، فتراموا، ورمى معهم رسول الله بيده الكريمة، حتى أصاب نبلهم بنانه عليه الصلاة والسلام، فأخذ عليه السلام كفا من الحصا، فرمى حصنهم بها، فرجف بهم، حتى ساخ في الأرض، وأخذهم المسلمون أخذا باليد.

قال الواقدي: ثم تحول رسول الله إلى أهل الأخبية، والوطيح، والسلالم، حصني ابن أبي الحقيق، وتحصنوا أشد التحصن، وجاء إليهم كل من كان انهزم من النطاة إلى الشق، فتحصنوا معهم في القموص وفي الكتيبة، وكان حصنا منيعا، وفي الوطيح والسلالم، وجعلوا لا يطلعون من حصونهم حتى هم رسول الله أن ينصب المنجنيق عليهم.

فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله أربعة عشر يوما، نزل إليه ابن أبي الحقيق فصالحه على حقن دمائهم، ويسيرهم ويخلون بين رسول الله وبين ما كان لهم من الأرض، والأموال، والصفراء، والبيضاء، والكراع، والحلقة، وعلى البر، إلا ما كان على ظهر إنسان - يعني لباسهم - فقال رسول الله : وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله، إن كتمتم شيئا، فصالحوه على ذلك.

قلت: ولهذا لما كتموا، وكذبوا، وأخفوا ذلك المسك الذي كان فيه أموال جزيلة تبين أنه لا عهد لهم، فقتل ابني أبي الحقيق وطائفة من أهله، بسبب نقض العهود منهم والمواثيق.

وقال الحافظ البيهقي: حدثني أبو الحسن علي بن محمد المقري الإسفرايني، حدثنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا عبد الواحد بن غياث، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا عبيد الله بن عمر، فيما يحسب أبو سلمة، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله قاتل أهل خيبر، حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله الصفراء، والبيضاء، و الحلقة، ويخرجون منها.

واشترط عليهم أن لا يكتموا، ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب، وكان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله حينئذ لعم حيي: «ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟».

فقال: أذهبته النفقات والحروب.

فقال: «العهد قريب، والمال أكثر من ذلك» فدفعه رسول الله إلى الزبير فمسه بعذاب.

وقد كان حيي قبل ذلك دخل خربة، فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا، فذهبوا فطافوا، فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله ابني أبي الحقيق، وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب، وسبى رسول الله نساءهم وذراريهم، وقسَّم أموالهم بالنكث الذي نكثوا، وأراد إجلاءهم منهما.

فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها، ونقوم عليها، ولم يكن رسول الله ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون أن يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخيل، وشيء ما بدا لرسول الله .

وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم، ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله شدة خرصه، وأرادوا أن يرشوه، فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت، والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم.

فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.

قال: فرأى رسول الله بعين صفية خضرة فقال: «يا صفية ما هذه الخضرة؟».

فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت كأن قمرا وقع في حجري، فأخبرته بذلك فلطمني، وقال: تتمنين ملك يثرب.

قالت: وكان رسول الله من أبغض الناس إلي، قَتَل زوجي وأبي، فما زال يعتذر إلي ويقول: «إن أباك ألَّب عليَّ العرب، وفعل ما فعل» حتى ذهب ذلك من نفسي.

وكان رسول الله يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر كل عام، وعشرين وسقا من شعير، فلما كان في زمان عمر غشوا المسلمين، وألقوا ابن عمر من فوق بيت، ففدعوا يديه، فقال عمر: من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها، فقسمها بينهم فقال رئيسهم: لا تخرجنا، دعنا نكون فيها كما أقرنا رسول الله وأبو بكر.

فقال عمر: أتراني سقط عليَّ قول رسول الله : «كيف بك إذا وقصت بك راحلتك نحو الشام يوما، ثم يوما، ثم يوما» وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية.

وقد رواه أبو داود مختصرا من حديث حماد بن سلمة.

قال البيهقي: وعقله البخاري في كتابه، فقال: ورواه حماد بن سلمة، قلت: ولم أره في الأطراف، فالله أعلم.

وقال أبو داود: حدثني سليمان بن داود المهري، حدثنا ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: لما فتحت خيبر سألت يهود رسول الله أن نقرهم، على أن يعملوا على النصف مما خرج منها.

فقال رسول الله : «أقركم فيها على ذلك ما شئنا» فكانوا على ذلك، وكان التمر يقسم على السهمان من نصف خيبر، ويأخذ رسول الله الخمس، وكان أطعم كل امرأة من أزواجه من الخمس مائة وسق من تمر، وعشرين وسقا من شعير.

فلما أراد عمر إخراج اليهود، أرسل إلى أزواج النبي فقال لهن: من أحب منكن أن أقسم لها مائة وسق فيكون لها أصلها، وأرضها، وماؤها، ومن الزرع مزرعة عشرين وسقا من شعير فعلنا، ومن أحب أن نعزل الذي لها في الخمس كما هو فعلنا.

وقد روى أبو داود من حديث محمد بن إسحاق: حدثني نافع، عن عبد الله بن عمر، أن عمر قال: أيها الناس إن رسول الله عامل يهود خيبر على أن يخرجهم إذا شاء، فمن كان له مال فليلحق به، فإني مخرج يهود فأخرجهم.

وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن جبير بن مطعم أخبره قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك، فقال: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد».

قال جبير بن مطعم: ولم يقسم النبي لبني عبد شمس وبني نوفل شيئا.

تفرد به دون مسلم.

وفي لفظ أن رسول الله قال: «إن بني هاشم وبني عبد المطلب شيء واحد، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام».

قال الشافعي: دخلوا معهم في الشعب، وناصروهم في إسلامهم وجاهليتهم، قلت: وقد ذم أبو طالب بني عبد شمس ونوفلا حيث يقول:

جزى الله عنا عبد شمسٍ ونوفلا * عقوبة شرٍ عاجلا غيرَ آجلِ

وقال البخاري: حدثنا الحسن بن إسحاق، ثنا محمد بن ثابت، ثنا زائدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قسَّم رسول الله يوم خيبر للفرس سهمين، وللراجل سهما، قال: فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، وإن لم يكن معه فرس فله سهم.

وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد، عن أبيه، أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانا ليس لهم شيء، ما فتحت على قرية إلا قسمتها، كما قسم النبي خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها.

وقد رواه البخاري أيضا من حديث مالك وأبو داود، عن أحمد بن حنبل، عن ابن مهدي، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر به.

وهذا السياق يقتضي أن خيبر بكمالها قسمت بين الغانمين.

وقد قال أبو داود: ثنا ابن السرح، أنبأنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: بلغني أن رسول الله افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وترك من ترك من أهلها على الجلاء بعد القتال.

وبهذا قال الزهري: خمس رسول الله خيبر، ثم قسَّم سائرها على من شهدها، وفيما قاله الزهري نظر، فإن الصحيح أن خيبر جميعها لم تقسم، وإنما قسم نصفها بين الناس، كما سيأتي بيانه.

وقد احتج بهذا مالك، ومن تابعه، على أن الإمام مخير في الأراضي المغنومة، إن شاء قسَّمها، وإن شاء رصدها لمصالح المسلمين، وإن شاء قسَّم بعضها وأرصد بعضها، لما ينوبه في الحاجات والمصالح.

قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، ثنا أسد بن موسى، حدثنا يحيى بن زكريا، حدثني سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، قال: قسَّم رسول الله خيبر نصفين، نصفا لنوائبه، ونصفا بين المسلمين، قسَّمها بينهم على ثمانية عشر سهما.

تفرد به أبو داود.

ثم رواه أبو داود من حديث بشير بن يسار مرسلا، فعين نصف النوائب الوطيح، والكتيبة، والسلالم، وما حيز معها، ونصف المسلمين الشق، والنطاة، وما حيز معهما، وسهم رسول الله فيما حيز معهما.

وقال أيضا حسين بن علي: ثنا محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار مولى الأنصار، عن رجال من أصحاب رسول الله : أن رسول الله لما ظهر على خيبر، فقسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم.

فكان لرسول الله وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف الثاني لمن نزل به من الوفود، والأمور، ونوائب الناس.

تفرد به أبو داود.

قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، ثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري، سمعت أبي يعقوب بن مجمع يقول، عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري، عن عمه مجمع بن حارثة الأنصاري - وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن - قال: قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها، رسول الله على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة، فيهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهما.

تفرد به أبو داود.

وقال مالك عن الزهري، أن سعيد بن المسيب أخبره، أن النبي افتتح بعض خيبر عنوة.

ورواه أبو داود، ثم قال أبو داود: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد، أخبركم ابن وهب: حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، أن خيبر بعضها كان عنوة، وبعضها صلحا، والكتيبة أكثرها عنوة وفيها صلح، قلت لمالك: وما الكتيبة؟

قال: أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق.

قال أبو داود: والعذق: النخلة، والعذق: العرجون.

ولهذا قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، ثنا حرمي، ثنا شعبة، ثنا عمارة، عن عكرمة، عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر.

حدثنا الحسن، ثنا قرة بن حبيب، ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر قال: ما شبعنا - يعني من التمر - حتى فتحنا خيبر.

وقال محمد بن إسحاق: كانت الشق والنطاة في سهمان المسلمين، الشق ثلاثة عشر سهما، ونطاة خمسة أسهم، قسم الجميع على ألف وثمانمائة سهم، ودفع ذلك إلى من شهد الحديبية من حضر خيبر ومن غاب عنها، ولم يغب عن خيبر ممن شهد الحديبية إلا جابر بن عبد الله فضرب له بسهمه.

قال: وكان أهل الحديبية ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فصرف إلى كل مائة رجل سهم من ثمانية عشر سهما، وزيد المائتا فارس أربعمائة سهم لخيولهم.

وهكذا رواه البيهقي من طريق سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن صالح بن كيسان، أنهم كانوا ألفا وأربعمائة، معهما مائتا فرس.

قلت: وضرب رسول الله معهم بسهم، وكان أول سهم من سهمان الشق مع عاصم بن عدي.

قال ابن إسحاق: وكانت الكتيبة خمسا لله تعالى، وسهم للنبي ، وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وطعمة أزواج النبي ، وطعمة أقوام مشوا في صلح أهل فدك، منهم محيصة بن مسعود، أقطعه رسول الله ثلاثين وسقا من تمر، وثلاثين وسقا من شعير.

قال: وكان وادياها اللذان قسمت عليه يقال لهما: وادي السرير، ووادي خاص.

ثم ذكر ابن إسحاق تفاصيل الإقطاعات منها، فأجاد وأفاد رحمه الله.

قال: وكان الذي ولي قسمتها وحسابها جبار بن صخر بن أمية بن خنساء، أخو بني سلمة وزيد بن ثابت، رضي الله عنهما.

قلت: وكان الأمير على خرص نخيل خيبر عبد الله بن رواحة، فخرصها سنتين، ثم لما قتل رضي الله عنه كما سيأتي في يوم مؤتة، ولي بعده جبار بن صخر رضي الله عنه.

وقد قال البخاري: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن عبد المجيد بن سهيل، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة أن رسول الله استعمل رجلا على خيبر فجاء بتمر جنيب، فقال رسول الله : «أكل تمر خيبر هكذا؟».

قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: «لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا».

قال البخاري: وقال الدراوردي عن عبد المجيد، عن سعيد بن المسيب، أن أبا سعيد وأبا هريرة حدثاه: أن رسول الله بعث أخا بني عدي من الأنصار إلى خيبر وأمَّره عليها.

وعن عبد المجيد، عن أبي صالح السمان، عن أبي سعيد، وأبي هريرة مثله.

قلت: كان سهم النبي الذي أصاب مع المسلمين، مما قسم بخيبر وفدك بكمالها، وهي طائفة كبيرة من أرض خيبر، نزلوا من شدة رعبهم منه صلوات الله وسلامه عليه، فصالحوه وأموال بني النضير المتقدم، ذكرها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت هذه الأموال لرسول الله خاصة.

وكان يعزل منها نفقة أهله لسنة، ثم يجعل ما بقي مجعل مال الله، يصرفه في الكراع، والسلاح، ومصالح المسلمين، فلما مات صلوات الله وسلامه عليه اعتقدت فاطمة وأزواج النبي - أو أكثرهن - أن هذه الأراضي تكون موروثة عنه، ولم يبلغهم ما ثبت عنه من قوله : «نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة».

ولما طلبت فاطمة، وأزواج النبي ، والعباس، نصيبهم من ذلك، وسألوا الصديق أن يسلمه إليهم، وذكر لهم قول رسول الله : «لا نورث ما تركنا صدقة».

وقال: أنا أعول من كان يعول رسول الله، والله لقرابة رسول الله أحب إلي أن أصل من قرابتي، وصدق رضي الله عنه وأرضاه فإنه البار الراشد في ذلك التابع للحق.

وطلب العباس وعلي على لسان فاطمة، إذ قد فاتهم الميراث أن ينظرا في هذه الصدقة، وأن يصرفا ذلك في المصارف التي كان النبي يصرفها فيها، فأبى عليهم الصديق ذلك، ورأى أن حقا عليه أن يقوم فيما كان يقوم فيه رسول الله ، وأن لا يخرج من مسلكه ولا عن سنته.

فتغضبت فاطمة رضي الله عنها عليه في ذلك، ووجدت في نفسها بعض الموجدة ولم يكن لها ذلك، والصديق من قد عرفت هي والمسلمون، محله ومنزلته من رسول الله وقيامه في نصرة النبي في حياته وبعد وفاته، فجزاه الله عن نبيه وعن الإسلام وأهله خيرا.

وتوفيت فاطمة رضي الله عنها بعد ستة أشهر، ثم جدد على البيعة بعد ذلك، فلما كان أيام عمر بن الخطاب سألوه أن يفوض أمر هذه الصدقة إلى علي والعباس، وثقلوا عليه بجماعة من سادات الصحابة، ففعل عمر رضي الله عنه ذلك، وذلك لكثرة أشغاله، واتساع مملكته، وامتداد رعيته، فتغلب علي على عمه العباس فيها.

ثم تساوقا يختصمان إلى عمر، وقدما بين أيديهما جماعة من الصحابة، وسألا منه أن يقسمها بينهما، فينظر كل منهما فيما لا ينظر فيه الآخر، فامتنع عمر من ذلك أشد الامتناع، وخشي أن تكون هذه القسمة تشبه قسمة المواريث.

وقال: انظرا فيها، وأنتما جميع فإن عجزتما عنها، فادفعاها إلي، والذي تقوم السماء والأرض بأمره لا أقضي فيها غير هذا.

فاستمرا فيها ومن بعدهما إلى ولدهما إلى أيام بني العباس، تصرف في المصارف التي كان رسول الله يصرفها فيها، أموال بني النضير، وفدك، وسهم رسول الله من خيبر.

فصل تخصيص شيء من الغنيمة للعبيد والنساء ممن شهدوا خيبر

وأما من شهد خيبر من العبيد، والنساء، فرضخ لهم رسول الله شيئا من الغنيمة، ولم يسهم لهم.

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا بشر بن المفضل، عن محمد بن زيد، حدثني عمير مولى أبي اللحم، قال: شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا فيَّ رسول الله ، فأمر بي، فقلدت سيفا، فإذا أنا أجره، فأخبر أني مملوك، فأمر لي بشيء من طريق المتاع.

ورواه الترمذي، والنسائي، جميعا عن قتيبة، عن بشر بن المفضل به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

ورواه ابن ماجه، عن علي بن محمد، عن وكيع، عن هشام بن سعد، عن محمد بن زيد بن المهاجر، عن منقذ، عن عمير به.

وقال محمد بن إسحاق: وشهد خيبر مع رسول الله نساء، فرضخ لهن من الفيء، ولم يضرب لهن بسهم، حدثني سليمان بن سحيم، عن أمية بنت أبي الصلت، عن امرأة من بني غفار قد سماها لي، قالت:

أتيت رسول الله في نسوة من بني غفار، فقلنا: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا - وهو يسير إلى خيبر - فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا؛ فقال: «على بركة الله».

قالت: فخرجنا معه، قالت: وكنت جارية حدثة السن، فأردفني رسول الله على حقيبة رحله، قالت: فوالله لنزل رسول الله إلى الصبح، ونزلت عن حقيبة رحله، قالت: وإذا بها دم مني، وكانت أول حيضة حضتها، قالت فتقبضت إلى الناقة واستحيت.

فلما رأى رسول الله ما بي، ورأى الدم قال: «ما لك؟ لعلك نفست».

قالت: قلت: نعم.

قال: «فأصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء، فاطرحي فيه ملحا، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك».

قالت: فلما فتح الله خيبر، رضخ لنا من الفيء، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها، وعلقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبدا.

وكانت في عنقها حتى ماتت، ثم أوصت أن تدفن معها.

قالت: وكانت لا تطهر من حيضها، إلا جعلت في طهورها ملحا، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت.

وهكذا رواه الإمام، وأبو داود، من حديث محمد بن إسحاق به.

قال شيخنا أبو الحجاج المزي في (أطرافه): ورواه الواقدي، عن أبي بكر بن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن أم علي بنت أبي الحكم، عن أمية بنت قيس بن أبي الصلت، عن النبي به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، ثنا رافع بن سلمة الأشجعي، حدثني حشرج بن زياد، عن جدته أم أبيه، قالت: خرجنا مع رسول الله في غزاة خيبر، وأنا سادسة ست نسوة، قالت: فبلغ النبي أن معه نساء.

قالت: فأرسل إلينا فدعانا، قالت: فرأينا في وجهه الغضب، فقال: «ما أخرجكن وبأمر من خرجتن؟».

قلنا: خرجنا نناول السهام، ونسقي السويق، ومعنا دواء للجرحى، ونغزل الشعر، فنعين به في سبيل الله.

قال: «فمرن فانصرفن» قالت: فلما فتح الله عليه خيبر أخرج لنا سهاما كسهام الرجال، فقلت لها: يا جدة وما الذي أخرج لكن؟ قالت: تمرا.

قلت: إنما أعطاهن من الحاصل، فأما أنه أسهم لهن في الأرض كسهام الرجال فلا! والله أعلم.

وقال الحافظ البيهقي: وفي كتابي عن أبي عبد الله الحافظ، أن عبد الله الأصبهاني أخبره: حدثنا الحسين بن الجهم، ثنا الحسين بن الفرج، ثنا الواقدي، حدثني عبد السلام بن موسى بن جبير، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن أنيس، قال:

خرجت مع رسول الله إلى خيبر، ومعي زوجتي وهي حبلى، فنفست في الطريق، فأخبرت رسول الله فقال لي: «انقع لها تمرا، فإذا انغمر فأمر به لتشربه» ففعلت، فما رأت شيئا تكرهه.

فلما فتحنا خيبر أجدى النساء ولم يسهم لهن، فأجدى زوجتي وولدي الذي ولد، قال عبد السلام: لست أدري غلام أو جارية.

ذكر قدوم جعفر بن أبي طالب ومسلمو الحبشة المهاجرون

قال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء، ثنا أبو أسامة، ثنا يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: بلغنا مخرج النبي ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهم أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما قال في بضع، وإما قال في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلا من قومي.

فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فوافقنا النبي حين افتتح خيبر، فكان أناس من الناس يقولون لنا - يعني لأهل السفينة - سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس - وهي ممن قدم معنا - على حفصة زوج النبي زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر.

فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: من هذه؟

قالت: أسماء ابنة عميس.

قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟

قالت أسماء: نعم.

قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم.

فغضبت وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار - أو في أرض - البعداء والبغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله ، وأيم الله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت للنبي وأسأله، ووالله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه.

فلما جاء النبي قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا، قالت: قال: «فما قلتِ له؟».

قالت: قلت: كذا وكذا.

قال: «ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان».

قالت: فلقد رأيت أبا موسى، وأهل السفينة، يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم، مما قال لهم النبي .

قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني.

وقال أبو بردة: عن أبي موسى، قال النبي : «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار، ومنهم حكيم بن حزام، إذا لقي العدو - أو قال الخيل - قال لهم إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم».

وهكذا رواه مسلم، عن أبي كريب وعبد الله بن براد، عن أبي أسامة به.

ثم قال البخاري: قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا حفص بن غياث، ثنا يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: قدمنا على النبي بعد أن افتتح خيبر، فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا.

تفرد به البخاري دون مسلم.

ورواه أبو داود، والترمذي، وصححه من حديث يزيد به.

وقد ذكر محمد بن إسحاق أن رسول الله بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، يطلب منه من بقي من أصحابه بالحبشة، فقدموا صحبة جعفر، وقد فتح النبي خيبر.

قال: وقد ذكر سفيان بن عيينة، عن الأجلح، عن الشعبي، أن جعفر بن أبي طالب قدم على رسول الله يوم فتح خيبر، فقبَّل رسول الله بين عينيه والتزمه، وقال: «ما أدري بأيهما أنا أُسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟».

هكذا رواه سفيان الثوري عن الأجلح، عن الشعبي مرسلا.

وأسند البيهقي من طريق حسن بن حسين العرزمي، عن الأجلح، عن الشعبي، عن جابر قال: لما قدم رسول الله من خيبر، قدم جعفر من الحبشة، فتلقاه وقبَّل جبهته، وقال: «والله ما أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟».

ثم قال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا الحسين بن أبي إسماعيل العلوي، ثنا أحمد بن محمد البيروتي، ثنا محمد بن أحمد بن أبي طيبة، حدثني مكي بن إبراهيم الرعيني، ثنا سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:

لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، تلقاه رسول الله ، فلما نظر جعفر إليه حجل - قال مكي: يعني مشى على رجل واحدة - إعظاما لرسول الله ، فقبَّل رسول الله بين عينيه، ثم قال البيهقي: في إسناده من لا يعرف إلى الثوري.

قال ابن إسحاق: وكان الذين تأخروا مع جعفر من أهل مكة، إلى أن قدموا معه خيبر ستة عشر رجلا، وسرد أسماءهم، وأسماء نسائهم وهم:

جعفر بن أبي طالب الهاشمي، وامرأته أسماء بنت عميس، وابنه عبد الله ولد بالحبشة، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد، وولداه سعيد وأمه بنت خالد، ولدا بأرض الحبشة، وأخوه عمرو بن سعيد بن العاص، ومسعيب بن أبي فاطمة، وكان إلى آل سعيد بن العاص.

قال: وأبو موسى الأشعري، عبد الله بن قيس حليف آل عتبة بن ربيعة، وأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد الأسدي، وجهم بن قيس بن عبد شرحبيل العبدري، وقد ماتت امرأته أم حرملة بنت عبد الأسود بأرض الحبشة، وابنا عمرو، وابنته خزيمة، ماتا بها رحمهم الله، وعامر بن أبي وقاص الزهري.

وعتبة بن مسعود حليف لهم من هذيل، والحارث بن خالد بن صخر التيمي، وقد هلكت بها امرأته ريطة بنت الحارث رحمها الله، وعثمان بن ربيعة بن أهبان الجمحي، ومحمية بن جزء الزبيدي حليف بني سهم، ومعمر بن عبد الله بن نضلة العدوي، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس، ومالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس العامريان، ومع مالك هذا امرأته عمرة بنت السعدي، والحارث بن عبد شمس بن لقيط الفهري.

قلت: ولم يذكر ابن إسحاق أسماء الأشعريين الذين كانوا مع أبي موسى الأشعري، وأخويه أبا بردة، وأبا رهم، وعمه أبا عامر، بل لم يذكر من الأشعريين غير أبي موسى، ولم يتعرض لذكر أخويه، وهما أسن منه، كما تقدم في صحيح البخاري، وكأن ابن إسحاق رحمه الله لم يطلع على حديث أبي موسى في ذلك، والله أعلم.

قال: وقد كان معهم في السفينتين نساءٌ من نساء من هلك من المسلمين هنالك، وقد حرر ها هنا شيئا كثيرا حسنا.

قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، سمعت الزهري، وسأله إسماعيل بن أمية قال: أخبرني عنبسة بن سعيد، أن أبا هريرة أتى رسول الله وسأله - يعني أن يقسم له - فقال بعض بني سعيد بن العاص: لا تعطه.

فقال أبو هريرة: هذا قاتل ابن قوقل.

فقال: واعجبا لو بر تدلى من قدوم الضال.

تفرد به دون مسلم.

قال البخاري: ويذكر عن الزبيدي، عن الزهري، أخبرني عنبسة بن سعيد، أنه سمع أبا هريرة يخبر سعيد بن العاص، قال: بعث رسول الله أبانا على سرية من المدينة قبل نجد.

قال أبو هريرة: فقدم أبان وأصحابه على النبي بخيبر بعد ما افتتحها، وإن حزم خيلهم لليف.

قال أبو هريرة: فقلت يا رسول الله لا تقسم لهم، فقال أبان: وأنت بهذا يا وبر تحدر من رأس ضال.

وقال النبي : «يا أبان اجلس» ولم يقسم لهم.

وقد أسند أبو داود هذا الحديث، عن سعيد بن منصور، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن الوليد الزبيدي به نحوه.

ثم قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، أخبرني جدي وهو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، أن أبان بن سعيد أقبل إلى النبي فسلم عليه، فقال أبو هريرة:

يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل، فقال أبان لأبي هريرة: واعجبا لك يا وبر تردى من قدوم ضال، تنعي على امرء أكرمه الله بيدي، ومنعه أن يهينني بيده؟

هكذا رواه منفردا به ها هنا.

وقال في الجهاد بعد حديث الحميدي: عن سفيان، عن الزهري، عن عنبسة بن سعيد، عن أبي هريرة قال: أتيت رسول الله وهو بخيبر بعد ما افتتحها، فقلت: يا رسول الله أسهم لي، فقال بعض آل سعيد بن العاص: لا تقسم له، فقلت: يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل. الحديث.

قال سفيان حدثنيه السعدي - يعني عمرو بن يحيى بن سعيد - عن جده عن أبي هريرة بهذا ففي هذا التصريح من أبي هريرة بأنه لم يشهد خيبر. وتقدم في أول هذه الغزوة.

رواه الإمام أحمد من طريق عراك بن مالك، عن أبي هريرة، وأنه قدم على رسول الله بعد ما افتتح خيبر، فكلم المسلمين فأشركونا في أسهامهم.

قال الإمام أحمد: حدثنا روح، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمار قال: ما شهدت مع رسول الله مغنما قط، إلا قسم لي، إلا خيبر فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة.

قلت: وكان أبو هريرة وأبو موسى جاءا بين الحديبية وخيبر.

وقد قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق، عن مالك بن أنس، حدثني ثور، حدثني سالم مولى عبد الله بن مطيع، أنه سمع أبا هريرة يقول: افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة، إنما غنمنا الإبل والبقر، والمتاع والحوائط.

ثم انصرفنا مع رسول الله إلى وادي القرى، ومعه عبد له يقال له: مدعم أهداه له بعض بني الضبيب، فبينما هو يحط رحل رسول الله ، إذ جاءه سهم عاثر حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئا له بالشهادة.

فقال رسول الله : «كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا».

فجاء رجل حين سمع ذلك من رسول الله بشراك أو شراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله : «شراك أو شراكين من نار».

قصة الشاة المسمومة والبرهان الذي ظهر

قال البخاري: رواه عروة عن عائشة عن النبي .

ثم قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، حدثني سعيد، عن أبي هريرة قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله شاة فيها سم، هكذا أورده ها هنا مختصرا.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي شاة فيها سم، فقال رسول الله : «اجمعوا لي من كان ها هنا من يهود» فجمعوا له.

فقال النبي : «إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه؟».

قالوا: نعم يا أبا القاسم.

فقال لهم رسول الله : «من أبوكم؟»

قالوا: أبونا فلان.

فقال رسول الله : «كذبتم بل أبوكم فلان».

قالوا: صدقت وبررت.

فقال: «هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم عنه؟».

قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا.

فقال رسول الله : «من أهل النار؟».

فقالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها.

فقال لهم رسول الله : «والله لا نخلفكم فيها أبدا».

ثم قال لهم: «هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم؟».

فقالوا: نعم يا أبا القاسم.

فقال: «هل جعلتم في هذه الشاة سما؟».

فقالوا: نعم.

قال: «ما حملكم على ذلك؟».

قالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك.

وقد رواه البخاري في الجزية، عن عبد الله بن يوسف، وفي (المغازي) أيضا عن قتيبة كلاهما عن الليث به.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الأصم قال: حدثنا العباس بن محمد، قال: حدثنا سعيد بن سليمان، ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن امرأة من يهود أهدت لرسول الله شاة مسمومة.

فقال لأصحابه: «أمسكوا فإنها مسمومة» وقال لها: «ما حملك على ما صنعت؟».

قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا، فسيطلعك الله عليه، وإن كنت كاذبا أريح الناس منك.

قال: فما عرض لها رسول الله .

رواه أبو داود، عن هارون بن عبد الله، عن سعيد بن سليمان به.

ثم روى البيهقي عن طريق عبد الملك بن أبي نضرة، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله نحو ذلك.

وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح، ثنا عباد، عن هلال - هو ابن خباب - عن عكرمة، عن ابن عباس، أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله شاة مسمومة، فأرسل إليها فقال: «ما حملك على ما صنعت؟».

قالت: أحببت - أو أردت - إن كنت نبيا، فإن الله سيطلعك عليه، وإن لم تكن نبيا أريح الناس منك.

قال: فكان رسول الله إذا وجد من ذلك شيئا احتجم.

قال: فسافر مرة، فلما أحرم وجد من ذلك شيئا، فاحتجم.

تفرد به أحمد، وإسناده حسن.

وفي الصحيحين من حديث شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك، أن امرأة يهودية أتت رسول الله بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله ، فسألها عن ذلك قالت: أردت لأقتلك.

فقال: «ما كان الله ليسلطك علي» أو قال: «على ذلك».

قالوا: ألا تقتلها؟

قال: «لا».

قال أنس: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله .

وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: كان جابر بن عبد الله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية، ثم أهدتها لرسول الله ، فأخذ رسول الله الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه.

ثم قال لهم رسول الله : «ارفعوا أيديكم» وأرسل رسول الله إلى المرأة، فدعاها فقال لها: «أسممت هذه الشاة؟».

قالت اليهودية: من أخبرك؟

قال: «أخبرتني هذه التي في يدي» وهي الذراع.

قالت: نعم.

قال: «فما أردت بذلك؟».

قالت: قلت إن كنت نبيا فلن يضرك، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك. فعفا عنها رسول الله ، ولم يعاقبها، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة.

واحتجم النبي على كأهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة، وهو مولى لبني بياضة من الأنصار.

ثم قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، ثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة أن رسول الله أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية نحو حديث جابر.

قال: فمات بشر بن البراء بن معرور، فأرسل إلى اليهودية فقال: «ما حملك على الذي صنعت؟».

فذكر نحو حديث جابر، فأمر رسول الله فقتلت، ولم يذكر أمر الحجامة.

قال البيهقي: ورويناه من حديث حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: ويحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء، ثم لما مات بشر بن البراء أمر بقتلها.

وروى البيهقي من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن امرأة يهودية أهدت إلى رسول الله شاة مصلية بخيبر، فقال: «ما هذه؟».

قالت: هدية، وحذرت أن تقول صدقة فلا يأكل.

قال: فأكل وأصحابه، ثم قال: «أمسكوا» ثم قال للمرأة: «هل سممت؟».

قالت: من أخبرك هذا؟

قال: «هذا العظم لساقها» وهو في يده.

قالت: نعم.

قال: «لم؟».

قالت: أردت إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك.

قال: فاحتجم رسول الله على الكاهل، وأمر أصحابه فاحتجموا، ومات بعضهم.

قال الزهري: فأسلمت، فتركها النبي .

قال البيهقي: هذا مرسل، ولعله قد يكون عبد الرحمن حمله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

وذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة، وكذلك موسى بن عقبة، عن الزهري قالوا: لما فتح رسول الله خيبر، وقتل منهم من قتل، أهدت زينب بنت الحارث اليهودية وهي ابنة أخي مرحب لصفية شاة مصلية وسمتها، وأكثرت في الكتف والذراع، لأنه بلغها أنه أحب أعضاء الشاة إلى رسول الله .

فدخل رسول الله على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور، وهو أحد بني سلمة، فقدمت إليهم الشاة المصلية، فتناول رسول الله الكتف وانتهش منها، وتناول بشر عظما فانتهش منه، فلما استرط رسول الله لقمته، استرط بشر بن البراء ما في فيه.

فقال رسول الله : «ارفعوا أيديكم، فإن كتف هذه الشاة يخبرني أني نعيت فيها».

فقال بشر بن البراء: والذي أكرمك، لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت فما منعني أن ألفظها، إلا أني أعظمتك أن أبغضك طعامك، فلما أسغت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا تكون استرطتها وفيها نعي.

فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان، وماطله وجعه حتى كان لا يتحول حتى يحول.

قال الزهري: قال جابر: واحتجم رسول الله يومئذ، حجمه مولى بني بياضة بالقرن والشفرة، وبقي رسول الله بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه.

فقال: ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عدادا، حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري» فتوفي رسول الله شهيدا.

وقال محمد بن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله ؟ فقيل لها الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة ثم جاءت بها.

فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع، فلاك منها مضغة، فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله ؛ فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله فلفظها.

ثم قال: «إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم» ثم دعا بها فاعترفت.

فقال: «ما حملك على ذلك؟».

قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان كذابا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر.

قال: فتجاوز عنها رسول الله ، ومات بشر من أكلته التي أكل.

قال ابن إسحاق: وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال: كان رسول الله قد قال في مرضه الذي توفي فيه - ودخلت عليه أخت بشر بن البراء بن معرور -: «يا أم بشر إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر».

قال ابن هشام: الأبهر: العرق المعلق بالقلب.

قال: فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النبوة.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا هلال بن بشر، وسليمان بن يوسف الحراني، قالا: ثنا أبو غياث سهل بن حماد، ثنا عبد الملك بن أبي نضرة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن يهودية أهدت إلى رسول الله شاة سميطا.

فلما بسط القوم أيديهم قال رسول الله : «أمسكوا فإن عضو من أعضائها يخبرني أنها مسمومة».

فأرسل إلى صاحبتها: «أسممت طعامك؟».

قالت: نعم.

قال: «ما حملك على ذلك؟».

قالت: إن كنت كذابا أن أريح الناس منك، وإن كنت صادقا علمت أن الله سيطلعك عليه.

فبسط يده وقال: «كلوا بسم الله» قال: فأكلنا وذكرنا اسم الله فلم يضر أحدا منا.

ثم قال: لا يروى عن عبد الملك بن أبي نضرة إلا من هذا الوجه.

قلت: وفيه نكارة وغرابة شديدة، والله أعلم.

وذكر الواقدي: أن عيينة بن حصن قبل أن يسلم رأى في منامه رؤيا، ورسول الله محاصر خيبر، فطمع من رؤياه أن يقاتل رسول الله فيظفر به.

فلما قدم على رسول الله خيبر وجده قد افتتحها؛ فقال: يا محمد أعطني ما غنمت من حلفائي - يعني: أهل خيبر -.

فقال له رسول الله : «كذبت رؤياك» وأخبره بما رأى.

فرجع عيينة فلقيه الحارث بن عوف فقال: ألم أقل إنك توضع في غير شيء، والله ليظهرن محمد على ما بين المشرق والمغرب، وإن يهود كانوا يخبروننا بهذا، أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا لنحسد محمدا على النبوة حيث خرجت من بني هارون، إنه لمرسل، ويهود لا تطاوعني على هذا.

ولنا منه ذبحان، واحد بيثرب وآخر بخيبر.

قال الحارث: قلت لسلام يملك الأرض؟

قال: نعم والتوراة التي أنزلت على موسى وما أحب أن تعلم يهود بقولي فيه.

فصل انصراف رسول الله إلى وادي القرى ومحاصرة أهله

قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله من خيبر انصرف إلى وادي القرى، فحاصر أهله ليال ثم انصرف راجعا إلى المدينة.

ثم ذكر من قصة مدعم وكيف جاءه سهم غارب فقتله، وقال الناس: هنيئا له الشهادة.

فقال رسول الله : «كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر لم يصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا».

وقد تقدم في (صحيح البخاري) نحو ما ذكره ابن إسحاق والله أعلم.

وسيأتي ذكر قتاله عليه السلام بوادي القرى.

قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي عمرة عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلا من أشجع من أصحاب رسول الله توفي يوم خيبر، فذكر ذلك للنبي فقال: «صلوا على صاحبكم».

فتغير وجوه الناس من ذلك، فقال: «إن صاحبكم غل في سبيل الله».

ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود ما يساوي درهمين.

وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى بن سعيد القطان.

ورواه أبو داود، وبشر بن المفضل، وابن ماجه، من حديث الليث بن سعد ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري به.

وقد ذكر البيهقي: أن بني فزارة أرادوا أن يقاتلوا رسول الله مرجعه من خيبر وتجمعوا لذلك، فبعث إليهم يواعدهم موضعا معينا فلما تحققوا ذلك هربوا كل مهرب؛ وذهبوا من طريقه كل مذهب.

وتقدم أن رسول الله لما حلت صفية من استبرائها دخل بها بمكان يقال له: سد الصهباء، في أثناء طريقه إلى المدينة؛ وأولم عليها بحيس.

وأقام ثلاثة أيام يبني عليه بها، وأسلمت فأعتقها وتزوجها وجعل عتاقها صداقها، وكانت إحدى أمهات المؤمنين كما فهمه الصحابة لما مد عليها الحجاب وهو مردفها وراءه رضي الله عنها.

وذكر محمد بن إسحاق في السيرة قال: لما أعرس رسول الله بصفية بخيبر - أو ببعض الطريق - وكانت التي جمّلتها إلى رسول الله ومشطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك.

وبات بها رسول الله في قبة له وبات أبو أيوب متوشحا بسيفه يحرس رسول الله ويطيف بالقبة، حتى أصبح، فلما رأى رسول الله مكانه قال: «ما لك يا أبا أيوب؟».

قال: خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك.

فزعموا أن رسول الله قال: «اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني».

ثم قال: حدثني الزهري عن سعيد بن المسيب فذكر نومهم عن صلاة الصبح مرجعهم من خيبر، وأن رسول الله كان أولهم استيقاظا فقال: «ماذا صنعت بنا يا بلال؟».

قال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك.

قال: «صدقت».

ثم اقتاد ناقته غير كثير ثم نزل، فتوضأ وصلى كما كان يصليها قبل ذلك.

وهكذا رواه مالك، عن الزهري، عن سعيد مرسلا، وهذا مرسل من هذا الوجه.

وقد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله حين قفل من غزوة خيبر، فسار ليلة حتى إذا أدركنا الكرى عرّس وقال لبلال: «اكلأ لنا الليل».

قال: فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ النبي ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، كان رسول الله أولهم استيقاظا ففزع رسول الله وقال: «يا بلال».

قال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

قال: فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول الله ، فأمر بلالا فأقام الصلاة وصلى لهم الصبح، فلما أن قضى الصلاة قال: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول: { وأقم الصلاة لذكري } ».

قال يونس: وكان ابن شهاب يقرأها كذلك.

وهكذا رواه مسلم عن حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب به وفيه أن ذلك كان مرجعهم من خيبر.

وفي حديث شعبة عن جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، عن ابن مسعود: أن ذلك كان مرجعهم من الحديبية.

ففي رواية عنه أن بلالا هو الذي كان يكلؤهم، وفي رواية عنه أنه هو الذي كان يكلؤهم.

قال الحافظ البيهقي: فيحتمل أن ذلك كان مرتين.

قال: وفي حديث عمران بن حصين، وأبي قتادة، نومهم عن الصلاة، وفيه حديث الميضاة فيحتمل أن ذلك إحدى هاتين المرتين أو مرة ثالثة.

قال: وذكر الواقدي في حديث أبي قتادة أن ذلك كان مرجعهم من غزوة تبوك.

قال: وروى زافر بن سليمان، عن شعبة، عن جامع بن شداد، عن عبد الرحمن، عن ابن مسعود أن ذلك كان مرجعهم من تبوك، فالله أعلم.

ثم أورد البيهقي ما رواه صاحب الصحيح من قصة عوف الأعرابي، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين، في قصة نومهم عن الصلاة، وقصة المرأة صاحبة السطيحتين، وكيف أخذوا منهما ماء روى الجيش بكماله، ولم ينقص ذلك منهما شيئا.

ثم ذكر ما رواه مسلم من حديث ثابت البناني عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، وهو حديث طويل، وفيه نومهم عن الصلاة، وتكثير الماء من تلك الميضاة.

وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة.

وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا عبد الواحد، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله خيبرا، وقال لما توجه رسول الله إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر لا إله إلا الله.

فقال رسول الله : «اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم».

وأنا خلف دابة رسول الله ، فسمعني وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: «يا عبد الله بن قيس».

قلت: لبيك يا رسول الله.

قال: «ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة».

قلت: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي.

قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله».

وقد رواه بقية الجماعة من طرق، عن عبد الرحمن بن مل أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري، والصواب أنه كان مرجعهم من خيبر، فإن أبا موسى إنما قدم بعد فتح خيبر كما تقدم.

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - فيما بلغني - قد أعطى ابن لقيم العبسي حين افتتح خيبر ما بها من دجاجة أو داجن، وكان فتح خيبر في صفر، فقال ابن لقيم في فتح خيبر:

رميت نطاة من الرسول بفيلقٍ * شهباء ذات مناكب وفقار

واستيقنت بالذلّ لما شيعت * ورجال أسلم وسطها وغفار

صبحت بني عمرو بن زرعة غدوة * والشق أظلم أهله بنهار

جرّت بأبطحها الذيول فلم تدع * إلا الدجاج تصيح بالأسحار

ولكل حصنٍ شاغل من خيلهم * من عبد الأشهل أو بني النجّار

ومهاجرين قد أعلموا سيماهم * فوق المغافر لم ينوا لفرار

ولقد علمت ليغلبن محمد * وليثوين بها إلى أصفار

فرّت يهود عند ذلك في الوغى * تحت العجاج غمائم الأبصار

فصل من استشهد بخيبر من الصحابة

على ما ذكره ابن إسحاق بن يسار رحمه الله، وغيره من أصحاب المغازي.

فمن خير المهاجرين ربيعة بن أكثم بن سخبرة الأسدي مولى بني أمية، وثقيف بن عمرو، ورفاعة بن مسروح حلفاء بني أمية، وعبد الله بن الهبيب بن أهيب بن سحيم بن غيرة من بني سعد بن ليث، حليف بني أسد وابن أختهم.

ومن الأنصار بشر بن البراء بن معرور، من أكلة الشاة المسمومة مع رسول الله كما تقدم، وفضيل بن النعمان السلميّان، ومسعود بن سعد بن قيس بن خالد بن عامر بن زريق الزرقي، ومحمود بن مسلمة الأشهلي، وأبو ضياح حارثة بن ثابت بن النعمان العمري.

والحارث بن حاطب، وعروة بن مرة بن سراقة، وأوس بن الفائد، وأنيف بن حبيب، وثابت بن أثلة، وطلحة، وعمارة بن عقبة رُمي بسهم فقتله.

وعامر بن الأكوع ثم سلمة بن عمرو بن الأكوع، أصابه طرف سيفه في ركبته فقتله رحمه الله كما تقدم، والأسود الراعي.

وقد أفرد ابن إسحاق ها هنا قصته وقد أسلفناها في أوائل الغزوة، ولله الحمد والمنة.

قال ابن إسحاق: وممن استشهد بخيبر فيما ذكره ابن شهاب من بني زهرة مسعود بن ربيعة، حليف لهم من القارة، ومن الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف أوس بن قتادة، رضي الله عنهم أجمعين.

خبر الحجاج بن علاط البهزي

قال ابن إسحاق: ولما فتحت خيبر كلم رسول الله الحجاج بن علاط السلمي، ثم البهزي فقال: يا رسول الله إن لي بمكة مالا عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة - وكانت عنده، له منها معوض بن الحجاج - ومالا متفرقا في تجار أهل مكة، فائذن لي يا رسول الله.

فأذن له، فقال: إنه لا بد لي يا رسول الله أن أقول.

قال: «قل».

قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة، وجدت بثينة البيضاء رجالا من قريش يستمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رسول الله ، وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز ريفا ومنعة ورجالا، وهم يتجسسون الأخبار من الركبان.

فلما رأوني قالوا: الحجاج بن علاط - قال ولم يكونوا علموا بإسلامي - عنده والله الخبر.

أخبرنا يا أبا محمد فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر، وهي بلد يهود وريف الحجاز؟

قال: قلت: قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم.

قال: فالتبطوا بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجاج؟

قال: قلت: هُزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط.

وقد قتل أصحابه قتلا لم يسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسرا وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم.

قال: فقاموا وصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يُقدم به عليكم فيُقتل بين أظهركم.

قال: قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي، فإني أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك.

قال: فقاموا فجمعوا لي ما كان لي كأحث جمع سمعت به.

قال: وجئت صاحبتي فقلت: مالي، وكان عندها مال موضوع، فلعلي ألحق بخيبر فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار.

قال: فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وما جاءه عني، أقبل حتى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيم التجار، فقال: يا حجاج ما هذا الذي جئت به؟

قال: قلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟

قال: نعم!

قال: قلت: فاستأخر حتى ألقاك على خلاء، فإني في جمع مالي كما ترى فانصرف حتى أفرغ.

قال: حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة وأجمعت الخروج لقيت العباس، فقلت: احفظ علي حديثي يا أبا الفضل فإني أخشى الطلب ثلاثا، ثم قل: ما شئت.

قال: أفعل.

قلت: فإني والله تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم - يعني: صفية بنت حيي - وقد افتتح خيبر وانتثل ما فيها وصارت له ولأصحابه.

قال: ما تقول يا حجاج؟

قال: قلت: أي والله فاكتم عني ولقد أسلمت، وما جئت إلا لآخذ مالي فرقا عليه من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب.

قال: حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له، وتخلق وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة!

قال: كلا والله الذي حلفتم به، لقد افتتح محمد خيبر، ونزل عروسا على بنت ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها وأصبحت له ولأصحابه.

قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟

قال: الذي جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما وأخذ أمواله فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه.

فقالوا: يا لعباد الله انفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن.

قال: ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك.

هكذا ذكر ابن إسحاق هذه القصة منقطعة.

وقد أسند ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، سمعت ثابتا يحدث عن أنس قال: لما افتتح رسول الله خيبر قال الحجاج بن علاط: يا رسول الله إني لي بمكة مالا، وإن لي بها أهلا، وإني أريد أن آتيهم أفأنا في حل إن أنا نلت منك أو قلت شيئا؟

فأذن له رسول الله أن يقول ما شاء.

فأتى امرأته حين قدم فقال: اجمعي لي ما كان عندك فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم.

قال: وفشى ذلك بمكة فانقمع المسلمون، وأظهر المشركون فرحا وسرورا.

قال: وبلغ الخبر العباس فعقر وجعل لا يستطيع أن يقوم.

قال معمر: فأخبرني عثمان الخزرجي عن مقسم قال: فأخذ ابنا يقال له: قثم، واستلقى ووضعه على صدره وهو يقول:

حبي قثم * شبه ذي الأنف الأشم * بني ذي النعم * بزعم من زعم

قال ثابت عن أنس: ثم أرسل غلاما له إلى حجاج بن علاط فقال: ويلك ما جئت به وماذا تقول؟ فما وعد الله خير مما جئت به.

فقال حجاج بن علاط: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له: فليخل لي في بعض بيوته لآتيه فإن الخبر على ما يسره.

فجاء غلامه فلما بلغ الدار قال: أبشر يا أبا الفضل.

قال: فوثب العباس فرحا حتى قبَّل بين عينيه، فأخبره ما قال حجاج فأعتقه.

قال: ثم جاءه الحجاج فأخبره أن رسول الله قد افتتح خيبر، وغنم أموالهم، وجرت سهام الله في أموالهم، واصطفى رسول الله صفية بنت حيي واتخذها لنفسه، وخيرها أن يعتقها وتكون زوجه أو تلحق بأهلها فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته.

قال: ولكني جئت لمال كان ها هنا أردت أن أجمعه فأذهب به، فاستأذنت رسول الله فأذن لي أن أقول ما شئت، فاخفِ علي ثلاثا ثم اذكر ما بدا لك.

قال: فجمعت امرأته ما كان عندها من حلي أو متاع فجمعته ودفعته إليه ثم انشمر به، فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال: ما فعل زوجك؟

فأخبرته أنه ذهب يوم كذا وكذا، وقالت: لا يحزنك الله يا أبا الفضل لقد شق علينا الذي بلغك.

قال: أجل لا يحزنني الله ولم يكن بحمد الله إلا ما أحببنا، فتح الله خيبر على رسوله، وجرت فيها سهام الله واصطفى رسول الله صفية لنفسه، فإن كانت لك حاجة في زوجك فالحقي به.

قالت: أظنك والله صادقا؟

قال: فإني صادق والأمر على ما أخبرتك.

ثم ذهب حتى أتى مجالس قريش وهم يقولون إذا مر بهم: لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل.

قال: لم يصيبني إلا خير بحمد الله، أخبرني الحجاج بن علاط أن خيبر فتحها الله على رسوله وجرت فيها سهام الله واصطفى صفية لنفسه، وقد سألني أن أخفي عنه ثلاثا، وإنما جاء ليأخذ ماله وما كان له من شيء ها هنا ثم يذهب.

قال: فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، وخرج المسلمون من كان دخل بيته مكتئبا حتى أتى العباس فأخبرهم الخبر، فسر المسلمون ورد ما كان من كآبة أو غيظ أو حزن على المشركين.

وهذا الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى النسائي، عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق به نحوه.

ورواه الحافظ البيهقي من طريق محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق.

ورواه أيضا من طريق يعقوب بن سفيان، عن زيد بن المبارك، عن محمد بن ثور، عن معمر به نحوه.

وكذلك ذكر موسى بن عقبة في مغازيه: أن قريشا كان بينهم تراهن عظيم وتبايع، منهم من يقول: يظهر محمد وأصحابه، ومنهم من يقول: يظهر الحليفان ويهود خيبر.

وكان الحجاج بن علاط السلمي، ثم البهزي قد أسلم وشهد مع رسول الله فتح خيبر، وكان تحته أم شيبة أخت عبد الدار بن قصي، وكان الحجاج مكثرا من المال، وكانت له معادن أرض بني سليم.

فلما ظهر رسول الله على خيبر استأذن الحجاج رسول الله في الذهاب إلى مكة يجمع أمواله، فأذن له نحو ما تقدم، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: ومما قيل من الشعر في غزوة خيبر قول حسان:

بئس ما قاتلت خيابر عما * جمعوا من مزارع ونخيل

كرهوا الموت فاستبيح حماهم * وأقروا فعل الذميم الذليل

أمن الموت يهربون فإن المو * ت موت الهزال غير جميل

وقال كعب بن مالك فيما ذكره ابن هشام عن أبي زيد الأنصاري:

ونحن وردنا خيبرا وفروضه * بكل فتى عاري الأشاجع مزود

جوادٍ لدى الغايات لا واهن القوى * جريء على الأعداء في كل مشهد

عظيم رماد القدر في كل شتوة * ضروب بنصل المشرفيّ المهند

يرى القتل مدحا إن أصاب شهادة * من الله يرجوها وفوزا بأحمد

يذود ويحمي عن ذمار محمدٍ * ويدفع عنه باللسان وباليد

وينصره من كل أمرٍ يريبه * يجود بنفس دون نفس محمد

يصدق بالأنباء بالغيب مخلصا * يريد بذاك العز والفوز في غد

فصل مروره صلى الله عليه وسلم بوادي القرى ومحاصرة اليهود ومصالحتهم

قال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله من خيبر إلى وادي القرى، وكان رفاعة بن زيد بن وهب الجذامي قد وهب لرسول الله عبدا أسود يقال له: مدعم، وكان يُرحِّل لرسول الله .

فلما نزلنا بوادي القرى، انتهينا إلى يهود، وقدم إليها ناس من العرب، فبينا مدعم يحط رحل رسول الله ، وقد استقبلتنا يهود بالرمي حين نزلنا، ولم نكن على تعبية، وهم يصيحون في آطامهم، فيقبل سهم عاثر فأصاب مدعما فقتله.

فقال الناس: هنيئا له بالجنة، فقال النبي : «كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا».

فلما سمع بذلك الناس، جاء رجل إلى رسول الله بشراك أو شراكين، فقال النبي : «شراك من نار أو شراكان من نار».

وهذا الحديث في الصحيحين من حديث مالك، عن ثور بن يزيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، عن النبي بنحوه.

قال الواقدي: فعبى رسول الله أصحابه للقتال، وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، و راية إلى الحباب بن المنذر، و راية إلى سهل بن حنيف، و راية إلى عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام، وأخبرهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم، وحسابهم على الله.

قال: فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه عليّ فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلا، كل ما قتل منهم رجلا دعى من بقي منهم إلى الإسلام.

ولقد كانت الصلاة تحضر ذلك اليوم فيصلي بأصحابه، ثم يعود فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله عز وجل ورسوله، وقاتلهم حتى أمسى، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوة، وغنمهم الله أموالهم، وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا.

وأقام رسول الله بوادي القرى أربعة أيام، فقسم ما أصاب على أصحابه وترك الأرض والنخيل في أيدي اليهود وعاملهم عليها، فلما بلغ يهود تيماء ما وطئ به رسول الله خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم.

فلما كان عمر أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى، لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، ومن وراء ذلك من الشام.

قال: ثم انصرف رسول الله راجعا إلى المدينة بعد أن فرغ من خيبر ووادي القرى، وغنَّمه الله عز وجل.

قال الواقدي: حدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة قالت: سمعت رسول الله بالجرف وهو يقول: «لا تطرقوا النساء بعد صلاة العشاء».

قالت: فذهب رجل من الحي فطرق أهله فوجد ما يكره، فخلى سبيلها ولم يهجر، وضنَّ بزوجته أن يفارقها، وكان له منها أولاد وكان يحبها، فعصى رسول الله فرأى ما يكره.

فصل تقسيم الثمار و الزروع في خيبر بين المسلمين و اليهود بالعدل

ثبت في الصحيحين أن رسول الله لما افتتح خيبر، عامل يهودها عليها على شطر ما يخرج منها من تمر أو زرع.

وقد ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث على أن يعملوها من أموالها، وفي بعضها، وقال لهم النبي : «نقركم ما شئنا».

وفي السنن: أنه كان يبعث عليهم عبد الله بن رواحة يخرصها عليهم عند استواء ثمارها ثم يضمنهم إياه، فلما قتل عبد الله بن رواحة بمؤتة، بعث جبار بن صخر كما تقدم.

وموضع تحرير ألفاظه، وبيان طرقه، كتاب المزارعة من كتاب (الأحكام) إن شاء الله وبه الثقة.

وقال محمد بن إسحاق: سألت ابن شهاب كيف أعطى رسول الله يهود خيبر نخلهم؟

فأخبرني أن رسول الله افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وكانت خيبر مما أفاء الله عليه خمسها، وقسمها بين المسلمين، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال.

فدعاهم رسول الله فقال: «إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها، وتكون ثمارها بيننا وبينكم فأقركم ما أقركم الله» فقبلوا وكانوا على ذلك يعملونها.

وكان رسول الله يبعث عبد الله بن رواحة فيقسم ثمرها، ويعدل عليهم في الخرص، فلما توفَّى الله نبيه ، أقرها أبو بكر بأيديهم على المعاملة التي عاملهم عليها رسول الله حتى توفي.

ثم أقرهم عمر بن الخطاب صدرا من إمارته، ثم بلغ عمر أن رسول الله قال في وجعه الذي قبضه الله فيه: «لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان».

ففحص عمر عن ذلك، حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود فقال: إن الله أذن لي في إجلائكم، وقد بلغني أن رسول الله قال:

«لا يجتمعن في جزيرة العرب دينان» فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتني به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد فليتجهز للجلاء، فأجلى عمر من لم يكن عنده عهد رسول الله منهم.

قلت: قد ادعى يهود خيبر في أزمان متأخرة بعد الثلثمائة أن بأيديهم كتابا من رسول الله فيه أنه وضع الجزية عنهم، وقد اغتر بهذا الكتاب بعض العلماء حتى قال بإسقاط الجزية عنهم، من الشافعية الشيخ أبو علي خيرون، وهو كتاب مزور مكذوب مفتعل لا أصل له، وقد بينت بطلانه من وجوه عديدة في كتاب مفرد.

وقد تعرض لذكره وإبطاله جماعة من الأصحاب في كتبهم كابن الصباغ في مسائله، والشيخ أبي حامد في تعليقته، وصنف فيه ابن المسلمة جزءا منفردا للرد عليه، وقد تحركوا به بعد السبعمائة، وأظهروا كتابا فيه نسخة ما ذكره الأصحاب في كتبهم.

وقد وقفت عليه فإذا هو مكذوب، فإن فيه شهادة سعد بن معاذ، وقد كان مات قبل زمن خيبر، وفيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يومئذ.

وفي آخره: وكتبه علي بن أبي طالب وهذا لحن وخطأ، وفيه وضع الجزية ولم تكن شرعت بعد، فإنها إنما شرعت أول ما شرعت وأخذ من أهل نجران. وذكروا أنهم وفدوا في حدود سنة تسع، والله أعلم.

ثم قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر قال: خرجت أنا، والزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها، فلما قدمنا تفرقنا في أموالنا.

قال: فعدي عليَّ تحت الليل، وأنا نائم على فراشي ففدعت يداي من مرفقي، فلما استصرخت عليَّ صاحباي فأتياني فسألاني: من صنع هذا بك؟

فقلت: لا أدري، فأصلحا من يدي، ثم قدما بي على عمر فقال: هذا عمل يهود خيبر.

ثم قام في الناس خطيبا فقال: أيها الناس إن رسول الله كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر، ففدعوا يديه كما بلغكم مع عدوتهم على الأنصاري قبله، لا نشك أنهم كانوا أصحابه، ليس لنا هناك عدو غيرهم، فمن كان له مال من خيبر فليلحق به، فإني مخرج يهود، فأخرجهم.

قلت: كان لعمر بن الخطاب سهمه الذي بخيبر، وقد كان وقفه في سبيل الله، وشرط في الوقف ما أشار به رسول الله كما هو ثابت في الصحيحين، وشرط أن يكون النظر فيه للأرشد فالأرشد من بناته وبنيه.

قال الحافظ البيهقي في (الدلائل): جماع أبواب السرايا التي تذكر بعد فتح خيبر، وقبل عمرة القضية، وإن كان تاريخ بعضها ليس بالواضح عند أهل المغازي.

سرية أبي بكر الصديق إلى بني فزارة

قال الإمام أحمد: حدثنا بهز، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا أياس بن سلمة، حدثني أبي قال: خرجنا مع أبي بكر بن أبي قحافة وأمَّره رسول الله علينا، فغزونا بني فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرَّسنا، فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة فقتلنا على الماء من مر قبلنا.

قال سلمة: ثم نظرت إلى عنق من الناس، فيه من الذرية والنساء نحو الجبل، وأنا أعدو في آثارهم فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل.

قال: فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر حتى أتيته على الماء، وفيهم امرأة من فزارة عليها قشع من أدم، ومعها ابنة لها من أحسن العرب.

قال: فنفلني أبو بكر بنتها.

قال: فما كشفت لها ثوبا حتى قدمت المدينة، ثم بت فلم أكشف لها ثوبا.

قال: فلقيني رسول الله في السوق، فقال لي: «يا سلمة هب لي المرأة».

قال: فقلت والله يا رسول الله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوبا.

قال: فسكت رسول الله وتركني، حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله في السوق فقال: «يا سلمة هب لي المرأة».

قال: فقلت يا رسول الله والله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوبا.

قال: فسكت رسول الله وتركني، حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله في السوق: «فقال يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك».

قال: قلت يا رسول الله والله ما كشفت لها ثوبا وهي لك يا رسول الله.

قال: بعث بها رسول الله إلى أهل مكة، وفي أيديهم أسارى من المسلمين، ففداهم رسول الله بتلك المرأة.

وقد رواه مسلم، والبيهقي، من حديث عكرمة بن عمار به.

سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة وراء مكة بأربعة أميال

ثم أورد البيهقي من طريق الواقدي بأسانيده أن رسول الله بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثلاثين راكبا إلى عجز هوازن بتربة، ومعه دليل من بني هلال، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار.

فلما انتهوا إلى بلادهم هربوا منهم، وكرَّ عمر راجعا إلى المدينة، فقيل له: هل لك في قتال خثعم؟

فقال: إن رسول الله لم يأمرني إلا بقتال هوازن في أرضهم.

سرية عبد الله بن رواحة إلى يسير بن رزام اليهودي

ثم أورد من طريق إبراهيم بن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، ومن طريق موسى بن عقبة، عن الزهري أن رسول الله بعث عبد الله بن رواحة في ثلاثين راكبا، فيهم عبد الله بن رواحة إلى يسير بن رزام اليهودي، حتى أتوه بخيبر.

وبلغ رسول الله أنه يجمع غطفان ليغزوه بهم، فأتوه فقالوا: أرسلنا إليك رسول الله ليستعملك على خيبر، فلم يزالوا به حتى تبعهم في ثلاثين رجلا، مع كل رجل منهم رديف من المسلمين.

فلما بلغوا قرقرة نيار، وهي من خيبر على ستة أميال، ندم يسير بن رزام، فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن رواحة، ففطن له عبد الله بن رواحة فزجر بعيره.

ثم اقتحم يسوق بالقوم حتى استمكن من يسير ضرب رجله فقطعها، واقتحم يسير وفي يده مخراش من شوحط، فضرب به وجه عبد الله بن رواحة فشجه شجة مأمومة.

وانكفأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شدا، ولم يصب من المسلمين أحد.

وبصق رسول الله في شجة عبد الله بن رواحة فلم تقيح، ولم تؤذه حتى مات.

سرية أخرى مع بشير بن سعد

روي من طريق الواقدي بإسناده: أن رسول الله بعث بشير بن سعد في ثلاثين راكبا إلى بني مرة من أرض فدك فاستاق نعمهم، فقاتلوه وقتلوا عامة من معه، وصبر هو يومئذ صبرا عظيما، وقاتل قتالا شديدا.

ثم لجأ إلى فدك فبات بها عند رجل من اليهود، ثم كر راجعا إلى المدينة.

قال الواقدي: ثم بعث إليهم رسول الله غالب بن عبد الله ومعه جماعة من كبار الصحابة، فذكر منهم أسامة بن زيد، وأبا مسعود البدري، وكعب بن عجرة.

ثم ذكر مقتل أسامة بن زيد لمرداس بن نهيك حليف بني مرة، وقوله حين علاه بالسيف: لا إله إلا الله، وأن الصحابة لاموه على ذلك حتى سقط في يده وندم على ما فعل.

وقد ذكر هذه القصة يونس بن بكير عن ابن إسحاق، عن شيخ من بني سلمة، عن رجال من قومه أن رسول الله بعث غالب بن عبد الله الكلبي إلى أرض بني مرة، فأصاب مرداس بن نهيك حليفا لهم من الحرقة فقتله أسامة.

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة عن أبيه، عن جده أسامة بن زيد قال: أدركته أنا ورجل من الأنصار - يعني مرداس بن نهيك - فلما شهرنا عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله فلم ننزع عنه حتى قتلناه.

فلما قدمنا على رسول الله أخبرناه، فقال: «يا أسامة من لك بلا إله إلا الله».

فقلت: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل.

قال: «فمن لك يا أسامة بلا إله إلا الله» فوالذي بعثه بالحق ما زال يرددها عليَّ حتى تمنيت أن ما مضى من إسلامي لم يكن، وأني أسلمت يومئذ ولم أقتله.

فقلت: إني أعطي الله عهدا أن لا أقتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا.

فقال: «بعدي يا أسامة».

فقلت: بعدك.

قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم بن بشير، أنبأنا حصين، عن أبي ظبيان، قال: سمعت أسامة بن زيد يحدث قال: بعثنا رسول الله إلى الحرقة من جهينة.

قال: فصبحناهم، وكان منهم رجل إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان حاميتهم.

قال: فغشيته أنا ورجل من الأنصار، فلما تغشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري وقتلته.

فبلغ ذلك رسول الله ، فقال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله».

قال: قلت يا رسول الله إنما كان متعوذا من القتل.

قال: فكررها عليَّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.

وأخرجه البخاري ومسلم، من حديث هشيم به نحوه.

وقال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله الجهني، عن جندب بن مكيث الجهني قال: بعث رسول الله غالب بن عبد الله الكلبي - كلب ليث إلى بني الملوح بالكديد - وأمره أن يغير عليهم وكنت في سريته.

فمضينا حتى إذا كنا بالقديد، لقينا الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي فأخذناه فقال: إني إنما جئت لأسلم، فقال له غالب بن عبد الله: إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضيرك رباط يوم وليلة، وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك.

قال: فأوثقه رباطا وخلف عليه رويجلا أسود كان معنا، وقال: أمكث معه حتى نمر عليك، فإن نازعك فاحتز رأسه.

ومضينا حتى أتينا بطن الكديد، فنزلنا عشية بعد العصر، فبعثني أصحابي إليه، فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر فانبطحت عليه، وذلك قبل غروب الشمس، فخرج رجل منهم فنظر فرآني منبطحا على التل.

فقال لامرأته: إني لأرى سوادا على هذا التل ما رأيته في أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك؟ فنظرت فقالت: والله ما أفقد منها شيئا.

قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي، فناولته فرماني بسهم في جنبي، أو قال في جبيني، فنزعته فوضعته ولم أتحرك، ثم رماني بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك، فقال لامرأته: أما والله لقد خالطه سهماي ولو كان ريبة لتحرك، فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما لا تمضغهما علي الكلاب.

قال: فأمهلنا حتى إذا راحت روايحهم، وحتى احتلبوا وعطنوا وسكنوا، وذهبت عتمة من الليل، شننا عليهم الغارة فقتلنا، واستقنا النعم، ووجهنا قافلين به، وخرج صريخ القوم إلى قومهم بقربنا.

قال: وخرجنا سراعا حتى نمر بالحارث بن مالك بن البرصاء وصاحبه، فانطلقنا به معنا وأتانا صريخ الناس فجاءنا ما لا قبل لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد، بعث الله من حيث شاء ماء ما رأينا قبل ذلك مطرا ولا حالا، وجاء بما لا يقدر أحد أن يقدم عليه.

فلقد رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا ما يقدر أحد منهم أن يقدم عليه، ونحن نجديها أو نحدوها - شك النفيلي - فذهبنا سراعا حتى أسندنا بها في المسلك، ثم حذرنا عنه حتى أعجزنا القوم بما في أيدينا.

وقد رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق، في روايته عبد الله بن غالب، والصواب غالب بن عبد الله كما تقدم.

وذكر الواقدي هذه القصة بإسناد آخر وقال فيه: وكان معه من الصحابة مائة وثلاثون رجلا.

ثم ذكر البيهقي من طريق الواقدي سرية بشير بن سعد أيضا إلى ناحية خيبر، فلقوا جمعا من العرب وغنموا نعما كثيرا، وكان بعثه في هذه السرية بإشارة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكان معه من المسلمين ثلاثمائة رجل، ودليله حسيل بن نويرة، وهو الذي كان دليل النبي إلى خيبر.

قاله الواقدي.

سرية بني حدرد إلى الغابة

قال يونس عن محمد بن إسحاق: كان من حديث قصة أبي حدرد وغزوته إلى الغابة ما حدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم، عن أبي حدرد قال: تزوجت امرأة من قومي فأصدقتها مائتي درهم.

قال: فأتيت رسول الله أستعينه على نكاحي فقال: «كم أصدقت؟».

فقلت: مائتي درهم.

فقال: «سبحان الله! والله لو كنتم تأخذونها من وادٍ ما زدتم، والله ما عندي ما أعينك به».

فلبثت أياما، ثم أقبل رجل من جشم بن معاوية يقال له: رفاعة بن قيس - أو قيس بن رفاعة - في بطن عظيم من جشم، حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة يريد أن يجمع قيسا على محاربة رسول الله ، وكان ذا اسم وشرف في جشم.

قال: فدعاني رسول الله ورجلين معي من المسلمين فقال: «اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا منه بخبر وعلم».

وقدم لنا شارفا عجفاء، فحمل عليه أحدنا، فوالله ما قامت به ضعفا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم، حتى استقلت وما كادت، وقال: «تبلغوا على هذه».

فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف، حتى إذا جئنا قريبا من الحاضر مع غروب الشمس فكمنت في ناحية، وأمرت صاحبي، فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم، وقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبرت وشددت في العسكر فكبرا وشدا معي، فوالله أنا كذلك ننتظر أن نرى غرة أو نرى شيئا، وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء.

وقد كان لهم راعٍ قد سرح في ذلك البلد، فأبطأ عليهم وتخوفوا عليه، فقام صاحبهم رفاعة بن قيس، فأخذ سيفه فجعله في عنقه فقال: والله لأتيقنن أمر راعينا ولقد أصابه شر.

فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب نحن نكفيك.

فقال: لا إلا أنا.

قالوا: نحن معك.

فقال: والله لا يتبعني منكم أحد.

وخرج حتى مر بي فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فوالله ما تكلم فوثبت إليه، فاحتززت رأسه ثم شددت ناحية العسكر وكبرت، وشد صاحباي وكبرا، فوالله ما كان إلا التجأ ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم، وما خف معهم من أموالهم.

واستقنا إبلا عظيمة، وغنما كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله وجئت برأسه أحمله معي، فأعطاني من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيرا في صداقي فجمعت إلي أهلي.

السرية التي قتل فيها محلم بن جثامة عامر بن الأضبط

قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن ابن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه قال: بعثنا رسول الله في سرية إلى أضم في نفر من المسلمين، منهم أبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحلم بن جثامة بن قيس.

فخرجنا حتى إذا كنا ببطن أضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن، فسلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه.

فلما قدمنا على رسول الله أخبرناه الخبر، فنزل فينا القرآن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } 51.

هكذا رواه الإمام أحمد، عن يعقوب، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه فذكره.

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر، سمعت زياد بن ضميرة بن سعد الضمري يحدث، عن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن جده قالا - وكانا شهدا حنينا - قالا: فصلى رسول الله صلاة الظهر.

فقام إلى ظل شجرة فقعد فيه، فقام إليه عيينة بن بدر، فطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعي، وهو سيد عامر: «هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيرا، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة».

فقال عيينة بن بدر: والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحزن مثل ما أذاق نسائي.

فقال رجل من بني ليث يقال له: ابن مكيتل وهو قصير من الرجال، فقال: يا رسول الله ما أجد لهذا القتيل شبها في غرة الإسلام، إلا كغنم وردت فشربت أولاها، فنفرت أخراها، استن اليوم وغير غدا.

فقال رسول الله : «هل لكم أن تأخذوا خمسين بعيرا الآن، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة» فلم يزل بهم حتى رضوا بالدية.

فقال قوم محلم بن جثامة: إيتوا به حتى يستغفر له رسول الله .

قال: فجاء رجل طوال ضرب اللحم في حلة قد تهيأ فيها للقتل، فقام بين يدي النبي ، فقال النبي : «اللهم لا تغفر لمحلم» قالها ثلاثا، فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه.

قال محمد بن إسحاق: زعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك.

وهكذا رواه أبو داود، من طريق حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق.

ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن زيد بن ضميرة، عن أبيه، عن عمه، فذكر بعضه.

والصواب كما رواه ابن إسحاق عن محمد بن جعفر، عن زياد بن سعد بن ضميرة، عن أبيه، وعن جده.

وهكذا رواه أبو داود من طريق ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، وعن عبد الرحمن بن الحارث، عن محمد بن جعفر، عن زياد بن سعد بن ضميرة، عن أبيه وجده بنحوه، كما تقدم.

وقال ابن إسحاق: حدثني سالم أبو النضر أنه قال: لم يقبلوا الدية حتى قام الأقرع بن حابس فخلا بهم، وقال:

يا معشر قيس سألكم رسول الله قتيلا تتركونه ليصلح به بين الناس، فمنعتموه إياه، أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله ، فيغضب الله لغضبه ويلعنكم رسول الله ، فيلعنكم الله بلعنته لكم، لتسلمنه إلى رسول الله أو لآتين بخمسين من بني تميم، كلهم يشهدون أن القتيل كافر ما صلى قط فلا يطلبن دمه.

فلما قال ذلك لهم أخذوا الدية.

وهذا منقطع معضل.

وقد روى ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن الحسن البصري: أن محلما لما جلس بين يديه عليه الصلاة والسلام قال له: «أمنته ثم قتلته؟» ثم دعا عليه.

قال الحسن: فوالله ما مكث محلم إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، ثم دفنوه فلفظته الأرض، فرضموا عليه من الحجارة حتى واروه، فبلغ رسول الله فقال: «إن الأرض لتطابق على من هو شر منه، ولكن الله أراد أن يعظكم في حرم ما بينكم لما أراكم منه».

وقال ابن جرير: ثنا وكيع، ثنا جرير، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: بعث رسول الله محلم بن جثامة مبعثا فلقيهم عامر بن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام - وكانت بينهم هنة في الجاهلية - فرماه محلم بسهم فقتله.

فجاء الخبر إلى رسول الله فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول الله سن اليوم وغير غدا.

فقال عيينة: لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي، فجاء محلم في بردين فجلس بين يدي رسول الله ليستغفر له، فقال رسول الله : «لا غفر الله لك» فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات، فدفنوه فلفظته الأرض.

فجاؤوا النبي فذكروا ذلك له فقال: «إن الأرض لتقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم من حرمتكم».

ثم طرحوه في جبل فألقوا عليه من الحجارة، ونزلت: { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا.. } الآية

وقد ذكره موسى بن عقبة، عن الزهري، ورواه شعيب، عن الزهري، عن عبد الله بن وهب، عن قبيصة بن ذؤيب نحو هذه القصة، إلا أنه لم يسم محلم بن جثامة، ولا عامر بن الأضبط.

وكذلك رواه البيهقي، عن الحسن البصري بنحو هذه القصة وقال: فيه نزل قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا.. } الآية.

قلت: وقد تكلمنا في سبب نزول هذه الآية ومعناها في التفسير بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة.

سرية عبد الله بن حذافة السهمي

ثبت في الصحيحين من طريق الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن علي بن أبي طالب قال: استعمل النبي رجلا من الأنصار على سرية بعثهم، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا.

قال: فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا.

فقال: أوقدوا نارا فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله أن تسمعوا لي وتطيعوا؟

قالوا: بلى.

قال: فادخلوها.

قال: فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله من النار.

قال: فسكن غضبه وطفئت النار، فلما قدموا على النبي ذكروا ذلك له فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف».

وهذه القصة ثابتة أيضا في الصحيحين من طريق يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وقد تكلمنا على هذه بما فيه كفاية في التفسير، ولله الحمد والمنة.

عمرة القضاء

ويقال: القِصاص. ورجحه السهيلي. ويقال: عمرة القضية.

فالأولى قضاء عما كان أحصر عام الحديبية.

والثاني من قوله تعالى: { والحرمات قصاص } .

والثالث من المقاضاة التي كان قاضاهم عليها على أن يرجع عنهم عامه هذا، ثم يأتي في العام القابل، ولا يدخل مكة إلا في جلبان السلاح، وأن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيام.

وهذه العمرة هي المذكورة في قوله تعالى في سورة الفتح المباركة: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله أمنين محلقين رؤسكم ومقصرين لا تخافون.. } الآية.

وقد تكلمنا عليها مستقصى في كتابنا التفسير بما فيه كفاية وهي الموعود بها في قوله عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب حين قال له: ألم تكن تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟

قال: «بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا».

قال: لا.

قال: «فإنك آتيه ومطوف به».

وهي المشار إليها في قول عبد الله بن رواحة، حين دخل بين يدي رسول الله إلى مكة يوم عمرة القضاء وهو يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله

أي: هذا تأويل الرؤيا التي كان رآها رسول الله جاءت مثل فلق الصبح.

قال ابن إسحاق: فلما رجع رسول الله من خيبر إلى المدينة أقام بها شهري ربيع وجماديين ورجبا وشعبان، وشهر رمضان وشوالا يبعث فيما بين ذلك سراياه، ثم خرج من ذي القعدة في الشهر الذي صده فيه المشركون، معتمرا عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها.

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عويف بن الأضبط الدئلي.

ويقال لها عمرة القصاص: لأنهم صدوا رسول الله في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ست، فاقتص رسول الله منهم، فدخل مكة في ذي القعدة في الشهر الحرام الذي صدوه فيه من سنة سبع، بلغنا عن ابن عباس أنه قال: فأنزل الله تعالى في ذلك: { والحرمات قصاص } .

وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه في (مغازيه): لما رجع رسول الله من خيبر أقام بالمدينة، وبعث سراياه حتى استهل ذي القعدة، فنادى في الناس أن تجهزوا للعمرة فتجهزوا، وخرجوا إلى مكة.

وقال ابن إسحاق: وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه في عمرته تلك، وهي سنة سبع، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه، وتحدثت قريش بينها أن محمدا في عسرة وجهد وشدة.

قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن عباس قال: صفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله المسجد اضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى ثم قال: «رحم الله امرءا أراهم اليوم من نفسه قوة».

ثم استلم الركن، ثم خرج يهرول ويهرول أصحابه معه حتى إذا واراه البيت منهم، واستلم الركن اليماني مشى حتى استلم الركن الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها.

فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم، وذلك أن رسول الله إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها فمضت السنة بها.

وقال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد - هو ابن زيد - عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:

قدم رسول الله وأصحابه فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم النبي أن يرملوا الأشواط الثلاث، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.

قال أبو عبد الله: ورواه أبو سلمة - يعني حماد بن سلمة - عن أيوب، عن سعيد، عن ابن عباس قال: لما قدم النبي لعامهم الذي استأمن قال: «ارملوا ليرى المشركون قوتكم» والمشركون من قبل قعيقعان.

ورواه مسلم، عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد.

وأسند البيهقي من طريق حماد بن سلمة.

وقال البخاري: ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، سمع ابن أبي أوفى يقول: لما اعتمر رسول الله سترناه من غلمان المشركين ومنهم أن يؤذوا رسول الله ، وسيأتي بقية الكلام على هذا المقام.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله حين دخل مكة في تلك العمرة دخلها وعبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقته يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله * خلوا فكل الخير في رسوله

يا رب إني مؤمن بقيله * أعرف حق الله في قبوله

نحن قتلناكم على تأويله * كما قتلناكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله

قال ابن هشام: نحن قتلناكم على تأويله إلى آخر الأبيات لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم - يعني يوم صفين - قاله السهيلي.

قال ابن هشام: والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يقروا بالتنزيل، وإنما يقاتل على التأويل من أقر بالتنزيل.

وفيما قاله ابن هشام نظر، فإن الحافظ البيهقي روى من غير وجه عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس قال: لما دخل النبي مكة في عمرة القضاء مشى عبد الله بن رواحة بين يديه، وفي رواية وهو آخذ بغرزه وهو يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله * قد نزل الرحمن في تنزيله

بأن خير القتل في سبيله * نحن قتلناكم على تأويله

وفي رواية بهذا الإسناد بعينه:

خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضربكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله

يا رب إني مؤمن بقيله

وقال يونس بن بكير، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم: أن رسول الله دخل عام القضية مكة فطاف بالبيت على ناقته، واستلم الركن بمحجنه.

قال ابن هشام: من غير علة، والمسلمون يشتدون حوله وعبد الله بن رواحة يقول:

بسم الذي لا دين إلا دينه * بسم الذي محمد رسوله

خلوا بني الكفار عن سبيله *

قال موسى بن عقبة، عن الزهري: ثم خرج رسول الله من العام المقبل من عام الحديبية معتمرا في ذي القعدة سنة سبع، وهو الشهر الذي صده المشركون عن المسجد الحرام، حتى إذا بلغ يأجج وضع الأداة كلها الحجف والمجان، والرماح، والنبل، ودخلوا بسلاح الراكب السيوف.

وبعث رسول الله بين يديه جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة بنت الحارث العامرية، فخطبها عليه فجعلت أمرها إلى العباس، وكان تحته أختها أم الفضل بنت الحارث، فزوجها العباس رسول الله .

فلما قدم رسول الله أمر أصحابه قال: «اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف» ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم بكل ما استطاع.

فاستكف أهل مكة الرجال والنساء والصبيان ينظرون إلى رسول الله وأصحابه وهو يطوفون بالبيت، وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله متوشحا بالسيف وهو يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله * أنا الشهيد أنه رسوله

قد أنزل الرحمن في تنزيله * في صحف تتلى على رسوله

فاليوم نضربكم على تأويله * كما ضربناكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله

قال: وتغيب رجال من أشراف المشركين أن ينظروا إلى رسول الله غيظا وحنقا، ونفاسة وحسدا.

وخرجوا إلى الخندمة فقام رسول الله بمكة وأقام ثلاث ليال، وكان ذلك آخر القضية يوم الحديبية.

فلما أتى الصبح من اليوم الرابع، أتاه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ورسول الله في مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب بن عبد العزى: نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث.

فقال سعد بن عبادة: كذبت لا أم لك ليس بأرضك ولا بأرض آبائك والله لا يخرج.

ثم نادى رسول الله سهيلا وحويطبا فقال: «إن قد نكصت فيكم امرأة، لا يضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا».

فقالوا: نناشدك الله والعقد إلا خرجت عنا.

فأمر رسول الله أبا رافع فأذن بالرحيل، وركب رسول الله حتى نزل ببطن سرف، وأقام المسلمون، وخلف رسول الله أبا رافع ليحمل ميمونة، وأقام بسرف حتى قدمت عليه ميمونة.

وقد لقيت ميمونة ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين ومن صبيانهم، فقدمت على رسول الله بسرف فبنى بها، ثم أدلج فسار حتى أتى المدينة، وقدر الله أن يكون موت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين، فماتت حيث بنى بها رسول الله .

ثم ذكر قصة ابنة حمزة إلى أن قال: وأنزل الله عز وجل في تلك العمرة: { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } فاعتمر رسول الله في الشهر الحرام الذي صد فيه.

وقد روى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير نحوا من هذا السياق، ولهذا السياق شواهد كثيرة من أحاديث متعددة:

ففي صحيح البخاري من طريق فليح بن سليمان، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله خرج معتمرا فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحا إلا سيوفا، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا.

فاعتمر من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثا أمروه أن يخرج فخرج.

وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: لم تكن هذه عمرة قضاء، وإنما كانت شرطا على المسلمين أن يعتمروا من قابل في الشهر الذي صدهم فيه المشركون.

وقال أبو داود: ثنا النفيلي، ثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن ميمون: سمعت أبا حاضر الحميري يحدث أن ميمون بن مهران قال: خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة، وبعث معي رجال من قومي بهدي.

قال: فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم.

قال: فنحرت الهدي مكاني، ثم أحللت، ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس فسألته فقال: أبدل الهدي فإن رسول الله أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء.

تفرد به أبو داود من حديث أبي حاضر عثمان بن حاضر الحميري، عن ابن عباس فذكره.

وقال الحافط البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني عمرو بن ميمون قال:

كان أبي يسأل كثيرا أهل كان رسول الله أبدل هديه الذي نحر حين صده المشركون عن البيت؟ ولا يجد في ذلك شيئا، حتى سمعته يسأل أبا حاضر الحميري عن ذلك.

فقال له: على الخبير سقطت، حججت عام ابن الزبير في الحصر الأول فأهديت هديا فحالوا بيننا وبين البيت، فنحرت في الحرم ورجعت إلى اليمن، وقلت: لي برسول الله أسوة، فلما كان العام المقبل حججت فلقيت ابن عباس فسألته عما نحرت عليَّ بدله أم لا؟

قال: نعم فأبدل، فإن رسول الله وأصحابه قد أبدلوا الهدي الذي نحروا عام صدهم المشركون، فأبدلوا ذلك في عمرة القضاء، فعزت الإبل عليهم فرخص لهم رسول الله في البقر.

وقال الواقدي: حدثني غانم بن أبي غانم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: جعل رسول الله ناجية بن جندب الأسلمي على هديه يسير بالهدي أمامه، يطلب الرعي في الشجر، معه أربعة فتيان من أسلم، وقد ساق رسول الله في عمرة القضية ستين بدنة.

فحدثني محمد بن نعيم المجمر، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كنت مع صاحب البدن أسوقها.

قال الواقدي: وسار رسول الله يلبي والمسلمون معه يلبون، ومضى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران فيجد بها نفرا من قريش، فسألوا محمد بن مسلمة؟

فقال: هذا رسول الله يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله، ورأوا سلاحا كثيرا مع بشير بن سعد فخرجوا سراعا حتى أتوا قريشا فأخبروهم بالذي رأوا من السلاح والخيل، ففزعت قريش وقالوا: والله ما أحدثنا حدثا وإنا على كتابنا وهدنتنا ففيم يغزونا محمد في أصحابه؟

ونزل رسول الله مر الظهران، وقدم رسول الله السلاح إلى بطن يأجج حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وبعثت قريش مكرز بن حفص بن الأحنف في نفر من قريش حتى لقوه ببطن يأجج، ورسول الله في أصحابه والهدي والسلاح قد تلاحقوا.

فقالوا: يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك، وقد شرطت لهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر، السيوف في القرب.

فقال النبي : «إني لا أدخل عليهم السلاح».

فقال مكرز بن حفص: هذا الذي تعرف به البر والوفاء، ثم رجع سريعا بأصحابه إلى مكة، فلما أن جاء مكرز بن حفص بخبر النبي خرجت قريش من مكة إلى رؤوس الجبال وخلوا مكة، وقالوا: لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه، فأمر رسول الله بالهدي أمامه حتى حبس بذي طوى.

وخرج رسول الله وأصحابه رحمهم الله، وهو على ناقته القصواء وهم محدقون به يلبون، وهم متوشحون السيوف.

فلما انتهى إلى ذي طوى وفق على ناقته القصواء والمسلمون حوله، ثم دخل من الثنية التي تطلعه على الحجون على راحلته القصواء، وابن رواحة آخذ بزمامها وهو يرتجز بشعره ويقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله * إلى آخره

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قدم رسول الله وأصحابه صبيحة رابعة - يعني من ذي القعدة سنة سبع - فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب، فأمر رسول الله أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الصباح، ثنا إسماعيل بن زكريا، عن عبد الله بن عثمان، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس:

أن رسول الله لما نزل مر الظهران من عمرته، بلغ أصحاب رسول الله أن قريشا تقول ما يتباعثون من العجف.

فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا، فأكلنا من لحومه وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل مكة على القوم وبنا جمامة.

فقال: «لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم» فجمعوا له وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تركوا، وحشى كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله حتى دخل المسجد، وقعدت قريش نحو الحجر، فاضطبع بردائه ثم قال: «لا يرى القوم فيكم غميزة».

فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي، أما أنهم لينفرون نفر الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أطواف فكانت سنة.

قال أبو الطفيل: وأخبرني ابن عباس أن رسول الله فعل ذلك في حجة الوداع.

تفرد به أحمد من هذا الوجه.

قال أبو داود: ثنا أبو سلمة موسى، ثنا حماد - يعني ابن سلمة - أنبأنا أبو عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول الله قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة؟

فقال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وما كذبوا؟

قال: صدقوا رمل رسول الله ، وكذبوا ليس بسنة، إن قريشا زمن الحديبية قالت: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف.

فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام، فقدم رسول الله والمشركون من قبل قعيقعان، فقال رسول الله لأصحابه: «ارملوا بالبيت ثلاثا» قال: وليس بسنة.

وقد رواه مسلم من حديث سعيد الجريري، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، وعبد الملك بن سعيد بن أبجر ثلاثتهم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن ابن عباس به نحوه.

وكون الرمل في الطواف سنة مذهب الجمهور، فإن رسول الله رمل في عمرة القضاء وفي عمرة الجعرانة أيضا، كما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس فذكره.

وثبت في حديث جابر عند مسلم وغيره أنه عليه السلام رمل في حجة الوداع في الطواف، ولهذا قال عمر بن الخطاب: فيم الرملان وقد أطال الله الإسلام؟

ومع هذا لا نترك شيئا فعله رسول الله ، وموضع تقرير هذا كتاب (الأحكام).

وكان ابن عباس في المشهور عنه لا يرى ذلك سنة كما ثبت في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إنما سعى النبي بالبيت، وبالصفا والمروة ليري المشركين قوته. لفظ البخاري.

وقال الواقدي: لما قضى رسول الله نسكه في القضاء دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة، وكان رسول الله أمره بذلك، فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله أبا الحكم حين لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول.

وقال صفوان بن أمية: الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا.

وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أمات أبي، ولم يشهد هذا اليوم حتى يقوم بلال ينهق فوق البيت.

وأما سهيل بن عمرو ورجال معه لما سمعوا بذلك غطوا وجوههم.

قال الحافظ البيهقي: قد أكرم الله أكثرهم بالإسلام.

قلت: كذا ذكره البيهقي من طريق الواقدي أن هذا كان في عمرة القضاء، والمشهور أن ذلك كان في عام الفتح، والله أعلم.

قصة تزويجه عليه السلام بميمونة

فقال ابن إسحاق: حدثني أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء ومجاهد، عن ابن عباس: أن رسول الله تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك وهو حرام، وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب.

قال ابن هشام: كانت جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل، فجعلت أم الفضل أمرها إلى زوجها العباس، فزوجها رسول الله وأصدقها عنه أربعمائة درهم.

وذكر السهيلي: أنه لما انتهت إليها خطبة رسول الله لها وهي راكبة بعيرا، قالت: الجمل وما عليه لرسول الله .

قال: وفيها نزلت الآية: { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } .

وقد روى البخاري من طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله تزوج ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال، وماتت بسرف.

قال السهيلي: وروى الدارقطني من طريق أبي الأسود يتيم عروة، ومن طريق مطر الوراق، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله تزوج ميمونة وهو حلال.

قال: وتأولوا رواية ابن عباس الأولى أنه كان محرما أي: في شهر حرام كما قال الشاعر:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما * فدعا فلم أر مثله مخذولا

أي: في شهر حرام.

قلت: وفي هذا التأويل نظر، لأن الرواية متظافرة عن ابن عباس بخلاف ذلك، ولا سيما قوله: تزوجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال، وقد كان في شهر ذي القعدة أيضا وهو شهر حرام.

وقال محمد بن يحيى الذهلي: ثنا عبد الرزاق قال: قال لي الثوري: لا يلتفت إلى قول أهل المدينة.

أخبرني عمرو، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس: أن رسول الله تزوج وهو محرم.

قال أبو عبد الله: قلت لعبد الرزاق: روى سفيان الحديثين جميعا عن عمرو بن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، وابن خثيم، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس؟

قال: نعم، أما حديث ابن خثيم فحدثنا ها هنا - يعني باليمن - وأما حديث عمرو فحدثنا ثمَّ - يعني بمكة - وأخرجاه في الصحيحين من حديث عمرو بن دينار به.

وفي صحيح البخاري من طريق الأوزاعي: أنبأنا عطاء، عن ابن عباس: أن رسول الله تزوج ميمونة وهو محرم.

فقال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها إلا بعد ما أحل.

وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني بقية، عن سعيد بن المسيب أنه قال: هذا عبد الله بن عباس يزعم أن رسول الله نكح ميمونة وهو محرم فذكر كلمته، إنما قدم رسول الله مكة فكان الحل والنكاح جميعا، فشبه ذلك على ابن عباس.

وروى مسلم وأهل السنن: من طرق عن يزيد بن الأصم العامري، عن خالته ميمونة بنت الحارث قالت: تزوجني رسول الله ونحن حلال بسرف.

لكن قال الترمذي: روى غير واحد هذا الحديث عن يزيد بن الأصم مرسلا أن رسول الله تزوج ميمونة.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصفهاني الزاهد، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، ثنا مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال:

تزوج رسول الله ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت الرسول بينهما.

وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن حماد بن زيد به.

ثم قال الترمذي: حسن ولا نعلم أحدا أسنده عن حماد، عن مطر، ورواه مالك عن ربيعة عن سليمان مرسلا، ورواه سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلا.

قلت: وكانت وفاتها بسرف سنة ثلاث وستين، ويقال سنة ستين رضي الله عنها.

ذكر خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة بعد قضاء عمرته

قد تقدم ما ذكره موسى بن عقبة أن قريشا بعثوا إليه حويطب بن عبد العزى بعد مضي أربعة أيام ليرحل عنهم كما وقع به الشرط، فعرض عليهم أن يعمل وليمة عرسه بميمونة عندهم، وإنما أراد تأليفهم بذلك فأبوا عليه، وقالوا: بل اخرج عنا، فخرج.

وكذلك ذكره ابن إسحاق.

وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: اعتمر النبي في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله.

قالوا: لا نقر بهذا لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا، ولكن أنت محمد بن عبد الله.

قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال لعلي بن أبي طالب: «امح رسول الله».

قال: لا والله لا أمحوك أبدا، فأخذ رسول الله الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحدا أراد أن يقيم بها.

فلما دخل ومضى الأجل أتوا عليا فقالوا: قل لصاحبك فليخرج عنا فقد مضى الأجل.

فخرج النبي فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر.

فقال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي.

وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي.

وقال زيد: ابنة أخي.

فقضى بها النبي لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم» وقال لعلي: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا».

قال علي: ألا تتزوج ابنة حمزة؟

قال: «إنها ابنة أخي من الرضاعة».

تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقد روى الواقدي قصة ابنة حمزة فقال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عمارة ابنة حمزة بن عبد المطلب وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة، فلما قدم رسول الله كلم علي بن أبي طالب رسول الله ، فقال: علام نترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين؟

فلم ينه النبي عن إخراجها، فخرج بها فتكلم زيد بن حارثة وكان وصي حمزة، وكان النبي قد آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين، فقال: أنا أحق بها ابنة أخي.

فلما سمع بذلك جعفر قال: الخالة والدة وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي أسماء بنت عميس.

وقال علي: ألا أراكم تختصمون هي ابنة عمي وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين، وليس لكم إليها سبب دوني، وأنا أحق بها منكم.

فقال النبي : «أنا أحكم بينكم، أما أنت يا زيد فمولى الله ومولى رسول الله، وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي، وأما أنت يا جعفر فتشبه خَلْقي وخُلُقي، وأنت يا جعفر أولى بها تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها» فقضى بها لجعفر.

قال الواقدي: فلما قضى بها لجعفر، قام جعفر فحجل حول رسول الله ، فقال: «ما هذا يا جعفر؟»

فقال: يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحدا قام فحجل حوله.

فقال للنبي : تزوجها.

فقال: «ابنة أخي من الرضاعة» فزوجها رسول الله سلمة بن أبي سلمة، فكان النبي يقول: «هل جزيت سلمة».

قلت: لأنه ذكر الواقدي وغيره أنه هو الذي زوج رسول الله بأم سلمة، لأنه كان أكبر من أخيه عمر بن أبي سلمة، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: ورجع رسول الله إلى المدينة في ذي الحجة، وتولى المشركون تلك الحجة.

قال ابن هشام: وأنزل الله في هذه العمرة فيما حدثني أبو عبيدة قوله تعالى: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله أمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } يعني خيبر.

فصل إرسال سرية ابن أبي العوجاء إلى بني سليم

ذكر البيهقي ها هنا سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم، ثم ساق بسنده عن الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري قال: لما رجع رسول الله من عمرة القضية رجع في ذي الحجة من سنة سبع.

فبعث ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين فارسا، فخرج العين إلى قومه فحذرهم وأخبرهم فجمعوا جمعا كثيرا، وجاءهم ابن أبي العوجاء والقوم معدون، فلما أن رأوهم أصحاب رسول الله ورأوا جمعهم دعوهم إلى الإسلام، فرشقوهم بالنبل، ولم يسمعوا قولهم وقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه.

فرموهم ساعة وجعلت الأمداد تأتي حتى أحدقوا بهم من كل جانب، فقاتل القوم قتالا شديدا حتى قتل عامتهم، وأصيب ابن أبي العوجاء بجراحات كثيرة، فتحامل حتى رجع إلى المدينة بمن بقي معه من أصحابه في أول يوم من شهر صفر سنة ثمان.

فصل رد رسول الله عليه السلام ابنته زينب على زوجها أبي العاص

قال الواقدي: في الحجة من هذه السنة - يعني سنة سبع - رد رسول الله ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع، وقد قدمنا الكلام على ذلك، وفيها قدم حاطب بن أبي بلتعة من عند المقوقس ومعه مارية وسيرين وقد أسلمتا في الطريق، وغلام خصي.

قال الواقدي: وفيها اتخذ رسول الله منبره درجتين ومقعده، قال: والثبت عندنا أنه عمل في سنة ثمان.

سنة ثمان من الهجرة النبوية

إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة

قد تقدم طرف من ذلك فيما ذكره ابن إسحاق بعد مقتل أبي رافع اليهودي، وذلك في سنة خمس من الهجرة، وإنما ذكره الحافظ البيهقي ها هنا بعد عمرة القضاء، فروى من طريق الواقدي:

أنبأنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال: قال عمرو بن العاص: كنت للإسلام مجانبا معاندا، حضرت بدرا مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحدا فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت.

قال: فقلت في نفسي: كم أُوِضع؟ والله ليظهرن محمدا على قريش! فلحقت بمالي بالرهط وأقللت من الناس - أي من لقائهم - فلما حضر الحديبية وانصرف رسول الله في الصلح، ورجعت قريش إلى مكة جعلت أقول: يدخل محمد قابلا مكة بأصحابه، ما مكة بمنزل ولا الطائف، ولا شيء خير من الخروج، وأنا بعد نائي عن الإسلام، وأرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم، فقدمت مكة وجمعت رجالا من قومي وكانوا يرون رأيي ويسمعون مني، ويقدمونني فيما نابهم.

فقلت لهم: كيف أنا فيكم؟

قالوا: ذو رأينا ومدرهنا في يمن نفسه وبركة أمر.

قال: قلت: تعلمون أني والله لأرى أمر محمد أمرا يعلو الأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت رأيا.

قالوا: وما هو؟

قلت: نلحق بالنجاشي فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي، نكون تحت يد النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا.

قالوا: هذا الرأي.

قال: قلت: فاجمعوا ما نُهديه له - وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم - فحملنا أدما كثيرا ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله قد بعثه بكتاب كتبه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان.

فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية، ولو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش، وكنت قد أجزأت عنها حتى قتلت رسول محمد.

فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي أهديت لي من بلادك شيئا؟

قال: قلت نعم أيها الملك، أهديت لك أدما كثيرا.

ثم قدمته فأعجبه، وفرق منه شيئا بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضعٍ، وأمر أن يكتب ويحتفظ به، فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك، إني قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول عدو لنا، قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله.

فغضب من ذلك، ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره، فابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي، فأصابني من الذل ما لو انشقت بي الأرض دخلت فيها فرقا منه.

ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك.

قال: فاستحيا وقال: يا عمرو تسألني أن أعطيك رسول رسول الله من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى لتقتله؟

قال عمرو: فغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق، والعرب، والعجم، وتخالف أنت؟

ثم قلت: أتشهد أيها الملك بهذا؟

قال: نعم، أشهد به عند الله يا عمرو فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.

قلت: أتبايعني له على الإسلام؟

قال: نعم، فبسط يده فبايعني على الإسلام، ثم دعا بطست فغسل عني الدم، وكساني ثيابا - وكانت ثيابي قد امتلأت بالدم فألقيتها - ثم خرجت على أصحابي فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك، وقالوا: هل أدركت من صاحبك ما أردت؟

فقلت لهم: كرهت أن أكلمه في أول مرة، وقلت أعود إليه.

فقالوا: الرأي ما رأيت.

قال: ففارقتهم وكأني أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن فأجد سفينة قد شحنت تدفع.

قال: فركبت معهم ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعبة، وخرجت من السفينة ومعي نفقة، فابتعت بعيرا، وخرجت أريد المدينة، حتى مررت على مر الظهران.

ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة، فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير، يريدان منزلا، وأحدهما داخل في الخيمة والآخر يمسك الراحلتين.

قال: فنظرت فإذا خالد بن الوليد، قال: قلت: أين تريد؟

قال: محمدا، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طعم، والله لو أقمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها.

قلت: وأنا الله قد أردت محمدا، وأردت الإسلام.

فخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعا في المنزل، ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة، فما أنس قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح: يا رباح يا رباح يا رباح، فتفاءلنا بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين، وظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد.

وولى مدبرا إلى المسجد سريعا، فظننت أنه بشر رسول الله بقدومنا، فكان كما ظننت، وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا، ثم نودي بالعصر فانطلقنا على أظلعنا عليه، وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا.

فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة، فبايع ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي حياء منه.

قال: فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرني ما تأخر.

فقال: «إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها» قال فوالله ما عدل بي رسول الله وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في أمر حزبه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالد كالعاتب.

قال عبد الحميد بن جعفر شيخ الواقدي: فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب، فقال: أخبرني راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي، عن مولاه حبيب، عن عمرو بن العاص نحو ذلك.

قلت: كذلك رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن راشد عن مولاه حبيب قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه، فذكر ما تقدم في سنة خمس بعد مقتل أبي رافع، وسياق الواقدي أبسط وأحسن.

قال الواقدي، عن شيخه عبد الحميد: فقلت ليزيد بن أبي حبيب: وقت لك متى قدم عمرو وخالد؟

قال: لا إلا أنه قال قبل الفتح.

قلت: فإن أبي أخبرني أن عمرا وخالدا وعثمان بن طلحة قدموا لهلال صفر سنة ثمان، وسيأتي عند وفاة عمرو من صحيح مسلم ما يشهد لسياق إسلامه، وكيفية حسن صحبته لرسول الله مدة حياته، وكيف مات وهو يتأسف على ما كان منه في مدة مباشرته الإمارة بعده عليه الصلاة والسلام، وصفة موته رضي الله عنه.

طريق إسلام خالد بن الوليد

قال الواقدي: حدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: سمعت أبي يحدث عن خالد بن الوليد قال: لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام وحضرني رشدي، فقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد ، فليس في موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأن محمدا سيظهر.

فلما خرج رسول الله إلى الحديبية، خرجت في خيل من المشركين، فلقيت رسول الله في أصحابه بعسفان، فقمت بإزائه وتعرضت له فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليهم ثم لم يعزم لنا - وكانت فيه خيرة -

فاطلع على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعا وقلت: الرجل ممنوع فاعتز لنا، وعدل عن سير خيلنا، وأخذ ذات اليمين، فلما صالح قريشا بالحديبية ودافعته قريش بالرواح قلت في نفسي: أي شيء بقي؟

أين أذهب إلى النجاشي فقد اتبع محمد وأصحابه عنده أمنون، فأخرج إلى هرقل فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية فأقيم في عجم، فأقيم في داري بمن بقي، فأنا في ذلك إذ دخل رسول الله مكة في عمرة القضية فتغيبت ولم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي في عمرة القضية فطلبني فلم يجدني، فكتب إلي كتابا فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك عقلك، ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله عنك وقال: أين خالد؟

فقلت: يأتي الله به.

فقال: «مثله جهل الإسلام ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين كان خيرا له، ولقدمناه على غيره» فاستدرك يا أخي ما قد فاتك فقد فاتتك مواطن صالحة.

قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام، وسرني سؤال رسول الله عني، وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة مجدبة، فخرجت في بلاد خضراء واسعة، فقلت: إن هذه لرؤيا.

فلما أن قدمت المدينة قلت لأذكرن لأبي بكر.

فقال: مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك.

قال: فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله قلت من أصاحب إلى رسول الله ؟

فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب أما ترى ما نحن فيه، إنما نحن كأضراس وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد واتبعناه فإن شرف محمد لنا شرف، فأبى أشد الإباء فقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدا، فافترقنا وقلت: هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر.

فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان بن أمية.

فقال لي مثل ما قال صفوان بن أمية.

قلت: فاكتم علي.

قال: لا أذكره.

فخرجت إلى منزلي فأمرت براحلتي، فخرجت بها إلى أن لقيت عثمان بن طلحة فقلت: إن هذا لي صديق فلو ذكرت له ما أرجو، ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أن أذكره، ثم قلت: وما علي وأنا راحل من ساعتي، فذكرت له ما صار الأمر إليه.

فقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب فيه ذنوب من ماء لخرج، وقلت له نحوا مما قلت لصاحبي، فأسرع الإجابة وقال: لقد غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفج مناخة.

قال: فاتعدت أنا وهو يأجج إن سبقني أقام، وإن سبقته أقمت عليه.

قال: فأدلجنا سحرا فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة فنجد عمرو بن العاص بها.

قال: مرحبا بالقوم.

فقلنا: وبك.

فقال: إلى أين مسيركم؟

فقلنا: وما أخرجك؟

فقال: وما أخرجكم؟

قلنا: الدخول في الإسلام واتباع محمد .

قال: وذاك الذي أقدمني، فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة فأنخنا بظهر الحرة ركابنا، فأخبر بنا رسول الله فسر بنا، فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله فلقيني أخي فقال:

أسرع فإن رسول الله قد أخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم، فأسرعنا المشي فاطلعت عليه فما زال يتبسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق.

فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

فقال: «تعال».

ثم قال رسول الله : «الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلا رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير».

قلت: يا رسول الله إني قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندا للحق فادعو الله أن يغفرها لي.

فقال رسول الله : «الإسلام يجب ما كان قبله».

قلت: يا رسول الله على ذلك؟

قال: «اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيل الله».

قال خالد: وتقدم عثمان وعمرو فبايعا رسول الله .

قال: وكان قدومنا في صفر سنة ثمان.

قال: والله ما كان رسول الله يعدل بي أحدا من أصحابه فيما حزبه.

سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى هوازن

قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمر بن الحكم قال: بعث رسول الله شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن، وأمره أن يغير عليهم، فخرج وكان يسير الليل ويكمن النهار، حتى جاءهم وهم غارين، وقد أوعز إلى أصحابه أن لا تمعنوا في الطلب، فأصابوا نعما كثيرا وشاء، فاستاقوا ذلك حتى إذا قدموا المدينة فكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا كل رجل.

وزعم غيره أنهم أصابوا سبيا أيضا، ثم قدم أهلوهم مسلمين، فشاور النبي أميرهم في ردهن إليهم.

فقال: «نعم».

فردوهن وخير التي عنده الجارية فاختارت المقام عنده، وقد تكون هذه السرية هي المذكورة فيما رواه الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله بعث سرية قبل نجد، فكان فيهم عبد الله بن عمر قال: فأصبنا إبلا كثيرا فبلغت سهامنا اثنا عشر بعيرا، ونفلنا رسول الله بعيرا بعيرا.

أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، ورواه مسلم أيضا من حديث الليث ومن حديث عبد الله كلهم عن نافع عن ابن عمر بنحوه.

وقال أبو داود: حدثنا هناد، حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: بعث رسول الله سرية إلى نجد فخرجت فيها فأصبنا نعما كثيرا، فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان، ثم قدمنا على رسول الله صد فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل منا اثنا عشر بعيرا بعد الخمس، وما حاسبنا رسول الله بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع، فكان لكل منا ثلاثة عشر بعيرا بنفله.

سرية كعب بن عمير إلى بني قضاعة

قال الواقدي: حدثنا محمد بن عبد الله عن الزهري قال: بعث رسول الله كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعا من جمعهم كثيرا، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل.

فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله قاتلوهم أشد القتال حتى قتلوا، فارتث منهم رجل جريح في القتلى، فلما أن برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله ، فهم بالبعثة إليهم، فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر.

غزوة مؤتة

وهي سرية زيد بن حارثة في نحو من ثلاثة آلاف إلى أرض البلقاء من أرض الشام.

قال محمد بن إسحاق بعد قصة عمرة القضية: فأقام رسول الله بالمدينة بقية ذي الحجة، وولى تلك الحجة المشركون والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة.

فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال: بعث رسول الله بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس»

فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج وهم ثلاثة آلاف.

وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمرو بن الحكم، عن أبيه قال: جاء النعمان بن فنحص اليهودي فوقف على رسول الله مع الناس فقال رسول الله : «زيد بن حارثة أمير الناس فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم».

فقال النعمان: أبا القاسم إن كنت نبيا فلو سميت من سميت قليلا أو كثيرا أصيبوا جميعا، وإن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا سموا الرجل على القوم فقالوا إن أصيب فلان ففلان، فلو سموا مائة أصيبوا جميعا، ثم جعل يقول لزيد: اعهد فإنك لا ترجع أبدا إن كان محمد نبيا.

فقال زيد: أشهد أنه نبي صادق بار.

رواه البيهقي.

قال ابن إسحاق: فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله وسلموا عليهم، فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع بكى، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟

فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْما مَقْضِيّا } 52.

فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود.

فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين.

فقال عبد الله بن رواحة:

لكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرع تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي * أرشده الله من غاز وقد رشدا

قال ابن إسحاق: ثم إن القوم تهيئوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله فودعه، ثم قال:

فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا

إني تفرست فيك الخير نافلة * الله يعلم أني ثابت البصر

أنت الرسول فمن يحرم نوافله * والوجه منه فقد أزرى به القدر

قال ابن إسحاق: ثم خرج القوم وخرج رسول الله يشيعهم حتى إذا ودعهم وانصرف، قال عبد الله بن رواحة:

خلف السلام على امرئ ودعته * في النخل خير مشيع وخليل

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا أبو خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن رسول الله بعث إلى مؤتة فاستعمل زيدا، فإن قتل زيد فجعفر، فإن قتل جعفر فابن رواحة، فتخلف ابن رواحة، فجمع مع النبي فرآه فقال له: «ما خلفك؟».

فقال: أجمع معك.

قال: «لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها».

وقال أحمد: ثنا أبو معاوية، ثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة.

قال: فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع رسول الله الجمعة ثم ألحقهم.

قال: فلما صلى رسول الله رآه فقال: «ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟».

فقال: أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم.

فقال رسول الله : «لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت غدوتهم».

وهذا الحديث قد رواه الترمذي من حديث أبي معاوية، عن الحجاج - وهو ابن أرطأة - ثم علله الترمذي بما حكاه عن شعبة أنه قال: لم يسمع الحكم عن مقسم إلا خمسة أحاديث وليس هذا منها.

قلت: والحجاج بن أرطأة في روايته نظر، والله أعلم.

والمقصود من إيراد هذا الحديث أنه يقتضي أن خروج الأمراء إلى مؤتة كان في يوم جمعة، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: ثم مضوا حتى نزلوا معانا من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلي.

ثم أحد أراشة يقال له مالك بن رافلة.

وفي رواية يونس، عن ابن إسحاق: فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له.

قال: فشجع الناس عبد الله بن رواحة.

وقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة.

قال: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس، فقال عبد الله بن رواحة في محبسهم ذلك:

جلبنا الخيل من أجأ وفرع * تعر من الحشيش لها العكوم

حذوناها من الصوان سبتا * أزل كأن صفحته أديم

أقامت ليلتين على معان * فأعقب بعد فترتها جموم

فرحنا والجياد مسومات * تنفس في مناخرها سموم

فلا وأبي مآب لنأتينها * وإن كانت بها عرب وروم

فعبأنا أعنتها فجاءت * عوابس والغبار لها يريم

بذي لجب كأن البيض فيه * إذا برزت قوانسها النجوم

فراضية المعيشة طلقتها * أسنتنا فتنكح أو تئيم

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم قال: كنت يتيما لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلتئذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه:

إذا أدنيتني وحملت رحلي * مسيرة أربع بعد الحساء

فشأنك أنعم وخلاك ذم * ولا أرجع إلى أهلي ورائي

وجاء المسلمون وغادروني * بأرض الشام مشتهي الشواء

وردك كل ذي نسب قريب * إلى الرحمن منقطع الإخاء

هنالك لا أبالي طلع بعل * ولا نخل أسافلها رواء

قال: فلما سمعتهن منه بكيت، فخفقني بالدرة وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل؟

ثم قال عبد الله بن رواحة في بعض سفره ذلك وهو يرتجز:

يا زيد زيد اليعملات الذبل * تطاول الليل هديت فانزل

قال ابن إسحاق: ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم، والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة.

فالتقى الناس عندها، فتعبى لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له عباية بن مالك.

وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: شهدت مؤتة، فلما دنا منا المشركون رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة كأنك ترى جموعا كثيرة؟

قلت: نعم!

قال: إنك لم تشهد بدرا معنا، إنا لم ننصر بالكثرة.

رواه البيهقي.

قال ابن إسحاق: ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل القوم حتى قتل، فكان جعفر أول المسلمين عقر في الإسلام.

وقال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وباردا شرابها

والروم روم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها

عليَّ إن لاقيتها ضرابها*

وهذا الحديث قد رواه أبو داود من حديث أبي إسحاق ولم يذكر الشعر، وقد استدل من جواز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به العدو، كما يقول أبو حنيفة في الإغنام إذا لم تتبع في السير، ويخشى من لحوق العدو وانتفاعهم بها أنها تذبح وتحرق ليحال بينهم وبين ذلك، والله أعلم.

قال السهيلي: ولم ينكر أحد على جعفر، فدل على جوازه إلا إذا أمن أخذ العدو له، ولا يدخل ذلك في النهي عن قتل الحيوان عبثا.

قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء.

ويقال: إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه بنصفين.

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال: حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف قال: فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ويقول:

أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه

إن أجلب الناس وشدوا الرنة * مالي أراك تكرهين الجنة

قد طال ما قد كنت مطمئنة * هل أنت إلا نطفة في شنة

وقال أيضا:

يا نفس إن لا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت

يريد صاحبيه زيدا وجعفرا، ثم نزل.

فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.

قال: ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم.

قالوا: أنت.

قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس.

قال ابن إسحاق: ولما أصيب القوم قال رسول الله - فيما بلغني -: «أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا»

قال: ثم صمت رسول الله حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون.

ثم قال: «أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا».

ثم قال: «لقد رفعوا إليَّ في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بن رواحة بعض التردد ثم مضى».

هكذا ذكر ابن إسحاق هذا منقطعا.

وقد قال البخاري: ثنا أحمد بن واقد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك: أن رسول الله نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبر.

فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله قد فتح الله عليهم».

تفرد به البخاري، ورواه في موضع آخر وقال فيه وهو على المنبر: وما يسرهم أنهم عندنا.

وقال البخاري: ثنا أحمد بن أبي بكير، ثنا مغيرة بن عبد الرحمن المخزومي - وليس بالحرامي - عن عبد الله بن سعيد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: أمر رسول الله في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله : «إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة».

قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا في جسده بضعا وتسعين من ضربة ورمية، تفرد به البخاري أيضا.

وقال البخاري أيضا: حدثنا أحمد، ثنا ابن وهب، عن ابن عمرو، عن ابن أبي هلال - وهو سعيد بن أبي هلال الليثي - قالا: وأخبرني نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر بن أبي طالب يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره.

وهذا أيضا من إفراد البخاري.

ووجه الجمع بين هذه الرواية والتي قبلها: أن ابن عمر اطلع على هذا العدد وغيره اطلع على أكثر من ذلك، وأن هذه في قبله أصيبها قبل أن يقتل، فلما صرع إلى الأرض ضربوه أيضا ضربات في ظهره، فعدَّ ابن عمر ما كان في قبله وهو في وجوه الأعداء قبل أن يقتل رضي الله عنه.

ومما يشهد لما ذكره ابن هشام من قطع يمينه وهي ممسكة اللواء، ثم شماله ما رواه البخاري: ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا عمر بن علي، عن إسماعيل بن أبي خلاد، عن عامر قال: كان ابن عمر إذا حيى ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.

ورواه أيضا في (المناقب)، والنسائي من حديث يزيد بن هارون، عن إسماعيل بن أبي خالد.

وقال البخاري: ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان بن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفحة يمانية.

ثم رواه عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن إسماعيل، حدثني قيس: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفحة يمانية.

انفرد به البخاري.

قال الحافظ أبو بكر البيهقي: ثنا أبو نصر ابن قتادة، ثنا أبو عمرو مطر، ثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، ثنا سليمان بن حرب، ثنا الأسود، ثنا شيبان، عن خالد بن سمير قال: قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري، وكانت الأنصار تفقهه فغشيه فيمن غشيه فقال: حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله قال:

بعث رسول الله جيش الأمراء، وقال: «عليكم زيد بن حارثة» وقال: «إن أصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة».

قال: فوثب جعفر وقال: يا رسول الله! ما كنت أرهب أن تستعمل زيدا علي.

قال: «امض فإنك لا تدري أي ذلك خير».

فانطلقوا فلبثوا ما شاء الله، فصعد رسول الله المنبر، فأمر فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس على رسول الله فقال: «أخبركم عن جيشكم هذا، إنهم انطلقوا فلقوا العدو فقتل زيد شهيدا» فاستغفر له.

«ثم أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيدا» - شهد له بالشهادة واستغفر له - «ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيدا» فاستغفر له.

«ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء هو أمر نفسه».

ثم قال رسول الله : «اللهم إنه سيف من سيوفك، أنت تنصره» فمن يومئذ سمي خالد سيف الله.

ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك، عن الأسود بن شيبان به نحوه، وفيه زيادة حسنة: وهو أنه عليه الصلاة والسلام لما اجتمع إليه الناس قال: «باب خير باب خير» وذكر الحديث.

وقال الواقدي: حدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله على المنبر، وكشف الله له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معتركهم.

فقال: «أخذ الراية زيد بن حارثة فجاء الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت، وحبب إليه الدنيا فقال: الآن استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلى الدنيا، فمضى قدما حتى استشهد».

فصلى عليه رسول الله وقال: «استغفروا له فقد دخل الجنة وهو شهيد».

قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله قال لما قتل زيد: «أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت، ومناه الدنيا فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين يمنيني الدنيا».

ثم مضى قُدُما حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله وقال: «استغفروا لأخيكم فإنه شهيد، دخل الجنة وهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء في الجنة».

قال: «ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة، فاستشهد ثم دخل الجنة معترضا».

فشق ذلك على الأنصار، فقيل: يا رسول الله ما اعترضُهُ؟

قال: «لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه فتشجع، واستشهد ودخل الجنة فسري عن قومه».

قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه قال: لما أخذ خالد بن الوليد الراية قال رسول الله : «الآن حمي الوطيس».

قال الواقدي: فحدثني العطاف بن خالد قال: لما قتل ابن رواحة مساءً، بات خالد بن الوليد فلما أصبح غدا، وقد جعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، و ميسرته ميمنته.

قال: فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم، وقالوا: قد جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا منهزمين.

قال: فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم.

وهذا يوافق ما ذكره موسى بن عقبة رحمه الله في (مغازيه) فإنه قال: بعد عمرة الحديبية ثم صدر رسول الله إلى المدينة، فمكث بها ستة أشهر، ثم إنه بعث جيشا إلى مؤتة وأمر عليهم زيد بن حارثة، وقال:

«إن أصيب فجعفر بن أبي طالب أميرهم، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة أميرهم».

فانطلقوا حتى إذا لقوا ابن أبي سبرة الغساني بمؤتة، وبها جموع من نصارى العرب والروم، بها تنوخ وبهراء، فأغلق ابن أبي سبرة دون المسلمين الحصن ثلاثة أيام، ثم التقوا على زرع أحمر، فاقتتلوا قتالا شديدا.

فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقتل، ثم أخذه جعفر فقتل، ثم أخذه عبد الله بن رواحة فقتل، ثم اصطلح المسلمون بعد أمراء رسول الله على خالد بن الوليد المخزومي، فهزم الله العدو وأظهر المسلمين.

قال: وبعثهم رسول الله في جمادى الأولى - يعني سنة ثمان -.

قال موسى بن عقبة: وزعموا أن رسول الله قال: «مر علي جعفر في الملائكة يطير كما يطيرون وله جناحان».

قال: وزعموا - والله أعلم - أن يعلى بن أمية قدم على رسول الله بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله : «إن شئت فأخبرني، وإن شئت أخبرك».

قال: أخبرني يا رسول الله.

قال: فأخبرهم رسول الله خبرهم كله ووصفه لهم.

فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت.

فقال رسول الله : «إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم».

فهذا السياق فيه فوائد كثيرة ليست عند ابن إسحاق، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق من أن خالد إنما حاش بالقوم حتى تخلصوا من الروم وعرب النصارى فقط.

وموسى بن عقبة، والواقدي، مصرحان بأنهم هزموا جموع الروم والعرب الذين معهم، وهو ظاهر الحديث المتقدم عن أنس مرفوعا.

ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه.

ورواه البخاري، وهذا هو الذي رجحه، ومال إليه الحافظ البيهقي بعد حكاية القولين، لما ذكر من الحديث.

قلت: ويمكن الجمع بين قول ابن إسحاق، وبين قول الباقين، وهو أن خالد لما أخذ الراية حاش بالقوم المسلمين حتى خلصهم من أيدي الكافرين من الروم والمستعربة.

فلما أصبح وحوَّل الجيش ميمنة وميسرة، ومقدمة وساقة، كما ذكره الواقدي، توهم الروم أن ذلك عن مدد جاء إلى المسلمين، فلما حمل عليهم خالد هزموهم بإذن الله، والله أعلم.

وقد قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر، عن عروة قال: لما أقبل أصحاب مؤتة تلقاهم رسول الله والمسلمون معه.

قال: ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله مقبل مع القوم على دابة.

فقال: «خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر،» فأتي بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه، فجعلوا يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله.

فقال رسول الله : «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله عز وجل».

وهذا مرسل من هذا الوجه، وفيه غرابة.

وعندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق فظن أن هذا الجمهور الجيش، وإنما كان للذين فروا حين التقى الجمعان، وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا، كما أخبر بذلك رسول الله للمسلمين وهو على المنبر في قوله: «ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه».

فما كان المسلمون ليمسونهم فرارا بعد ذلك، وإنما تلقوهم إكراما وإعظاما، وإنما كان التأنيب وحثي التراب للذين فروا وتركوهم هنالك، وقد كان فيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، ثنا زهير، ثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عمر قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله ، فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟

ثم قلنا: لو دخلنا المدينة قتلنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا.

فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج، فقال: «من القوم؟».

قال: قلنا نحن فرارون.

فقال: «لا بل أنتم الكرارون، أنا فئتكم، وأنا فئة المسلمين».

قال: فأتيناه حتى قبلنا يده.

ثم رواه غندر، عن شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن ابن عمر قال: كنا في سرية ففررنا فأردنا أن نركب البحر، فأتينا رسول الله فقلنا: يا رسول الله نحن الفرارون، فقال: «لا بل أنتم العكارون».

و رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث يزيد بن أبي زياد.

وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديثه.

وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، وأسود بن عامر، قالا: حدثنا شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عمر قال: بعثنا رسول الله في سرية، فلما لقينا العدو انهزمنا في أول غادية، فقدمنا المدينة في نفر ليلا، فاختفينا ثم قلنا: لو خرجنا إلى رسول الله واعتذرنا إليه.

فخرجنا إليه ثم لقيناه، قلنا: نحن الفرارون يا رسول الله، قال: «بل أنتم العكارون، وأنا فئتكم».

قال الأسود: «وأنا فئة كل مسلم».

وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أن أم سلمة زوج النبي قالت لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله ومع المسلمين؟

قالت: ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس: يا فرار فررتم في سبيل الله، حتى قعد في بيته ما يخرج، وكان في غزاة مؤتة.

قلت: لعل طائفة منهم فروا لما عاينوا كثرة جموع الروم - و كانوا على أكثر من أضعاف الأضعاف فإنهم كانوا ثلاثة آلاف، وكان العدو على ما ذكروه مائتي ألف، ومثل هذا يسوغ الفرار على ما قد تقرر.

فلما فر هؤلاء ثبت باقيهم وفتح الله عليهم، وتخلصوا من أيدي أولئك، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، كما ذكره الواقدي، وموسى بن عقبة من قبله.

ويؤيد ذلك ويشاكله بالصحة ما رواه الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال:

خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة من المسلمين في غزوة مؤتة، ووافقني مددي من اليمن، ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزورا، فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه فاتخذه كهيئة الدرقة، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر، عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغري بالمسلمين، وقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقبه، فخر وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه.

فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد يأخذ من السلب.

قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله قضى بالسلب للقاتل؟

قال: بلى، ولكني استكثرته فقلت؟

فقلت: لتردنه إليه أو لأعرفتكها عند رسول الله ، فأبى أن يرد عليه.

قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله : «يا خالد رد عليه ما أخذت منه».

قال عوف: فقلت: دونك يا خالد ألم أف لك؟

فقال رسول الله : «وما ذاك؟».

فأخبرته فغضب رسول الله وقال: «يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركوا أمرائي لكم صفوة أمرهم وعليهم كدرة؟».

قال الوليد: سألت ثورا عن هذا الحديث فحدثني عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عوف بنحوه.

ورواه مسلم، وأبو داود من حديث جبير بن نفير، عن عوف بن مالك به نحوه، وهذا يقتضي أنهم غنموا منهم وسلبوا من أشرافهم، وقتلوا من أمرائهم.

وقد تقدم فيما رواه البخاري: أن خالدا رضي الله عنه قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفحة يمانية، وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم، وهذا وحده دليل مستقل والله أعلم.

وهذا هو اختيار موسى بن عقبة، والواقدي، والبيهقي وحكاه ابن هشام عن الزهري.

قال البيهقي رحمه الله: اختلف أهل المغازي في فرارهم وانحيازهم، فمنهم من ذهب إلى ذلك، ومنهم من زعم أن المسلمين ظهروا على المشركين، وأن المشركين انهزموا.

قال: وحديث أنس بن مالك عن النبي : «ثم أخذها خالد ففتح الله عليه» يدل على ظهورهم عليهم، والله أعلم.

قلت: وقد ذكر ابن إسحاق: أن قطبة بن قتادة العذري - وكان رأس ميمنة المسلمين - حمل على مالك بن زافلة، ويقال: رافلة وهو أمير أعراب النصارى فقتله، وقال: يفتخر بذلك:

طعنت ابن رافلة بن الأراش * برمح مضى فيه ثم انحطم

ضربت على جيده ضربة * فمال كما مال غصن السلم

وسقنا نساء بني عمة * غداة رقوقين سوق النعم

وهذا يؤيد ما نحن فيه لأن من عادة أمير الجيش إذا قتل أن يفر أصحابه، ثم إنه صرح في شعره بأنهم سبوا من نسائهم، وهذا واضح فيما ذكرناه، والله أعلم.

وأما ابن إسحاق: فإنه ذهب إلى أنه لم يكن إلا المخاشاة والتخلص من أيدي الروم، وسمى هذا نصرا وفتحا أي باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدو بهم، وتراكمهم وتكاثرهم وتكاثفهم عليهم، فكان مقتضى العادات أن يصطلحوا بالكلية، فلما تخلصوا منهم وانحازوا عنهم كان هذا غاية المرام في هذا المقام.

وهذا محتمل لكنه خلاف الظاهر من قوله عليه الصلاة والسلام: «ففتح الله عليهم».

والمقصود أن ابن إسحاق يستدل على ما ذهب إليه فقال: وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد بن الوليد ومخاشاته بالناس، وانصرافه بهم قيس بن المحسر اليعمري يعتذر مما صنع يومئذ، وصنع الناس يقول:

فوالله لا تنفك نفسي تلومني * على موقفي والخيل قابعة قبل

وقفت بها لا مستجيزا فنافذا * ولا مانعا من كل حم له القتل

على أنني آسيت نفسي بخالد * إلا خالد في القوم ليس له مثل

وجاشت إلي النفس من نحو جعفر * بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل

وضم إلينا حجزتيهم كليهما * مهاجرة لا مشركون ولا عذل

قال ابن إسحاق: فبين قيس ما اختلف فيه الناس من ذلك في شعره أن القوم جاحزوا وكرهوا الموت، وحقق انحياز خالد بمن معه.

قال ابن هشام: وأما الزهري فقال - فيما بلغنا عنه -: أمر المسلمون عليهم خالد بن الوليد، ففتح الله عليهم، وكان عليهم حتى رجع إلى المدينة.

فصل إصابة جعفر وأصحابه

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن أم عيسى الخزاعية، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علي رسول الله ، وقد دبغت أربعين مناء، وعجنت عجيني، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم.

فقال رسول الله : «ائتني بابني جعفر» فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه.

فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟

قال: «نعم أصيبوا هذا اليوم».

قالت: فقمت أصيح واجتمع إلي النساء، وخرج رسول الله إلى أهله فقال: «لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم».

وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث ابن إسحاق.

ورواه ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي بكر، عن أم عيسى، عن أم عون بنت محمد بن جعفر، عن أسماء فذكر الأمر بعمل الطعام، والصواب أنها أم جعفر وأم عون.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، ثنا جعفر بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي : «اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم أمر يشغلهم أو أتاهم ما يشغلهم».

وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة، عن جعفر بن خالد بن سارة المخزومي المكي، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر.

وقال الترمذي: حسن.

ثم قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي قالت: لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله الحزن.

قالت: فدخل عليه رجل فقال: يا رسول الله إن النساء عييننا وفتننا.

قال: «ارجع إليهن فأسكتهن».

قالت: فذهب، ثم رجع فقال له مثل ذلك.

قالت: يقول: وربما ضر التكلف - يعني أهله -

قالت: قال: «فاذهب فأسكتهن فإن أبين فاحثوا في أفواههن التراب».

قالت: وقلت في نفسي: أبعدك الله! فوالله ما تركت نفسك وما أنت بمطيع رسول الله .

قالت: وعرفت أنه لا يقدر يحثي في أفواههن التراب.

انفرد به ابن إسحاق من هذا الوجه، وليس في شيء من الكتب.

وقال البخاري: ثنا قتيبة، ثنا عبد الوهاب، سمعت يحيى بن سعيد قال: أخبرتني عمرة قالت: سمعت عائشة تقول: لما قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة جلس رسول الله يعرف في وجهه الحزن.

قالت عائشة: وأنا أطلع من صاير الباب - شق - فأتاه رجل فقال: أي رسول الله إن نساء جعفر وذكر بكاءهن، فأمره أن ينهاهن.

قالت: فذهب الرجل ثم أتى فقال: قد نهيتهن وذكر أنه لم يطعنه، قال فأمر أيضا فذهب ثم أتى فقال: والله لقد غلبننا فزعمت أن رسول الله قال: «فاحث في أفواههن من التراب».

قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: أرغم الله أنفك فوالله ما أنت تفعل ذلك، وما تركت رسول الله من العناء.

وهكذا رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، من طرق، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة عنها.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدث عن الحسن بن سعيد، عن عبد الله بن جعفر قال: بعث رسول الله جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: «إن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة».

فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه.

وأتى خبرهم النبي ، فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إن إخوانكم لقوا العدو، وإن زيدا أخذ الراية فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية سيفا من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه».

قال: ثم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتهم، ثم أتاهم فقال: «لا تبكوا على أخي بعد اليوم ادعوا لي بني أخي».

قال: فجيء بنا كأننا أفراخ.

فقال: «ادعوا لي الحلاق».

فجيء بالحلاق فحلق رؤسنا، ثم قال: «أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي».

ثم أخذ بيدي فأشألها وقال: «اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه» قالها ثلاث مرات.

قال: فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا وجعلت تفرح له فقال: «العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة».

ورواه أبو داود ببعضه، والنسائي في السير بتمامه من حديث وهب بن جرير به، وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام أرخص لهم في البكاء ثلاثة أيام، ثم نهاهم عنه بعدها.

ولعله معنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد من حديث الحكم بن عبد الله بن شداد، عن أسماء أن رسول الله قال لها لما أصيب جعفر: «تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت».

تفرد به أحمد، فيحتمل أنه أذن لها في التسلب وهو المبالغة في البكاء وشق الثياب، ويكون هذا من باب التخصيص لها بهذا لشدة حزنها على جعفر أبي أولادها، وقد يحتمل أن يكون أمرا لها بالتسلب وهو المبالغة في الإحداد ثلاثة أيام، ثم تصنع ما شاءت مما يفعله المعتدات على أزواجهن من الإحداد المعتاد، والله أعلم.

ويروى: «تسلي ثلاثا» أي: تصبري ثلاثا وهذا بخلاف الرواية الأخرى، والله أعلم.

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا محمد بن طلحة، ثنا الحكم بن عيينة، عن عبد الله بن شداد، عن أسماء بنت عميس قالت: دخل رسول الله اليوم الثالث من قتل جعفر فقال:

«لا تحدي بعد يومك هذا» فإنه من إفراد أحمد أيضا، وإسناده لا بأس به، ولكنه مشكل إن حمل على ظاهره لأنه قد ثبت في الصحيحين أن رسول الله قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميتها أكثر من ثلاثة أيام، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرة».

فإن كان ما رواه الإمام أحمد محفوظا فتكون مخصوصة بذلك، أو هو أمر بالمبالغة في الإحداد هذه الثلاثة أيام كما تقدم، والله أعلم.

قلت: ورثت أسماء بنت عميس زوجها بقصيدة تقول فيها:

فآليت لا تنفك نفسي حزينة * عليك ولا ينفك جلدي أغبرا

فلله عينا من رأى مثله فتى * أكر وأحمى في الهياج وأصبرا

ثم لم تنشب أن انقضت عدتها فخطبها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فتزوجها، فأولم وجاء الناس للوليمة، فكان فيهم علي بن أبي طالب، فلما ذهب الناس استأذن علي أبا بكر رضي الله عنهما في أن يكلم أسماء من وراء الستر، فأذن له، فلما اقترب من الستر نفحه ريح طيبها فقال لها علي: على وجه البسط من القائلة في شعرها:

فآليت لا تنفك نفسي حزينة * عليك ولا ينفك جلدي أغبرا

قالت: دعنا منك يا أبا الحسن فإنك امرؤ فيك دعابة، فولدت للصديق محمد بن أبي بكر، ولدته بالشجرة بين مكة والمدينة، ورسول الله ذاهب إلى حجة الوداع، فأمرها أن تغتسل وتهل وسيأتي في موضعه.

ثم لما توفي الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب، وولدت له أولادا رضي الله عنه عنها، وعنهم أجمعين.

فصل عطف رسول الله عليه السلام على ابن جعفر عند إصابة أبيه

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال: فلما دنوا من المدينة تلقاهم رسول الله والمسلمون، قال: ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله مقبل مع القوم على دابة فقال: «خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر».

فأتي بعبد الله بن جعفر فحمله بين يديه.

قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار أفررتم في سبيل الله.

قال: فيقول رسول الله : «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله» وهذا مرسل.

وقد قال الإمام أحمد: ثنا أبو معاوية، ثنا عاصم، عن مؤرق العجلي، عن عبد الله بن جعفر قال: كان رسول الله إذا قدم من سفر تلقى الصبيان من أهل بيته، وأنه قدم من سفر فسبق بي إليه قال: فحملني بين يديه، ثم قال: «جيء بأحد بني فاطمة» إما حسن وإما حسين، فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة.

وقد رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عاصم الأحول عن مؤرق به.

وقال الإمام أحمد: ثنا روح، حدثنا ابن جريج، ثنا خالد بن سارة: أن أباه أخبره أن عبد الله بن جعفر قال: لو رأيتني وقثما وعبيد الله ابني العباس ونحن صبيان نلعب، إذ مر النبي على دابة فقال: «ارفعوا هذا إلي» فحملني أمامه وقال لقثم: «ارفعوا هذا إلي» فجعله وراءه.

وكان عبيد الله أحب إلى عباس من قثم، فما استحى من عمه أن حمل قثما وتركه، قال: ثم مسح على رأسه ثلاثا وقال كلما مسح: «اللهم اخلف جعفرا في ولده».

قال: قلت لعبد الله: ما فعل قثم؟

قال: استشهد.

قال: قلت: الله ورسوله أعلم بالخير.

قال: أجل.

ورواه النسائي في (اليوم والليلة) من حديث ابن جريج به. وهذا كان بعد الفتح، فإن العباس إنما قدم المدينة بعد الفتح.

فأما الحديث رواه الإمام أحمد: ثنا إسماعيل، ثنا حبيب بن الشهيد، عن عبد الله بن أبي مليكة قال: قال عبد الله بن جعفر لابن الزبير: أتذكر إذ تلقينا رسول الله أنا وأنت وابن عباس؟

قال: نعم، فحملنا وتركك.

وبهذا اللفظ أخرجه البخاري، ومسلم من حديث حبيب بن الشهيد، وهذا يعد من الأجوبة المسكتة.

ويروى أن عبد الله بن عباس أجاب به ابن الزبير أيضا، وهذه القصة قصة أخرى كانت بعد الفتح كما قدمنا بيانه، والله أعلم.

فصل في فضل زيد وجعفر وعبد الله رضي الله عنهم

أما زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبدود بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة الكلبي القضاعي، مولى رسول الله .

وذلك أن أمه ذهبت تزور أهلها فأغارت عليهم خيل فأخذوه، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد.

وقيل: اشتراه رسول الله لها، فوهبته من رسول الله قبل النبوة، فوجده أبوه فاختار المقام عند رسول الله فأعتقه وتبناه، فكان يقال له: زيد بن محمد، وكان رسول الله يحبه حبا شديدا.

وكان أول من أسلم من الموالي، ونزل فيه آيات من القرآن منها قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } 53.

وقوله تعالى: { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } 54

وقوله تعالى: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } 55.

وقوله: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَاكَهَا } الآية 56.

أجمعوا أن هذه الآيات أنزلت فيه، ومعنى { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } أي: بالإسلام.

{ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } أي: بالعتق.

وقد تكلمنا عليها في التفسير، والمقصود أن الله تعالى لم يسم أحدا من الصحابة في القرآن غيره، وهداه إلى الإسلام وأعتقه رسول الله ، وزوجه مولاته أم أيمن واسمها بركة، فولدت له أسامة بن زيد، فكان يقال له: الحب ابن الحب.

ثم زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش، وآخى بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب، وقدمه في الإمرة على ابن عمه جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة كما ذكرناه.

وقد قال الإمام أحمد، والإمام الحافظ أبو بكر ابن أبي شيبة - وهذا لفظه -: ثنا محمد بن عبيد، عن وائل بن داود، سمعت البهي يحدث: أن عائشة كانت تقول: ما بعث رسول الله زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم، ولو بقي بعد لاستخلفه.

ورواه النسائي عن أحمد بن سلمان، عن محمد بن عبيد الطنافسي به، وهذا إسناد جيد قوي على شرط الصحيح، وهو غريب جدا، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: ثنا سليمان، ثنا إسماعيل، أخبرني ابن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في أمرته، فقام رسول الله فقال:

«إن تطعنوا في أمرته فقد كنتم تطعنون في أمرة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقا للأمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده».

وأخرجاه في الصحيحين: عن قتيبة، عن إسماعيل- هو ابن جعفر بن أبي كثير المدني - عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر فذكره.

ورواه البخاري من حديث موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه.

ورواه البزار من حديث عاصم بن عمر، عن عبيد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، ثم استغربه من هذا الوجه.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا عمر بن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: لما أصيب زيد بن حارثة، وجيء بأسامة بن زيد وأوقف بين يدي رسول الله ، فدمعت عينا رسول الله فأخر، ثم عاد من الغد فوقف بين يديه فقال: «ألاقي منك اليوم ما لقيت منك أمس».

وهذا الحديث فيه غرابة، والله أعلم.

وقد تقدم في الصحيحين: أنه لما ذكر مصابهم وهو عليه السلام فوق المنبر جعل يقول: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله عليه».

قال: وإن عينيه لتذرفان وقال: «وما يسرهم أنهم عندنا»

وفي الحديث الآخر: أنه شهد لهم بالشهادة، فهم ممن يقطع لهم بالجنة.

وقد قال حسان بن ثابت يرثي زيد بن حارثة، وابن رواحة:

عين جودي بدمعك المنزور * واذكري في الرخاء أهل القبور

واذكري مؤتة وما كان فيها * يوم راحوا في وقعة التغوير

حين راحوا وغادروا ثم زيدا * نعم مأوى الضريك والمأسور

حب خير الأنام طُزا جميعا * سيد الناس حبه في الصدور

ذاكم أحمد الذي لا سواه * ذاك حزني له معا وسروري

إن زيدا قد كان منا بأمر * ليس أمر المكذب المغرور

ثم جودي للخزرجي بدمع * سيدا كان ثم غير نزور

قد أتانا من قتلهم ما كفانا * فبحزن نبيت غير سرور

وأما جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم: فهو ابن عم رسول الله ، وكان أكبر من أخيه علي بعشر سنين، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وكان طالب أسن من عقيل بعشر سنين.

أسلم جعفر قديما وهاجر إلى الحبشة، وكانت له هناك مواقف مشهورة ومقامات محمودة، وأجوبة سديدة، وأحوال رشيدة، وقد قدمنا ذلك في هجرة الحبشة، ولله الحمد.

وقد قدم على رسول الله يوم خيبر، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أدري أنا بأيهما أسر بقدوم جعفر أم بفتح خيبر» وقام إليه واعتنقه وقبل بين عينيه.

وقال له يوم خرجوا من عمرة القضية: «أشبهت خلقي وخلقي» فيقال: إنه حجل عند ذلك فرحا كما تقدم في موضعه، ولله الحمد والمنة.

ولما بعثه إلى مؤتة جعل في الإمرة مصليا - أي: نائبا - لزيد بن حارثة، ولما قتل وجدوا فيه بضعا وتسعين ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وهو في ذلك كله مقبل غير مدبر، وكانت قد طعنت يده اليمنى، ثم اليسرى وهو ممسك للواء، فلما فقدهما احتضنه حتى قتل، وهو كذلك.

فيقال: إن رجلا من الروم ضربه بسيف فقطعه باثنتين، رضي الله عن جعفر ولعن قاتله، وقد أخبر عنه رسول الله بأنه شهيد، فهو ممن يقطع له بالجنة، وجاء بالأحاديث تسميته بذي الجناحين.

وروى البخاري، عن ابن عمر: أنه كان إذا سلم على أبيه عبد الله بن جعفر يقول: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين، وبعضهم يرويه عن عمر بن الخطاب نفسه، والصحيح ما في الصحيح عن ابن عمر قالوا: لأن الله تعالى عوضه عن يديه بجناحين في الجنة.

وقد تقدم بعض ما روي في ذلك.

قال الحافظ أبو عيسى الترمذي: حدثنا علي بن حجر، ثنا عبد الله بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «رأيت جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة».

وتقدم في حديث أنه رضي الله عنه قتل وعمره ثلاث وثلاثين سنة.

وقال ابن الأثير في (الغابة): كان عمره يوم قتل إحدى وأربعين.

قال: وقيل غير ذلك.

قلت: وعلى ما قيل إنه كان أسن من علي بعشر سنين يقتضي أن عمره يوم قتل تسع وثلاثون سنة، لأن عليا أسلم وهو ابن ثمان سنين على المشهور، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر وعمره إحدى وعشرين سنة، ويوم مؤتة كان في سنة ثمان من الهجرة، والله أعلم.

وقد كان يقال لجعفر بعد قتله الطيار لما ذكرنا، وكان كريما جوادا ممدحا، وكان لكرمه يقال له أبا المساكين لإحسانه إليهم.

قال الإمام أحمد: وحدثنا عفان بن وهيب، ثنا خالد، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال: ما احتذى النعال، ولا انتعل ولا ركب المطايا، ولا لبس الثياب من رجل بعد رسول الله أفضل من جعفر بن أبي طالب.

وهذا إسناد جيد إلى أبي هريرة، وكأنه إنما يفضله في الكرم، فأما في الفضيلة الدينية فمعلوم أن الصديق والفاروق بل وعثمان بن عفان أفضل منه.

وأما أخوه علي رضي الله عنهما فالظاهر أنهما متكافئان، أو علي أفضل منه، وإنما أراد أبو هريرة تفضيله في الكرم بدليل ما رواه البخاري: ثنا أحمد بن أبي بكر، ثنا محمد بن إبراهيم بن دينار أبو عبد الله الجهني، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة:

أن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة، وأني كنت ألزم رسول الله بشبع بطني خبز، لا آكل الخمير، ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان وفلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لاستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني.

وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها.

تفرد به البخاري.

وقال حسان بن ثابت يرثي جعفرا:

ولقد بكيت وعز مهلك جعفر * حب النبي على البرية كلها

ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي * من للجلاد لدى العقاب وظلها

بالبيض حين تسل من أغمادها * ضربا وأنهال الرماح وعلها

بعد ابن فاطمة المبارك جعفر * خير البرية كلها وأجلها

رزءا وأكرمها جميعا محتدا * وأعزها متظلما وأذلها

للحق حين ينوب غير تنحل * كذبا وأنداها يدا وأقلها

فحشا وأكثرها إذا ما يجتدي * فضلا وأنداها يدا وأبلها

بالعرف غير محمد لا مثله * حي من أحياء البرية كلها

وأما ابن رواحة: فهو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج أبو محمد

ويقال أبو رواحة، ويقال أبو عمرو الأنصاري الخزرجي، وهو خال النعمان بن بشير أخته عمرة بنت رواحة، أسلم قديما وشهد العقبة، وكان أحد النقباء ليلتئذ لبني الحارث بن الخزرج، وشهد بدرا وأحدا والخندق، والحديبية، وخيبر، وكان يبعثه على خرصها كما قدمنا.

وشهد عمرة القضاء ودخل يومئذ وهم ممسك بزمام ناقة رسول الله ، وقيل بغرزها - يعني الركاب - وهو يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله *

الأبيات كما تقدم.

وكان أحد الأمراء الشهداء يوم مؤتة كما تقدم، وقد شجع المسلمين للقاء الروم حين اشتوروا في ذلك، وشجع نفسه أيضا حتى نزل بعد ما قتل صاحباه، وقد شهد له رسول الله بالشهادة، فهو ممن يقطع له بدخول الجنة، ويروى أنه لما أنشد النبي شعره حين ودعه الذي يقول فيه:

فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا

قال له رسول الله : «وأنت فثبتك الله».

قال هشام بن عروة: فثبته الله حتى قتل شهيدا ودخل الجنة.

وروى حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن عبد الله بن رواحة أتى رسول الله وهو يخطب فسمعه يقول: «اجلسوا» فجلس مكانه خارجا من المسجد حتى فرغ الناس من خطبته، فبلغ ذلك النبي فقال: «زادك الله حرصا على طواعية الله وطواعية رسوله».

وقال البخاري في صحيحه: وقال ابن معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة.

وقد ورد الحديث المرفوع في ذلك عن عبد الله بن رواحة بنحو ذلك.

فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، عن عمارة، عن زياد النحوي، عن أنس قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول: تعال نؤمن بربنا ساعة.

فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل، فجاء فقال: يا رسول الله إلا ترى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة!

فقال النبي : «رحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة».

وهذا حديث غريب جدا.

وقال البيهقي: ثنا الحاكم، ثنا أبو بكر، ثنا محمد بن أيوب، ثنا أحمد بن يونس، ثنا شيخ من أهل المدينة، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن رواحة قال لصاحب له: تعال نؤمن ساعة.

قال: أولسنا مؤمنين؟

قال: بلى، ولكنا نذكر الله فيزداد إيمانا.

وقد روى الحافظ أبو القاسم اللاكائي من حديث أبي اليمان، عن صفوان بن سليم، عن شريح بن عبيد: أن عبد الله بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه فيقول: قم بنا نؤمن ساعة، فنجلس في مجلس ذكر، وهذا مرسل من هذين الوجهين، وقد استقصينا الكلام على ذلك في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.

وفي صحيح البخاري عن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله في سفر في حر شديد، وما فينا صائم إلا رسول الله وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وقد كان من شعراء الصحابة المشهورين، ومما نقله البخاري من شعره في رسول الله :

وفينا رسول الله نتلو كتابه * إذا انشق معروف من الفجر ساطع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

أتى بالهدي بعد العمي فقلوبنا * به موقنات أن ما قال واقع

وقال البخاري: حدثنا عمران بن ميسرة، ثنا محمد بن فضيل، عن حصين، عن عامر، عن النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي، واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لي أنت كذلك؟

حدثنا قتيبة، ثنا خيثمة، عن حصين، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة بهذا.

فلما مات لم تبك عليه، وقد قدمنا ما رثاه به حسان بن ثابت مع غيره.

وقال شاعر من المسلمين ممن رجع من مؤتة مع من رجع رضي الله عنهم:

كفى حزنا إني رجعت وجعفر * وزيد وعبد الله في رمس أقبُر

قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم * وخلفت للبلوى مع المتغير

وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية ما رثي به هؤلاء الأمراء الثلاث من شعر حسان بن ثابت، وكعب بن مالك رضي الله عنهما وأرضاهما.

فصل في من استشهد يوم مؤتة

فمن المهاجرين: جعفر بن أبي طالب، ومولاهم زيد بن حارثة الكلبي، ومسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة العدوي، ووهب بن سعد بن أبي سرح، فهؤلاء أربعة نفر.

ومن الأنصار: عبد الله بن رواحة، وعباد بن قيس الخزرجيان، والحارث بن النعمان بن أساف بن نضلة النجاري، وسراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء المازني أربعة نفر، فمجموع من قتل من المسلمين يومئذ هؤلاء الثمانية على ما ذكره ابن إسحاق.

لكن قال ابن هشام: وممن استشهد يوم مؤتة فيما ذكره ابن شهاب الزهري: أبو كليب، وجابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول المازنيان، وهما شقيقان لأب وأم، وعمرو وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أقصى، فهؤلاء أربعة من الأنصار أيضا.

فالمجموع على القولين اثنا عشر رجلا، وهذا عظيم جدا أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون، ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلا، وقد قتل من المشركين خلق كثير.

هذا خالد وحده يقول: لقد اندقت في يدي يومئذ تسعة أسياف، وما صبرت في يدي إلا صفحة يمانية، فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها؟!

دع غيره من الأبطال والشجعان من حملة القرآن، وقد تحكموا في عبدة الصلبان، عليهم لعائن الرحمن، في ذلك الزمان وفي كل أوان.

وهذا مما يدخل في قوله تعالى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } 57.

حديث فيه فضيلة عظيمة لأمراء هذه السرية

وهم زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم.

قال الإمام العالم الحافظ أبو زرعة عبد الله بن عبد الكريم الرازي نضر الله وجهه في كتابه (دلائل النبوة) - وهو كتاب جليل - حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي، ثنا الوليد، ثنا ابن جابر، وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، ثنا الوليد وعمرو - يعني ابن عبد الواحد - قالا:

ثنا ابن جابر، سمعت سليم بن عامر الخبائري يقول: أخبرني أبو أمامة الباهلي، سمعت رسول الله يقول:

«بينا أنا نائم إذا أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلا وعرا فقالا اصعد، فقلت لا أطيقه، فقالا: أنا سنسهله لك، قال فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة فقلت ما هؤلاء الأصوات؟

فقالا: عواء أهل النار، ثم انطلقا بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما، فقلت: ما هؤلاء فقالا هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم، فقال: خابت اليهود والنصارى».

قال سليم: سمعه من رسول الله أم من رأيه؟

«ثم انطلقا بي فإذا قوم أشد شيء انتفاخا وأنتن شيء ريحا كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟

قال: هؤلاء قتلى الكفار، ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد انتفاخا وأنتن شيء ريحا كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزانون والزواني، ثم انطلقا بي فإذا بنساء ينهش ثديهن الحيات، فقلت: ما بال هؤلاء؟ قالا: هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن.

ثم انطلقا بي فإذا بغلمان يلعبون بين بحرين، قلت: من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء ذراري المؤمنين، ثم أشرفا بي شرفا فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم، فقلت: من هؤلاء؟ قالا: هذا جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة.

ثم أشرفا بي شرفا آخر فإذا أنا بنفر ثلاثة، فقلت: من هؤلاء؟ قالا: هذا إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، وهم ينتظرونك».

ما قيل من الأشعار في غزوة مؤتة

قال ابن إسحاق: وكان مما بكى به أصحاب مؤتة قول حسان:

تأوبني ليلٌ بيثرب أعسر * وهم إذا ما نوم الناس مسهر

لذكرى حبيب هيجت لي عبرة * سفوحا وأسباب البكاء التذكر

بلى إن فقدان الحبيب بليةٌ * وكم من كريم يبتلى ثم يصبر

رأيت خيار المسلمين تواردوا * شعوبا وخلفا بعدهم يتأخر

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا * بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيدٌ وعبد الله حين تتابعوا * جميعا وأسباب المنية تخطر

غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم * إلى الموت ميمون النقيبة أزهر

أغرَ كضوء البدر من آل هاشم * أبيٌ إذا سيم الظلامة مجسر

فطاعن حتى مال غير مؤسد * بمعتركٍ فيه القنا متكسر

فصار مع المستشهدين ثوابه * جنان وملتف الحدائق أخضر

وكنا نرى في جعفر من محمد * وفاء وأمرا حازما حين يأمر

وما زال في الإسلام من آل هاشم * دعائم عزٍ لا يزلن ومفخر

هموا جبل الإسلام والناس حولهم * رضامٌ إلى طود يروق ويبهر

بهاليل منهم جعفر وابن أمه * علي ومنهم أحمد المتخير

وحمزة والعباس منهم ومنهموا * عقيل وماء العودِ من حيث يعصر

بهم تفرج اللأواء في كل مأزق * عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر

هم أولياء الله أنزل حكمه * عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر

وقال كعب بن مالك رضي الله عنه:

نام العيون ودمع عينك يهمل * سحا كما وكف الطباب المخضل

في ليلة وردت علي همومها * طورا أخن وتارة أتمهل

واعتادني حزن فبت كأنني * ببنات نعش والسماكِ موكل

وكأنما بين الجوانح والحشا * مما تأوبني شهاب مدخل

وجدا على النفر الذين تتابعوا * يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

صلى الإله عليهم من فتية * وسقى عظامهم الغمام المسبل

صبروا بمؤتة للإله نفوسهم * حذر الردى ومخافة أن ينكلوا

فمضوا أمام المسلمين كأنهم * فنق عليهن الحديد المرفل

إذ يهتدون بجعفر ولوائه * حيث التقى وعث الصفوف

فتغير القمر المنير لفقده * والشمس قد كسفت وكادت تأفل

قرمٌ على بنيانه من هاشم * فرعا أشم وسؤددا ما ينقل

قوم بهم عصم الإله عباده * وعليهم نزل الكتاب المنزل

فضلوا المعاشر عزة وتكرما * وتغمدت أحلامهم من يجهل

لا يطلقون إلى السفاه حباهموا * وترى خطيبهم بحق يفصل

بيض الوجوه ترى بطون أكفهم * تندى إذا اعتذر الزمان الممحل

ويهديهم رضي الإله لخلقه * وبجدهم نُصر النبي المرسل

كتاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الآفاق وكتبه إليهم

ذكر الواقدي أن ذلك في آخر سنة ست في ذي الحجة بعد عمرة الحديبية.

وذكر البيهقي هذا الفصل في هذا الموضع بعد غزوة مؤتة، والله أعلم.

ولا خلاف بينهم أن بدء ذلك كان قبل فتح مكة، وبعد الحديبية، لقول أبي سفيان لهرقل حين سأله هل يغدر؟

فقال: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها.

وفي لفظ البخاري: وذلك في المدة التي ماد فيها أبو سفيان رسول الله .

وقال محمد بن إسحاق: كان ذلك ما بين الحديبية ووفاته عليه السلام، ونحن نذكر ذلك ها هنا، وإن كان قول الواقدي محتملا، والله أعلم.

وقد روى مسلم، عن يوسف بن حماد المعني، عن عبد الأعلى، عن سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رسول الله كتب قبل مؤتة إلى كسرى، وقيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار، يدهوهم إلى الله عز وجل، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه.

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، حدثني أبو سفيان من فيه إلى في، قال: كنا قوما تجارا وكانت الحرب قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا، فلما كانت الهدنة - هدنة الحديبية - بيننا وبين رسول الله لا نأمن إن وجدنا أمنا.

فخرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا وقد حملني بضاعة، وكان وجه متجرنا من الشام غزة من أرض فلسطين.

فخرجنا حتى قدمناها وذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس، فأخرجهم منها، ورد عليه صليبه الأعظم وقد كان استلبوه إياه.

فلما أن بلغه ذلك وقد كان منزله بحمص من الشام، فخرج منها يمشي متشكرا إلى بيت المقدس ليصلي فيه، تبسط له البسط، ويطرح عليها الرياحين، حتى انتهى إلى إيلياء فصلى بها، فأصبح ذات غداة وهو مهموم يقلب طرفه إلى السماء، فقالت له بطارقته: أيها الملك لقد أصبحت مهموما؟

فقال: أجل.

فقالوا: وما ذاك؟

فقال: أُريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر.

فقالوا: والله ما نعلم أمة من الأمم تختتن إلا اليهود، وهم تحت يديك وفي سلطانك، فإن كان قد وقع ذلك في نفسك منهم، فابعث في مملكتك كلها، فلا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه فتستريح من هذا الهم.

فإنهم في ذلك من رأيهم يديرونه بينهم، إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من العرب قد وقع إليهم، فقال: أيها الملك إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل يحدثك عن حدث كان ببلاده فاسأله عنه.

فلما انتهى إليه قال لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده؟

فسأله فقال: هو رجل من العرب من قريش، خرج يزعم أنه نبي، وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن، فخرجت من بلادي وهم على ذلك.

فلما أخبره الخبر قال: جردوه فإذا هو مختتن.

فقال: هذا والله الذي قد أريت، لا ما تقولون، أعطه ثوبه انطلق لشأنك.

ثم إنه دعا صاحب شرطته فقال له: قلب لي الشام ظهرا لبطن، حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه.

قال أبو سفيان: فوالله إني وأصحابي لبغزة، إذ هجم علينا فسألنا ممن أنتم؟ فأخبرناه فساقنا إليه جميعا، فلما انتهينا إليه قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف - يريد هرقل -.

قال: فلما انتهينا إليه قال: أيكم أمس به رحما؟

فقلت: أنا.

قال: ادنوه مني.

قال: فاجلسني بين يديه، ثم أمر أصحابي فأجلسهم خلفي، وقال: إن كذب فردوا عليه.

قال أبو سفيان: فلقد عرفت أني لو كذبت ما ردوا علي، ولكني كنت امرءا سيدا أتكرم وأستحي من الكذب، وعرفت أن أدنى ما يكون في ذلك أن يرووه عني، ثم يتحدثونه عني بمكة فلم أكذبه.

فقال: أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج فيكم؟

فزهدت له شأنه، وصغرت له أمره، فوالله ما التفت إلى ذلك مني و قال أخبرني عما أسألك من أمره.

فقلت: سلني عما بدا لك؟

قال: كيف نسبه فيكم؟

فقلت: محضا من أوسطنا نسبا.

قال: فأخبرني هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به؟

فقلت: لا.

قال: فأخبرني هل كان له ملك فأسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوه عليه؟

فقلت: لا.

قال: فأخبرني عن أتباعه من هم؟

فقلت: الأحداث، والضعفاء، والمساكين، فأما أشرافهم وذووا الأنساب منهم فلا.

قال: فأخبرني عمن صحبه؛ أيحبه ويكرمه، أم يقليه ويفارقه؟

قلت: ما صحبه رجل ففارقه.

قال: فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه؟

فقلت: سجال يدال علينا، وندال عليه.

قال: فأخبرني هل يغدر، فلم أجد شيئا أغره به إلا هي؟

قلت: لا، ونحن منه في مدة، ولا نأمن غدره فيها، فوالله ما التفت إليها مني.

قال: فأعاد علي الحديث.

قال: زعمت أنه من أمحضكم نسبا، وكذلك يأخذ الله النبي لا يأخذه إلا من أوسط قومه.

وسألتك هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به، فقلت لا.

وسألتك هل كان له ملك فأسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه، فقلت لا.

وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الأحداث والمساكين والضعفاء، وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان.

وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويكرمه، أم يقليه ويفارقه، فزعمت أنه قل من يصحبه فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه.

وسألتك كيف الحرب بينكم وبينه فزعمت أنها سجال، يدال عليكم وتدالون عليه، وكذلك يكون حرب الأنبياء ولهم تكون العاقبة.

وسألتك هل يغدر، فزغمت أنه لا يغدر، فلئن كنت صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمي هاتين، ولوددت أني عنده فأغسل عن قدميه.

ثم قال: الحق بشأنك.

قال: فقمت وأنا أضرب إحدى يدي على الأخرى، وأقول: يا عباد الله لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، وأصبح ملوك بني الأصفر يخافونه في سلطانهم.

قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري قال: حدثني أسقف من النصارى قد أدرك ذلك الزمان قال: قدم دحية بن خليفة على هرقل بكتاب رسول الله فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن إثم الأكاريين عليك.

قال: فلما انتهى إليه كتابه، وقرأه، أخذه فجعله بين فخذه وخاصرته، ثم كتب إلى رجل من أهل رومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ، يخبره عما جاء من رسول الله .

فكتب إليه: إنه النبي الذي ينتظر لا شك فيه فاتبعه.

فأمر بعظماء الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه، ثم أمر بها فأشرحت عليهم، واطلع عليهم من علية له وهو منهم خائف، فقال: يا معشر الروم إنه قد جاءني كتاب أحمد، وإنه والله النبي الذي كنا ننتظر، ومجمل ذكره في كتابنا نعرفه بعلاماته وزمانه، فأسلموا واتبعوه، تسلم لكم دنياكم وآخرتكم.

فنخروا نخرة رجل واحد، وابتدروا أبواب الدسكرة، فوجدوها مغلقة دونهم فخافهم، وقال: ردوهم علي، فردوهم عليه فقال لهم: يا معشر الروم إني إنما قلت لكم هذه المقالة أختبركم بها، لأنظر كيف صلابتكم في دينكم؟ فلقد رأيت منكم ما سرني، فوقعوا له سجدا، ثم فتحت لهم أبواب الدسكرة فخرجوا.

وقد روى البخاري قصة أبي سفيان مع هرقل بزيادات أخر، أحببنا أن نوردها بسندها وحروفها من الصحيح ليعلم ما بين السياقين من التباين، وما فيهما من الفوائد.

قال البخاري قبل الإيمان من صحيحه: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، ثنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش.

وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه و هم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بالترجمان فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟

قال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبا.

قال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره.

ثم قال لترجمانه قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه.

قال: فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا عني كذبا لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟

قلت: هو فينا ذو نسب.

قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟

قلت: لا.

قال: فهل كان من آبائه من ملك؟

قلت: لا.

قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟

قلت: بل ضعفاؤهم.

قال: أيزيدون أم ينقصون؟

قلت: بل يزيدون.

قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟

قلت: لا.

قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

قلت: لا.

قال: فهل يغدر؟

قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها؟

قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة.

قال: فهل قاتلتمونه؟

قلت: نعم.

قال: فكيف كان قتالكم إياه؟

قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.

قال: ماذا يأمركم؟

قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة.

فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه، فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.

وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا، فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله.

وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه.

وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله.

وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل.

وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حين يتم.

وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.

وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.

وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.

ثم دعا بكتاب رسول الله الذي بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين:

{ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا تشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.

قال: وكان ابن الناطور صاحب إيلياء، وهرقل أسقف على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك.

قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمم؟

قالوا: ليس يختتن إلا اليهود ولا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود.

فبينما هم على أمرهم، أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان، فخبرهم عن خبر رسول الله ، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟

فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون.

فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.

ثم كتب إلى صاحب له برومية - وكان نظيره في العلم - وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم بحمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي وهو نبي.

فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم؟ فتتابعوا لهذا النبي، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت.

فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي، وقال: إني إنما قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه.

فكان ذلك آخر شأن هرقل.

قال البخاري: ورواه صالح بن كيسان، ويونس، ومعمر، عن الزهري.

وقد رواه البخاري في مواضع كثيرة في صحيحه بألفاظ يطول استقصاؤها.

وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن الزهري.

وقد تكلمنا على هذا الحديث مطولا في أول شرحنا لصحيح البخاري بما فيه كفاية، وذكرنا فيه من الفوائد، والنكت المعنوية، واللفظية، ولله الحمد والمنة.

وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة قال: خرج أبو سفيان بن حرب إلى الشام تاجرا في نفر من قريش، وبلغ هرقل شأن رسول الله ، فأراد أن يعلم ما يعلم من شأن رسول الله .

فأرسل إلى صاحب العرب الذي بالشام في ملكه، يأمره أن يبعث إليه برجال من العرب يسألهم عنه، فأرسل إليه ثلاثين رجلا منهم أبو سفيان ابن حرب، فدخلوا عليه في كنيسة إيلياء التي في جوفها.

فقال هرقل: أرسلت إليكم لتخبروني عن هذا الذي بمكة ما أمره؟

قالوا: ساحر كذاب، وليس بنبي.

قال: فأخبروني من أعلمكم به، وأقربكم منه رحما؟

قالوا: هذا أبو سفيان ابن عمه، وقد قاتله.

فلما أخبروه ذلك أمر بهم، فاخرجوا عنه.

ثم أجلس أبا سفيان فاستخبره.

قال: أخبرني يا أبا سفيان.

فقال: هو ساحر كذاب.

فقال هرقل: إني لا أريد شتمه، ولكن كيف نسبه فيكم؟

قال: هو والله من بيت قريش.

قال: كيف عقله ورأيه؟

قال: لم يغب له رأي قط.

قال هرقل: هل كان حلافا كذابا مخادعا في أمره؟

قال: لا والله، ما كان كذلك.

قال: لعله يطلب ملكا أو شرفا كان لأحد من أهل بيته قبله؟

قال أبو سفيان: لا.

ثم قال: من يتبعه منكم هل يرجع إليكم منهم أحد؟

قال: لا.

قال هرقل: هل يغدر إذا عاهد؟

قال: لا، إلا أن يغدر مدته هذه.

فقال هرقل: وما تخاف من مدته هذه؟

قال: إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه وهو بالمدينة.

قال هرقل: إن كنتم أنتم بدأتم فأنتم أغدر.

فغضب أبو سفيان وقال: لم يغلبنا إلا مرة واحدة، وأنا يومئذ غائب، وهو يوم بدر، ثم غزوته مرتين في بيوتهم نبقر البطون ونجدع الآذان والفروج.

فقال هرقل: كذابا تراه أم صادقا؟

فقال: بل هو كاذب.

فقال: إن كان فيكم نبي فلا تقتلوه، فإن أفعل الناس لذلك اليهود.

ثم رجع أبو سفيان.

ففي هذا السياق غرابة، وفيه فوائد ليست عند ابن إسحاق ولا البخاري.

وقد أورد موسى بن عقبة في (مغازيه) قريبا مما ذكره عروة بن الزبير، والله أعلم.

وقال ابن جرير في (تاريخه): حدثنا ابن حميد، ثنا سلمة، ثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم قال: إن هرقل قال لدحية بن خليفة الكلبي حين قدم عليه بكتاب رسول الله :

والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته فاذهب إلى صفاطر الأسقف فاذكر له أمر صاحبكم، فهو والله في الروم أعظم مني، وأجود قولا عندهم مني، فانظر ماذا يقول لك؟

قال: فجاء دحية فأخبره بما جاء به من رسول الله إلى هرقل وبما يدعو إليه.

فقال: صفاطر والله صاحبك نبي مرسل، نعرفه بصفته، ونجده في كتابنا باسمه.

ثم دخل وألقى ثيابا كانت عليه سودا، ولبس ثيابا بياضا، ثم أخذ عصاه فخرج على الروم في الكنيسة فقال: يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله، وأني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله.

قال: فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فضربوه حتى قتلوه.

قال: فلما رجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر قال: قد قلت لك أنا نخافهم على أنفسنا، فصفاطر والله كان أعظم عندهم وأجوز قولا مني.

وقد روى الطبراني من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن عبد الله بن شداد، عن دحية الكلبي قال: بعثني رسول الله إلى قيصر صاحب الروم بكتاب فقلت: استأذنوا لرسول رسول الله .

فأتى قيصر فقيل له إن على الباب رجلا يزعم أنه رسول رسول الله، ففزعوا لذلك وقال: أدخله.

فأدخلني عليه وعنده بطارقته فأعطيته الكتاب فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم، فنخر ابن أخ له أحمر أزرق سبط، فقال: لا تقرأ الكتاب اليوم، فإنه بدأ بنفسه وكتب صاحب الروم ولم يكتب ملك الروم.

قال فقُرئ الكتاب حتى فرغ منه، ثم أمرهم فخرجوا من عنده.

ثم بعث إلي فدخلت عليه فسألني فأخبرته، فبعث إلى الأسقف فدخل عليه - وكان صاحب أمرهم يصدرون عن رأيه وعن قوله - فلما قرأ الكتاب قال الأسقف: هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر.

قال قيصر: فما تأمرني؟

قال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه.

فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكن لا أستطيع أن أفعل، إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم.

وبه قال محمد بن إسحاق، عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام قال: لما أراد هرقل الخروج من أرض الشام إلى القسطنطينية لما بلغه من أمر النبي ، جمع الروم فقال: يا معشر الروم إني عارض عليكم أمورا فانظروا فيما أردت بها؟

قالوا: ما هي؟

قال: تعلمون والله أن هذا الرجل لنبي مرسل، نجده نعرفه بصفته التي وصف لنا، فهلم فلنتبعه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا.

فقالوا: نحن نكون تحت أيدي العرب، ونحن أعظم الناس ملكا، وأكثر رجالا، وأقصاه بلدا؟!

قال: فهلم أعطيه الجزية كل سنة أكسر شوكته، وأستريح من حربه بما أعطيه إياه.

قالوا: نحن نعطي العرب الذل والصغار بخراج يأخذونه منا، ونحن أكثر الناس عددا، وأعظمه ملكا، وأمنعه بلدا، لا والله لا نفعل هذا أبدا.

قال: فهلم فلأصالحه على أن أعطيه أرض سورية، ويدعني وأرض الشام.

قال: وكانت أرض سورية: فلسطين، والأردن، ودمشق، وحمص، وما دون الدرب من أرض سورية، وما كان وراء الدرب عندهم فهو الشام.

فقالوا: نحن نعطيه أرض سورية، وقد عرفت أنها سرة الشام، لانفعل هذا أبدا.

فلما أبوا عليه قال: أما والله لتودن أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم.

قال: ثم جلس على بغل له، فانطلق حتى إذا أشرف على الدرب، استقبل أرض الشام ثم قال: السلام عليك يا أرض سورية تسليم الوداع، ثم ركض حتى دخل قسطنطينية، والله أعلم.

إرساله صلى الله عليه وسلم إلى ملك العرب من النصارى بالشام

قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله شجاع بن وهب، أخا بني أسد بن خزيمة، إلى المنذر ابن الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق.

قال الواقدي: وكتب معه سلام على من اتبع الهدى، وأمن به، وأدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك.

فقدم شجاع بن وهب فقرأه عليه فقال: ومن ينتزع ملكي؟ إني سأسير إليه.

بعثه إلى كسرى ملك الفرس

وروى البخاري من حديث الليث، عن يونس، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله بعث بكتابه مع رجل إلى كسرى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه.

قال: فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله أن يمزقوا كل ممزق.

وقال عبد الله بن وهب: عن يونس، عن الزهري، حدثني عبد الرحمن بن عبد القاري، أن رسول الله قام ذات يوم على المنبر خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال: «أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم فلا تختلفوا علي كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى بن مريم».

فقال المهاجرون: يا رسول الله أنا لا نختلف عليك في شيء أبدا فمرنا وابعثنا.

فبعث شجاع بن وهب إلى كسرى فأمر كسرى بإيوانه أن يزين، ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن لشجاع بن وهب، فلما أن دخل عليه أمر كسرى بكتاب رسول الله أن يقبض منه.

فقال شجاع بن وهب: لا حتى أدفعه أنا إليك كما أمرني رسول الله .

فقال كسرى: ادنه، فدنا فناوله الكتاب، ثم دعا كاتبا له من أهل الحيرة، فقرأه فإذا فيه: من محمد بن عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس.

قال: فأغضبه حين بدأ رسول الله بنفسه، وصاح، وغضب، ومزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بشجاع بن وهب فأخرج.

فلما رأى ذلك قعد على راحلته، ثم سار، ثم قال: والله ما أبالي على أي الطريقين أكون، إذ أديت كتاب رسول الله .

قال ولما ذهب عن كسرى سورة غضبه، بعث إلى شجاع ليدخل عليه، فالتمس فلم يوجد، فطلب إلى الحيرة فسبق.

فلما قدم شجاع على النبي أخبره بما كان من أمر كسرى، وتمزيقه لكتاب رسول الله ، فقال رسول الله : «مزق كسرى ملكه».

وروى محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي سلمة، أن رسول الله بعث عبد الله بن حذافة بكتابه إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فلما بلغ رسول الله قال: «مزق ملكه».

وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن حميد، ثنا سلمة، ثنا ابن إسحاق، عن زيد بن أبي حبيب قال: وبعث عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم إلى كسرى بن هرمز ملك فارس، وكتب معه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وأمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فإن تسلم تسلم، وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك.

قال: فلما قرأه شقه وقال: يكتب إلي بهذا وهو عبدي؟!

قال: ثم كتب كسرى إلى باذام وهو نائبه على اليمن، أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز، رجلين من عند جلدين فليأتياني به.

فبعث باذام قهرمانه - وكان كاتبا حاسبا - بكتاب فارس وبعث معه رجلا من الفرس يقال له خرخرة، وكتب معهما إلى رسول الله ، يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى.

وقال لأبا ذويه: إيتِ بلاد هذا الرجل وكلمه وائتني بخبره.

فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجلا من قريش في أرض الطائف، فسألوه عنه فقال: هو بالمدينة.

واستبشر أهل الطائف - يعني وقريش بهما - وفرحوا وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك كفيتم الرجل.

فخرجا حتى قدما على رسول الله فكلمه أبا ذويه فقال: شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذام يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب لك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.

ودخلا على رسول الله وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: «ويلكما من أمركما بهذا؟».

قالا: أمرنا ربنا - يعنيان كسرى -.

فقال رسول الله : «ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي، وقص شاربي».

ثم قال: «ارجعا حتى تأتياني غدا».

قال: وأتى رسول الله الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا وكذا، من ليلة كذا وكذا من الليل، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله.

قال: فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول؟ أنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، فنكتب عنك بهذا، ونخبر الملك باذام.

قال: «نعم أخبراه ذاك عني، وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء».

ثم أعطى خرخرة منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك.

فخرجا من عنده حتى قدما على باذام، فأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيا كما يقول، وليكونن ما قد قال، فلئن كان هذا حقا فهو نبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأيا.

فلم ينشب باذام أن قدم عليه كتاب شيرويه أما بعد: فإني قد قتلت كسرى، وما أقتله إلا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم، ونحرهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانطلق إلى الرجل الذي كان كسرى قد كتب فيه، فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.

فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذام قال: إن هذا الرجل لرسول، فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس من كان منهم باليمن.

قال: وقد قال باذويه لباذام: ما كلمت أحدا أهيب عندي منه.

فقال له باذام: هل معه شرط؟

قال: لا.

قال الواقدي رحمه الله: وكان قتل كسرى على يدي ابنه شيرويه، ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الآخرة من سنة سبع من الهجرة، لست ساعات مضت منها.

قلت: وفي شعر بعضهم ما يرشد أن قتله كان في شهر الحرام، وهو قول بعض الشعراء:

قتلوا كسرى بليل محرما * فتولى لم يمتع بكفن

وقال بعض شعراء العرب:

وكسرى إذ تقاسمه بنوه *بأسياف كما اقتسم اللحام

تمخضت المنون له بيوم * أتى ولكل حاملة تمام

وروى الحافظ البيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن أبي بكرة أن رجلا من أهل فارس أتى رسول الله ، فقال رسول الله : «إن ربي قد قتل الليلة ربك» يعني كسرى.

قال: وقيل له - يعني النبي -: إنه قد استخلف ابنته فقال: «لا يفلح قوم تملكهم امرأة».

قال البيهقي: وروى في حديث دحية بن خليفة الكلبي أنه لما رجع من عند قيصر، وجد عند رسول الله رسل كسرى، وذلك أن كسرى بعث يتوعد صاحب صنعاء ويقول له: إلا تكفيني أمر رجل قد ظهر بأرضك يدعوني إلى دينه، لتكفينه أو لأفعلن بك.

فبعث إليه فلما قرأ النبي كتاب صاحبهم تركهم خمس عشرة ليلة ثم قال لهم: «اذهبوا إلى صاحبكم أخبروه أن ربي قد قتل ربه الليلة» فوجدوه كما قال.

قال: وروى داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي نحو هذا.

ثم روى البيهقي من طريق أبي بكر بن عياش، عن داود بن أبي هند، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أقبل سعد إلى رسول الله فقال: «إن في وجه سعد خبرا».

فقال: يا رسول الله هلك كسرى.

فقال: «لعن الله كسرى، أول الناس هلاكا فارس، ثم العرب».

قلت: الظاهر أنه لما أخبر رسول الله بهلاك كسرى لذينك الرجلين - يعني الأميرين اللذين قدما من نائب اليمن باذام - فلما جاء الخبر بوفق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وشاع في البلاد.

وكان سعد بن أبي وقاص أول من سمع، جاء إلى رسول الله فأخبره بوفق إخباره عليه السلام، وهكذا بنحو هذا التقدير ذكره البيهقي رحمه الله.

ثم روى البيهقي من غير وجه، عن الزهري: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه بلغه أن كسرى بينما هو في دسكرة ملكه بعث له - أو قيض له - عارض يعرض عليه الحق فلم يفجأ كسرى إلا برجل يمشي وفي يده عصا.

فقال: يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا؟

فقال كسرى: نعم، لا تكسرها.

فولى الرجل.

فلما ذهب أرسل كسرى إلى حجابه، فقال: من أذن لهذا الرجل علي؟

فقالوا: ما دخل عليك أحد.

فقال: كذبتم.

قال: فغضب عليهم وتهددهم، ثم تركهم.

قال: فلما كان رأس الحول أتى ذلك الرجل ومعه العصا، قال: يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا؟

قال: نعم لا تكسرها.

فلما انصرف عند دعا حجابه قال لهم كالمرة الأولى، فلما كان العام المستقبل أتاه ذلك الرجل معه العصا، فقال له: هل لك يا كسرى في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا؟

فقال: لا تكسرها لا تكسرها فكسرها، فأهلك الله كسرى عند ذلك.

وقال الإمام الشافعي: أنبا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، فوالذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله».

أخرجه مسلم من حديث ابن عيينة، وأخرجاه من حديث الزهري به.

قال الشافعي: ولما أتى كسرى بكتاب رسول الله مزقه، فقال رسول الله : «يمزق ملكه».

وحفظنا أن قيصر أكرم كتاب رسول الله ووضعه في مسك، فقال رسول الله : «ثبت ملكه».

قال الشافعي وغيره من العلماء: ولما كانت العرب تأتي الشام والعراق للتجارة، فأسلم من أسلم منهم، شكوا خوفهم من ملكي العراق والشام إلى رسول الله ، فقال: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده».

قال: فباد ملك الأكاسرة بالكلية، وزال ملك قيصر عن الشام بالكلية، وإن ثبت لهم ملك في الجملة ببركة دعاء رسول الله حين عظموا كتابه، والله أعلم.

قلت: وفي هذا بشارة عظيمة بأن ملك الروم لا يعود أبدا إلى أرض الشام، وكانت العرب تسمي قيصر لمن ملك الشام مع الجزيرة من الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشي لمن ملك الحبشة، والمقوقس لمن ملك الإسكندرية، وفرعون لمن ملك مصر كافرا، وبطليموس لمن ملك الهند، ولهم أعلام أجناس غير ذلك، وقد ذكرناها في غير هذا الموضع، والله أعلم.

وروى مسلم: عن قتيبة وغيره، عن أبي عوانة، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله : «لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى في القصر الأبيض».

وروى أسباط، عن سماك، عن جابر بن سمرة مثل ذلك، وزاد: وكنت أنا وأبي فيهم، فأصبنا من ذلك ألف درهم.

بعثه صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب مدينة الإسكندرية واسمه جريج بن مينا القبطي

قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عبد الله بن عبد القاري: أن رسول الله بعث حاطب بن أبي بلتعه إلى المقوقس - صاحب الإسكندرية - فمضى بكتاب رسول الله إليه، فقبل الكتاب وأكرم حاطبا، وأحسن نزله، وسرحه إلى النبي .

وأهدى له مع حاطب كسوة وبغلة بسرجها، وجاريتين إحداهما أم إبراهيم، وأما الأخرى فوهبها رسول الله لمحمد بن قيس العبدي.

رواه البيهقي.

ثم روي من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، ثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه، عن جده حاطب بن أبي بلتعة قال: بعثني رسول الله إلى المقوقس ملك الإسكندرية، قال: فجئته بكتاب رسول الله ، فأنزلني في منزله، وأقمت عنده.

ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته، وقال: إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عني.

قال: قلت: هلم.

قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟

قلت: بل هو رسول الله.

قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟

قال: فقلت: عيسى ابن مريم أليس تشهد أنه رسول الله؟

قال: بلى.

قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه، إلا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا؟

فقال لي: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم، هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد، وأرسل معك ببذرقة يبذرقونك إلى مأمنك.

قال: فأهدى إلى رسول الله ثلاث جوار منهم: أم إبراهيم ابن رسول الله ، وواحدة وهبها رسول الله لأبي جهم ابن حذيفة العدوي، وواحدة وهبها رسول الله لحسان بن ثابت الأنصاري، وأرسل إليه بطرف من طرفهم.

وذكر ابن إسحاق: أنه أهدى إلى رسول الله أربع جوار؛ إحداهن مارية أم إبراهيم، والأخرى سيرين التي وهبها لحسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن بن حسان.

قلت: وكان في جملة الهدية غلام أسود خصي اسمه مأبور، وخفين ساذجين أسودين، وبغلة بيضاء اسمها الدلدل، وكان مأبور هذا خصيا ولم يعلموا بأمره بادي الأمر، فصار يدخل على مارية كما كان من عاداتهم ببلاد مصر.

فجعل بعض الناس يتكلم فيهما بسبب ذلك، ولا يعلمون بحقيقة الحال وأنه خصي، حتى قال بعضهم: إنه الذي أمر رسول الله علي بن أبي طالب بقتله فوجده خصيا فتركه.

والحديث في صحيح مسلم من طريق...

قال ابن إسحاق: وبعث سليط بن عمرو بن عبدود أخا بني عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى جيفر بن الجلندي وعمار بن الجنلدي الإزديين صاحبي عمان.

غزوة ذات السلاسل

ذكرها الحافظ البيهقي ها هنا قبل غزوة الفتح، فساق من طريق موسى بن عقبة، وعروة بن الزبير قالا: بعث رسول الله عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من مشارف الشام في بلي، وعبد الله ومن يليهم من قضاعة.

قال عروة بن الزبير: وبنو بلي أخوال العاص بن وائل، فلما صار إلى هناك خاف من كثرة عدوه، فبعث إلى رسول الله يستمده، فندب رسول الله المهاجرين الأولين، فانتدب أبو بكر وعمر في جماعة من سراة المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، وأمر عليهم رسول الله أبا عبيدة بن الجراح.

قال عروة: وعمرو يومئذ في سعد الله وتلك الناحية من قضاعة.

قال موسى بن عقبة: فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم، وأنا أرسلت إلى رسول الله أستمده بكم.

فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين.

فقال عمرو: إنما أنتم مدد أمددته، فلما رأى ذلك أبو عبيدة وكان رجل حسن الخلق لين الشيمة، سعى لأمر رسول الله عليه وعهده.

قال: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلى رسول الله أن قال: «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا» وإنك إن عصيتني لأطيعنك، فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي قال: بعث رسول الله عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الإسلام، وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بني بلي، فبعثه رسول الله إليهم يتألفهم بذلك.

حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلاسل - وبه سميت تلك الغزوة ذات السلاسل - قال: فلما كان عليه وخاف، بعث إلى رسول الله يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين، فيهم أبو بكر وعمر، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: «لا تختلفا».

فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو: إنما جئت مددا لي.

فقال له أبو عبيدة: لا، ولكني على ما أنا عليه، وأنت على ما أنت عليه.

وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا هينا عليه أمر الدنيا.

فقال له عمرو: أنت مددي.

فقال له أبو عبيدة: يا عمرو إن رسول الله قد قال لي: «لا تختلفا» وإنك إن عصيتني أطعتك.

فقال له عمرو: فإني أمير عليك، وإنما أنت مدد لي.

قال: فدونك، فصلى عمرو بن العاص بالناس.

وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن يزيد بن رومان: أن أبا عبيدة لما آب إلى عمرو بن العاص، فصاروا خمسمائة، فساروا الليل والنهار حتى وطئ بلاد بلي ودوخها، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان بهذا الموضع جمع، فلما سمعوا بك تفرقوا حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلي وعذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعا ليس بالكثير، فاقتتلوا ساعة، وتراموا بالنبل ساعة.

ورمي يومئذ عامر بن ربيعة وأصيب ذراعه، وحمل المسلمون عليهم فهزموا، وأعجزوا هربا في البلاد، وتفرقوا ودوخ عمرو ما هنالك، وأقام أياما لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه، وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم، فكانوا ينحرون ويذبحون، ولم يكن في ذلك أكثر من ذلك، ولم تكن لهم غنائم تقسم.

وقال أبو داود: ثنا ابن المثنى، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جيبر، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك.

قال: فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله ، فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟»

قال: فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيما } 58 فضحك نبي الله ولم يقل شيئا.

حدثنا محمد بن سلمة، حدثنا ابن وهب، ثنا ابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جيبر، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص - وكان على سرية - ذكر الحديث بنحوه قال: فغسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم، فذكر نحوه ولم يذكر التيمم.

قال أبو داود: وروى هذه القصة عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، وقال فيه: فتيمم.

وقال الواقدي: حدثني أفلح بن سعيد، عن ابن عبد الرحمن بن رقيش، عن أبي بكر ابن حزم قال: كان عمرو بن العاص حين قفلوا احتلم في ليلة باردة كأشد ما يكون من البرد، فقال لأصحابه: ما ترون؟

والله احتلمت، فإن اغتسلت مت، فدعا بماء فتوضأ، وغسل فرجه وتيمم، ثم قام فصلى بهم، فكان أول من بعث عوف بن مالك بريدا.

قال عوف: فقدمت على رسول الله في السحر وهو يصلي في بيته، فسلمت عليه.

فقال رسول الله : «عوف بن مالك؟».

فقلت: عوف بن مالك يا رسول الله.

قال: «صاحب الجزور؟».

قلت: نعم، ولم يزد على هذا بعد ذلك شيئا.

ثم قال: «أخبرني».

فأخبرته بما كان من مسيرنا، وما كان من أبي عبيدة وعمرو، ومطاوعة أبي عبيدة.

فقال رسول الله : «يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح».

قال: ثم أخبرته أن عمرا صلى بالناس وهو جنب، ومعه ماء لم يزد على أن غسل فرجه وتوضأ، فسكت رسول الله ، فلما قدم عمرو على رسول الله سأله عن صلاته فأخبره.

فقال: والذي بعثك بالحق إني لو اغتسلت لمت، ولم أجد بردا قط مثله، وقد قال تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } .

قال: فضحك رسول الله ، ولم يبلغنا أنه قال شيئا.

وقال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنت في الغزوة التي بعث فيها رسول الله عمر بن العاص - وهي غزوة ذات السلاسل - فصحبت أبا بكر وعمر.

فمررت بقوم وهم على جزور قد نحروها، وهم لا يقدرون على أن يبعضوها، وكنت امرءا جازرا، فقلت لهم: تعطوني منها عشرا على أن أقسمها بينكم؟

قالوا: نعم، فأخذت الشفرة فجزأتها مكاني، وأخذت منها جزءا فحملته إلى أصحابي، فأطبخناه وأكلناه.

فقال أبو بكر وعمر: أنى لك هذا اللحم يا عوف؟

فأخبرتهما، فقالا: لا والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا، ثم قاما يتقيآن ما في بطونهما منه، فلما أن قفل الناس من ذلك السفر، كنت أول قادم على رسول الله ، فجئته وهو يصلي في بيته، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

فقال: «أعوف بن مالك؟».

فقلت: نعم بأبي أنت وأمي.

فقال: «صاحب الجزور؟» ولم يزدني على ذلك شيئا.

هكذا رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عوف بن مالك.

وهو منقطع بل معضل.

قال الحافظ البيهقي: وقد رواه ابن لهيعة، وسعيد بن أبي أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط، عن مالك بن زهدم، أظنه عن عوف بن مالك فذكر نحوه، إلا أنه قال: فعرضته على عمر، فسألني عنه فأخبرته، فقال: قد تعجلت أجرك ولم يأكله.

ثم حكى عن أبي عبيدة مثله، ولم يذكر فيه أبا بكر، وتمامه كنحو ما تقدم.

وقال الحافظ البيهقي: أنبا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد ابن أبي عمرو قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا علي بن عاصم، ثنا خالد الحذاء، عن أبي عثمان النهدي: سمعت عمرو بن العاص يقول:

بعثني رسول الله على جيش ذات السلاسل، وفي القوم أبو بكر وعمر، فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده.

قال: فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت: يا رسول الله من أحب الناس إليك؟

قال: «عائشة؟».

قلت: إني لست أسألك عن أهلك.

قال: «فأبوها».

قلت: ثم من؟

قال: «عمر».

قلت: ثم من؟

حتى عدد رهطا.

قال: قلت في نفسي: لا أعود أسأل عن هذا.

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين: من طريق خالد بن مهران الحذاء، عن أبي عثمان النهدي - واسمه عبد الرحمن بن مل - حدثني عمرو بن العاص: أن رسول الله بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟

قال: «عائشة».

قلت: فمن الرجال؟

قال: «أبوها».

قلت: ثم من؟

قال: «ثم عمر بن الخطاب».

فعدد رجالا. وهذا لفظ البخاري.

وفي رواية: قال عمرو: فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم.

سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر

قال الإمام مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر قال: بعث رسول الله بعثا قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح وهم ثلثمائة.

قال جابر: وأنا فيهم، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأتوا أبا عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع كله فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا، حتى فني ولم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة.

قال: فقلت: وما تغني تمرة؟

فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت.

قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الضرب، قال: فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشر ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلته فرحلت ثم مر تحتها فلم يصبهما.

أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك بنحوه.

وهو في الصحيحين أيضا: من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: بعثنا رسول الله في ثلثمائة راكب، وأميرنا أبو عبيدة ابن الجراح نرصد عيرا لقريش، فأصابنا جوع شديد، حتى أكلنا الخبط فسمى ذلك الجيش جيش الخبط.

قال: ونحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاثا، فنهاه أبو عبيدة.

قال: وألقى البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، وادهنا حتى ثابت إلينا أجسامنا وصلحت.

ثم ذكر قصة الضلع، فقوله في الحديث: نرصد عيرا لقريش دليل على أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية، والله أعلم.

والرجل الذي نحر لهم الجزائر هو قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو بكر ابن إسحاق، ثنا إسماعيل بن قتيبة، ثنا يحيى بن يحيى، ثنا أبو خيثمة - وهو زهير بن معاوية - عن أبي الزبير، عن جابر قال: بعثنا رسول الله وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش، وزودنا جرابا من تمر لم نجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة.

قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟

قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله.

قال: فانطلقنا إلى ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه، فإذا به دابة تدعى العنبر.

فقال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا.

قال: فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلثمائة حتى سمنا، ولقد كنا نغرف من وقب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه القدر كالثور - أو كقدر الثور - ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا، فأقعدهم في عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير منها فمر تحتها، وتزودنا من لحمها وشايق.

فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله فذكرنا ذلك له، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم شيء من لحمه تطعمونا؟».

قال: فأرسلنا إلى رسول الله فأكل منه.

ورواه مسلم: عن يحيى بن يحيى، وأحمد بن يونس، وأبو داود، عن النفيلي ثلاثتهم، عن أبي خيثمة - زهير بن معاوية الجعفي الكوفي - عن أبي الزبير - محمد بن مسلم بن تدرس المكي - عن جابر بن عبد الله الأنصاري به.

قلت: ومقتضى أكثر هذه السياقات أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية، ولكن أوردناها ها هنا تبعا للحافظ البيهقي رحمه الله، فإنه أوردها بعد مؤتة وقبل غزوة الفتح والله أعلم.

وقد ذكر البخاري بعد غزوة مؤتة سرية أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، فقال: حدثنا عمرو بن محمد، ثنا هشيم، أنبأنا حصين بن جندب، ثنا أبو ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد يقول:

بعثنا رسول الله إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناهم قال: لا إله إلا الله فكف الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته.

فلما قدمنا بلغ النبي فقال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟».

قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.

وقد تقدم هذا الحديث والكلام عليه فيما سلف.

ثم روى البخاري: من حديث يزيد بن أبي عبيدة، عن سلمة بن الأكوع قال: غزوت مع رسول الله سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، علينا مرة أبو بكر، ومرة أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

ثم ذكر الحافظ البيهقي ها هنا موت النجاشي صاحب الحبشة على الإسلام، ونعي رسول الله له إلى المسلمين وصلاته عليه.

فروى: من طريق مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله نعى إلى الناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربع تكبيرات.

أخرجاه من حديث مالك، وأخرجاه أيضا من حديث الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة بنحوه.

وأخرجاه من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول الله : «مات اليوم رجل صالح فصلوا على أصحمة».

وقد تقدمت هذه الأحاديث أيضا والكلام عليها، ولله الحمد.

قلت: والظاهر أن موت النجاشي كان قبل الفتح بكثير، فإن في صحيح مسلم أنه لما كتب إلى ملوك الآفاق كتب إلى النجاشي وليس هو بالمسلم، وزعم آخرون كالواقدي أنه هو، والله أعلم.

وروى الحافظ البيهقي، من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن موسى بن عقبة، عن أبيه، عن أم كلثوم قالت: لما تزوج النبي أم سلمة قال: «قد أهديت إلى النجاشي أواق من مسك وحلة، وإني لأراه قد مات، ولا أرى الهدية إلا سترد علي، فإن ردت علي - أظنه قال - قسمتها بينكن، أو فهي لك».

قال: فكان كما قال رسول الله ، مات النجاشي وردت الهدية، فلما ردت عليه أعطى امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك، وأعطى سائره أم سلمة، وأعطاها الحلة، والله أعلم.

غزوة الفتح الأعظم وكانت في رمضان سنة ثمان

وقد ذكرها الله تعالى في القرآن في غير موضع، فقال تعالى: { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } الآية. 59

وقال تعالى: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابا } 60.

وكان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكره محمد بن إسحاق: حدثني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم أنهما حدثاه جميعا قالا: كان في صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فتواثبت خزاعة وقالوا:

نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر وقالوا: نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم، فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر شهرا.

ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلا بماء يقال له الوتير، وهو قريب من مكة.

وقالت قريش: ما يعلم بنا محمد وهذا الليل، وما يرانا من أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح، وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله ، وأن عمرو بن سالم ركب عند ما كان من أمر خزاعة وبني بكر بالوتير، حتى قدم على رسول الله يخبر الخبر.

وقد قال أبيات شعر، فلما قدم على رسول الله أنشدها إياه:

يا رب إني ناشد محمدا * حلف أبيه وأبينا الأتلدا

قد كنتموا ولدا وكنا والدا * ثمت أسلمنا فلم ينزع يدا

فانصر رسول الله نصرا أبدا * وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفا وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا * إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا * وجعلوا لي في كداء رصدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا * فهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هجدا * وقتلونا ركعا وسجدا

فقال رسول الله : «نصرت يا عمرو بن سالم» فما برح حتى مرت بنا عنانة في السماء فقال رسول الله : «إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب».

وأمر رسول الله الناس بالجهاز وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.

قال ابن إسحاق: وكان السبب الذي هاجهم أن رجلا من بني الحضرمي اسمه مالك بن عباد، من حلفاء الأسود بن رزن خرج تاجرا، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن الدئلي، وهم مفخر بني كنانة وأشرافهم، سلمى وكلثوم وذؤيب فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم.

قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من الدئل قال: كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودي دية دية، لفضلهم فينا.

قال ابن إسحاق: فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك، إذ حجز بينهم الإسلام، فلما كان يوم الحديبية ودخل بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله ، وكانت الهدنة، اغتنمها بنو الدئل من بني بكر وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة ثأرا من أولئك النفر.

فخرج نوفل بن معاوية الدئلي في قومه وهو يومئذ سيدهم وقائدهم، وليس كل بني بكر تابعه، فبيت خزاعة وهم على الوتير ماء لهم، فأصابوا رجلا منهم وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا حتى حاوزوا خزاعة إلى الحرم.

فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: أنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال: كلمة عظيمة لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري أنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم؟ ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء بمكة، وإلى دار مولى لهم يقال له رافع، وقد قال الأخزر بن لعط الدئلي في ذلك:

ألا هل أتى قصوى الأحابيش أننا * رددنا بني كعب بأفوق ناصل

حبسناهم في دارة العبد رافع * وعند بديل محبسا غير طائل

بدار الذليل الأخذ الضيم بعد ما * شفينا النفوس منهم بالمناصل

حبسناهم حتى إذا طال يومهم * نفخنا لهم من كل شعب بوابل

نذبحهم ذبح التيوس كأننا * أسود نباري فيهم بالقواصل

هم ظلمونا واعتدوا في مسيرهم * وكانوا لدى الأنصاب أول قاتل

كأنهم بالجزع إذ يطردونهم * قفا ثور حفان النعام الجوافل

قال: فأجابه بديل بن عبد مناة بن سلمة بن عمرو بن الأجب وكان يقال له بديل بن أم أصرم فقال:

تعاقد قوم يفخرون ولم ندع * لهم سيدا يندوهم غير نافل

أمن خيفة القوم الأولى تزدريهم * تجيز الوتير خائفا غير آيل

وفي كل يوم نحن نحبوا حبائنا * لعقل ولا يحبى لنا في المعاقل

ونحن صبحنا بالتلاعة داركم * بأسيافنا يسبقن لوم العواذل

ونحن منعنا بين بيض وعتود * إلى خيف رضوى من مجر القبائل

ويوم الغميم قد تكفت ساعيا * عبيس فجعناه بجلد حلاحل

أإن أجمرت في بيتها أم بعضكم * بجعموسها تنزون إن لم نقاتل

كذبتم وبيت الله ما إن قتلتموا * ولكن تركنا أمركم في بلابل

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي سلمة أن رسول الله قال: «كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشد في العقد ويزيد في المدة».

قال ابن إسحاق: ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله فأخبروه بما أصيب منهم، ومظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله يشد في العقد، ويزيد في المدة، وقد رهبوا للذي صنعوا.

فلما لقي أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله .

فقال: سرت إلى خزاعة في هذا الساحل، في بطن هذا الوادي.

قال: فعمد أبو سفيان إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها، ففته فرأى فيه النوى فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا، ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته.

فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني؟

فقالت: هو فراش رسول الله ، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه.

فقال: يا بنية، والله لقد أصابك بعدي شر، ثم خرج حتى أتى رسول الله فكلمه، فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال عمر: أنا أشفع لكم إلى رسول الله ؟ فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به.

ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله ، وعندها حسن غلام يدب بين يديهما، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا فاشفع لي إلى رسول الله !

فقال: ويحك أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟

فقالت: والله ما بلغ ببني ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على النبي .

فقال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت على فانصحني؟

قال: والله ما أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك.

فقال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟

قال: لا والله ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك.

فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق، فلما أن قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟

قال: جئت محمدا فكلمته، فوالله ما رد علي شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة فوالله ما وجدت فيه خيرا، ثم جئت عمر فوجدته أعدى عدو، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم وقد أشار علي بأمر صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عنا شيئا أم لا؟

قالوا: بماذا أمرك؟

قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت.

قالوا: هل أجاز ذلك محمد؟

قال: لا.

قالوا: ويحك ما زادك الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنا ما قلت.

فقال: لا والله ما وجدت غير ذلك.

فائدة ذكرها السهيلي.

فتكلم على قول فاطمة في هذا الحديث؛ وما يجير أحد على رسول الله على ما جاء في الحديث، ويجير على المسلمين أدناهم قال: وجه الجمع بينهما بأن المراد بالحديث من يجير واحدا ونفرا يسيرا.

وقول فاطمة: فمن يجير عددا من غزو الإمام إياهم فليس له ذلك.

قال: كان سحنون وابن الماجشون يقولان: إن أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام لقوله لأم هانئ: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ».

قال: ويروى هذا عن عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد.

وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد، وفي قوله عليه السلام: «ويجير عليهم أدناهم» ما يقتضي دخول العبد والمرأة، والله أعلم.

وقد روى البيهقي: من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قالت بنو كعب:

اللهم إني ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الأتلدا

فانصر هداك الله نصرا عتدا * وادعُ عباد الله يأتوا مددا

وقال موسى بن عقبة في فتح مكة: ثم إن بني نفاثة من بني الدئل أغاروا على بني كعب، وهم في المدة التي بين رسول الله وبين قريش.

وكانت بنو كعب في صلح رسول الله .

وكانت بنو نفاثة في صلح قريش، فأعانت بنو بكر بني نفاثة، وأعانتهم قريش بالسلاح والرقيق، واعتزلتهم بنو مدلج، ووفوا بالعهد الذي كانوا عاهدوا عليه رسول الله .

وفي بني الدئل رجلان هما سيداهم؛ سلمى بن الأسود، وكلثوم بن الأسود، ويذكرون أن ممن أعانهم صفوان بن أمية، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو، فأغارت بنو الدئل على بني عمرو وعامتهم - زعموا نساء وصبيان وضعفاء الرجال - فألجؤهم وقتلوهم حتى أدخلوهم إلى دار بُديل بن ورقاء بمكة.

فخرج ركب من بني كعب حتى أتوا رسول الله ، فذكروا له الذي أصابهم وما كان من أمر قريش عليهم في ذلك، فقال لهم رسول الله : «ارجعوا فتفرقوا في البلدان».

وخرج أبو سفيان من مكة إلى رسول الله ، وتخوف الذي كان، فقال: يا محمد اشدد العقد وزدنا في المدة، فقال رسول الله : «ولذلك قدمت، هل كان من حدث قبلكم؟».

فقال: معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل.

فخرج من عند رسول الله ، وأتى أبا بكر فقال: جدد العقد وزدنا في المدة؟

فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله ، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم.

ثم خرج فأتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال عمر بن الخطاب: ما كان من حلفنا جديد فأخلقه الله، وما كان منه مثبتا قطعه الله، وما كان منه مقطوعا فلا وصله الله.

فقال له أبو سفيان: جزيت من ذي رحم شرا.

ثم دخل على عثمان فكلمه فقال عثمان: جواري في جوار رسول الله .

ثم أتبع أشراف قريش يكلمهم، فكلهم يقول: عقدنا في عقد رسول الله ، فلما يئس مما عندهم دخل على فاطمة بنت رسول الله فكلمها، فقالت: إنما أنا امرأة، وإنما ذلك إلى رسول الله.

فقال لها: فأمري أحد ابنيك.

فقالت: إنها صبيان ليس مثلهما يجير.

قال: فكلمي عليا.

فقالت: أنت فكلمه، فكلم عليا.

فقال له: يا أبا سفيان إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله يفتات على رسول الله بجوار، وأنت سيد قريش وأكبرها وأمنعها، فأجر بين عشيرتك.

قال: صدقت وأنا كذلك.

فخرج فصاح: إلا إني قد أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد.

ثم دخل على النبي فقال: يا محمد إني قد أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد، ولا يرد جواري؟

فقال: «أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة؟».

فخرج أبو سفيان على ذلك فزعموا - والله أعلم - أن رسول الله قال حين أدبر أبو سفيان: «اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعوا بنا إلا فجأة».

وقدم أبو سفيان مكة فقالت له قريش: ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد أو عهد؟

قال: لا والله، لقد أبى علي وقد تتبعت أصحابه فما رأيت قوما لملك عليهم أطوع منهم له، غير أن علي بن أبي طالب قد قال لي: التمس جوار الناس عليك، ولا تجير أنت عليه وعلى قومك، وأنت سيد قريش وأكبرها وأحقها أن تخفر جواره، فقمت بالجوار، ثم دخلت على محمد فذكرت له أني قد أجرت بين الناس، وقلت: ما أظن أن تخفرني؟

فقال: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة؟

فقالوا - مجيبين له -: رضيت بغير رضى، وجئتنا بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا، وإنما لعب بك علي، لعمر الله ما جوارك بجائز، وإن إخفارك عليهم لهين.

ثم دخل على امرأته فحدثها الحديث، فقالت: قبحك الله من وافد قوم فما جئت بخير.

قال: ورأى رسول الله سحابا فقال: «إن هذه السحاب لتبض بنصر بني كعب».

فمكث رسول الله ما شاء الله أن يمكث بعد ما خرج من عنده أبو سفيان، ثم أخذ في الجهاز، وأمر عائشة أن تجهزه وتخفي ذلك.

ثم خرج رسول الله إلى المسجد أو إلى بعض حاجاته، فدخل أبو بكر على عائشة، فوجد عندها حنطة تنسف وتنقي، فقال لها: يا بنية لم تصنعين هذا الطعام؟ فسكتت.

فقال: أيريد رسول الله أن يغزو؟ فصمتت.

فقال: يريد بني الأصفر - وهم الروم - فذكر من ذلك أمرا فيه منهم بعض المكروه في ذلك الزمان، فصمتت.

قال: فلعله يريد أهل نجد فذكر منهم نحوا من ذلك، فصمتت.

قال: فلعله يريد قريشا، فصمتت.

قال: فدخل رسول الله ، فقال له: يا رسول الله أتريد أن تخرج مخرجا؟

قال: «نعم».

قال: فلعلك تريد بني الأصفر؟

قال: «لا».

قال: أتريد أهل نجد؟

قال: «لا».

قال: فلعلك تريد قريشا؟

قال: «نعم».

قال أبو بكر: يا رسول الله أليس بينك وبينهم مدة؟

قال: «ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعب؟».

قال: وأذن رسول الله في الناس بالغزو، وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، وأطلع الله رسوله على الكتاب، وذكر القصة كما سيأتي.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر، عن عروة، عن عائشة، أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تغربل حنطة، فقال: ما هذا؟ أمركم رسول الله بالجهاز؟

قالت: نعم، فتجهر.

قال: وإلى أين؟

قالت: ما سمى لنا شيئا، غير أنه قد أمرنا بالجهاز.

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمر بالجد والتهيؤ، وقال: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها».

فتجهز الناس، فقال حسان بن ثابت يحرض الناس، ويذكر مصاب خزاعة:

عناني ولم أشهد ببطحاء مكة * رجال بني كعب تحزُ رقابها

بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم * وقتلى كثير لم تجن ثيابها

ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي * سهيل بن عمرو حرها وعقابها

وصفوان عودا حزمن شفر أسته * فهذا أوان الحرب شد عصابها

فلا تأمننا يا ابن أم مجالد * إذا احتلبت صرفا وأعصل نابها

ولا تجزعوا منها فإن سيوفنا * لها وقعة بالموت يفتح بابها

قصة حاطب بن أبي بلتعة

قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قالوا: لما أجمع رسول الله المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله من الأمر في السير إليهم.

ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره أنها سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به.

وأتى رسول الله الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فقال: «أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم».

فخرجا حتى أدركاها بالحليفة، حليفة بني أبي أحمد فاستنزلاها، فالتمساه في رحلها، فلم يجدا فيه شيئا.

فقال لها علي: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك.

فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه.

فأتى به رسول الله ، فدعا رسول الله حاطبا، فقال: «يا حاطب ما حملك على هذا؟».

فقال: يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت، ولكنني كنت امرءا ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم.

فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق.

فقال رسول الله : «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

وأنزل الله في حاطب: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ... } 61 إلى آخر القصة.

هكذا أورد ابن إسحاق هذه القصة مرسلة.

وقد ذكر السهيلي أنه كان في كتاب حاطب أن رسول الله قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده، لنصره الله عليكم، فإنه منجز له ما وعده.

قال: وفي تفسير ابن سلام: أن حاطبا كتب: إن محمدا قد نفر، فإما إليكم وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر.

وقد قال البخاري: ثنا قتيبة، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبرني الحسن بن محمد أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع، سمعت عليا يقول: بعثني رسول الله أنا والزبير والمقداد، فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها».

فانطلقنا تعادي بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب.

فقالت: ما معي.

فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب.

قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة، إلى ناس مكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله .

فقال: «يا حاطب ما هذا؟».

فقال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرءا ملصقا في قريش - يقول: كنت حليفا - ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام.

قال رسول الله : «أما إنه قد صدقكم».

فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق.

فقال: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

فأنزل الله سورة: { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } إلى قوله: { فقد ضل سواء السبيل } .

وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه، من حديث سفيان بن عيينة.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد: ثنا حجين ويونس، قالا: حدثنا ليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله أراد غزوهم، فدل رسول الله على المرأة التي معها الكتاب، فأرسل إليها فأخذ كتابها من رأسها، وقال: «يا حاطب أفعلت؟»

قال: نعم، قال: أما إني لم أفعله غشا لرسول الله ولا نفاقا، قد علمت أن الله مظهر رسوله ومتم له أمره، غير أني كنت غريبا بين ظهرانيهم، وكانت والدتي معهم، فأردت أن أتخذ يدا عندهم.

فقال له عمر: ألا أضرب رأس هذا؟

فقال: «أتقتل رجلا من أهل بدر، وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم».

تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه الإمام أحمد، وإسناده على شرط مسلم، ولله الحمد.

فصل استخلاف كلثوم بن حصين الغفاري على المدينة

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: ثم مضى رسول الله لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري.

وخرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام وصام الناس معه حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج، أفطر.

ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين.

وقال عروة بن الزبير: كان معه اثنا عشر ألفا.

وكذا قال الزهري، وموسى بن عقبة.

فسبعت سليم، وبعضهم يقول: ألفت سليم، وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام.

وأوعب مع رسول الله المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد.

وروى البخاري عن محمود، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري نحوه.

وقد روى البيهقي من حديث عاصم بن علي، عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أن رسول الله غزا غزوة الفتح في رمضان.

قال: وسمعت سعيد بن المسيب يقول مثل ذلك، لا أدري أخرج في ليال من شعبان فاستقبل رمضان، أو خرج في رمضان بعد ما دخل؟

غير أن عبيد الله بن عبد الله أخبرني أن ابن عباس قال: صام رسول الله حتى بلغ الكديد - الماء الذي بين قديد وعسفان - أفطر، فلم يزل يفطر حتى انصرم الشهر.

ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن الليث، غير أنه لم يذكر الترديد بين شعبان ورمضان.

وقال البخاري: ثنا علي بن عبد الله، ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس قال: سافر رسول الله في رمضان، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء فشرب نهارا ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة.

قال: وكان ابن عباس يقول: صام رسول الله في السفر وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر.

وقال يونس: عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: مضى رسول الله لسفرة الفتح، واستعمل على المدينة أبا رهم كلثوم ابن الحصين الغفاري.

وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام وصام الناس معه، حتى أتى الكديد - بين عسفان وأمج - فأفطر، ودخل مكة مفطرا، فكان الناس يرون آخر الأمرين من رسول الله الفطر، وأنه نسخ ما كان قبله.

قال البيهقي: فقوله خرج لعشر من رمضان، مدرج في الحديث.

وكذلك ذكره عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق.

ثم روي من طريق يعقوب بن سفيان، عن جابر، عن يحيى، عن صدقة، عن ابن إسحاق أنه قال: خرج رسول الله لعشر مضين من رمضان سنة ثمان.

ثم روى البيهقي من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن محمد بن أبي حفصة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان الفتح لثلاث عشر خلت من شهر رمضان.

قال البيهقي: وهذا الإدراج وهم، إنما هو من كلام الزهري.

ثم روي من طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري قال قال: غزا رسول الله غزوة الفتح - فتح مكة - فخرج من المدينة في رمضان، ومعه من المسلمين عشرة آلاف، وذلك على رأس ثماني سنين ونصف سنة من مقدمه المدينة، وافتتح مكة لثلاث عشرة بقين من رمضان.

وروى البيهقي من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أن رسول الله خرج في رمضان، ومعه عشرة آلاف من المسلمين، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر.

فقال الزهري: وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث.

قال الزهري: فصبح رسول الله مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، ثم عزاه إلى الصحيحين من طريق عبد الرزاق، والله أعلم.

وروى البيهقي من طريق سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عن عطية بن قيس، عن قظعة بن يحيى، عن أبي سعيد الخدري قال:

آذننا رسول الله بالرحيل عام الفتح ليلتين خلتا من رمضان، فخرجنا صواما حتى بلغنا الكديد، فأمرنا رسول الله بالفطر، فأصبح الناس مرحى، منهم الصائم ومنهم المفطر، حتى إذا بلغنا المنزل الذي نلقى العدو فيه، أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعين.

وقد رواه الإمام أحمد عن أبي المغيرة، عن سعيد بن عبد العزيز، حدثني عطية بن قيس، عمن حدثه عن أبي سعيد الخدري قال: آذننا رسول الله بالرحيل عام الفتح لليلتين خلتا من رمضان، فخرجنا صواما حتى بلغنا الكديد، فأمرنا رسول الله بالفطر، فأصبح الناس منهم الصائم ومنهم المفطر، حتى إذا بلغ أدنى منزل يلقى العدو أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعون.

قلت: فعلى ما ذكره الزهري من أن الفتح كان يوم الثالث عشر من رمضان، وما ذكره أبو سعيد من أنهم خرجوا من المدينة في ثاني شهر رمضان، يقتضي أن مسيرهم كان بين مكة والمدينة في إحدى عشرة ليلة.

ولكن روى البيهقي، عن أبي الحسين بن الفضل، عن عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن سفيان، عن الحسن بن الربيع، عن ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري ومحمد بن علي بن الحسين، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعمرو بن شعيب، وعبد الله بن أبي بكر وغيرهم قالوا: كان فتح مكة في عشر بقيت من شهر رمضان سنة ثمان.

قال أبو داود الطيالسي: ثنا وهيب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، عن عبد الله قال: خرج رسول الله عام الفتح صائما، حتى أتى كراع الغميم، والناس معه مشاة وركبانا، وذلك في شهر رمضان فقيل: يا رسول الله إن الناس قد اشتد عليهم الصوم، وإنما ينظرون كيف فعلت؟

فدعا رسول الله بقدح فيه ماء، فرفعه فشرب والناس ينظرون، فصام بعض الناس، وأفطر البعض حتى أخبر النبي أن بعضهم صائم، فقال رسول الله : «أولئك العصاة».

وقد رواه مسلم من حديث الثقفي، والدراوردي، عن جعفر بن محمد.

وروى الإمام أحمد من حديث محمد بن إسحاق: حدثني بشير بن يسار، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله عام الفتح في رمضان، فصام وصام المسلمون معه، حتى إذا كان بالكديد، دعا بماء في قعب وهو على راحلته فشرب والناس ينظرون، يعلمهم أنه قد أفطر، فأفطر المسلمون.

تفرد به أحمد.

فصل إسلام العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم

في إسلام العباس بن عبد المطلب، عم النبي ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي أخي أم سلمة أم المؤمنين، وهجرتهم إلى رسول الله ، فوجدوه في أثناء الطريق وهو ذاهب إلى فتح مكة.

قال ابن إسحاق: وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله ببعض الطريق.

قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجرا بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله عنه راض، فيما ذكره ابن شهاب الزهري.

قال ابن إسحاق: وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية، قد لقيا رسول الله أيضا بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة، والتمسا الدخول عليه.

فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله إن ابن عمك، وابن عمتك، وصهرك.

قال: «لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال».

قال: فلما خرج إليهما الخبر بذلك، ومع أبي سفيان بني له فقال: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض، ثم نموت عطشا وجوعا.

فلما بلغ ذلك النبي رق لهما، ثم أذن لهما، فدخلا عليه فأسلما، وأنشد أبو سفيان قوله في إسلامه، واعتذر إليه مما كان مضى منه:

لعمرك أني يوم أحمل رايةً * لتغلب خيل اللات خيل محمد

لكالمدلج الحيران أظلم ليله * فهذا أواني حين أُهدى وأهتدي

هدى بي هاد غير نفسي ونالني * مع الله من طردت كل مطرد

أصد وأنأى جاهدا عن محمد * وأدعى وإن لم أنتسب من محمد

هموا ما هموا من لم يقل بهواهم * وإن كان ذا رأي يلم ويفند

أريد لأرضيهم ولست بلائط * مع القوم ما لم أهد في كل مقعد

فقل لثقيف لا أريد قتالها * وقل لثقيف تلك عيري أوعدي

فما كنت في الجيش الذي نال عامر * وما كان عن جري لساني ولا يدي

قبائل جاءت من بلاد بعيدة * نزائع جاءت من سهام وسردد

قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين أنشد رسول الله : ونالني مع الله من طردت كل مطرد، ضرب رسول الله بيده في صدره وقال: «أنت طردتني كل مطرد».

فصل نزول النبي عليه السلام إلى مر الظهران

ولما انتهى رسول الله إلى مر الظهران نزل فيه فأقام، كما روى البخاري: عن يحيى بن بكير، عن الليث، ومسلم عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، كلاهما عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر قال:

كنا مع رسول الله بمر الظهران نجتني الكباث، وإن رسول الله قال: «عليكم بالأسود منه فإنه أطيب».

قالوا: يا رسول الله أكنت ترعى الغنم؟

قال: «نعم وهل من نبي إلا وقد رعاها».

وقال البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن سنان بن إسماعيل، عن أبي الوليد سعيد بن مينا قال: لما فرغ أهل مكة ورجعوا، أمرهم رسول الله بالمسير إلى مكة، فلما انتهى إلى مر الظهران نزل بالعقبة، فأرسل الجناة يجتنون الكباث، فقلت لسعيد: وما هو؟

قال: ثمر الآراك.

قال: فانطلق ابن مسعود فيمن يجتني، قال: فجعل أحدهم إذا أصاب حبة طيبة قذفها في فيه، وكانوا ينظرون إلى دقة ساقي ابن مسعود وهو يرقى في الشجرة فيضحكون، فقال رسول الله : «تعجبون من دقة ساقيه فوالذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد».

وكان ابن مسعود ما اجتنى من شيء جاء به وخياره إلى رسول الله ، فقال في ذلك:

هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه

وفي الصحيحين عن أنس قال: أنفجنا أرنبا ونحن بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا فأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله بوركها وفخذيها فقبله.

وقال ابن إسحاق: ونزل رسول الله مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله ، ولا يدرون ما رسول الله فاعل.

وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به.

وذكره ابن لهيعة: عن أبي الأسود، عن عروة أن رسول الله بعث بين يديه عيونا خيلا يقتصون العيون، وخزاعة لا تدع أحدا يمضي وراءها، فلما جاء أبو سفيان وأصحابه أخذتهم خيل المسلمين، وقام إليه عمر يجأ في عنقه، حتى أجاره العباس بن عبد المطلب، وكان صاحبا لأبي سفيان.

قال ابن إسحاق: وقال العباس حين نزل رسول الله مر الظهران قلت: واصباح قريش! والله لئن دخل رسول الله مكة عنوة قبل أن يأتوه، فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.

قال: فجلست على بغلة رسول الله البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الآراك فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله يخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخل عليهم عنوة.

قال: فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبي سفيان، وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط، ولا عسكرا.

قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب.

قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة؟

فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟

قال: قلت: نعم.

قال: مالك فدى لك أبي وأمي؟

قال: قلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله في الناس.

فقال: واصباح قريش والله، فما الحيلة فداك أبي وأمي؟

قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك.

قال: فركب خلفي ورجع صاحباه.

وقال عروة: بل ذهبا إلى النبي فأسلما، وجعل يستخبرهما عن أهل مكة.

وقال الزهري وموسى بن عقبة: بل دخلوا مع العباس على رسول الله .

قال ابن إسحاق: قال فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟

فإذا رأوا بغلة رسول الله وأنا عليها قالوا: عم رسول الله على بغلة رسول الله ، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلي.

فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد؟

وزعم عروة بن الزبير أن عمر وجأ في رقبة أبي سفيان، وأراد قتله فمنعه منه العباس.

وهكذا ذكر موسى بن عقبة، عن الزهري: أن عيون رسول الله أخذوهم بأزمة جمالهم، فقالوا: من أنتم؟

قالوا: وفد رسول الله ، فلقيهم العباس فدخل بهم على رسول الله فحادثهم عامة الليل، ثم دعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فشهدوا، وأن محمدا رسول الله فشهد حكيم وبديل.

وقال أبو سفيان: ما أعلم ذلك، ثم أسلم بعد الصبح، ثم سألوه أن يؤمن قريشا فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن - وكانت بأعلى مكة - ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن - وكانت بأسفل مكة - ومن أغلق بابه فهو آمن»

قال العباس: ثم خرج عمر يشتد نحو رسول الله ، وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء.

قال: فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله ، ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه.

قال: قلت: يا رسول إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل، فلما أكثر عمر في شأنه قال: قلت: مهلا يا عمر فوالله أن لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف.

فقال: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم.

فقال رسول الله: «اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به».

قال: فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟

فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك، أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا.

فقال له العباس: ويحك أسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك.

قال: فشهد شهادة الحق فأسلم.

قال العباس: فقلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئا؟

قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» زاد عروة: «ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن».

وهكذا قال موسى بن عقبة، عن الزهري: «ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن».

فلما ذهب لينصرف قال رسول الله : «يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها».

وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري: أن أبا سفيان وبديلا وحكيم بن حزام، كانوا وقوفا مع العباس عند خطم الجبل، وذكر أن سعدا لما قال لأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فشكى أبو سفيان إلى رسول الله فعزله عن راية الأنصار، وأعطاها الزبير بن العوام.

فدخل بها من أعلى مكة، وغرزها بالحجون، ودخل خالد من أسفل مكة فلقيه بنو بكر وهذيل، فقتل من بني بكر عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا فقتلوا بالحزورة، حتى بلغ قتلهم باب المسجد.

قال العباس: فخرجت بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله أن أحبسه.

قال: ومرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هؤلاء؟

فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟

فأقول: مزينة فيقول مالي ولمزينة، حتى نفذت القبائل ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: مالي ولبني فلان، حتى مر رسول الله في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد.

فقال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟

قال: قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار.

قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما!

قال: قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة.

قال: فنعم إذن.

قال: قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم.

فقال أبو سفيان: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟

قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.

وذكر عروة بن الزبير: أن رسول الله لما مر بأبي سفيان قال له: إني لأرى وجوها كثيرة لا أعرفها، لقد كثرت هذه الوجوه علي.

فقال له رسول الله: «أنت فعلت هذا وقومك، إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني، ونصروني إذ أخرجتموني».

ثم شكى إليه قول سعد بن عبادة حين مر عليه فقال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة.

فقال رسول الله: كذب سعد بل هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة.

وذكر عروة: أن أبا سفيان لما أصبح صبيحة تلك الليلة التي كان عند العباس، ورأى الناس يجنحون للصلاة، وينتشرون في استعمال الطهارة خاف، وقال للعباس: ما بالهم؟

قال: إنهم سمعوا النداء فهم ينتشرون للصلاة، فلما حضرت الصلاة، ورآهم يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده.

قال: يا عباس ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه.

قال: نعم، والله لو أمرهم بترك الطعام والشراب لأطاعوه.

وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري: أنه لما توضأ رسول الله جعلوا يتكففون، فقال: يا عباس ما رأيت كالليلة ولا ملك كسرى وقيصر.

وقد روى الحافظ البيهقي: عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أحمد بن الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر هذه القصة بتمامها كما أوردها زياد البكائي، عن ابن إسحاق منقطعة، فالله أعلم.

على أنه قد روى البيهقي: من طريق أبي بلال الأشعري، عن زياد البكائي، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس قال: جاء العباس بأبي سفيان إلى رسول الله قال: فذكر القصة، إلا أنه ذكر أنه أسلم ليلته قبل أن يصبح بين يدي رسول الله ، وأنه لما قال له رسول الله : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

قال أبو سفيان: وما تسع داري؟

فقال: «ومن دخل الكعبة فهو آمن».

قال: وما تسع الكعبة؟

فقال: «ومن دخل المسجد فهو آمن».

قال: وما تسع المسجد؟

فقال: «ومن أغلق عليه بابه فهو آمن».

فقال أبو سفيان: هذه واسعة.

وقال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه قال: لما سار رسول الله عام الفتح فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله ، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة.

فقال أبو سفيان: ما هذه كأنها نيران عرفة؟

فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو.

فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم، فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله ، فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس: «احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين».

فحبسه العباس فجعلت القبائل تمر مع رسول الله تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، فمرت كتيبة فقال: يا عباس من هذه؟

قال: هذه غفار.

قال: مالي ولغفار؟

ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم فقال مثل ذلك، ومرت سليم فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها فقال: من هذه؟

قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية.

فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة.

فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار، ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله وأصحابه، وراية رسول الله مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟

فقال: «ما قال؟».

قال: كذا وكذا.

فقال: «كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة».

وأمر رسول الله أن تركز رايته بالحجون.

قال عروة: أخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: ها هنا أمر رسول الله أن تركز الراية؟

قال: نعم.

قال: وأمر رسول الله خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء، ودخل رسول الله من كدى فقتل من خيل خالد بن الوليد يومئذ رجلان: حنيش بن الأشعر، وكرز بن جابر الفهري.

وقال أبو داود: ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن آدم، ثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس: أن رسول الله عام الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان بن حرب فأسلم بمر الظهران.

فقال له العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فلو جعلت له شيئا.

قال: «نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن».

صفة دخوله صلى الله عليه وسلم مكة

ثبت في الصحيحين من حديث مالك، عن الزهري، عن أنس: أن رسول الله دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة.

فقال: «اقتلوه».

قال مالك: ولم يكن رسول الله فيما نرى - والله أعلم - محرما.

وقال أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد، أنبا أبو الزبير عن جابر أن رسول الله دخل يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء.

ورواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن سلمة، وقال الترمذي: حسن صحيح.

ورواه مسلم: عن قتيبة، ويحيى بن يحيى، عن معاوية بن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله دخل مكة وعليه عمامة سوداء من غير إحرام.

وروى مسلم من حديث أبي أسامة، عن مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه قال: كأني أنظر إلى رسول الله يوم فتح مكة، وعليه عمامة حرقانية سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه.

وروى مسلم في صحيحه، والترمذي، والنسائي من حديث عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله دخل مكة وعليه عمامة سوداء.

وروى أهل السنن الأربعة: من حديث يحيى بن آدم، عن شريك القاضي، عن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كان لواء رسول الله يوم دخل مكة أبيض.

وقال ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عائشة: كان لواء رسول الله يوم الفتح أبيض، ورايته سوداء تسمى العقاب، وكانت قطعة من مرط مرجل.

وقال البخاري: ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن عبد الله بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: رأيت رسول الله يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يرجّع، وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجّع.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، وأن رسول الله ليضع رأسه تواضعا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.

وقال الحافظ البيهقي: أنبا أبو عبد الله الحافظ، أنبا دعلج بن أحمد، ثنا أحمد بن علي الأبار، ثنا عبد الله بن أبي بكر المقدسي، ثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس قال: دخل رسول الله مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعا.

وقال: أنبا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا أحمد بن محمد بن صاعد، ثنا إسماعيل بن أبي الحارث، ثنا جعفر بن عون، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن ابن مسعود: أن رجلا كلم رسول الله يوم الفتح فأخذته الرعدة.

فقال النبي : «هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد».

قال: وهكذا رواه محمد بن سليمان بن فارس، وأحمد بن يحيى بن زهير، عن إسماعيل بن أبي الحارث موصولا.

ثم رواه عن أبي زكريا المزكي، عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب، عن محمد بن عبد الوهاب، عن جعفر بن عون، عن إسماعيل، عن قيس مرسلا.

وهو المحفوظ، وهذا التواضع في هذا الموطن عند دخوله مكة في مثل هذا الجيش الكثيف العرمرم بخلاف ما اعتمده سفهاء بني إسرائيل، حين أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس وهم سجود - أي ركع - يقولون حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعرة.

وقال البخاري: ثنا القاسم بن خارجة، ثنا حفص بن ميسرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن عائشة أخبرته: أن رسول الله دخل عام الفتح من كداء التي بأعلى مكة، تابعه أبو أسامة ووهب في كداء.

حدثنا عبيد بن إسماعيل، ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه: دخل رسول الله عام الفتح من أعلى مكة من كداء، وهو أصح إن أراد أن المرسل أصح من المسند المتقدم انتظم الكلام، وإلا فكداء بالمد هي المذكورة في الروايتين، وهي في أعلى مكة، وكُدَى مقصور في أسفل مكة، وهذا هو المشهور والأنسب.

وقد تقدم أنه عليه السلام بعث خالد بن الوليد من أعلى مكة، ودخل هو عليه السلام من أسفلها من كدى، وهو في صحيح البخاري والله أعلم.

وقد قال البيهقي: أنبا أبو الحسين بن عبدان، أنبا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبد الله بن إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا معن، ثنا عبد الله بن عمر بن حفص، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما دخل رسول الله عام الفتح وأتى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر وقال: «يا أبا بكر كيف قال حسان؟».

فأنشده أبو بكر رضي الله عنه:

عدمت بنيتي إن لم تروها * تثير النقع من كنفي كداء

ينازعن الأعنة مسرجات * يلطمهن بالخمر النساء

فقال رسول الله : «ادخلوها من حيث قال حسان».

وقال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: لما وقف رسول الله بذي طوى، قال أبو قحافة لابنة له من أصغر ولده: أي بنية اظهري بي على أبي قبيس.

قالت: وقد كف بصره، قالت: فأشرفت به عليه.

فقال: أي بنية ماذا ترين؟

قالت: أرى سوادا مجتمعا.

قال: تلك الخيل.

قالت: وأرى رجلا يسعى بين يدي ذلك السواد مقبلا ومدبرا.

قال: أي بنية ذلك الوزاع - يعني الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها -

ثم قالت: قد والله انتشر السواد.

فقال: قد والله إذن دفعت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل بيته.

قالت: وفي عنق الجارية طوق من ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها.

قالت: فلما دخل رسول الله مكة ودخل المسجد، أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله قال: «هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟».

قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال: «أسلم فأسلم».

قالت: ودخل به أبو بكر وكان رأسه كالثغامة بياضا فقال رسول الله : «غيروا هذا من شعره»

ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته وقال: أنشد الله والإسلام طوق أختي، فلم يجبه أحد.

قالت: فقال: أي أخية احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل. يعني به الصديق ذلك اليوم على التعيين لأن الجيش فيه كثرة، ولا يكاد أحد يلوي على أحد مع انتشار الناس، ولعل الذي أخذه تأول أنه من حربي، والله أعلم.

وقال الحافظ البيهقي: أنبا أبو عبد الله الحافظ، أنبا أبو العباس الأصم، أنبا بحر بن نصر، أنبا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر: أن عمر بن الخطاب أخذ بيد أبي قحافة فأتى به النبي ، فلما وقف به على رسول الله قال: «غيروه ولا تقربوه سوادا».

قال ابن وهب: وأخبرني عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم أن رسول الله هنأ أبا بكر بإسلام أبيه.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبى نجيح: أن رسول الله حين فرق جيشه من ذي طوى أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كداء، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدى.

قال ابن إسحاق: فزعم بعض أهل العلم أن سعدا حين وجه داخلا قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة. فسمعها رجل من المهاجرين.

قال ابن هشام: يقال إنه عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله أتسمع ما يقول سعد بن عبادة؟ ما نأمن أن يكون له في قريش صولة.

فقال رسول الله لعلي: «أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها».

قلت: وذكر غير محمد بن إسحاق أن رسول الله لما شكى إليه أبو سفيان قول سعد بن عبادة حين مر به، وقال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة - يعني الكعبة - فقال النبي : «بل هذا يوم تعظم فيه الكعبة» وأمر بالراية - راية الأنصار - أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له، ويقال إنها دفعت إلى ابنه قيس بن سعد.

وقال موسى بن عقبة، عن الزهري: دفعها إلى الزبير بن العوام، فالله أعلم.

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة يعقوب بن إسحاق بن دينار، ثنا عبد الله بن السري الأنطاكي، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، وحدثني موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: دفع رسول الله الراية يوم فتح مكة إلى سعد بن عبادة فجعل يهزها ويقول: اليوم يوم الملحمة، يوم تستحل الحرمة.

قال: فشق ذلك على قريش وكبر في نفوسهم، قال: فعارضت امرأة رسول الله في مسيره وأنشأت تقول:

يا نبي الهدى إليك لجاحي * قريش ولات حين لجاء

حين ضاقت عليهم سعة الأر * ض وعاداهم إله السماء

والتقت حلقتا البطان على القو * م ونودوا بالصليم الصلعاء

إن سعدا يريد قاصمة الطهر * ر بأهل الحجون والبطحاء

خزرجي لو يستطيع من الغي * ظ رمانا بالنشر والعواء

فانهينه فإنه الأسد الأس * ود والليث والغ في الدماء

فلئن أقحم اللواء ونادى * يا حماة اللواء أهل اللواء

لنكوننَّ بالبطاح قريش * بقعة القاع في أكف الإماء

إنه مصلت يريد لها الرأ * ي صموت كالحية الصماء

قال: فلما سمع رسول الله هذا الشعر دخله رحمة لهم ورأفة بهم، وأمر بالراية فأخذت من سعد بن عبادة ودفعت إلى ابنه قيس بن سعد.

قال: فيروى أنه عليه الصلاة والسلام أحب أن لا يخيبها إذ رغبت إليه واستغاثت به، وأحب أن لا يغضب سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه.

قال ابن إسحاق: وذكر ابن أبي نجيح في حديثه: أن رسول الله أمر خالد بن الوليد فدخل من الليط أسفل مكة في بعض الناس، وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم وسُليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب.

وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله ، ودخل رسول الله من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة، فضربت له هنالك قبته.

وروى البخاري: من حديث الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله أين تنزل غدا؟

فقال: «وهل ترك لنا عُقيل من رباع» ثم قال: «لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر».

ثم قال البخاري: ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب، ثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي قال: «منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر».

وقال الإمام أحمد: ثنا يونس، ثنا إبراهيم - يعني ابن سعد - عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر».

ورواه البخاري، من حديث إبراهيم بن سعد به نحوه.

وقال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، وعبد الله بن أبي بكر: أن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا، وكان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحا قبل قدوم رسول الله ويصلح منه.

فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟

قال: لمحمد وأصحابه.

فقالت: والله ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء.

قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال:

إن يقبلوا اليوم فمالي عله * هذا سلاح كامل والَّه

وذو غرارين سريع السله

قال: ثم شهد الخندمة مع صفوان وعكرمة وسهيل، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهر، وحنيش بن خالد بن ربيعة بن أصرم حليف بني منقذ، وكانا في جيش خالد، فشذا عنه فسلكا غير طريقه فقتلا جميعا.

وكان قتل كرز قبل حنيش، قالا: وقتل من خيل خالد أيضا سلمة بن الميلاء الجهني، وأصيب من المشركين قريب من اثني عشر أو ثلاثة عشر، ثم انهزموا فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته ثم قال لامرأته: أغلقي علي بابي.

قالت: فأين ما كنت تقول؟

فقال:

إنك لو شهدت يوم الخندمة * إذ فر صفوان وفر عكرمة

وأبو يزيد قائم كالمؤتمة * واستقبلتهم بالسيوف المسلمة

يقطعن كل ساعد وجمجمه * ضربا فلا يسمع إلا غمغمه

لهم نهيت خلفنا وهمهمه * لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

قال ابن هشام: وتروى هذه الأبيات للرعاش الهذلي.

قال: وكان شعار المهاجرين يوم الفتح وحنين والطائف: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله.

وقال الطبراني: ثنا علي بن سعيد الرازي، ثنا أبو حسان الزيادي، ثنا شعيب بن صفوان، عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس، عن رسول الله قال: «إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض، وصاغه يوم صاغ الشمس والقمر، وما حياله من السماء حرام، وإنه لا يحل لأحد قبلي، وإنما حل لي ساعة من نهار ثم عاد كما كان».

فقيل له: هذا خالد بن الوليد يقتل؟

فقال: «قم يا فلان فأت خالد بن الوليد فقل له فليرفع يديه من القتل» فأتاه الرجل فقال: إن النبي يقول: اقتل من قدرت عليه، فقتل سبعين إنسانا، فأتى النبي فذكر ذلك له، فأرسل إلى خالد فقال: «ألم أنهك عن القتل؟».

فقال: جاءني فلان يأمرني أن أقتل من قدرت عليه، فأرسل إليه: «ألم آمرك؟».

قال: أردت أمرا، وأراد الله أمرا فكان أمر الله فوق أمرك، وما استطعت إلا الذي كان، فسكت عنه النبي فما رد عليه شيئا.

قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله عهد إلى أمرائه أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، غير أنه أهدر دم نفر سماهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم وكتب الوحي ثم ارتد.

فلما دخل رسول الله مكة وقد أهدر دمه، فر إلى عثمان وكان أخاه من الرضاعة، فلما جاء به ليستأمن له، صمت عنه رسول الله طويلا، ثم قال: «نعم».

فلما انصرف مع عثمان قال رسول الله لمن حوله: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني قد صمت فيقتله؟».

فقالوا: يا رسول الله هلا أومأت إلينا؟

فقال: «إن النبي لا يقتل بالإشارة» وفي رواية: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين».

قال ابن هشام: وقد حسن إسلامه بعد ذلك، وولاه عمر بعض أعماله، ثم ولاه عثمان.

قلت: ومات وهو ساجد في صلاة الصبح، أو بعد انقضاء صلاتها في بيته كما سيأتي بيانه.

قال ابن إسحاق: وعبد الله بن خطل رجل من بني تيم بن غالب.

قلت: ويقال: إن اسمه عبد العزى بن خطل، ويحتمل أنه كان كذلك، ثم لما أسلم سمى عبد الله، ولما أسلم بعثه رسول الله مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى له، فغضب عليه غضبة فقتله، ثم ارتد مشركا.

وكان له قينتان فرتني وصاحبتها، فكانتا تغنيان بهجاء رسول الله والمسلمين، فلهذا أهدر دمه ودم قينتيه، فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة، اشترك في قتله أبو برزة الأسلمي، وسعيد بن حريث المخزومي، وقتلت إحدى قينتيه، واستؤمن للأخرى.

قال: والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد قصي، وكان ممن يؤذي رسول الله بمكة، ولما تحمل العباس بفاطمة وأم كلثوم ليذهب بهما إلى المدينة يلحقهما برسول الله أول الهجرة، نخس بهما الحويرث هذا الجمل الذي هما عليه فسقطتا إلى الأرض، فلما أهدر دمه قتله علي بن أبي طالب.

قال: ومقيس بن صبابة، لأنه قتل قاتل أخيه خطأ بعد ما أخذ الدية، ثم ارتد مشركا، قتله رجل من قومه يقال له: نميلة بن عبد الله.

قال: وسارة مولاة لبني عبد المطلب ولعكرمة بن أبي جهل، لأنها كانت تؤذي رسول الله وهي بمكة.

قلت: وقد تقدم عن بعضهم أنها التي تحملت الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة، وكأنها عفى عنها أو هربت، ثم أهدر دمها، والله أعلم، فهربت حتى استؤمن لها من رسول الله فأمنها، فعاشت إلى زمن عمر فأوطأها رجل فرسا فماتت.

وذكر السهيلي أن فرتني أسلمت أيضا.

قال ابن إسحاق: وأما عكرمة بن أبي جهل فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، واستأمنت له من رسول الله فأمنه، فذهبت في طلبه حتى أتت به رسول الله فأسلم.

وقال البيهقي: أنبا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمس الفقيه، أنبا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنبا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا أحمد بن المفضل، ثنا أسباط بن نصر الهمداني قال: زعم السدي عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة».

وهم: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح؛ فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله.

وأما مقيس فأدركه الناس في السوق فقتلوه.

وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم قاصف، فقال أهل السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ها هنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينج في البحر إلا الإخلاص فإنه لا ينجي في البر غيره، اللهم إن لك علي عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه، أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما، فجاء فأسلم.

وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح؛ فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على النبي فقال:

يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟».

فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك؟

فقال: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين».

ورواه أبو داود، والنسائي، من حديث أحمد بن المفضل به نحوه.

وقال البيهقي: أنبا أبو عبد الله الحافظ، أنبا أبو العباس الأصم، أنبا أبو زرعة الدمشقي، ثنا الحسن بن بشر الكوفي، ثنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: أمَّن رسول الله الناس يوم فتح مكة إلا أربعة: عبد العزى بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأم سارة.

فأما عبد العزى بن خطل فإنه قتل وهو متعلق بأستار الكعبة.

قال: ونذر رجل من الأنصار أن يقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح إذا رآه، وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، فأتى به رسول الله ليشفع له، فلما أبصر به الأنصاري اشتمل على السيف ثم أتاه، فوجده في حلقة رسول الله ، فجعل يتردد ويكره أن يقدم عليه، فبسط النبي فبايعه.

ثم قال للأنصاري: «قد انتظرتك أن توفي بنذرك».

قال: يا رسول الله هبتك أفلا أومضت إلي؟

قال: «إنه ليس للنبي أن يومض».

وأما مقيس بن صبابة فذكر قصته في قتله رجلا مسلما بعد إسلامه، ثم ارتداده بعد ذلك.

قال: وأما أم سارة فكانت مولاة لقريش، فأتت النبي فشكت إليه الحاجة فأعطاها شيئا، ثم بعث معها رجل كتاب إلى أهل مكة فذكر قصة حاطب بن أبي بلتعة.

وروى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن مقيس بن صبابة قتل أخوه هشام يوم بني المصطلق، قتله رجل من المسلمين وهو يظنه مشركا، فقدم مقيس مظهرا للإسلام ليطلب دية أخيه، فلما أخذها عدا على قاتل أخيه فقتله، ورجع إلى مكة مشركا، فلما أهدر رسول الله دمه قتل وهو بين الصفا والمروة.

وقد ذكر ابن إسحاق والبيهقي شعره حين قتل قاتل أخيه وهو قوله:

شفى النفس من قد بات بالقاع مسندا * يضرج ثوبيه دماء الأخادع

وكانت هموم النفس من قبل قتله * تلم وتنسيني وطاء المضاجع

قتلت به فهرا وغرمت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع

حللت به نذري وأدركت ثورتي * وكنت إلى الأوثان أول راجع

قلت: وقيل إن القينتين التين أهدر دمهما كانتا لمقيس بن صبابة هذا، وأن ابن عمه قتله بين الصفا والمروة.

وقال بعضهم: قتل ابن خطل الزبير بن العوام رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق: حدثني سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب، أن أم هانئ ابنة أبي طالب قالت: لما نزل رسول الله بأعلى مكة فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم.

قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة.

قال ابن إسحاق: وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت: فدخل علي أخي علي بن أبي طالب فقال: والله لأقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتي.

ثم جئت رسول الله وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف إلي فقال: «مرحبا وأهلا بأم هانئ ما جاء بك؟».

فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي.

فقال: «قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت فلا يقتلهما».

وقال البخاري: ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى قال: ما أخبرنا أحد أنه رأى النبي يصلي الضحى غير أم هانئ، فإنها ذكرت يوم فتح مكة أن النبي اغتسل في بيتها، ثم صلى ثمان ركعات.

قالت: ولم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود.

وفي صحيح مسلم من حديث الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن أبي هند، أن أبا مرة مولى عقيل حدثه أن أم هانئ بنت أبي طالب حدثته أنه لما كان عام الفتح فر إليها رجلان من بني مخزوم فأجارتهما.

قالت: فدخل عليَّ علي فقال: اقتلهما، فلما سمعته أتيت رسول الله وهو بأعلى مكة، فلما رآني رحب وقال: «ما جاء بك؟».

قلت: يا نبي الله كنت أمنت رجلين من أحمائي، فأراد علي قتلهما.

فقال رسول الله : «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ».

ثم قام رسول الله إلى غسله، فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوبا فالتحف به، ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى.

وفي رواية أنها دخلت عليه وهو يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب، فقال: «من هذه؟».

قالت: أم هانئ.

قال: «مرحبا بأم هانئ».

قالت: يا رسول الله زعم ابن أم علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلين قد أجرتهما.

فقال: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ».

قالت: ثم صلى ثماني ركعات، وذلك ضحى، فظن كثير من العلماء أن هذه كانت صلاة الضحى.

وقال آخرون: بل كانت هذه صلاة الفتح، وجاء التصريح بأنه كان يسلم من كل ركعتين، وهو يرد على السهيلي وغيره ممن يزعم أن صلاة الفتح تكون ثمانيا بتسليمة واحدة.

وقد صلى سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن في إيوان كسرى ثماني ركعات، يسلم من كل ركعتين، ولله الحمد.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعا على راحلته يستلم، الركن بمحجن في يده.

فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد.

وقال موسى بن عقبة: ثم سجد سجدتين ثم انصرف إلى زمزم، فاطلع فيها ودعا بماء فشرب منها، وتوضأ والناس يبتدرون وضوءه، والمشركون يتعجبون من ذلك ويقولون: ما رأينا ملكا قط ولا سمعنا به - يعني مثل هذا - وأخر المقام إلى مقامه اليوم، وكان ملصقا بالبيت.

قال محمد بن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال:

«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو موضوع تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب».

ثم تلا هذه الآية: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى... } الآية كلها.

ثم قال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟».

قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم.

قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

ثم جلس رسول الله في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك.

فقال رسول الله : «أين عثمان بن طلحة؟».

فدعي له فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء».

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر قال: قال رسول الله يوم فتح مكة، وهو على درج الكعبة: «الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، إلا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا فيه مائة من الإبل».

وقال مرة أخرى: «مغلظة فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية ودم ودعوى»

وقال مرة: «ومال تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت، فإنهما أمضيتهما لأهلهما على ما كانت».

وهكذا رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم بن ربيعة بن جوشن الغطفاني، عن ابن عمر به.

قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله دخل البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، ورأى إبراهيم مصورا في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: «قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ما شأن إبراهيم والأزلام { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين } » ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان، أنبا عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كان في الكعبة صور فأمر رسول الله أن يمحوها، فبل عمر ثوبا ومحاها به، فدخلها رسول الله وما فيها منها شيء.

وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: دخل رسول الله مكة يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد».

وقد رواه مسلم من حديث ابن عيينة.

وروى البيهقي عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: دخل رسول الله يوم الفتح مكة، وعلى الكعبة ثلثمائة صنم، فأخذ قضيبه فجعل يهوي به إلى الصنم، وهو يهوي حتى مر عليها كلها.

ثم يروى من طريق سويد بن سعيد، عن القاسم بن عبد الله، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله لما دخل مكة وجد بها ثلثمائة وستين صنما فأشار إلى كل صنم بعصا، وقال: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقا } 62.

فكان لا يشير إلى صنم إلا ويسقط من غير أن يمسه بعصاه، ثم قال: وهذا الإسناد وإن كان ضعيفا فالذي قبله يؤكده.

وقال حنبل بن إسحاق: أنبا أبو الربيع، عن يعقوب القمي، ثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال: لما افتتح رسول الله مكة جاءت عجوز شمطاء حبشية تخمش وجهها، وتدعو بالويل، فقال رسول الله : «تلك نائلة أيست أن تعبد ببلدكم هذا أبدا».

وقال ابن هشام: حدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أنه قال: دخل رسول الله مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول الكعبة أصنام مشدودة بالرصاص.

فجعل النبي يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول: { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } فما أشار إلى صنم في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع.

فقال تميم بن أسد الخزاعي:

وفي الأصنام معتبر وعلم * لمن يرجو الثواب أو العقابا

وفي صحيح مسلم: عن سنان بن فروخ، عن سليمان، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي هريرة في حديث فتح مكة قال: وأقبل رسول الله حتى أقبل على الحجر فاستلمه وطاف بالبيت، وأتى إلى صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، وفي يد رسول الله قوس وهو آخذ بسيتها.

فلما أتى على الصنم فجعل يطعن في عينه، ويقول: { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } .

فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه، حتى نظر إلى البيت فرفع يديه وجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو.

وقال البخاري: ثنا إسحاق بن منصور، ثنا عبد الصمد، ثنا أبي، ثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله لما قدم مكة، أبى أن يدخل البيت وفيه، الإلهة فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وفي أيديهما الأزلام فقال: «قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط».

ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت وخرج ولم يصل.

تفرد به البخاري دون مسلم.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد، ثنا همام، ثنا عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله دخل الكعبة وفيها ست سواري، فقام إلى كل سارية ودعا ولم يصل فيه.

ورواه مسلم، عن شيبان بن فروخ، عن همام بن يحيى العوذي، عن عطاء به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكيرا حدثه، عن كريب، عن ابن عباس أن رسول الله حين دخل البيت، وجد فيه صورة إبراهيم، وصورة مريم.

فقال: «أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة هذا إبراهيم مصورا، فما باله يستقسم».

وقد رواه البخاري، والنسائي، من حديث ابن وهب به.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنبا معمر، أخبرني عثمان الخزرجي، أنه سمع مقسما يحدث عن ابن عباس قال: دخل رسول الله البيت، فدعا في نواحيه ثم خرج فصلى ركعتين، تفرد به أحمد.

وقال الإمام أحمد: ثنا إسماعيل، أنبا ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى في البيت ركعتين.

قال البخاري: وقال الليث، ثنا يونس، أخبرني نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد، ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة، حتى أناخ في المسجد فأمر أن يؤتى بمفتاح الكعبة، فدخل ومعه أسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة فمكث فيه نهارا طويلا.

ثم خرج فاستبق الناس، فكان عبد الله بن عمر أول من دخل فوجد بلالا وراء الباب قائما فسأله أين صلى رسول الله ؟ فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه، قال عبد الله: ونسيت أن أسأله كم صلى من سجدة.

ورواه الإمام أحمد عن هشيم، ثنا غير واحد وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال: دخل رسول الله ومعه الفضل بن عباس، وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة، وبلال، فأمر بلالا فأجاف عليهم الباب، فمكث فيه ما شاء الله، ثم خرج.

قال ابن عمر: فكان أول من لقيت منهم بلالا، فقلت: أين صلى رسول الله ؟

قال: ها هنا بين الأسطوانتين.

قلت: وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أنه عليه السلام صلى في الكعبة تلقاء وجهة بابها من وراء ظهره، فجعل عمودين عن يمينه، وعمودا عن يساره، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، وكان بينه وبين الحائط الغربي مقدار ثلاثة أذرع.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، أنبا ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى في البيت ركعتين.

قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة.

فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا، فسمع منه ما يغيظه.

فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته.

فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا.

فخرج عليهم رسول الله فقال: «قد علمت الذي قلتم» ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك.

وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني والدي، حدثني بعض آل جبير بن مطعم، أن رسول الله لما دخل مكة أمر بلالا فعلا على الكعبة على ظهرها، فأذن عليها بالصلاة، فقال بعض بني سعيد بن العاص: لقد أكرم الله سعيدا إذ قبضه قبل أن يسمع هذا الأسود على ظهر الكعبة.

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب قال: قال: ابن أبي مليكة: أمر رسول الله بلالا فأذن يوم الفتح فوق الكعبة، فقال رجل من قريش للحارث بن هشام: ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد؟

فقال: دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.

وقال يونس بن بكير وغيره، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله أمر بلالا عام الفتح فأذن على الكعبة ليغيظ به المشركين.

وقال محمد بن سعد: عن الواقدي، عن محمد بن حرب، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، أن أبا سفيان بن حرب بعد فتح مكة كان جالسا فقال في نفسه: لو جمعت لمحمد جمعا؟ فإنه ليحدث نفسه بذلك، إذ ضرب رسول الله بين كتفيه وقال: «إذا يخزيك الله».

قال: فرفع رأسه فإذا رسول الله قائم على رأسه فقال: ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة.

قال البيهقي: وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ - إجازة - أنبا أبو حامد أحمد علي بن الحسن المقري، أنبا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن ابن عباس قال: رأى أبو سفيان رسول الله يمشي والناس يطئون عقبه، فقال بينه وبين نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال؟

فجاء رسول الله حتى ضرب بيده في صدره فقال: «إذا يخزيك الله».

فقال: أتوب إلى الله وأستغفر الله مما تفوهت به.

ثم روى البيهقي: من طريق ابن خزيمة وغيره، عن أبي حامد بن الشرقي، عن محمد بن يحيى الذهلي، ثنا محمد موسى بن أعين الجزري، ثنا أبي، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لما كان ليلة دخل الناس مكة ليلة الفتح، لم يزالوا في تكبير، وتهليل، وطواف بالبيت حتى أصبحوا.

فقال أبو سفيان لهند: أتري هذا من الله؟

قالت: نعم، هذا من الله.

قال: ثم أصبح أبو سفيان فغدا إلى رسول الله ، فقال رسول الله : «قلت لهند أتري هذا من الله؟ قالت: نعم هذا من الله».

فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد الله ورسوله، والذي يحلف به ما سمع قولي هذا أحد من الناس غير هند.

وقال البخاري: ثنا إسحاق، ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، أخبرني حسن بن مسلم، عن مجاهد أن رسول الله قال: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحلل لي إلا ساعة من الدهر، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاؤها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد».

فقال العباس بن عبد المطلب: إلا الأذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للدفن والبيوت؟

فسكت ثم قال: «إلا الأذخر فإنه حلال».

وعن ابن جريج: أخبرني عبد الكريم - هو ابن مالك الجزري - عن عكرمة، عن ابن عباس بمثل هذا، أو نحو هذا.

ورواه أبو هريرة عن النبي .

تفرد به البخاري من هذا الوجه الأول وهو مرسل، ومن هذا الوجه الثاني أيضا.

وبهذا وأمثاله استدل من ذهب إلى أن مكة فتحت عنوة، وللوقعة التي كانت في الخندمة كما تقدم.

وقد قتل فيها قريب من عشرين نفسا من المسلمين والمشركين، وهي ظاهرة في ذلك، وهو مذهب جمهور العلماء.

والمشهور عن الشافعي أنها فتحت صلحا لأنها لم تقسم، ولقوله ليلة الفتح: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الحرم فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن».

وموضع تقرير هذه المسألة في كتاب (الأحكام الكبير) إن شاء الله تعالى.

وقال البخاري: ثنا سعيد بن شرحبيل، ثنا الليث، عن المقبري، عن أبي شريح الخزاعي، أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه.

ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرا، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب».

فقيل لأبي شريح: ماذا قال لك عمرو؟

قال: قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا، ولا فارا بدم، ولا فارا بجزية.

وروى البخاري أيضا ومسلم، عن قتيبة، عن الليث بن سعد به نحوه.

وذكر ابن إسحاق أن رجلا يقال له ابن الأثوغ قتل رجلا في الجاهلية من خزاعة يقال له أحمر بأسا، فلما كان يوم الفتح قتلت خزاعة ابن الأثوغ وهو بمكة، قتله خراش بن أمية، فقال رسول الله : «يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم رجلا لأدينه».

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، عن سعيد بن المسيب قال: لما بلغ رسول الله ما صنع خراش بن أمية قال: «إن خراشا لقتَّال».

وقال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي قال: لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير، جئته فقلت له: يا هذا أنا كنا مع رسول الله حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل، فقتلوه وهو مشرك.

فقام رسول الله فينا خطيبا فقال: «يا أيها الناس إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما، ولا يعضد فيها شجرا لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها.

ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلا لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا فدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله».

ثم ودى رسول الله بذلك الرجل الذي قتلته خزاعة، فقال عمرو لأبي شريح: انصرف أيها الشيخ فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا خالع طاعة، ولا مانع جزية.

فقال أبو شريح: إني كنت شاهدا، وكنت غائبا، وقد أمرنا رسول الله أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك فأنت وشأنك.

قال ابن هشام: وبلغني أن أول قتيل وداه رسول الله يوم الفتح جنيدب بن الأكوع قتله بنو كعب، فوداه رسول الله بمائة ناقة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لما فتحت مكة على رسول الله قال: «كفوا السلاح إلا خزاعة من بني بكر» فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: «كفوا السلاح».

فلقي رجل من خزاعة رجلا من بني بكر من غد بالمزدلفة فقتله، فبلغ ذلك رسول الله فقام خطيبا فقال - فرأيته وهو مسند ظهره إلى الكعبة - قال: «إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول الجاهلية» وذكر تمام الحديث، وهذا غريب جدا.

وقد روى أهل السنن بعض هذا الحديث؛ فأما ما فيه من أنه رخص لخزاعة أن تأخذ بثأرها من بني بكر إلى العصر من يوم الفتح، فلم أره إلا في هذا الحديث، وكأنه إن صح من باب الاختصاص لهم مما كانوا أصابوا منهم ليلة الوتير، والله أعلم.

وروى الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد، وسفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، ومحمد بن عبيد كلهم، عن زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي، عن الحارث بن مالك بن البرصا الخزاعي، سمعت رسول الله يقول يوم فتح مكة: «لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة».

ورواه الترمذي عن بندار، عن يحيى بن سعيد القطان به. وقال: حسن صحيح.

قلت: فإن كان نهيا فلا إشكال، وإن كان نفيا فقال البيهقي: معناه على كفر أهلها.

وفي صحيح مسلم من حديث زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن مطيع، عن أبيه مطيع بن الأسود العدوي قال: قال رسول الله يوم فتح مكة: «لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم إلى يوم القيامة».

والكلام عليه كالأول سواء.

قال ابن هشام: وبلغني عن يحيى بن سعيد أن رسول الله حين افتتح مكة ودخلها، قام على الصفا يدعو الله وقد أحدقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟

فلما فرغ من دعائه قال: «ماذا قلتم؟».

قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه.

فقال رسول الله : «معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم».

وهذا الذي علقه ابن هشام قد أسنده الإمام أحمد بن حنبل في (مسنده) فقال: ثنا بهز وهاشم قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت.

وقال هاشم: حدثني ثابت البناني، ثنا عبد الله بن رباح قال: وفدت وفود إلى معاوية أنا فيهم، وأبو هريرة، وذلك في رمضان، فجعل بعضنا يصنع لبعض الطعام، قال: وكان أبو هريرة يكثر ما يدعونا.

قال هاشم: يكثر أن يدعونا إلى رحله.

قال: فقلت ألا أصنع طعاما فأدعوهم إلى رحلي؟

قال: فأمرت بطعام يصنع، فلقيت أبا هريرة من العشاء قال: قلت: يا أبا هريرة الدعوة عندي الليلة.

قال: استبقتني.

قال هاشم: قلت: نعم، فدعوتهم فهم عندي، فقال أبو هريرة ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار، قال: فذكر فتح مكة.

قال: أقبل رسول الله فدخل مكة، قال: فبعث الزبير على أحد المجنبتين، وبعث خالدا على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الجسر، وأخذوا بطن الوادي، ورسول الله في كتيبته، وقد وبشت قريش أوباشها.

قال: قالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذي سألنا.

قال أبو هريرة: فنظر فرآني فقال: «يا أبا هريرة».

فقلت: لبيك رسول الله.

فقال: «اهتف لي بالأنصار، ولا يأتيني إلا أنصاري».

فهتفت بهم فجاؤوا فأطافوا برسول الله .

قال: فقال رسول الله : «أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم».

ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى: «أحصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا».

قال: فقال أبو هريرة فانطلقنا فما يشاء واحد منا أن يقتل منهم ما شاء، وما أحد منهم يوجه إلينا منهم شيئا.

قال: فقال أبو سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم.

قال: فقال رسول الله : «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

قال: فغلق الناس أبوابهم.

قال: وأقبل رسول الله إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت، قال: وفي يده قوس آخذ بسية القوس.

قال: فأتى في طوافه على صنم إلى جنب البيت يعبدونه، قال: فجعل يطعن بها في عينه، ويقول: { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } .

قال: ثم أتى الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره ويدعوه، قال: والأنصار تحت، قال: يقول بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته.

قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء لم يخف علينا، فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله حتى يقضي.

قال هاشم: فلما قضي الوحي رفع رأسه ثم قال: «يا معشر الأنصار أقلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته؟».

قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله.

قال: «فما أسمي إذا، كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم».

قال: فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله.

قال: فقال رسول الله : «إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم».

وقد رواه مسلم، والنسائي، من حديث سليمان بن المغيرة، زاد النسائي، وسلام بن مسكين.

ورواه مسلم أيضا من حديث حماد بن سلمة ثلاثتهم عن ثابت، عن عبد الله بن رباح الأنصاري نزيل البصرة، عن أبي هريرة به نحوه.

وقال ابن هشام: وحدثني - يعني بعض أهل العلم - أن فضالة بن عمير بن الملوح - يعني الليثي - أراد قتل النبي وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله : «أفضالة؟».

قال: نعم فضالة يا رسول الله.

قال: «ماذا كنت تحدث به نفسك؟».

قال: لا شيء كنت أذكر الله.

قال: فضحك النبي ، ثم قال: «استغفر الله» ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.

قال فضالة: فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث.

فقال: لا.

وانبعث فضالة يقول:

قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والإسلام

أو ما رأيت محمدا وقبيله * بالفتح يوم تكسر الأصنام

لرأيت دين الله أضحى بينا * والشرك يغشى وجهه الإظلام

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر، فأمنه يا رسول الله صلى الله عليك.

فقال: «هو آمن».

فقال: يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك؟

فأعطاه رسول الله عمامته التي دخل فيها مكة فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب في البحر، فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله وقد جئتك به.

قال: ويلك أعزب عني فلا تكلمني.

قال: أي صفوان فداك أبي وأمي، أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس، ابن عمك عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك.

قال: إني أخافه على نفسي.

قال: هو أحلم من ذلك وأكرم.

فرجع معه حتى وقف على رسول الله فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني؟

قال: «صدق».

قال: فاجعلني بالخيار فيه شهرين.

قال: «أنت بالخيار أربعة أشهر».

ثم حكى ابن إسحاق عن الزهري أن فاختة بنت الوليد امرأة صفوان، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، وقد ذهبت وراءه إلى اليمن فاسترجعته، فأسلم، فلما أسلما أقرهما رسول الله تحتهما بالنكاح الأول.

قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، قال: رمى حسان بن الزبعري وهو بنجران ببيت واحد ما زاد عليه:

لا تَعْدَ مَنْ رجلا أحلك بغضه * نجران في عيش أحذَّ لئيم

فلما بلغ ذلك ابن الزبعري خرج إلى رسول الله فأسلم، وقال حين أسلم:

يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور

إذ أباري الشيطان في سنن الغي * ومن مال ميله مثبور

آمن اللحم والعظام لربي * ثم قلبي الشهيد أنت النذير

إنني عنك زاجرٌ ثم حيا * من لؤي وكلهم مغرور

قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري أيضا حين أسلم:

منع الرقاد بلابل وهموم * والليل معتلج الرواق بهيم

مما أتاني أن أحمد لامني * فيه فبت كأنني محموم

يا خير من حملت على أوصالها * عيرانة سرح اليدين غشوم

إني لمعتذر إليك من الذي * أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

أيام تأمرني بأغوى خطة * سهم وتأمرني بها مخزوم

وأمد أسباب الردى ويقودني * أمر الغواة وأمرهم مشؤوم

فاليوم آمن بالنبي محمد * قلبي ومخطئ هذه محروم

مضت العداوة وانقضت أسبابها * ودعت أواصر بيننا وحلوم

فاغفر فدى لك والدي كلاهما * زللي فإنك راحم مرحوم

وعليك من علم المليك علامة * نور أغر وخاتم مختوم

أعطاك بعد محبة برهانه * شرفا وبرهان الإله عظيم

ولقد شهدت بأن دينك صادق * حق وأنك في المعاد جسيم

والله يشهد أن أحمد مصطفى * مستقبل في الصالحين كريم

قرم علا بنيانه من هاشم * فرع تمكن في الذرى وأروم

قال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له.

قلت: وكان عبد الله بن الزبعري السهمي من أكبر أعداء الإسلام، ومن الشعراء الذين استعملوا قواهم في هجاء المسلمين، ثم من الله عليه بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الإسلام، والقيام بنصره والذب عنه.

فصل عدد الذين شهدوا فتح مكة

قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، من بني سليم سبعمائة، ويقول بعضهم ألف، ومن بني غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم، وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد.

وقال عروة والزهري وموسى بن عقبة: كان المسلمون يوم الفتح الذين مع رسول الله اثنا عشر ألفا، فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: وكان مما قيل من الشعر في يوم الفتح قول حسان بن ثابت:

عفت ذات الأصابع فالجواء * إلى عذراء منزلها خلاء

ديار من بني الحسحاس قفر * تعفيها الروامس والسماء

وكانت لا يزال بها أنيس * خلال مروجها نعم وشاء

فدع هذا ولكن من لطيف * يؤرقني إذا ذهب العشاء

لشعثاء التي قد تيمته * فليس لقلبه منها شفاء

كأن خبيئة من بيت رأس * يكون مزاجها عسل وماء

إذا ما الأشربات ذكرن يوما * فهن لطيب الراح الفداء

نوليها الملامة إن المنا * إذا ما كان مغت أو لحاء

ونشربها فتتركنا ملوكا * وأسدا ما ينهنها اللقاء

عدمنا خيلنا أن لم تروها * تثير النقع موعدها كداء

ينازعن الأعنة مصغيات * على أكتافها الأسل الظماء

تظل جيادنا متمطرات * يلطمهن بالخمر النساء

فإما تعرضوا عنا اعتمرنا * وكان الفتح وانكشف الغطاء

وإلا فاصبروا لجلاد يوم * يعز الله فيه من يشاء

وجبريل رسول الله فينا * وروح القدس ليس له كفاء

وقال الله قد أرسلت عبدا * يقول الحق إن نفع البلاء

شهدت به فقوموا صدقوه * فقلتم لا نقوم ولا نشاء

وقال الله قد سيرت جندا * هم الأنصار عرضتها اللقاء

لنا في كل يوم من معد * سباب أو قتال أو هجاء

فنحكم بالقوافي من هجانا * ونضرب حين تختلط الدماء

ألا أبلغ أبا سفيان عني * مغلغلة فقد برح الخفاء

بأن سيوفنا تركتك عبدا * وعبد الدار سادتها الإماء

هجوت محمدا فأجبت عنه * وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء

هجوت مباركا برا حنيفا * أمين الله شيمته الوفاء

أمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصر سواء

فإن أبي ووالده وعرضي * لعرض محمد منكم وقاء

لساني صارم لا عيب فيه * وبحري لا تكدره الدلاء

قال ابن هشام: قالها حسان قبل الفتح.

قلت: والذي قاله متوجه لما في أثناء هذه القصيدة مما يدل على ذلك، وأبو سفيان المذكور في البيت هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

قال ابن هشام: وبلغني عن الزهري أنه قال: لما رأى رسول الله النساء يلطمن الخيل بالخمر تبسم إلى أبي بكر رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق: وقال أنس بن زنيم الدئلي يعتذر إلى رسول الله مما كان قال فيهم عمرو بن سالم الخزاعي - يعني لما جاء يستنصر عليهم - كما تقدم:

أأنت الذي تهدى معد بأمره * بل الله يهديهم وقال لك أشهد

وما حملت من ناقة فوق رحلها * أبر وأوفى ذمة من محمد

أحث على الخير وأسبغ نائلا * إذا راح كالسيف الصقيل المهند

وأكسى لبرد الخال قبل ابتذاله * وأعطى لرأس السابق المتجرد

تعلم رسول الله أنك مذركي * وأن وعيدا منك كالأخذ باليد

تعلم رسول الله أنك قادر * على كل صرم متهمين ومنجد

تعلم أن الركب ركب عويمر * هموا الكاذبون المخلفوا كل موعد

ونبوا رسول الله أني هجوته * فلا حملت سوطي إلي إذن يدي

سوى أنني قد قلت ويل أم فتية * أصيبوا بنحس لا بطلق وأسعد

أصابهموا من لم يكن لدمائهم * كفاء فعزت عبرتي وتبلدي

وإنك قد أخبرت أنك ساعيا * بعبد بن عبد الله وابنة مهود

ذؤيب وكلثوم وسلمى تتابعوا * جميعا فإن لا تدمع العين أكمد

وسلمى وسلمى ليس حي كمثله * وإخوته وهل ملوك كأعبد

فإني لا ذنبا فتقت ولا دما * هرقت تبين عالم الحق واقصد

قال ابن إسحاق: وقال بجير بن زهير بن أبي سلمى في يوم الفتح:

نفى أهل الحبلق كل فج * مزينة غدوة وبنو خفاف

ضربناهم بمكة يوم فتح النـ* ـبي الخير بالبيض الخفاف

صبحناهم بسبع من سليم * وألف من بني عثمان واف

نطأ أكتافهم ضربا وطعنا * ورشقا بالمريشة اللطاف

ترى بين الصفوف لها حفيفا * كما انصاع الفواق من الرصاف

فرحنا والجياد تجول فيهم * بأرماح مقومة الثقاف

فأبنا غانمين بما اشتهينا * وأبوا نادمين على الخلاف

وأعطينا رسول الله منا * مواثقنا على حسن التصافي

وقد سمعوا مقالتنا فهموا * غداة الروع منا بانصراف

وقال ابن هشام: وقال عباس بن مرداس السلمي في فتح مكة:

منا بمكة يوم فتح محمد * ألف تسيل به البطاح مسوم

نصروا الرسول وشاهدوا آياته * وشعارهم يوم اللقاء مقدم

في منزل ثبتت به أقدامهم * ضنك كأن الهام فيه الحنتم

جرت سنابكها بنجد قبلها * حتى استقام لها الحجاز الأدهم

الله مكنه له وأذله * حكم السيوف لنا وجد مزحم

عود الرياسة شامخ عرنينه * متطلع ثغر المكارم خضرم

وذكر ابن هشام في سبب إسلام عباس بن مرداس: أن أباه كان يعبد صنما من حجارة يقال له ضمار، فلما حضرته الوفاة أوصاه به، فبينما هو يوما يخدمه إذ سمع صوتا من جوفه وهو يقول:

قل للقبائل من سليم كلها * أودى ضمار وعاش أهل المسجد

إن الذي ورث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتدي

أودى ضمار وكان يعبد مدة * قبل الكتاب إلى النبي محمد

قال: فحرق عباس ضمار، ثم لحق برسول الله فأسلم، وقد تقدمت هذه القصة بكمالها في باب هواتف الجان مع أمثالها وأشكالها، ولله الحمد والمنة.

بعثه عليه السلام خالد بن الوليد بعد الفتح إلى بني جذيمة من كنانة

قال ابن إسحاق: فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: بعث رسول الله خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعيا ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العرب وسليم بن منصور، ومدلج بن مرة، فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال: لما أمرنا خالد أن نضع السلاح، قال رجل منا يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسار، وما بعد الأسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبدا.

قال: فأخذه رجال من قومه فقالوا: يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا، إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب، وأمن الناس، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم سلاحهم لقول خالد.

قال ابن إسحاق: فقال حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر قال: فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله رفع يديه إلى السماء ثم قال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد».

قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أنه انفلت رجل من القوم فأتى رسول الله فأخبره الخبر، فقال رسول الله : «هل أنكر عليه أحد؟».

فقال: نعم، قد أنكر عليه رجل أبيض ربعه، فنهمه خالد فسكت عنه، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب فاشتدت مراجعتهما، فقال عمر بن الخطاب: أما الأول يا رسول الله فابني عبد الله، وأما الآخر فسالم مولى أبي حذيفة.

قال ابن إسحاق: فحدثني حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر قال: ثم دعا رسول الله علي بن أبي طالب فقال: «يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك».

فخرج علي حتى جاءهم، ومعه مال قد بعث به رسول الله فودى لهم الدماء، وما أصيب لهم من الأموال، حتى أنه ليدي ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال فقال لهم علي حين فرغ منهم: هل بقي لكم دم أو مال يود لكم؟

قالوا: لا.

قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل ثم رجع إلى رسول الله فأخبره الخبر، فقال: «أصبت وأحسنت».

ثم قام رسول الله فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد» ثلاث مرات.

قال ابن إسحاق: وقد قال بعض من يعذر خالدا أنه قال: ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد الله بن حذافة السهمي، وقال: إن رسول الله قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم من الإسلام.

قال ابن هشام: قال أبو عمرو المديني: لما أتاهم خالد بن الوليد قالوا: صبأنا صبأنا. وهذه مرسلات ومنقطعات.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر قال: بعث رسول الله خالد بن الوليد إلى بني - أحسبه قال - جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، وخالد يأخذ بهم أسرا وقتلا.

قال: ودفع إلى كل رجل منا أسيرا حتى إذا أصبح يوما أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره.

قال ابن عمر: فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره.

قال: فقدموا على النبي فذكروا صنيع خالد، فقال النبي ورفع يديه: «اللهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد» مرتين.

ورواه البخاري، والنسائي، من حديث عبد الرزاق به نحوه.

قال ابن إسحاق: وقد قال لهم جحدم لما رأى ما يصنع خالد: يا بني جذيمة ضاع الضرب قد كنت حذرتكم مما وقعتم فيه.

قال ابن إسحاق: وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف - فيما بلغني - كلام في ذلك، فقال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام؟

فقال: إنما ثأرت بأبيك.

فقال عبد الرحمن: كذبت قد قتلت قاتل أبي، ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة حتى كان بينهما شر، فبلغ ذلك رسول الله فقال: «مهلا يا خالد دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته».

ثم ذكر ابن إسحاق قصة الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم عم خالد بن الوليد في خروجه هو، وعوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة، ومعه ابنه عبد الرحمن وعفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ومعه ابنه عثمان في تجارة إلى اليمن، ورجوعهم ومعهم مال لرجل من بني جذيمة كان هلك باليمن.

فحملوه إلى ورثته فادعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام، ولقيهم بأرض بني جذيمة فطلبه منهم قبل أن يصلوا إلى أهل الميت، فأبوا عليه، فقاتلهم فقاتلوه حتى قتل عوف والفاكه، وأخذت أموالهما وقتل عبد الرحمن قاتل أبيه خالد بن هشام، وفر منهم عفان ومعه ابن عثمان إلى مكة.

فهمت قريش بغزو بني جذيمة، فبعث بنو جذيمة يعتذرون إليهم بأنه لم يكن عن ملأ منهم، وودوا لهم القتيلين وأموالهما، ووضعوا الحرب بينهم.

يعني فلهذا قال خالد لعبد الرحمن: إنما ثأرت بأبيك يعني حين قتلته بنو جذيمة، فأجابه بأنه قد أخذ ثأره وقتل قاتله.

ورد عليه بأنه إنما ثأر بعمه الفاكه بن المغيرة حين قتلوه، وأخذوا أمواله، والمظنون بكل منهما أنه لم يقصد شيئا من ذلك، وإنما يقال هذا في وقت المخاصمة، فإنما أراد خالد بن الوليد نصرة الإسلام وأهله، وإن كان قد أخطأ في أمر واعتقد أنهم ينتقصون الإسلام بقولهم صبأنا صبأنا، ولم يفهم عنهم أنهم أسلموا، فقتل طائفة كثيرة منهم وأسر بقيتهم، وقتل أكثر الأسرى أيضا، ومع هذا لم يعزله رسول الله بل استمر به أميرا.

وإن كان قد تبرأ منه في صنيعه ذلك وودى ما كان جناه خطأ في دم أو مال، ففيه دليل لأحد القولين بين العلماء في أن خطأ الإمام يكون في بيت المال لا في ماله، والله أعلم. ولهذا لم يعزله الصديق حين قتل مالك بن نويرة أيام الردة، وتأول عليه ما تأول حين ضرب عنقه، واصطفى امرأته أم تميم.

فقال له عمر بن الخطاب: اعزله فإن في سيفه رهقا.

فقال الصديق: لا أغمد سيفا سله الله على المشركين.

وقال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، عن الزهري، عن ابن أبي حدرد الأسلمي قال: كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد فقال فتى من بني جذيمة وهو في سني، وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة، ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى، قلت: ما تشاء؟

قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هذه النسوة، حتى أقضي إليهن حاجة، ثم تردني بعد فتصنعوا ما بدا لكم.

قال: قلت: والله ليسير ما طلبت فأخذت برمته فقدته بها حتى وقفته عليهن.

فقال: أسلمي حبيش على نفد من العيش:

أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم * بحلية أو ألفيتكم بالخوانق

ألم يك أهلا أن ينول عاشق * تكلف إدلاج السرى والودائق

فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معا * أثيبي بود قبل إحدى الصفائق

أثيبي بود قبل أن يشحط النوى * وينأى الأمير بالحبيب المفارق

فإني لا ضيعت سر أمانة * ولا راق عيني عنك بعدك رائق

سوى أن ما نال العشيرة شاغل * عن الود إلا أن يكون التوامق

قالت: وأنت فحييت عشرا وتسعا وترا وثمانية تترى.

قال: ثم انصرفت به فضربت عنقه.

قال ابن إسحاق: فحدثني أبو فراس ابن أبي سنبلة الأسلمي، عن أشياخ منهم، عمن كان حاضرها منهم قالوا: فقامت إليه حين ضربت عنقه فأكبت عليه، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده.

وروى الحافظ البيهقي: من طريق الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، أنه سمع رجلا من مزينة يقال له ابن عصام، عن أبيه قال: كان رسول الله إذا بعث سرية قال: «إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحدا».

قال: فبعثنا رسول الله في سرية، وأمرنا بذلك، فخرجنا قبل تهامة، فأدركنا رجلا يسوق بظعائن فقلنا له: أسلم.

فقال: وما الإسلام؟

فأخبرناه به فإذا هو لا يعرفه.

قال: أفرأيتم إن لم أفعل ما أنتم صانعون؟

قال: قلنا نقتلك.

فقال: فهل أنتم منظري حتى أدرك الظعائن؟

قال: قلنا: نعم، ونحن مدركوك.

قال: فأدرك الظعائن فقال: أسلمي حبيش قبل نفاد العيش.

فقالت الأخرى: أسلم عشرا وتسعا وترا وثمانيا تترى.

ثم ذكر الشعر المتقدم إلى قوله:

وينأى الأمير بالحبيب المفارق.

ثم رجع إلينا فقال: شأنكم.

قال: فقدمناه فضربنا عنقه.

قال: فانحدرت الأخرى من هودجها فجثت عليه حتى ماتت.

ثم روى البيهقي: من طريق أبي عبد الرحمن النسائي، ثنا محمد بن علي بن حرب المروزي، ثنا علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله بعث سرية فغنموا وفيهم رجل، فقال لهم: إني لست منهم، إني عشقت امرأة فلحقتها فدعوني أنظر إليها ثم اصنعوا بي ما بدا لكم.

قال: فإذا امرأة أدماء طويلة.

فقال لها: أسلمي حبيش قبل نفاد العيش.

ثم ذكر البيتين بمعناهما.

قال: فقالت: نعم فديتك.

قال: فقدموه فضربوا عنقه، فجاءت المرأة فوقعت عليه، فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت، فلما قدموا على رسول الله أخبروه الخبر، فقال: «أما كان فيكم رجل رحيم».

بعث خالد بن الوليد لهدم العزى

قال ابن جرير: وكان هدمها لخمس بقين من رمضان عامئذ.

قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله خالد بن الوليد إلى العزى، وكانت بيتا بنخلة يعظمه قريش وكنانة ومضر، وكان سدنتها وحجابها من بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم، فلما سمع حاجبها السلمي بمسير خالد بن الوليد إليها علق سيفه عليها، ثم اشتد في الجبل الذي هي فيه وهو يقول:

أيا عز شدي شدة لا شوى لها * على خالد ألقي القناع وشمري

أيا عز إن لم تقتلي المرء خالدا * فبوئي بإثم عاجل أو تنصَّري

قال: فلما انتهى خالد إليها هدمها، ثم رجع إلى رسول الله .

وقد روى الواقدي وغيره: أنه لما قدمها خالد لخمس بقين من رمضان فهدمها ورجع، فأخبر رسول الله فقال: «ما رأيت؟».

قال: لم أر شيئا، فأمره بالرجوع فلما رجع خرجت إليه من ذلك البيت امرأة سوداء ناشرة شعرها تولول، فعلاها بالسيف وجعل يقول:

يا عُزَّى كفرانك لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك

ثم خرب ذلك البيت الذي كانت فيه، وأخذ ما كان فيه من الأموال رضي الله عنه وأرضاه، ثم رجع فأخبر رسول الله فقال: «تلك العزى ولا تعبد أبدا».

وقال البيهقي: أنبا محمد بن أبي بكر الفقيه، أنبا محمد بن أبي جعفر، أنبا أحمد بن علي، ثنا أبو كريب، عن ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، فأتاها وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها.

ثم أتى رسول الله فأخبره، فقال: «ارجع فإنك لم تصنع شيئا» فرجع خالد فلما نظرت إليه السدنة وهم حجابها، أمعنوا هربا في الجبل وهم يقولون: يا عزى خبليه يا عزى عوريه وإلا فموتي برغم.

قال: فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها ووجهها، فعممها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى النبي فأخبره فقال: «تلك العزى».

فصل في مدة إقامته عليه السلام بمكة

لا خلاف أنه عليه الصلاة والسلام أقام بقية شهر رمضان يقصر الصلاة ويفطر، وهذا دليل من قال من العلماء: أن المسافر إذا لم يجمع الإقامة فله أن يقصر ويفطر إلى ثماني عشر يوما في أحد القولين، وفي القول الآخر كما هو مقرر في موضعه.

قال البخاري: ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان ح، وحدثنا قبيصة ثنا سفيان، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس بن مالك قال: أقمنا مع رسول الله عشرا يقصر الصلاة.

وقد رواه بقية الجماعة من طرق متعددة، عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي البصري، عن أنس به نحوه.

قال البخاري: ثنا عبدان، ثنا عبد الله، أنبا عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أقام رسول الله تسعة عشر يوما يصلي ركعتين.

ورواه البخاري أيضا من وجه، زاد البخاري وأبو حصين كلاهما، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث عاصم بن سليمان الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس به.

وفي لفظ لأبي داود سبعة عشر يوما.

وحدثنا أحمد بن يونس، ثنا أحمد بن شهاب، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أقمنا مع رسول الله في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة.

قال ابن عباس: فنحن نقصر ما بقينا بين تسع عشرة فإذا زدنا أتممنا.

وقال أبو داود: ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا ابن علية، ثنا علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين قال: غزوت مع رسول الله وشهدت معه الفتح، فأقام ثماني عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يقول: «يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا قوم سفر».

وهكذا رواه الترمذي من حديث علي بن زيد بن جدعان وقال: هذا حديث حسن.

ثم رواه من حديث محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: أقام رسول الله عام الفتح خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة، ثم قال: رواه غير واحد عن ابن إسحاق لم يذكروا ابن عباس.

وقال ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري ومحمد بن علي بن الحسين، وعاصم بن عمرو بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وعمرو بن شعيب وغيرهم قالوا: أقام رسول الله بمكة خمس عشرة ليلة.

فصل فيما حكم عليه السلام بمكة من الأحكام

قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلم، عن مالك بن شهاب، عن عروة، عن عائشة، عن النبي ، وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت:

كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد أن يقبض ابن وليدة زمعة، وقال عتبة: إنه ابني، فلما قدم رسول الله مكة في الفتح أخذ سعد بن أبي وقاص ابن وليدة زمعة، فأقبل به إلى رسول الله وأقبل معه عبد بن زمعة.

فقال سعد بن أبي وقاص: هذا ابن أخي عهد إلي أنه ابنه.

قال عبد بن زمعة: يا رسول الله هذا أخي، هذا ابن زمعة ولد على فراشه، فنظر رسول الله إلى ابن وليدة زمعة، فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص، فقال رسول الله : «هو لك هو أخوك يا عبد بن زمعة من أجل أنه ولد على فراشه».

وقال رسول الله : «احتجبي منه يا سودة» لما رأى من شبه عتبة بن أبي وقاص.

قال ابن شهاب: قالت عائشة: قال رسول الله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

قال ابن شهاب: وكان أبو هريرة يصرح بذلك.

وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم، وأبو داود، والترمذي جميعا عن قتيبة عن الليث به، وابن ماجه من حديثه، وانفرد البخاري بروايته له من حديث مالك عن الزهري.

ثم قال البخاري: ثنا محمد بن مقاتل، أنبا عبد الله، أنا يونس، عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن امرأة سرقت في عهد رسول الله في غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه.

قال عروة: فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله وقال: «أتكلمني في حد من حدود الله»

فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله خطيبا، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد فإنما هلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

ثم أمر رسول الله بتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت.

قالت عائشة: كانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله .

وقد رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم من حديث ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة به.

وفي صحيح مسلم: من حديث سبرة بن معبد الجهني قال: أمرنا رسول الله بالمتعة عام الفتح حين دخل مكة، ثم لم يخرج حتى نهى عنها.

وفي رواية فقال: «ألا إنها حرام حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة».

وفي رواية في مسند أحمد والسنن: أن ذلك كان في حجة الوداع، فالله أعلم.

وفي صحيح مسلم: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يونس بن محمد، عن عبد الواحد بن زياد، عن أبي العميس، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه أنه قال: رخص لنا رسول الله عام أوطاس في متعة النساء ثلاثا، ثم نهانا عنه.

قال البيهقي: وعام أوطاس هو عام الفتح، فهو وحديث سبرة سواء.

قلت: من أثبت النهي عنها في غزوة خيبر قال: إنها أبيحت مرتين، وحرمت مرتين، وقد نص على ذلك الشافعي وغيره.

وقد قيل: إنها أبيحت وحرمت أكثر من مرتين، فالله أعلم.

وقيل: إنها إنما حرمت مرة واحدة وهي هذه المرة في غزوة الفتح.

وقيل: إنها إنما أبيحت للضرورة، فعلى هذا إذا وجدت ضرورة أبيحت.

وهذا رواية عن الإمام أحمد.

وقيل: بل لم تحرم مطلقا وهي على الإباحة، هذا هو المشهور عن ابن عباس وأصحابه، وطائفة من الصحابة، وموضع تحرير ذلك في الأحكام.

فصل مبايعة رسول الله الناس يوم الفتح على الإسلام والشهادة

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، أنبا عبد الله بن عثمان بن خثيم: أن محمد بن الأسود بن خلف أخبره: أن أباه الأسود رأى رسول الله يبايع الناس يوم الفتح، قال: جلس عند قرن مستقبله فبايع الناس على الإسلام والشهادة.

قلت: وما الشهادة؟

قال: أخبرني محمد بن الأسود بن خلف أنه بايعهم على الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.

تفرد به أحمد.

وعند البيهقي: فجاءه الناس الكبار والصغار، والرجال والنساء فبايعهم على الإسلام والشهادة.

وقال ابن جرير: ثم اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله على الإسلام، فجلس لهم - فيما بلغني - على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل من مجلسه، فأخذ على الناس السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا.

قال: فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء، وفيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لحدثها، لما كان من صنيعها بحمزة فهي تخاف أن يأخذها رسول الله بحدثها ذلك، فلما دنين من رسول الله ليبايعهن قال: «بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا».

فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال؟

«ولا تسرقن» فقالت: والله إني كنت أصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة، وما كنت أدري أكان ذلك علينا حلالا أم لا؟

فقال أبو سفيان - وكان شاهدا لما تقول -: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل.

فقال رسول الله : «وإنك لهند بنت عتبة؟».

قالت: نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك.

ثم قال: «ولا يزنين».

فقالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة؟

ثم قال: «ولا تقتلن أولادكن».

قالت: قد ربيناهم صغارا حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كبارا، فضحك عمر بن الخطاب حتى استغرق.

ثم قال: «ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن»

فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل.

ثم قال: «ولا يعصينني».

فقالت: في معروف.

فقال رسول الله لعمر: «بايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم».

فبايعهن عمر، وكان رسول الله لا يصافح النساء، ولا يمس إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه.

وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط.

وفي رواية: ما كان يبايعهن إلا كلاما ويقول: «إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة».

وفي الصحيحين عن عائشة: أن هندا بنت عتبة امرأة أبي سفيان أتت رسول الله ، فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟

قال: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك».

وروى البيهقي من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أن هند بنت عتبة قالت:

يا رسول الله ما كان مما على وجه الأرض أخباء أو خباء - الشك من أبي بكر - أحب إلي من أن يذلوا من أهل أخبائك أو خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل أخباء - أو خباء - أحب إلى من أن يعزوا من أهل أخبائك، أو خبائك.

فقال رسول الله : «وأيضا والذي نفس محمد بيده».

قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي حرج أن أطعم من الذي له؟

قال: «لا، بالمعروف».

ورواه البخاري: عن يحيى بن بكير بنحوه.

وتقدم ما يتعلق بإسلام أبي سفيان.

وقال أبو داود: ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله يوم فتح مكة: «لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم ألا فانفروا».

ورواه البخاري: عن عثمان بن أبي شيبة، ومسلم عن يحيى بن يحيى، عن جرير.

وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا وهب، ثنا ابن طاووس، عن أبيه، عن صفوان بن أمية أنه قيل له: إنه لا يدخل الجنة إلا من هاجر.

فقلت له: لا أدخل منزلي حتى أسأل رسول الله ما سأله، فأتيته فذكرت له فقال: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا».

تفرد به أحمد.

وقال البخاري: ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا الفضيل بن سليمان، ثنا عاصم، عن أبي عثمان النهدي، عن مجاشع بن مسعود قال: انطلقت بأبي معبد إلى النبي ليبايعه على الهجرة، فقال: «مضت الهجرة لأهلها أبايعه على الإسلام والجهاد»، فلقيت أبا معبد فسألته، فقال: صدق مجاشع.

وقال خالد: عن أبي عثمان، عن مجاشع أنه جاء بأخيه مجالد.

وقال البخاري: ثنا عمرو بن خالد، ثنا زهير، ثنا عاصم، عن أبي عثمان قال: حدثني مجاشع قال: أتيت رسول الله بأخي بعد يوم الفتح فقلت: يا رسول الله جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة.

قال: «ذهب أهل الهجرة بما فيها».

فقلت: على أي شيء تبايعه؟

قال: «أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد».

فلقيت أبا معبد بعد، وكان أكبرهما سنا فسألته، فقال: صدق مجاشع.

وقال البخاري: ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد قال: قلت لابن عمر أريد أن أهاجر إلى الشام.

فقال: لا هجرة، ولكن انطلق فاعرض نفسك فإن وجدت شيئا وإلا رجعت.

وقال أبو النضر: أنا شعبة، أنا أبو بشر، سمعت مجاهدا قال: قلت لابن عمر فقال: لا هجرة اليوم - أو بعد رسول الله - مثله.

حدثنا إسحاق بن يزيد، ثنا يحيى بن حمزة، حدثني أبو عمرو الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد بن جبير، أن عبد الله بن عمر قال: لا هجرة بعد الفتح.

وقال البخاري: ثنا إسحاق بن يزيد، أنا يحيى بن حمزة، أنا الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير فسألها عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، وكان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله عز وجل وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، فالمؤمن يعبد ربه حيث يشاء، ولكن جهاد ونية.

وهذه الأحاديث والآثار دالة على أن الهجرة إما الكاملة، أو مطلقا قد انقطعت بعد فتح مكة؛ لأن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وظهر الإسلام، وثبتت أركانه ودعائمه، فلم تبق هجرة، اللهم إلا أن يعرض حال يقتضي الهجرة بسبب مجاورة أهل الحرب، وعدم القدرة على إظهار الدين عندهم، فتجب الهجرة إلى دار الإسلام.

وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، ولكن هذه الهجرة ليست كالهجرة قبل الفتح، كما أن كلا من الجهاد والإنفاق في سبيل الله مشروع، ورغب فيه إلى يوم القيامة، وليس كالإنفاق ولا الجهاد قبل الفتح - فتح مكة -

قال الله تعالى: { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى. } الآية 63.

وقد قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري الطائي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله أنه قال لما نزلت هذه السورة: { إذا جاء نصر الله والفتح.. } قرأها رسول الله حتى ختمها، وقال: «الناس خير وأنا وأصحابي خير» وقال: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية».

فقال له مروان: كذبت وعنده رافع بن خديج، وزيد بن ثابت قاعدان معه على السرير.

فقال أبو سعيد: لو شاء هذان لحدثاك، ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، فرفع مروان عليه الدرة ليضربه، فلما رأيا ذلك قالا: صدق. تفرد به أحمد.

وقال البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟

فقال عمر: إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معه - فما رأيت أنه أدخلني فيهم يومئذ إلا ليريهم - فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: { إذا جاء نصر الله والفتح } ؟

فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا.

فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟

فقلت: لا.

فقال: ما تقول؟

فقلت: هو أجل رسول الله أعلمه له، قال: { إذا جاء نصر الله والفتح } فذلك علام أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا.

قال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما يقول.

تفرد به البخاري.

وهكذا روي من غير وجه عن ابن عباس أنه فسر ذلك بنعي رسول الله في أجله.

وبه قال مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وغير واحد كما قال ابن عباس، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن فضيل، ثنا عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: { إذا جاء نصر الله والفتح } قال رسول الله : «نعيت إلى نفسي» بأنه مقبوض في تلك السنة.

تفرد به الإمام أحمد، وفي إسناده عطاء بن أبي مسلم الخراساني، وفيه ضعف تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وفي لفظه نكارة شديدة، وهو قوله: بأنه مقبوض في تلك السنة، وهذا باطل فإن الفتح كان في سنة ثمان في رمضان منها كما تقدم بيانه، وهذا ما لا خلاف فيه، وقد توفي رسول الله في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة بلا خلاف أيضا.

وهكذا الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني رحمه الله: ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي، ثنا أبي، ثنا جعفر بن عون، عن أبي العميس، عن أبي بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال:

آخر سورة نزلت من القرآن جميعا: { إذا جاء نصر الله والفتح } فيه نكارة أيضا، وفي إسناده نظر أيضا، ويحتمل أن يكون أنها آخر سورة نزلت جميعها كما قال، والله أعلم.

وقد تكلمنا على تفسير هذه السورة الكريمة بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة.

وقال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمرو بن سلمة قال لي أبو قلابة: ألا تلقاه فنسأله؟

فلقيته فسألته قال: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس ما للناس، ما هذا الرجل؟

فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه، كذا فكنت أحفظ ذاك الكلام فكأنما يغري في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا.

قال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني.

فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا أست قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص.

تفرد به البخاري دون مسلم.

غزوة هوازن يوم حنين

قال الله تعالى: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 64.

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه: أن خروج رسول الله إلى هوازن بعد الفتح في خامس شوال سنة ثمان، وزعم أن الفتح كان لعشر بقين من شهر رمضان قبل خروجه إليهم خمس عشرة ليلة.

وهكذا روي عن ابن مسعود، وبه قال عروة بن الزبير، واختاره أحمد، وابن جرير في (تاريخه)

وقال الواقدي: خرج رسول الله إلى هوازن لست خلون من شوال، فانتهى إلى حنين في عاشره. وقال أبو بكر الصديق: لن نغلب اليوم من قلة!! فانهزموا فكان أول من انهزم بنو سليم، ثم أهل مكة، ثم بقية الناس.

قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله وما فتح الله عليه من مكة، جمعها ملكها مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت نصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء.

وغاب عنها ولم يحضرها من هوازن: كعب وكلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم، وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه، ومعرفته بالحرب، وكان شيخا مجربا، وفي ثقيف سيدان لهم، وفي الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه أحمر بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري.

فلما أجمع السير إلى رسول الله أحضر مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به، فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟

قالوا: بأوطاس.

قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟

قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم.

قال: أين مالك؟

قالوا: هذا مالك، ودُعي له.

قال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟

قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم.

قال: ولـمَ؟

قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم.

قال: فانقض به، ثم قال: راعي ضأن والله، هل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟

قال: لم يشهدها منهم أحد.

قال: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاة ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟

قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر.

قال: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران، ثم قال: يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة - بيضة هوازن - إلى نحور الخيل شيئا.

ثم قال دريد لمالك بن عوف: ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم ألق الصبا على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من ورائك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك.

قال: والله لا أفعل إنك قد كبرت وكبر عقلك، ثم قال مالك: والله لتطيعنني يا معشر هوازن، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي.

فقالوا: أطعناك.

فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني:

يا ليتني فيها جذع * أخب فيها وأضع

أقود وطفاء الزمع * كأنها شاة صدع

ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد.

قال ابن إسحاق: وحدثني أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أنه حدث: أن مالك بن عوف بعث عيونا من رجاله فأتوه، وقد تفرقت أوصالهم فقال: ويلكم ما شأنكم؟

قالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.

قال ابن إسحاق: ولما سمع بهم نبي الله بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله ، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسول الله فأخبره الخبر.

فلما أجمع رسول الله السير إلى هوازن، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا له سلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال: «يا أبا أمية أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غدا».

فقال صفوان: أغصبا يا محمد؟

قال: «بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك».

قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله سأله أن يكفيهم حملها ففعل.

هكذا أورد هذا ابن إسحاق من غير إسناد.

وقد روى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه، وعن عمرو بن شعيب، والزهري، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم وغيرهم قصة حنين فذكر نحو ما تقدم، وقصة الأدراع كما تقدم.

وفيه أن ابن أبي حدرد لما رجع فأخبر رسول الله خبر هوازن كذبه عمر بن الخطاب، فقال له ابن أبي حدرد: لئن كذبتني يا عمر فربما كذبت بالحق.

فقال عمر: ألا تسمع ما يقول يا رسول الله؟

فقال: «قد كنت ضالا فهداك الله».

وقد قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون، أنبا شريك بن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه: أن رسول الله استعار من أمية يوم حنين أدراعا فقال: أغصبا يا محمد؟

فقال: «بل عارية مضمونة».

قال: فضاع بعضها، فعرض عليه رسول الله أن يضمنها له، فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب.

ورواه أبو داود، والنسائي من حديث يزيد بن هارون به.

وأخرجه النسائي من رواية إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة عبد الرحمن بن صفوان بن أمية: أن رسول الله استعار من صفوان دروعا فذكره.

ورواه من حديث هشيم، عن حجاج، عن عطاء: أن رسول الله استعار من صفوان أدراعا وأفراسا، وساق الحديث.

وقال أبو داود: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أناس من آل عبد الله بن صفوان: أن رسول الله قال: «يا صفوان هل عندك من سلاح؟».

قال: عارية أم غصبا؟

قال: «بل عارية»، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعا، وغزا رسول الله حنينا، فلما هزم المشركون جمعت دروع صفوان ففقد منها أدراعا، فقال رسول الله لصفوان: «قد فقدنا من أدراعك أدراعا فهل نغرم لك؟».

قال: لا يا رسول الله إن في قلبي اليوم ما لم يكن فيه يومئذ، وهذا مرسل أيضا.

قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله معه ألفان من أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، ففتح الله بهم مكة فكانوا اثني عشر ألفا.

قلت: وعلى قول عروة، والزهري، وموسى بن عقبة يكون مجموع الجيشين الذين سار بهما إلى هوازن أربعة عشر ألفا، لأنه قدم باثني عشر ألفا إلى مكة على قولهم، وأضيف ألفان من الطلقاء.

وذكر ابن إسحاق: أنه خرج من مكة في خامس شوال، قال: واستخلف على أهل مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس الأموي.

قلت: وكان عمره إذ ذاك قريبا من عشرين سنة.

قال: ومضى رسول الله يريد لقاء هوازن، وذكر قصيدة العباس بن مرداس السلمي في ذلك منها قوله:

أبلغ هوازن أعلاها وأسفلها * مني رسالة نصح فيه تبيان

إني أظن رسول الله صابحكم * جيشا له في فضاء الأرض أركان

فيهم سليم أخوكم غير تارككم * والمسلمون عباد الله غسان

وفي عضادته اليمنى بنو أسد * والأجربان بنو عبس وذبيان

تكاد ترجف منه الأرض رهبته * وفي مقدمه أوس وعثمان

قال ابن إسحاق: أوس وعثمان قبيلا مزينة.

قال: وحدثني الزهري، عن سنان بن أبي سنان الدئلي، عن أبي واقد الليثي وهو الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية.

قال فسرنا معه إلى حنين، قال: وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط، يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما.

قال: فرأينا ونحن نسير مع رسول الله سدرة خضراء عظيمة، قال: فتنادينا من جنبات الطريق يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟

فقال رسول الله : «الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة» قال: «إنكم قوم تجهلون، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم».

وقد روى هذا الحديث الترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان. والنسائي عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر كلاهما، عن الزهري. كما رواه ابن إسحاق عنه. وقال الترمذي: حسن صحيح.

ورواه ابن أبي حاتم في (تفسيره) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده مرفوعا.

وقال أبو داود: ثنا أبو توبة، ثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام عن السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كان العشية، فحضرت صلاة الظهر عند رسول الله .

فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم وبنعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله وقال: «تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله».

ثم قال: «من يحرسنا الليلة؟».

قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله.

قال: «فاركب».

فركب فرسا له وجاء إلى رسول الله ، فقال له رسول الله : «استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة».

فلما أصبحنا خرج رسول الله إلى مصلاه فركع ركعتين، ثم قال: «هل أحسستم فارسكم؟».

قالوا: يا رسول الله ما أحسسنا، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله يصلي ويلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال: «أبشروا فقد جاءكم فارسكم».

فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب، وإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله فقال: إني انطلقت حتى إذا كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله ، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحدا.

فقال له رسول الله : «هل نزلت الليلة؟».

قال: لا، إلا مصليا أو قاضي حاجة.

فقال له رسول الله : «قد أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها».

وهكذا رواه النسائي عن محمد بن يحيى، عن محمد بن كثير الحراني، عن أبي توبة الربيع بن نافع به.

الوقعة وما كان أول الأمر من الفرار ثم العاقبة للمتقين

قال يونس بن بكير وغيره عن محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه قال: فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين، فسبق رسول الله إليها، فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه.

وأقبل رسول الله وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل، فشدت عليهم وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين يقول: «أين أيها الناس هلموا إلي، أنا رسول الله، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، أنا محمد بن عبد الله»

قال: فلا شيء، وركبت الإبل بعضها بعضا، فلما رأى رسول الله أمر الناس ومعه رهط من أهل بيته: علي بن أبي طالب، وأبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، وقيل الفضيل بن أبي سفيان، وأيمن ابن أم أيمن، وأسامة بن زيد.

ومن الناس من يزيد فيهم قثم بن العباس، ورهط من المهاجرين: منهم أبو بكر، وعمر، والعباس آخذ بحكمة بغلته البيضاء وهو عليها قد شجرها.

قال: ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام هوازن وهوازن خلفه، إذ أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه، قال فبينما هو كذلك إذ هوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار يريدانه.

قال: فيأتي عليّ من خلفه، فضرب عرقوبي الجمل فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانعجف عن رحله.

قال: واجتلد الناس، فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله .

ورواه الإمام أحمد: عن يعقوب بن إبراهيم الزهري، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق.

قال ابن إسحاق: والتفت رسول الله إلى أبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب، وكان ممن صبر يومئذ، وكان حسن الإسلام حين أسلم، وهو آخذ بثفر بغلة رسول الله فقال: «من هذا؟».

قال: ابن أمك يا رسول الله.

قال ابن إسحاق: ولما انهزم الناس تكلم رجال من جفاة الأعراب بما في أنفسهم من الظغن، فقال أبو سفيان صخر بن حرب - يعني وكان إسلامه بعد مدخولا، وكانت الأزلام بعد معه يومئذ - قال: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر.

وصرخ كلدة بن الحنبل وهو مع أخيه صفوان بن أمية - يعني لأمه - وهو مشرك في المدة التي جعل له رسول الله : ألا بطل السحر اليوم.

فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لئن يربني رجل من قريش، أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن سلمة، أنبا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك: أن هوازن جاءت يوم حنين بالنساء والصبيان، والإبل والغنم، فجعلوها صفوفا يكثرون على رسول الله ، فلما التقوا ولىّ المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى. فقال رسول الله : «يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله».

ثم قال: «يا معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله».

قال: فهزم الله المشركين ولم يضرب بسيف ولم يطعن برمح.

قال: وقال رسول الله يومئذ: «من قتل كافرا فله سلبه».

قال: فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم.

وقال أبو قتادة: يا رسول الله إني ضربت رجلا على حبل العاتق وعليه درع له، فأجهضت عنه فانظر من أخذها.

قال: فقام رجل فقال: أنا أخذتها فأرضه منها وأعطنيها.

قال: وكان رسول الله لا يسأل شيئا إلا أعطاه أو سكت، فسكت رسول الله ، فقال عمر: والله لا يفئها الله على أسد من أسد الله ويعطيكها.

فقال رسول الله : «صدق عمر».

قال: ولقي أبو طلحة أم سليم ومعها خنجر فقال أبو طلحة: ما هذا؟

فقالت: إن دنا مني بعض المشركين أن أبعج في بطنه.

فقال أبو طلحة: أما تسمع ما تقول أم سليم؟ فضحك رسول الله ، فقالت: يا رسول الله أقتل من بعدها من الطلقاء انهزموا بك.

فقال: «إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم».

وقد روى مسلم منه قصة خنجر أم سليم، وأبو داود قوله: «من قتل قتيلا فله سلبه» كلاهما من حديث حماد بن سلمة به.

وقول عمر في هذا مستغرب، والمشهور أن ذلك أبو بكر الصديق.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا أبي، ثنا نافع أبو غالب، شهد أنس بن مالك فقال العلاء بن زياد العدوي: يا أبا حمزة بسن أي الرجال كان رسول الله إذ بعث؟

قال: ابن أربعين سنة.

قال: ثم كان ماذا؟

قال: ثم كان بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، فتمت له ستون سنة، ثم قبضه الله إليه.

قال: بسن أي الرجال هو يومئذ؟

قال: كأشب الرجال وأحسنه وأجمله وألحمه.

قال: يا أبا حمزة وهل غزوت مع رسول الله ؟

قال: نعم غزوت معه يوم حنين، فخرج المشركون بكرة فحملوا علينا، حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا وفي المشركين رجل يحمل علينا فيدقنا ويحطمنا، فلما رأى ذلك رسول الله نزل، فهزمهم الله فولوا، فقام رسول الله حين رأى الفتح فجعل يجاء بهم أسارى رجل رجل فيبايعونه على الإسلام.

فقال رجل من أصحاب النبي : إن علي نذرا لئن جيء بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربن عنقه.

قال: فسكت رسول الله وجيء بالرجل، فلما رأى النبي قال: يا نبي الله تبت إلى الله.

قال: وأمسك نبي الله أن يبايعه ليوفي الآخر نذره.

قال: وجعل ينظر إلى النبي ليأمره بقتله ويهاب رسول الله ، فلما رأى النبي أنه لا يصنع شيئا بايعه، فقال: يا نبي الله نذري؟

قال: «لم أمسك عنه منذ اليوم إلا لتوفي نذرك».

فقال: يا رسول الله ألا أومأت إلي؟

قال: «إنه ليس لنبي أن يومي».

تفرد به أحمد.

وقال أحمد: حدثنا يزيد، ثنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: كان من دعاء رسول الله يوم حنين: «اللهم إنك إن تشاء لا تعبد في الأرض بعد اليوم».

إسناده ثلاثي على شرط الشيخين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه.

وقال البخاري: ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمع البراء بن عازب - وسأله رجل من قيس أفررتم عن رسول الله يوم حنين؟ - فقال: لكن رسول الله لم يفر، كانت هوازن رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فاستقبلتنا بالسهام.

ولقد رأيت رسول الله على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان آخذ بزمامها وهو يقول:

أنا النبي لا كذب.

ورواه البخاري: عن أبي الوليد، عن شعبة به، وقال:

أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب

قال البخاري: وقال إسرائيل وزهير، عن أبي إسحاق، عن البراء، ثم نزل عن بغلته.

ورواه مسلم، والنسائي، عن بندار.

زاد مسلم: وأبي موسى كلاهما عن غندر به.

وروى مسلم: من حديث زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: ثم نزل فاستنصر وهو يقول:

«اللهم نزل نصرك».

قال البراء: ولقد كنا إذا حمي البأس نتقي برسول الله ، وإن الشجاع الذي يحاذى به.

وروى البيهقي من طرق: أن رسول الله قال يومئذ: «أنا ابن العواتك».

وقال الطبراني: ثنا عباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا عمرو بن عوف الواسطي، ثنا هشيم، أنبا يحيى بن سعيد، عن عمرو بن سعيد بن العاص، عن شبابة، عن ابن عاصم السلمي أن رسول الله قال يوم حنين: «أنا ابن العواتك».

وقال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أنبا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة قال: خرجنا مع رسول الله عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين، فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف، فقطعت الدرع وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت.

ثم أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر، فقلت: ما بال الناس؟

فقال: أمر الله، ورجعوا وجلس رسول الله فقال: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه» فقمت فقلت: من يشهد لي، ثم جلست.

فقال رسول الله مثله.

فقلت: من يشهد لي ثم جلست.

فقال رسول الله مثله.

فقلت: من يشهد لي، ثم جلست.

ثم قال رسول الله مثله، فقمت، فقال: «مالك يا أبا قتادة؟».

فأخبرته، فقال رجل: صدق سلبه عندي فأرضه مني.

فقال أبو بكر: لاها الله، إذا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه.

فقال النبي : «صدق فأعطه» فأعطانيه فابتعت به مخرافا في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام.

ورواه بقية الجماعة إلا النسائي من حديث يحيى بن سعيد به.

قال البخاري: وقال الليث بن سعد، حدثني يحيى بن سعيد، عن عمرو بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة: أن أبا قتادة قال:

لما كان يوم حنين نظرت إلي رجل من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين، وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله، فأسرعت إلى الذي يختله فرفع يده ليضربني، فأضرب يده فقطعتها، ثم أخذني فضمني ضما شديدا حتى تخوفت، ثم ترك فتحلل فدفعته ثم قتلته، وانهزم المسلمون فانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس فقلت له: ما شأن الناس؟

قال: أمر الله، ثم تراجع الناس إلى رسول الله، فقال رسول الله: «من أقام بينة على قتيل فله سلبه» فقمت لألتمس بينة على قتيلي، فلم أر أحدا يشهد لي فجلست، ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله ، فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي فأرضه مني.

فقال أبو بكر: كلا لا يعطيه أُضَيْبِع من قريش ويدع أسدا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله.

قال: فقام رسول الله فأداه إلي، فاشتريت به مخرافا فكان أول مال تأثلته.

وقد رواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم كلاهما عن قتيبة، عن الليث بن سعد به.

وقد تقدم من رواية نافع أبي غالب، عن أنس: أن القائل لذلك عمر بن الخطاب، فلعله قاله متابعة لأبي بكر الصديق ومساعدة وموافقة له، أو قد اشتبه على الراوي، والله أعلم.

وقال الحافظ البيهقي: أنبا الحاكم، أنبا الأصم، أنبا أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله: أن رسول الله قال يوم حنين حين رأى من الناس ما رأى: «يا عباس ناد يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة».

فأجابوه: لبيك لبيك، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه عن عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ثم يؤم الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله منهم مائة، فاستعرض الناس فاقتتلوا.

وكانت الدعوة أول ما كانت للأنصار، ثم جعلت آخرا للخزرج وكانوا صبرا عند الحرب، وأشرف رسول الله في ركايبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال: «الآن حمي الوطيس».

قال: فوالله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله مكتفون، فقتل الله منهم من قتل، وانهزم منهم من انهزم، وأفاء الله على رسوله أموالهم ونساءهم وأبناءهم.

وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة.

وذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) عن الزهري: أن رسول الله لما فتح الله عليه مكة، وأقر بها عينه، خرج إلى هوازن وخرج معه أهل مكة لم يغادر منهم أحدا، ركبانا ومشاة، حتى خرج النساء يمشين على غير دين نظارا ينظرون، ويرجون الغنائم، ولا يكرهون مع ذلك أن تكون الصدمة برسول الله وأصحابه.

قالوا: وكان معه أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وكانت امرأته مسلمة وهو مشرك لم يفرق بينهما.

قالوا: وكان رئيس المشركين يومئذ مالك بن عوف النصري، ومعه دريد بن الصمة يرعش من الكبر، ومعه النساء والذراري والنعم، فبعث رسول الله عبد الله بن أبي حدرد عينا، فبات فيهم، فسمع مالك بن عوف يقول لأصحابه:

إذا أصبحتم فاحملوا عليهم حملة رجل واحد، واكسروا أغماد سيوفكم، واجعلوا مواشيكم صفا ونساءكم صفا، فلما أصبحوا اعتزل أبو سفيان وصفوان، وحكيم بن حزام وراءهم ينظرون لمن تكون الدائرة، وصف الناس بعضهم لبعض.

وركب رسول الله بغلة له شهباء فاستقبل الصفوف، فأمرهم وحضهم على القتال، وبشرهم بالفتح - إن صبروا - فبينما هم كذلك إذ حمل المشركون على المسلمين حملة رجل واحد، فجال المسلمون جولة ثم ولوا مدبرين، فقال حارثة بن النعمان: لقد حزرت من بقي مع رسول الله حين أدبر الناس فقلت: مائة رجل.

قالوا: ومر رجل من قريش بصفوان بن أمية فقال: أبشر بهزيمة محمد وأصحابه، فوالله لا يجتبرونها أبدا، فقال له صفوان: تبشرني بظهور الأعراب، فوالله لربٌّ من قريش أحب إلي من ربٍّ من الأعراب، وغضب صفوان لذلك.

قال عروة: وبعث صفوان غلاما له فقال: اسمع لمن الشعار؟ فجاءه فقال: سمعتهم يقولون: يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الله، يا بني عبيد الله، فقال: ظهر محمد، وكان ذلك شعارهم في الحرب.

قالوا: وكان رسول الله لما غشيه القتال قام في الركابين، وهو على البغلة، فرفع يديه إلى الله يدعوه يقول: «اللهم إني أنشدك ما وعدتني، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا».

ونادى أصحابه وزمرهم: «يا أصحاب البيعة يوم الحديبية! الله الله الكرة على نبيكم».

ويقال: حرضهم فقال: «يا أنصار الله وأنصار رسوله يا بني الخزرج، يا أصحاب سورة البقرة» وأمر من أصحابه من ينادي بذلك، قالوا: وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين ونواصيهم كلها، وقال: «شاهت الوجوه».

وأقبل أصحابه إليه سراعا يبتدرون، وزعموا أن رسول الله قال: «الآن حمي الوطيس» فهزم الله أعداءه من كل ناحية حصبهم منها، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم وغنمهم الله نساءهم وذراريهم.

وفر مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف هو وأناس من أشراف قومه، وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله رسوله وإعزازه دينه.

رواه البيهقي: وقال ابن وهب: أخبرني يونس، عن الزهري، أخبرني كثير بن العباس بن عبد المطلب قال: قال العباس: شهدت مع رسول الله يوم حنين، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث لا نفارقه، ورسول الله على بغلة بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى الناس ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله يركض بغلته قبل الكفار.

قال العباس: وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله .

وقال رسول الله : «أي عباس ناد أصحاب السمرة».

قال: فوالله لكأنما عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيكاه يا لبيكاه.

قال: فاقتتلوا هم والكفار والدعوة في الأنصار وهم يقولون: يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال: «هذا حين حمي الوطيس».

ثم أخذ حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار، ثم قال: «انهزموا ورب محمد».

قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم رسول الله بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا.

ورواه مسلم: عن أبي الطاهر، عن ابن وهب به نحوه.

ورواه أيضا عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري نحوه.

وروى مسلم من حديث عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: غزونا مع رسول الله حنينا، فلما واجهنا العدو تقدمت فأعلو ثنية، فاستقبلني رجل من المشركين فأرميه بسهم، وتوارى عني فما دريت ما صنع.

ثم نظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى فالتقوا هم وصحابة رسول الله ، فولى أصحاب رسول الله وأرجع منهزما، وعليَّ بردتان متزرا بإحداهما مرتديا بالأخرى.

قال: فاستطلق إزاري فجمعتها جمعا، ومررت على النبي وأنا منهزم وهو على بغلته الشهباء، فقال: «لقد رأى ابن الأكوع فزعا».

فلما غشوا رسول الله نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض واستقبل به وجوههم، وقال: «شاهت الوجوه» فما خلى الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة، فولوا مدبرين فهزمهم الله، وقسم رسول الله غنائمهم بين المسلمين.

وقال أبو داود الطيالسي في(مسنده): ثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن يسار، عن أبي عبد الرحمن الفهري، قال: كنا مع رسول الله في حنين، فسرنا في يوم قايظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال السمر، فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي، فأتيت رسول الله وهو في فسطاطه فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، قد حان الرواح يا رسول الله؟

قال: «أجل» ثم قال رسول الله : «يا بلال» فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طائر، فقال: لبيك وسعديك وأنا فداؤك؟

فقال: «أسرج لي فرسي» فأتاه بدفتين من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر.

قال: فركب فرسه، فسرنا يومنا فلقينا العدو وتسامت الخيلان فقاتلناهم، فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى، فجعل رسول الله يقول: «يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله» واقتحم رسول الله عن فرسه.

وحدثني من كان أقرب إليه مني أنه أخذ حفنة من التراب فحثى بها وجوه العدو وقال: «شاهت الوجوه».

قال يعلى بن عطاء: فحدثنا أبناؤهم عن أبائهم قالوا: ما بقي أحد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب، وسمعنا صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست الحديد، فهزمهم الله عز وجل.

ورواه أبو داود السجستاني في (سننه): عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة به نحوه.

وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا الحارث بن حصين، ثنا القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: قال عبد الله بن مسعود:

كنت مع رسول الله يوم حنين فولى عنه الناس، وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار، فنكصنا على أعقابنا نحوا من ثمانين قدما ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة.

قال: ورسول الله على بغلته يمضي قدما، فحادت به بغلته فمال عن السرج، فقلت له: ارتفع رفعك الله.

فقال: «ناولني كفا من تراب» فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا قال: «أين المهاجرين والأنصار؟»

قلت: هم أولاء، قال: «اهتف بهم» فهتفت بهم فجاؤوا سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم. تفرد به أحمد.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الحسين محمد بن أحمد بن تميم القنطري، ثنا أبو قلابة، ثنا أبو عاصم، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، أخبرني عبد الله بن عياض بن الحارث الأنصاري، عن أبيه: أن رسول الله أتى هوازن في اثني عشر ألفا، فقتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر.

قال: وأخذ رسول الله كفا من حصى، فرمى بها في وجوهنا فانهزمنا.

ورواه البخاري في(تاريخه) ولم ينسب عياضا.

وقال مسدد: ثنا جعفر بن سليمان، ثنا عوف بن عبد الرحمن، مولى أم برثن، عمن شهد حنينا كافرا قال:

لما التقينا نحن ورسول الله لم يقوموا لنا حلب شاة، فجئنا نهش سيوفنا بين يدي رسول الله حتى إذ غشيناه، فإذا بيننا وبينه رجال حسان الوجوه فقالوا: شاهت الوجوه فارجعوا، فهزمنا من ذلك الكلام. رواه البيهقي.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو سفيان، ثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن إبراهيم، ثنا الوليد بن مسلم، حدثني محمد بن عبد الله الشعبي، عن الحارث بن بدل النصري، عن رجل من قومه شهد ذلك يوم حنين وعمرو بن سفيان الثقفي قالا: انهزم المسلمون يوم حنين فلم يبق مع رسول الله إلا عباس وأبو سفيان بن الحارث.

قال: فقبض رسول الله قبضة من الحصباء فرمى بها في وجوههم.

قال: فانهزمنا فما خيل إلينا إلا أن كل حجر أو شجر فارس يطلبنا.

قال الثقفي: فأعجزت على فرسي حتى دخلت الطائف.

وروى يونس بن بكير في (مغازيه) عن يوسف بن صهيب بن عبد الله أنه لم يبق مع رسول الله يوم حنين إلا رجل واحد اسمه زيد.

وروى البيهقي من طريق الكديمي، ثنا موسى بن مسعود، ثنا سعيد بن السائب بن يسار الطائفي، عن السائب بن يسار، عن يزيد بن عامر السوائي أنه قال: عند انكشافة انكشفها المسلمون يوم حنين، فتبعهم الكفار وأخذ رسول الله قبضة من الأرض، ثم أقبل على المشركين فرمى بها وجوههم، وقال: «ارجعوا شاهت الوجوه» فما أحد يلقى أخاه إلا وهو يشكو قذى في عينيه.

ثم روى من طريقين آخرين عن أبي حذيفة: ثنا سعيد بن السائب بن يسار الطائفي، حدثني أبي السائب بن يسار سمعت يزيد بن عامر السوائي - وكان شهد حنينا مع المشركين ثم أسلم بعد - قال: فنحن نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين يوم حنين كيف كان؟

قال: فكان يأخذ لنا بحصاة فيرمي بها في الطست فيطن، قال: كنا نجد في أجوافنا مثل هذا.

وقال البيهقي: أنبا أبو عبد الله الحافظ، ومحمد بن موسى بن الفضل قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد قال: حدثنا محمد بن بكير الحضرمي، ثنا أيوب بن جابر، عن صدقة بن سعيد، عن مصعب بن شيبة، عن أبيه قال:

خرجت مع رسول الله يوم حنين، والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به، ولكن أبيت أن تظهر هوازن على قريش فقلت وأنا واقف معه: يا رسول الله إني أرى خيلا بلقا، فقال: «يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر» فضرب يده في صدري ثم قال: «اللهم اهد شيبة».

ثم ضربها الثانية فقال: «اللهم اهد شيبة».

ثم ضربها الثالثة ثم قال: «اللهم اهد شيبة».

قال: فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلي منه.

ثم ذكر الحديث في التقاء الناس، وانهزام المسلمين ونداء العباس، واستنصار رسول الله حتى هزم الله المشركين.

وقال البيهقي: أنبا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو محمد أحمد عبد الله المزني، ثنا يوسف بن موسى، ثنا هشام بن خالد، ثنا الوليد بن مسلم: حدثني عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن شيبة بن عثمان قال:

لما رأيت رسول الله يوم حنين قد عري: ذكرت أبى وعمي وقتل علي وحمزة إياهما فقلت: اليوم أدرك ثأري من رسول الله .

قال: فذهبت لأجيئه عن يمينه فإذا بالعباس بن عبد المطلب قائم عليه درع بيضاء كأنها فضة، ينكشف عنها العجاج، فقلت: عمه ولن يخذله.

قال: ثم جئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقلت: ابن عمه ولن يخذله.

قال: ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أساوره سورة بالسيف إذ رفع شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق، فخفت أن يمحشني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى، فالتفت رسول الله وقال: «يا شيب ادن مني، اللهم أذهب عنه الشيطان».

قال: فرفعت إليه بصري ولهو أحب إلي من سمعي وبصري، فقال: «يا شيب قاتل الكفار».

وقال ابن إسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار قلت: اليوم أدرك ثأري من محمد - وكان أبوه قد قتل يوم أحد - اليوم أقتل محمدا.

قال: فأدرت برسول الله لأقتله فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي، فلم أطق ذاك، وعلمت أنه ممنوع مني.

وقال محمد بن إسحاق: وحدثني والدي إسحاق بن يسار عمن حدثه، عن جبير بن مطعم قال: إنا لمع رسول الله يوم حنين والناس يقتتلون إذا نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء، حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة.

ورواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق به.

وزاد فقال خديج بن العوجا النصري - يعني في ذلك -:

ولما دنونا من حنين ومائه * رأينا سوادا منكر اللون أخصفا

بملمومة شهباء لو قذفوا بها * شماريخ من عروى إذا عاد صفصفا

ولو أن قومي طاوعتني سراتهم * إذا ما لقينا العارض المتكشفا

إذا ما لقينا جند آل محمد * ثمانين ألفا واستمدوا بخندفا

وقد ذكر ابن إسحاق من شعر مالك بن عوف النصري رئيس هوازن يوم القتال، وهو في حومة الوغا يرتجز ويقول:

أقدم مجاج إنه يوم نكر * مثلي على مثلك يحمي ويكر

إذا أضيع الصف يوما والدبر * ثم احزالت زمر بعد زمر

كتائب يكل فيهن البصر * قد أطعن الطعنة تقدي بالسبر

حين يذم المستكن المنحجر * وأطعن النجلاء تعوي وتهر

لها من الجوف رشاش منهمر * تفهق تارات وحينا تنفجر

وثعلب العامل فيها منكسر * يا زين يا ابن همهم أين تفر

قد أنفذ الضرس وقد طال العمر * قد علم البيض الطويلات الخمر

إني في أمثالها غير غمر * إذ تخرج الحاصن من تحت الستر

وذكر البيهقي من طريق يونس بن بكير، عن أبي إسحاق أنه أنشد من شعر مالك أيضا حين ولى أصحابه منهزمين، وذلك قوله بعد ما أسلم وقيل هي لغيره:

أذكر مسيرهم والناس كلهم * ومالك فوقه الرايات تختفق

ومالك مالك ما فوقه أحد * يوم حنين عليه التاج يأتلق

حتى لقوا الناس حين البأس يقدمهم * عليهم البيض والأبدان والدرق

فضاربوا الناس حتى لم يروا أحدا * حول النبي وحتى جنه الغسق

حتى تنزل جبريل بنصرهم * فالقوم منهزم منا ومعتلق

منا ولو غير جبريل يقاتلنا * لمنعتنا إذا أسيافنا الفلق

وقد وفى عمر الفاروق إذ هزموا * بطعنة كان منها سرجه العلق

قال ابن إسحاق: ولما هزم المشركون وأمكن الله رسوله منهم قالت امرأة من المسلمين:

قد غلبت خيل الله خيل اللات * والله أحق بالثبات

قال ابن هشام: وقد أنشدنيه بعض أهل الرواية للشعر:

قد غلبت خيل الله خيل اللات * وخيله أحق بالثبات

قال ابن إسحاق: فلما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف في بني مالك، فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم، وكانت مع ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب فقاتل بها حتى قتل، فأخبرني عامر بن وهب بن الأسود: أن رسول الله لما بلغه قتله قال: «أبعده الله فإنه كان يبغض قريشا».

وذكر ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة أنه قتل مع عثمان هذا غلام له نصراني، فجاء رجل من الأنصار ليسلبه، فإذا هو أغرل فصاح بأعلى صوته: يا معشر العرب إن ثقيفا غرل.

قال المغيرة بن شعبة الثقفي: فأخذت بيده وخشيت أن تذهب عنا في العرب، فقلت: لا تقل كذلك فداك أبي وأمي إنما هو غلام لنا نصراني، ثم جعلت أكشف له القتلى فأقول له: ألا تراهم مختتنين كما ترى؟

قال ابن إسحاق: وكانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود، فلما انهزم الناس أسند رايته إلى شجرة وهرب هو وبنو عمه وقومه، فلم يقتل من الأحلاف غير رجلين؛ رجل من بني غيرة يقال له وهب، ورجل من بني كبة يقال له الجلاح.

فقال رسول الله حين بلغه قتل الجلاح: «قتل اليوم سيد شباب ثقيف إلا ما كان من ابن هنيدة» يعني الحارث بن أويس.

قال ابن إسحاق: فقال العباس بن مرداس يذكر قارب بن الأسود، وفراره من بني أبيه، وذا الخمار وحبسه نفسه وقومه للموت:

ألا من مبلغ غيلان عني * وسوف أخال يأتيه الخبير

وعروة إنما أهدى جوابا * وقولا غير قولكما يسير

بأن محمدا عبد رسول * لرب لا يضل ولا يجور

وجدناه نبيا مثل موسى * فكل فتى بخايره مخير

وبئس الأمر أمر بني قسي * بوج إذا تقسمت الأمور

أضاعوا أمرهم ولكل قومٍ * أمير والدوائر قد تدور

فجئنا أسد غابات إليهم * جنود الله ضاحية تسير

نؤم الجمع جمع بني قسي * على حنق نكاد له نطير

وأقسم لو هموا مكثوا لسرنا * إليهم بالجنود ولم يغوروا

فكنا أسدلية ثم حتى * أبحناها وأسلمت النصور

ويوم كان قبل لدى حنين * فأقلع والدماء به تمور

من الأيام لم تسمع كيوم * ولم يسمع به قوم ذكور

قتلنا في الغبار بني حطيط * على راياتها والخيل زور

ولم يك ذو الخمار رئيس قوم * لهم عقل يعاقب أو نكير

أقام بهم على سنن المنايا * وقد بانت لمبصرها الأمور

فأفلت من نجا منهم حريضا * وقتل منهم بشر كثير

ولا يغني الأمور أخو التواني * ولا الغلق الصريرة الحصور

أحانهم وحان وملكوه * أمورهم وأفلتت الصقور

بنو عوف يميح بهم جياد * أهين لها الفصافص والشعير

فلولا قارب وبنو أبيه * تقسمت المزارع والقصور

ولكن الرياسة عمموها * على يمن أشار به المشير

أطاعوا قاربا ولهم جدود * وأحلام إلى عز تصير

فإن يهدوا إلى الإسلام يلفوا * أنوف الناس ما سمر السمير

فإن لم يسلموا فهموا أذان * بحرب الله ليس لهم نصير

كما حكمت بني سعد وجرت * برهط بني غزية عنقفير

كأن بني معاوية بن بكر * إلى الإسلام ضائنة تخور

فقلنا أسلموا أنا أخوكم * وقد برأت من الإحن الصدور

كأن القوم إذ جاؤوا إلينا * من البغضاء بعد السلم عور

فصل هزيمة هوازن

ولما انهزمت هوازن وقف ملكهم مالك بن عوف النصري على ثنية مع طائفة من أصحابه فقال: قفوا حتى تجوز ضعفاؤكم وتلحق أخراكم.

قال ابن إسحاق: فبلغني أن خيلا طلعت ومالك وأصحابه على الثنية، فقال لأصحابه: ماذا ترون؟

قالوا: نرى قوما واضعي رماحهم بين آذان خيلهم، طويلة بوادهم، فقال: هؤلاء بنو سليم ولا بأس عليكم منهم، فلما أقبلوا سلكوا بطن الوادي، ثم طلعت خيل أخرى تتبعها فقال لأصحابه: ماذا ترون؟

قالوا: نرى قوما عارضي رماحهم أغفالا على خيلهم، فقال: هؤلاء الأوس والخزرج، ولا بأس عليكم منهم.

فلما انتهوا إلى أصل الثنية سلكوا طريق بني سليم، ثم طلع فارس فقال لأصحابه: ماذا ترون؟

فقالوا: نرى فارسا طويل الباد واضعا رمحه على عاتقه، عاصبا رأسه بملاءة حمراء.

قال: هذا الزبير بن العوام، وأقسم باللات ليخالطنكم فاثبتوا له، فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية أبصر القوم فصمد لهم، فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها.

فصل في الغنائم

وأمر رسول الله بالغنائم فجمعت من الإبل والغنم والرقيق، وأمر أن تساق إلى الجعرانة فتحبس هناك.

قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله على الغنائم مسعود بن عمرو الغفاري.

فصل أمره صلى الله عليه وسلم أن لا يقتل وليدا

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا أن رسول الله مر يومئذ بامرأة قتلها خالد بن الوليد والناس متقصفون عليها، فقال لبعض أصحابه: «أدرك خالدا فقل له: إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفا».

هكذا رواه ابن إسحاق منقطعا.

وقد قال الإمام أحمد: ثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، ثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، حدثني المرقع بن صيفي، عن جده رباح بن ربيع أخي بني حنظلة الكاتب أنه أخبره:

أنه رجع رسول الله في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمر رباح وأصحاب رسول الله على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها ويتعجبون من خلقها حتى لحقهم رسول الله على راحلته فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله فقال: «ما كانت هذه لتقاتل»

فقال لأحدهم: «الحق خالدا فقل له: لا يقتلن ذرية ولا عسيفا»

وكذلك رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث المرقع بن صيفي به نحوه.

غزوة أوطاس

وكان سببها أن هوازن لما انهزمت ذهبت فرقة منهم فيهم الرئيس مالك بن عوف النصري، فلجأوا إلى الطائف فتحصنوا بها، وسارت فرقة فعسكروا بمكان يقال له أوطاس، فبعث إليهم رسول الله سرية من أصحابه عليهم أبو عامر الأشعري فقاتلوهم فغلبوهم.

ثم سار رسول الله بنفسه الكريمة، فحاصر أهل الطائف كما سيأتي.

قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون يوم حنين أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم إلى نخلة، ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف، وتبعت خيل رسول الله من سلك الثنايا.

قال: فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهان السلمي ويعرف بابن الدغنة - وهي أمه - دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه في شجار لهم، فإذا برجل فأناخ به، فإذا شيخ كبير، وإذا دريد بن الصمة ولا يعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد بي؟

قال: أقتلك.

قال: ومن أنت؟

قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا.

قال: بئس ما سلحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر رحلي في الشجار، ثم اضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أضرب الرجال.

ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلك دريد بن الصمة، قرب والله يوم منعت فيه نساءك، فزعم بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته فوقع تكشف، فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القراطيس من ركوب الخيل أعراء.

فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه، فقالت: أما والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثا.

ثم ذكر ابن إسحاق ما رثت به عمرة بنت دريد أباها، فمن ذلك قولها:

قالوا قتلنا دريدا قلت قد صدقوا * فظل دمعي على السربال منحدر

لولا الذي قهر الأقوام كلهم * رأت سليم وكعب كيف يأتمر

إذن لصبحهم غبا وظاهرة * حيث استقرت نواهم جحفل ذفر

قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري، فأدرك من الناس بعض من انهزم، فناوشوه القتال، فرمى أبو عامر فقتل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعري وهو ابن عمه، فقاتلهم ففتح الله عليه وهزمهم الله عز وجل.

ويزعمون أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر الأشعري بسهم فأصاب ركبته فقتله، وقال:

إن تسألوا عني فإني سلمه * ابن سمادير لمن توسمه

أضرب بالسيف رؤوس المسلمه

قال ابن إسحاق: وحدثني من أثق به من أهل العلم بالشعر وحديثه: أن أبا عامر الأشعري لقي يوم أوطاس عشرة أخوة من المشركين، فحمل عليه أحدهم، فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه فقتله أبو عامر، ثم حمل عليه آخر، فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فقتله أبو عامر.

ثم جعلوا يحملون عليه وهو يقول ذلك، حتى قتل تسعة وبقي العاشر، فحمل على أبي عامر، وحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه.

فقال الرجل: اللهم لا تشهد عليَّ، فكف عنه أبو عامر فأفلت، فأسلم بعد فحسن إسلامه، فكان النبي إذا رآه قال: «هذا شريد أبي عامر».

قال: ورمى أبا عامر؛ أخوان: العلاء وأوفى ابنا الحارث، من بني جشم بن معاوية، فأصاب أحدهما قلبه، والآخر ركبته فقتلاه، وولى الناس أبا موسى، فحمل عليهما فقتلهما، فقال رجل من بني جشم بن معاوية يرثيهما:

إن الرزية قتل العلا * ء وأوفى جميعا ولم يسندا

هما القاتلان أبا عامر * وقد كان داهية أربدا

هما تركاه لدى معرك * كأن على عطفه مجسدا

فلم ير في الناس مثليهما * أقل عثارا وأرمى يدا

وقال البخاري: ثنا محمد بن العلاء، وحدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: لما فرغ رسول الله من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد وهزم الله أصحابه.

قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، فرمى أبو عامر في ركبته، رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته.

قال: فانتهيت إليه فقلت: يا عم من رماك؟

فأشار إلى أبي موسى فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له فلحقته، فلما رآني ولى، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي ألا تثبت؟

فكف فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك.

قال: فانتزع هذا السهم، فنزعته فنزا منه الماء.

قال: يا ابن أخي أقرئ رسول الله السلام، وقل له: استغفر لي، واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيرا ثم مات، فرجعت فدخلت على رسول الله في بيته على سرير مرمل وعليه فراش قد أثر رمال السرير بظهره وجنبيه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقوله: قل له استغفر لي.

قال: فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه فقال: «اللهم اغفر لعبيد أبي عامر» ورأيت بياض إبطيه ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك - أو من الناس».

فقلت: ولي فاستغفر.

فقال: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما».

قال أبو بردة: إحداهما لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى رضي الله عنهما.

ورواه مسلم، عن أبي كريب محمد بن العلاء، وعبد الله بن أبي براد، عن أبي أسامة به نحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبا سفيان - وهو الثوري - عن عثمان البتي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا نساء من سبي أوطاس ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي فنزلت هذه الآية: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } 65.

قال: فاستحللنا بها فروجهن.

وهكذا رواه الترمذي، والنسائي من حديث عثمان البتي به.

وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث شعبة، عن قتادة عن، أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري.

وقد رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة، زاد مسلم، وشعبة، والترمذي من حديث همام، عن يحيى ثلاثتهم عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد:

أن أصحاب رسول الله أصابوا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج من أهل الشرك، فكان أناس من أصحاب رسول الله كفوا وتأثموا من غشيانهن، فنزلت هذه الآية في ذلك: { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم }

وهذا لفظ أحمد بن حنبل، فزاد في هذا الإسناد أبا علقمة الهاشمي وهو ثقة، وكان هذا هو المحفوظ، والله أعلم.

وقد استدل جماعة من السلف بهذه الآية الكريمة على أن بيع الأمة طلاقها.

روى ذلك عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري وخالفهم الجمهور مستدلين بحديث بريرة حيث بيعت، ثم خيرت في فسخ نكاحها أو إبقائه، فلو كان بيعها طلاقها لها لما خيرت.

وقد تقصينا الكلام على ذلك في التفسير بما فيه كفاية وسنذكره إن شاء الله في (الأحكام الكبير)، وقد استدل جماعة من السلف على إباحة الأمة المشركة بهذا الحديث في سبايا أوطاس، وخالفهم الجمهور وقالوا: هذه قضية عين، فلعلهن أسلمن أو كن كتابيات، وموضع تقرير ذلك في (الأحكام الكبير) إن شاء الله تعالى.

من استشهد يوم حنين وأوطاس

أيمن ابن أم أيمن مولى رسول الله وهو أيمن بن عبيد.

وزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد جمح به فرسه الذي يقال له الجناح فمات.

وسراقة بن مالك بن الحارث بن عدي الأنصاري من بني العجلان.

وأبو عامر الأشعري أمير سرية أوطاس.

فهؤلاء أربعة رضي الله عنهم.

ما قيل من الأشعار في غزوة هوازن

فمن ذلك قول بجير بن زهير بن أبي سلمى:

لولا الإله وعيده وليتم * حين استخف الرعب كل جبان

بالجزع يوم حبالنا أقراننا * وسوابح يكبون للأذقان

من بين ساع ثوبه في كفه * ومقطر بسنانك وثبان

والله أكرمنا وأظهر ديننا * وأعزنا بعبادة الرحمن

والله أهلكهم وفرق جمعهم * وأذلهم بعبادة الشيطان

قال ابن هشام: ويروى فيها بعض الرواة:

إذ قام عم نبيكم ووليه * يدعون: بالكتيبة الإيمان

أين الذين هم أجابوا ربهم * يوم العريض وبيعة الرضوان

وقال عباس بن مرداس السلمي:

فإني والسوابح يوم جمع *وما يتلو الرسول من الكتاب

لقد أحببت ما لقيت ثقيف * بجنب الشعب أمس من العذاب

هم رأس العدو من أهل نجد * فقتلهم ألذ من الشراب

هزمنا الجمع جمع بني قسي * وحلت بركها ببني رئاب

وصرما من هلال غادرتهم * بأوطاس تعفر بالتراب

ولو لاقين جمع بني كلاب * لقام نساؤهم والنقع كابي

ركضنا الخيل فيهم بين بس * إلى الأورال تنحط بالتهاب

بذي لجب رسول الله فيهم * كتيبته تعرض للضراب

وقال عباس بن مرداس أيضا:

يا خاتم النباء إنك مرسل * بالحق كل هدى السبيل هداكا

إن الإله بنى عليك محبة * في خلقه ومحمدا سماكا

ثم الذين وفوا بما عاهدتهم * جند بعثت عليهم الضحاكا

رجلا به درب السلاح كأنه * لما تكنفه العدو يراكا

يغشى ذوي النسب القريب وإنما * يبغي رضا الرحمن ثم رضاكا

أنبئك أني قد رأيت مكره * تحت العجاجة يدمغ الإشراكا

طورا يعانق باليدين وتارة * يفري الجماجم صارما فتاكا

يغشى به هام الكماة ولو ترى * منه الذي عاينت كان شفاكا

وبنو سليم معنقون أمامه * ضربا وطعنا في العدو دراكا

يمشون تحت لوائه وكأنهم * أسد العرين أردن ثم عراكا

ما يرتجون من القريب قرابة * إلا لطاعة ربهم وهواكا

هذي مشاهدنا التي كانت لنا * معروفة وولينا مولاكا

وقال عباس بن مرداس أيضا:

عفا مجدل من أهله فمتالع *فمطلا أريك قد خلا فالمصانع

ديار لنا يا جمل إذ جل عيشنا * رخي وصرف الدهر للحي جامع

حبيبة ألوت بها غربة النوى * لبين فهل ماض من العيش راجع

فإن تبتغي الكفار غير ملومة * فإني وزير للنبي وتابع

دعانا إليه خير وفد علمتهم * خزيمة والمرار منهم وواسع

فجئنا بألف من سليم عليهم * لبوس لهم من نسج داود رائع

نبايعه بالأخشبين وإنما * يد الله بين الأخشبين نبايع

فجسنا مع المهدي مكة عنوة * بأسيافنا والنقع كاب وساطع

علانية والخيل يغشى متونها * حميم وآن من دم الجوف ناقع

ويوم حنين حين سارت هوازن * إلينا وضاقت بالنفوس الأضالع

صبرنا مع الضحاك لا يستفزنا * قراع الأعادي منهم والوقائع

أمام رسول الله يخفق فوقنا * لواء كخذروف السحابة لامع

عشية ضحاك بن سفيان معتص * بسيف رسول الله والموت كانع

نذود أخانا عن أخينا ولو نرى * مصالا لكنا الأقربين نتابع

ولكن دين الله، دين محمد * رضينا به فيه الهدى والشرائع

أقام به بعد الضلالة أمرنا * وليس لأمر حمه الله دافع

وقال عباس أيضا:

تقطع باقي وصل أم مؤمل * بعاقبة واستبدلت نية خلفا

وقد حلفت بالله لا تقطع القوى * فما صدقت فيه ولا برت الحلفا

خفافية بطن العقيق مصيفها * وتحتل في البادين وجرة فالعرفا

فإن تتبع الكفار أم مؤمل * فقد زودت قلبي على نأيها شغفا

وسوف ينبئها الخبير بأننا * أبينا ولم نطلب سوى ربنا حلفا

وأنا مع الهادي النبي محمد * وفينا ولم يستوفها معشر ألفا

بفتيان صدق من سليم أعزة * أطاعوا فما يعصون من أمره حرفا

خفاف وذكوان وعوف تخالهم * مصاعب زافت في طروقتها كلفا

كأن نسيج الشهب والبيض ملبس * أسودا تلاقت في مراصدها غضفا

بنا عز دين الله غير تنحل * وزدنا على الحي الذي معه ضعفا

بمكة إذ جئنا كأن لواءنا * عقاب أرادت بعد تحليقها خطفا

على شخص الأبصار تحسب بينها * إذا هي جالت في مراودها عزفا

غداة وطئنا المشركين ولم نجد * لأمر رسول الله عدلا ولا صرفا

بمعترك لا يسمع القوم وسطه * لنا زحمة إلا التذامر والنقفا

ببيض تطير الهام عن مستقرها * وتقطف أعناق الكماة بها قطفا

فكائن تركنا من قتيل ملحب * وأرملة تدعو على بعلها لهفا

رضا الله ننوي لا رضا الناس نبتغي * ولله ما يبدو جميعا وما يخفى

وقال عباس أيضا رضي الله عنه:

ما بال عينك فيها عائر سهر * مثل الحماطة أغضى فوقها الشُّفُر

عين تأوَّبها من شجوها أرق * فالماء يغمرها طورا وينحدر

كأنه نظم در عند ناظمه * تقطع السلك منه فهو منتثر

يا بعد منزل من ترجو مودته * ومن أتى دونه الصمان فالحفر

دع ما تقدم من عهد الشباب فقد * ولى الشباب وزار الشيب والزعر

واذكر بلاء سليم في مواطنها * وفي سليم لأهل الفخر مفتخر

قوم هموا نصروا الرحمن واتبعوا * دين الرسول وأمر الناس مشتجر

لا يغرسون فسيل النخل وسطهم * ولا تخاور في مشتاهم البقر

إلا سوابح كالعقبان مقربة * في دارة حولها الأخطار والعكر

تدعى خفاف وعوف في جوانبها * وحي ذكوان لا ميل ولا ضجر

الضاربون جنود الشرك ضاحية * ببطن مكة والأرواح تبتدر

حتى رفعنا وقتلاهم كأنهم * نخل بظاهرة البطحاء منقعر

ونحن يوم حنين كان مشهدنا * للدين عزا وعند الله مدخر

إذ نركب الموت مخضرا بطائنه * والخيل ينجاب عنها ساطع كدر

تحت اللواء مع الضحاك يقدمنا * كما مشى الليث في غاباته الخدر

في مأزق من مجر الحرب كلكلُها * تكاد تأفل منه الشمس والقمر

وقد صبرنا بأوطاس أسنتنا * لله ننصر من شئنا وننتصر

حتى تأوب أقوام منازلهم * لولا المليك ولولا نحن ما صدروا

فما ترى معشرا قلوا ولا كثروا * إلا وقد أصبح منا فيهم أثر

وقال عباس أيضا رضي الله عنه:

يا أيها الرجل الذي تهوي به * وجناء مجمرة المناسم عرمس

إما أتيت على النبي فقل له * حقا عليك إذا اطمأن المجلس

يا خير من ركب المطي ومن مشى * فوق التراب إذا تعد الأنفس

إنا وفينا بالذي عاهدتنا * والخيل تقدع بالكماة وتضرس

إذ سال من أفناء بهثة كلها * جمع تظل به المخارم ترجس

حتى صبحنا أهل مكة فيلقا * شهباء يقدمها الهمام الأشوس

من كل أغلب من سليم فوقه * بيضاء محكمة الدخال وقونس

يروي القناة إذا تجاسر في الوغى * ونخاله أسدا إذا ما يعبس

يغشى الكتيبة معلما وبكفه * عضب يقد به ولدن مدعس

وعلى حنين قد وفى من جمعنا * ألف أمد به الرسول عرندس

كانوا أمام المؤمنين دريئة * والشمس يومئذ عليهم أشمس

نمضي ويحرسنا الإله بحفظه * والله ليس بضائع من يحرس

ولقد حبسنا بالمناقب محبسا * رضي الإله به فنعم المحبس

وغداة أوطاس شددنا شدة * كفت العدو وقيل منها يا احبسوا

تدعو هوازن بالأخوة بيننا * ثدي تمد به هوازن أيبس

حتى تركنا جمعهم وكأنه * عير تعاقبه السباع مفرس

وقال أيضا رضي الله عنه:

من مبلغ الأقوام أن محمدا * رسول الإله راشد حيث يمما

دعا ربه واستنصر الله وحده * فأصبح قد وفى إليه وأنعما

سرينا وواعدنا قديدا محمدا * يؤم بنا أمرا من الله محكما

تماروا بنا في الفجر حتى تبينوا * مع الفجر فتيانا وغابا مقوما

على الخيل مشدودا علينا دروعنا * ورجلا كدفاع الأتي عرمرما

فإن سراة الحي إن كنت سائلا * سليم وفيهم منهم من تسلما

وجند من الأنصار لا يخذلونه * أطاعوا فما يعصونه ما تكلما

فإن تك قد أمرت في القوم خالدا * وقدمته فإنه قد تقدما

بجند هداه الله أنت أميره * تصيب به في الحق من كان أظلما

حلفت يمينا برة لمحمد * فأكملتها ألفا من الخيل ملجما

وقال نبي المؤمنين تقدموا * وحب إلينا أن نكون المقدما

وبتنا بنهي المستدير ولم يكن * بنا الخوف إلا رغبة وتحزما

أطعناك حتى أسلم الناس كلهم * وحتى صبحنا الجمع أهل يلملما

يظل الحصان الأبلق الورد وسطه * ولا يطمئن الشيخ حتى يسوما

سمونا لهم ورد القطا زفه ضحى * وكلٌ تراه عن أخيه قد أحجما

لدن غدوة حتى تركنا عشية * حنينا وقد سالت دوامعه دما

إذا شئت من كل رأيت طمرة * وفارسها يهوي ورمحا محطما

وقد أحرزت منا هوازن سربها * وحب إليها أن نخيب ونحرما

هكذا أورد الإمام أحمد بن إسحاق هذه القصائد من شعر عباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه، وقد تركنا بعض ما أورده من القصائد خشية الإطالة وخوف الملالة ثم أورد من شعر غيره أيضا وقد حصل فيه كفاية من ذلك، والله أعلم.

غزوة الطائف

قال عروة وموسى بن عقبة عن الزهري: قاتل رسول الله يوم حنين وحاصر الطائف في شوال سنة ثمان.

وقال محمد بن إسحاق: ولما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال، ولم يشهد حنينا ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور.

قال ثم سار رسول الله إلى الطائف حين فرغ من حنين فقال كعب بن مالك في ذلك:

قضينا من تهامة كل ريب * وخيبر ثم أجممنا السيوفا

نخبرها ولو نطقت لقالت * قواطعهن: دوسا أو ثقيفا

فلست لحاضن إن لم تروها * بساحة داركم منا ألوفا

وننتزع العروش ببطن وجٍ * وتصبح دوركم منكم خلوفا

ويأتيكم لنا سرعان خيل * يغادر خلفه جمعا كثيفا

إذا نزلوا بساحتكم سمعتم * لها مما أناخ بها رجيفا

بأيديهم قواضب مرهفات * يزرن المصطلين بها الحتوفا

كأمثال العقائق أخلصتها * قيون الهند لم تضرب كتيفا

تخال جدية الأبطال فيها * غداة الزحف جاديا مدوفا

أجدهم أليس لهم نصيح * من الأقوام كان بنا عريفا

يخبرهم بأنا قد جمعنا * عتاق الخيل والنجب الطروفا

وأنا قد أتيناهم بزحف * يحيط بسور حصنهم صفوفا

رئيسهم النبي وكان صلبا * نقي القلب مصطبرا عزوفا

رشيد الأمر ذا حكم وعلم * وحلم لم يكن نزقا خفيفا

نطيع نبينا ونطيع ربا * هو الرحمن كان بنا رؤوفا

فإن تلقوا إلينا السلم نقبل * ونجعلكم لنا عضدا وريفا

وإن تأبوا نجاهدكم ونصبر * ولا يك أمرنا رعشا ضعيفا

نجالد ما بقينا أو تنيبوا * إلى الإسلام إذعانا مضيفا

نجاهد لا نبالي ما لقينا * أأهلكنا التلاد أم الطريفا

وكم من معشر ألبوا علينا * صميم الجذم منهم والحليفا

أتونا لا يرون لهم كفاء * فجدعنا المسامع والأنوفا

بكل مهند لين صقيل * نسوقهم بها سوقا عنيفا

لأمر الله والإسلام حتى * يقوم الدين معتدلا حنيفا

وتنسى اللات والعزى وود * ونسلبها القلائد والشنوفا

فأمسوا قد أقروا واطمأنوا * ومن لا يمتنع يقبل خسوفا

وقال ابن إسحاق فأجابه كنانة بن عبد يا ليل بن عمرو بن عمير الثقفي:

قلت: وقد وفد على رسول الله بعد ذلك في وفد ثقيف فأسلم معهم.

قاله موسى بن عقبة، وأبو إسحاق، وأبو عمر بن عبد البر، وابن الأثير، وغير واحد، وزعم المدايني أنه لم يسلم بل صار إلى بلاد الروم فتنصر ومات بها:

من كان يبغينا يريد قتالنا * فإنا بدار معلم لا نريمها

وجدنا بها الآباء من قبل ما ترى * وكانت لنا أطواؤها وكرومها

وقد جربتنا قبل عمرو بن عامر * فأخبرها ذو رأيها وحليمها

وقد علمت - إن قالت الحق - أننا * إذا ما أتت صعر الخدود نقيمها

نقومها حتى يلين شريسها * ويعرف للحق المبين ظلومها

علينا دلاص من تراب محرق * كلون السماء زينتها نجومها

نرفعها عنا ببيض صوارم * إذا جردت في غمرة لا نشيمها

قال ابن إسحاق: وقال شداد بن عارض الجشمي في مسير رسول الله إلى الطائف:

لا تنصروا اللات إن الله مهلكها * وكيف ينصر من هو ليس ينتصر

إن التي حرقت بالسد فاشتعلت * ولم تقاتل لدى أحجارها هدر

إن الرسول متى ينزل بلادكم * يظعن وليس بها من أهلها بشر

قال ابن إسحاق: فسلك رسول الله - يعني من حنين إلى الطائف - على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من لية فابتنى بها مسجدا فصلى فيه.

قال ابن إسحاق: فحدثني عمرو بن شعيب أنه عليه السلام أقاد يومئذ ببحرة الرغاء، حين نزلها بدم، وهو أول دم أقيد به في الإسلام، رجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل فقتله به وأمر رسول الله وهو بلية بحصن مالك بن عوف فهدم.

قال ابن إسحاق: ثم سلك في الطريق يقال لها الضيقة فلما توجه رسول الله ص سأل عن اسمها فقال: «ما اسم هذه الطريق؟» فقيل: الضيقة.

فقال: «بل هي اليسرى» ثم خرج منها على نخب حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة قريبا من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله إما أن تخرج إلينا وإما أن نخرب عليك حائطك، فأبى أن يخرج فأمر رسول الله بإخرابه.

وقال ابن إسحاق: عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير سمعت عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال رسول الله :

«هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه».

قال: فابتدره الناس فاستخرجوا معه الغصن.

ورواه أبو داود عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه، عن محمد بن إسحاق به.

ورواه البيهقي: من حديث يزيد بن زريع عن روح بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية به.

قال ابن إسحاق: ثم مضى رسول الله حتى نزل قريبا من الطائف، فضرب به عسكره فقتل ناس من أصحابه بالنبل، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف فتأخروا إلى موضع مسجده عليه السلام اليوم بالطائف الذي بنته ثقيف بعد إسلامها، بناه عمرو بن أمية بن وهب وكانت فيه سارية لا تطلع عليها الشمس صبيحة كل يوم إلا سمع لها نقيض فيما يذكرون.

قال: فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة.

قال ابن هشام ويقال: سبع عشرة ليلة.

وقال عروة وموسى بن عقبة عن الزهري: ثم سار رسول الله إلى الطائف وترك السبي بالجعرانة، وملئت عرش مكة منهم، فنزل رسول الله بالأكمة عند حصن الطائف بضع عشرة ليلة يقاتلهم ويقاتلونه من وراء حصنهم، ولم يخرج إليه أحد منهم غير أبي بكرة بن مسروح أخي زياد لأمه.

فأعتقه رسول الله وكثرت الجراح، وقطعوا طائفة من أعنابهم ليغيظوهم بها، فقالت لهم ثقيف: لا تفسدوا الأموال فإنها لنا أو لكم.

وقال عروة: أمر رسول الله كل رجل من المسلمين أن يقطع خمس نخلات وخمس حبلات، وبعث مناديا ينادي من خرج إلينا فهو حر، فاقتحم إليه نفر منهم فيهم أبو بكرة بن مسروح أخو زياد بن أبي سفيان لأمه، فأعتقهم ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يعوله ويحمله.

وقال الإمام أحمد: ثنا يزيد ثنا حجاج، عن الحكم عن مقسم، عن ابن عباس، أن رسول الله كان يعتق من جاءه من العبيد قبل مواليهم إذا أسلموا، وقد أعتق يوم الطائف رجلين.

وقال أحمد: ثنا عبد القدوس بن بكر بن خنيس، ثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: حاصر رسول الله أهل الطائف فخرج إليه عبدان فأعتقهما أحدهما أبو بكرة، وكان رسول الله يعتق العبيد إذا خرجوا إليه.

وقال أحمد أيضا: ثنا نصر بن رئاب عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله يوم الطائف: «من خرج إلينا من العبيد فهو حر».

فخرج عبيد من العبيد فيهم أبو بكرة فأعتقهم رسول الله ، هذا الحديث تفرد به أحمد ومداره على الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف، لكن ذهب الإمام أحمد إلى هذا فعنده أن كل عبد جاء من دار الحرب إلى دار الإسلام عتق حكما شرعيا مطلقا عاما.

وقال آخرون إنما كان هذا شرطا لا حكما عاما، ولو صح الحديث لكان التشريع العام أظهر كما في قوله عليه السلام: «من قتل قتيلا فله سلبه».

وقد قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن المكرم الثقفي قال: لما حاصر رسول الله أهل الطائف، خرج إليه رقيق من رقيقهم أبو بكرة عبدا للحارث بن كلدة، والمنبعث وكان اسمه المضطجع فسماه رسول الله المنبعث، ويحنس ووردان في رهط من رقيقهم فأسلموا.

فلما قدم وفد أهل الطائف فأسلموا، قالوا: يا رسول الله رد علينا رقيقنا الذين أتوك؟

قال: «لا أولئك عتقاء الله» ورد على ذلك الرجل ولاء عبده فجعله له.

وقال البخاري: ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن عاصم: سمعت أبا عثمان قال: سمعت سعدا - وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله وأبا بكرة وكان تسور حصن الطائف في أناس فجاء إلى رسول الله -قالا: سمعنا رسول الله يقول: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه فالجنة عليه حرام».

ورواه مسلم من حديث عاصم به.

قال البخاري: وقال هشام أنبا معمر، عن عاصم، عن أبي العالية أو أبي عثمان النهدي قال: سمعت سعدا وأبا بكرة عن النبي قال عاصم: قلت لقد شهد عندك رجلان حسبك بهما.

قال: أجل أما أحدهما فأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأما الآخر فنزل إلى رسول الله ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف.

قال محمد بن إسحاق: وكان مع رسول الله امرأتان من نسائه، إحداهما أم سلمة، فضرب لهما قبتين فكان يصلي بينهما، فحاصرهم وقاتلهم قتالا شديدا وتراموا بالنبل.

قال ابن هشام: ورماهم بالمنجنيق.

فحدثني من أثق به أن النبي أول من رمى في الإسلام بالمنجنيق رمى به أهل الطائف.

وذكر ابن إسحاق أن نفرا من الصحابة دخلوا تحت دبابة، ثم زحفوا ليحرقوا جدار أهل الطائف فأرسلت عليهم سكك الحديد محماة، فخرجوا من تحتها فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتلوا منهم رجالا، فحينئذ أمر رسول الله بقطع أعناب ثقيف فوقع الناس فيها يقطعون.

قال: وتقدم أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة مناديا ثقيفا بالأمان حتى يكلموهم، فأمنوهم فدعوا نساء من قريش وبني كنانة ليخرجن إليهم وهما يخافان عليهن السباء إذا فتح الحصن، فأبين.

فقال لهما أبو الأسود بن مسعود: ألا أدلكما على خير مما جئتما له؟ إن مال أبي الأسود حيث قد علمتما، وكان رسول الله نازلا بوادٍ يقال له: العقيق وهو بين مال بني الأسود، وبين الطائف، وليس بالطائف مال أبعد رشاء، ولا أشد مؤونة ولا أبعد عمارة منه، وإن محمدا إن قطعه لم يعمر أبدا فكلماه فليأخذه لنفسه أو ليدعه لله وللرحم.

فزعموا أن رسول الله تركه لهم.

وقد روى الواقدي عن شيوخه نحو هذا وعنده أن سلمان الفارسي هو الذي أشار بالمنجنيق، وعمله بيده.

وقيل: قدم به وبدبابتين فالله أعلم.

وقد أورد البيهقي من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود عن عروة: أن عيينة بن حصن استأذن رسول الله في أن يأتي أهل الطائف فيدعوهم إلى الإسلام فأذن له، فجاءهم فأمرهم بالثبات في حصنهم وقال: لا يهولنكم قطع ما قطع من الأشجار في كلام طويل، فلما رجع قال له رسول الله : «ما قلت لهم؟».

قال: دعوتهم إلى الإسلام وأنذرتهم النار وذكرتهم بالجنة.

فقال: «كذبت بل قلت لهم كذا وكذا».

فقال: صدقت يا رسول الله أتوب إلى الله وإليك من ذلك.

وقد روى البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن سعدان بن أبي طلحة عن ابن أبي نجيح السلمي - وهو عمرو بن عبسة رضي الله عنه -قال:

حاصرنا مع رسول الله قصر الطائف فسمعت رسول الله يقول: «من بلغ بسهم فله درجة في الجنة» فبلغت يومئذ ستة عشر سهما، وسمعته يقول:

«من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة وأيما رجل أعتق رجلا مسلما فإن الله جاعل كل عظم من عظامه وقاء كل عظم بعظم، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل كل عظم من عظامها وقاء كل عظم من عظامها من النار».

ورواه أبو داود، والترمذي، وصححه النسائي من حديث قتادة به.

وقال البخاري: ثنا الحميدي، سمع سفيان، ثنا هشام، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله وعندي مخنث فسمعه يقول لعبد الله بن أبي أمية: أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان.

فقال رسول الله : «لا يدخلن هؤلاء عليكن».

قال ابن عيينة وقال ابن جريج: المخنث هيت.

وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم من طرق، عن هشام بن عروة، عن أبيه به وفي لفظ وكانوا يرونه من غير أولي الإربة من الرجال.

وفي لفظ قال رسول الله : «ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكن هؤلاء» يعني إذا كان ممن يفهم ذلك فهو داخل في قوله تعالى: { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } .

والمراد بالمخنث في عرف السلف الذي لا همة له إلى النساء وليس المراد به الذي يؤتى إذ لو كان كذلك لوجب قتله حتما كما دل عليه الحديث، وكما قتله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومعنى قوله: تقبل بأربع وتدبر بثمان يعني: بذلك عكن بطنها فإنها تكون أربعا إذا أقبلت، ثم تصير كل واحدة اثنتين إذا أدبرت.

وهذه المرأة هي بادية بنت غيلان بن سلمة من سادات ثقيف، وهذا المخنث قد ذكر البخاري عن ابن جريج أن اسمه هيت وهذا هو المشهور.

لكن قال يونس عن ابن إسحاق قال: وكان مع رسول الله مولى لخالته بنت عمرو بن عايد مخنث يقال له: مانع، يدخل على نساء رسول الله في بيته، ولا نرى أنه يفطن لشيء من أمور النساء مما يفطن إليه رجال، ولا يرى أن له في ذلك إربا فسمعه وهو يقول لخالد بن الوليد:

يا خالد إن افتتح رسول الله الطائف فلا تنفلتن منكم بادية بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان.

فقال رسول الله حين سمع هذا منه: «ألا أرى هذا يفطن لهذا» الحديث ثم قال لنسائه: «لا يدخلن عليكم» فحجب عن بيت رسول الله .

وقال البخاري: ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي العباس الشاعر الأعمى، عن عبد الله بن عمرو قال: لما حاصر رسول الله الطائف فلم ينل منهم شيئا قال: «إنا قافلون غدا إن شاء الله» فنقل عليهم وقالوا نذهب ولا نفتح؟

فقال: «اغدوا على القتال» فغدوا فأصابهم جراح فقال: «إنا قافلون غدا إن شاء الله» فأعجبهم فضحك النبي ، وقال سفيان: مرة فتبسم.

ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به وعنده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب واختلف في نسخ البخاري ففي نسخة كذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والله أعلم.

وقال الواقدي: حدثني كثير بن زيد بن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة قال: لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف استشار رسول الله نوفل بن معاوية الدئلي فقال: «يا نوفل ما ترى في المقام عليهم؟».

قال: يا رسول الله ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.

قال ابن إسحاق: وقد بلغني أن رسول الله قال لأبي بكر وهو محاصر ثقيفا: «يا أبا بكر إني رأيت أني أهديت لي قبعة مملوءة زبدا فنقرها ديك فهراق ما فيها».

فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد.

فقال رسول الله : «وأنا لا أرى ذلك»، قال: ثم إن خولة بنت حكيم السلمية وهي امرأة عثمان بن مظعون قالت: يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك حلي بادية بنت غيلان بن سلمة أو حلي الفارعة بنت عقيل - وكانت من أحلى نساء ثقيف - فذكر أن رسول الله قال لها: «وإن كان لم يؤذن في ثقيف يا خويلة».

فخرجت خولة فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فدخل على رسول الله فقال: يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خولة زعمت أنك قلته؟

قال: «قد قلته».

قال أو ما أذن فيهم؟

قال: لا.

قال: أفلا أؤذن بالرحيل؟

قال: بلى، فأذن عمر بالرحيل.

فلما استقبل الناس نادى سعيد بن عبيد بن أسيد بن أبي عمرو بن علاج ألا إن الحي مقيم. قال: يقول عيينة بن حصن أجل والله مجدة كراما، فقال له رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة، أتمدح المشركين بالامتناع من رسول الله وقد جئت تنصره؟

فقال: إني والله ما جئت لأقاتل ثقيفا معكم ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف، فأصيب من ثقيف جارية أطؤها لعلها تلد لي رجلا فإن ثقيفا مناكير.

وقد روى ابن لهيعة: عن أبي الأسود، عن عروة قصة خولة بنت حكيم وقول رسول الله ما قال.

وتأذين عمر بالرحيل، قال: وأمر رسول الله الناس أن لا يسرحوا ظهرهم، فلما أصبحوا ارتحل رسول الله وأصحابه ودعا حين ركب قافلا فقال: «اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم».

وروى الترمذي من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قالوا يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم.

فقال: «اللهم اهد ثقيفا» ثم قال هذا حديث حسن غريب.

وروى يونس عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، وعبد الله بن المكرم عمن أدركوا من أهل العلم قالوا: حاصر رسول الله أهل الطائف ثلاثين ليلة أو قريبا من ذلك، ثم انصرفوا عنهم ولم يؤذن فيهم، فقدم المدينة فجاءه وفدهم في رمضان فأسلموا.

وسيأتي ذلك مفصلا في رمضان من سنة تسع إن شاء الله.

وهذه تسمية من استشهد من المسلمين بالطائف فيما قاله ابن إسحاق فمن قريش؛ سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية، وعرفطة بن حباب حليف لبني أمية بن الأسد بن الغوث، وعبد الله بن أبي بكر الصديق رمي بسهم فتوفي منه بالمدينة بعد وفاة رسول الله .

وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي من رمية رميها يومئذ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة حليف لبني عدي، والسائب بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي وأخوه عبد الله، وجليحة بن عبد الله من بني سعد بن ليث ومن الأنصار.

ثم من الخزرج: ثابت بن الجذع الأسلمي، والحارث بن سهل بن أبي صعصعة المازني، والمنذر بن عبد الله من بني ساعدة.

ومن الأوس: رقيم بن ثابت بن ثعلبة بن زيد بن لوذان بن معاوية فقط، فجميع من استشهد يومئذ اثنا عشر رجلا سبعة من قريش، وأربعة من الأنصار، ورجل من بني ليث رضي الله عنهم أجمعين.

قال ابن إسحاق: ولما انصرف رسول الله راجعا عن الطائف قال بجير بن زهير بن أبي سلمى يذكر حنينا والطائف:

كانت علالة يوم بطن حنينٍ * وغداة أوطاس ويوم الأبرق

جمعت بإغواء هوازن جمعها * فتبددوا كالطائر المتمزق

لم يمنعوا منا مقاما واحدا * إلا جدارهم وبطن الخندق

ولقد تعرضنا لكيما يخرجوا * فاستحصنوا منا بباب مغلق

ترتد حسرانا إلى رجراجةٍ * شهباء تلمع بالمنايا فيلق

ملمومة خضراء لو قذفوا بها * حصنا لظل كأنه لم يخلق

مشي الضراء على الهراس كأننا * قدر تفرق في القياد ويلتقي

في كل سابغةٍ إذا ما استحصنت * كالنهي هبت ريحه المترقرق

جدلٍ تمس فضولهن نعالنا * من نسج داود وآل محرق

وقال أبو داود: ثنا عمر بن الخطاب أبو حفص، ثنا الفريابي، ثنا أبان ثنا عمرو - هو بن عبد الله بن أبي حازم - ثنا عثمان بن أبي حازم، عن أبيه، عن جده صخر - هو أبي العيلة الأحمسي - أن رسول الله غزا ثقيفا، فلما أن سمع ذلك صخر ركب في خيل يمد النبي فوجده قد انصرف ولم يفتح.

فجعل صخر حينئذ عهد وذمة لا أفارق هذا القصر حتى ينزلوا على حكم رسول الله ، ولم يفارقهم حتى نزلوا على حكم رسول الله وكتب إليه صخر؛ أما بعد فإن ثقيفا قد نزلت على حكمك يا رسول الله وأنا مقبل بهم وهم في خيلي.

فأمر رسول الله بالصلاة جامعة فدعا لأحمس عشر دعوات: «اللهم بارك لأحمس في خيلها ورجالها».

وأتى القوم فتكلم المغيرة بن شعبة فقال: يا رسول الله إن صخرا أخذ عمتي ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، فدعاه فقال: «يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم فادفع إلى المغيرة عمته».

فدفعها إليه وسأل رسول الله ماء لبني سليم قد هربوا عن الإسلام وتركوا ذلك الماء فقال: يا رسول الله أنزلنيه أنا وقومي؟

قال: «نعم» فأنزله وأسلم - يعني: الأسلميين، فأتوا صخرا فسألوه أن يدفع إليهم الماء فأبى فأتوا رسول الله فقالوا: يا رسول الله أسلمنا وأتينا صخرا ليدفع إلينا ماءنا فأبى علينا، فقال: «يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم فادفع إليهم ماءهم».

قال: نعم يا نبي الله فرأيت وجه رسول الله يتغير عند ذلك حمرة حياء من أخذه الجارية وأخذه الماء.

تفرد به أبو داود وفي إسناده اختلاف.

قلت: وكانت الحكمة الإلهية تقتضي أن يؤخر الفتح عامئذ ليلا يستأصلوا قتلا لأنه قد تقدم أنه عليه السلام لما كان خرج إلى الطائف فدعاهم إلى الله تعالى وإلى أن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه عز وجل وذلك بعد موت عمه أبي طالب، فردوا عليه قوله وكذبوه، فرجع مهموما فلم يستفق إلا عند قرن الثعالب.

فإذا هو بغمامة وإذا فيها جبريل فناداه ملك الجبال فقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام وقد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟

فقال رسول الله : «بل أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده وحده لا يشرك به شيئا» فناسب قوله: بل استأني بهم أن لا يفتح حصنهم لئلا يقتلوا عن آخرهم وأن يؤخر الفتح ليقدموا بعد ذلك مسلمين في رمضان من العام المقبل كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

مرجعه عليه السلام من الطائف

قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله حين انصرف عن الطائف على دحنا حتى نزل الجعرانة فيمن معه من المسلمين ومعه من هوازن سبي كثير، وقد قال له رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف: يا رسول الله ادع عليهم.

فقال: «اللهم اهد ثقيفا وائت بهم»، قال: ثم أتاه وفد هوازن بالجعرانة وكان مع رسول الله من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء ومن الإبل والشاء ما لا يدرى عدته.

قال ابن إسحاق: فحدثني عمرو بن شعيب وفي رواية يونس بن بكير عنه قال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: كنا مع رسول الله بحنين، فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا:

يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا منَّ الله عليك وقام خطيبهم زهير بن صرد، أبو صرد فقال:

يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك ولو أنا ملحنا لابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت رسول الله خير المكفولين، ثم أنشأ يقول:

أمنن علينا رسول الله في كرمٍ * فإنك المرء نرجوه وننتظر

أمنن على بيضةٍ قد عاقها قدر * ممزقٍ شملها في دهرها غير

أبقت لنا الدهر هتافا على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلما حين يختبر

أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك تملؤه من مخضها الدرر

أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزنيك ما تأتي وما تذر

لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر

إنا لنشكر آلاء وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

قال فقال رسول الله : «نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟».

فقالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا.

فقال رسول الله : «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين؛ وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فإني سأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم».

فلما صلى رسول الله بالناس الظهر، قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله فقال: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم».

فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله ، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله ، وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس السلمي: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله .

قال: يقول عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني؟

فقال رسول الله : «من أمسك منكم بحقه، فله بكل إنسان ستة فرائض، من أول فيء نصيبه»، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم.

ثم ركب رسول الله وأتبعه الناس يقولون: يا رسول الله اقسم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه فقال: «أيها الناس ردوا عليّ ردائي فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا».

ثم قام رسول الله إلى جنب بعير فأخذ من سنامه وبرة فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها فقال: «أيها الناس والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم فأدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة».

فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال: يا رسول الله أخذت هذه لأخيط بها برذعة بعير لي دبر.

فقال رسول الله : «أما حقي منها فلك».

فقال الرجل: أما إذا بلغ الأمر فيها فلا حاجة لي بها فرمى بها من يده.

وهذا السياق يقتضي أنه عليه السلام رد إليهم سبيهم قبل القسمة كما ذهب إليه محمد بن إسحاق بن يسار خلافا لموسى بن عقبة وغيره.

وفي (صحيح البخاري) من طريق الليث بن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم أن رسول الله قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوا أن ترد إليهم أموالهم ونساؤهم فقال لهم رسول الله : «معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال؟ وقد كنت استأنيت بكم».

وكان رسول الله انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول الله غير راد إليهم أموالهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: إنا نختار سبينا، فقام رسول الله في المسلمين وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤوا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول مال يفيء الله علينا فليفعل».

فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله.

فقال لهم: «إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم».

فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله فأخبروه بأنهم قد طيبوا وأذنوا.

فهذا ما بلغنا عن سبي هوازن.

ولم يتعرض البخاري لمنع الأقرع وعيينة وقومهما بل سكت عن ذلك والمثبت مقدم على النافي فكيف الساكت.

وروى البخاري: من حديث الزهري أخبرني عمر بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، أخبره جبير بن مطعم أنه بينما هو مع رسول الله ومعه الناس مقفله من حنين، علقت الأعراب برسول الله يسألونه حتى اضطروه إلى شجرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله ثم قال: «أعطوني ردائي فلو كان عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا». تفرد به البخاري.

وقال ابن إسحاق: وحدثني أبو وجزة يزيد بن عبيد السعدي: أن رسول الله أعطى علي بن أبي طالب جارية يقال لها: ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة، وأعطى عثمان بن عفان جارية يقال لها: زينب بنت حيان بن عمرو بن حيان، وأعطى عمر جارية فوهبها من ابنه عبد الله.

وقال ابن إسحاق: فحدثني نافع عن عبد الله بن عمر قال: بعثت بها إلى أخوالي من بني جمح، ليصلحوا لي منها ويهيئوها حتى أطوف بالبيت، ثم آتيهم وأنا أريد أن أصيبها إذا رجعت إليها، قال: فجئت من المسجد حين فرغت، فإذا الناس يشتدون، فقلت ما شأنكم؟

قالوا: رد علينا رسول الله نساءنا وأبناءنا.

قلت: تلكم صاحبتكم في بني جمح فاذهبوا فخذوها فذهبوا إليها فأخذوها.

قال ابن إسحاق: وأما عيينة بن حصن فأخذ عجوزا من عجائز هوازن، وقال حين أخذها: أرى عجوزا إني لأحسب لها في الحي نسبا وعسى أن يعظم نداؤها، فلما رد رسول الله السبايا بست فرائض أبى أن يردها.

فقال له زهير بن صرد: خذها عنك فوالله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد، ولا درها بماكد، إنك ما أخذتها والله بيضاء غريرة، ولا نصفا وثيرة، فردها بست فرائض.

قال الواقدي: ولما قسم رسول الله الغنائم بالجعرانة أصاب كل رجل أربع من الإبل، وأربعون شاة.

وقال سلمة عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر: أن رجلا ممن شهد حنين قال: والله إني لأسير إلى جنب رسول الله على ناقة لي، وفي رجلي نعل غليظة، إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله ، ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله فأوجعه، فقرع قدمي بالسوط وقال: «أوجعتني فتأخر عني» فانصرفت.

فلما كان الغد إذا رسول الله يلتمسني.

قال: قلت: هذا والله لما كنت أصبت من رجل رسول الله بالأمس.

قال: فجئته وأنا أتوقع، فقال: «إنك أصبت قدمي بالأمس فأوجعتني فقرعت قدمك بالسوط، فدعوتك لأعوضك منها» فأعطاني ثمانين نعجة بالضربة التي ضربني.

والمقصود من هذا أن رسول الله رد إلى هوازن سبيهم بعد القسمة، كما دل عليه السياق وغيره.

وظاهر سياق حديث عمرو بن شبيب الذي أورده محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله رد إلى هوازن سبيهم قبل القسمة، ولهذا لما رد السبي وركب علقت الأعراب برسول الله ، يقولون له: أقسم علينا فيئنا حتى اضطروه إلى سمرة.

فخطفت رداءه فقال: «ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عدد هذه العضاة نعما لقسمته فيكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا».

كما رواه البخاري، عن جبير بن مطعم بنحوه.

وكأنهم خشوا أن يرد إلى هوازن أموالهم، كما رد إليهم نساءهم، وأطفالهم فسألوه قسمة ذلك، فقسمها عليه الصلاة والسلام بالجعرانة، كما أمره الله عز وجل وآثر أناسا في القسمة، وتألف أقواما من رؤساء القبائل وأمرائهم.

فعتب عليه أناس من الأنصار حتى خطبهم، وبين لهم وجه الحكمة فيما فعله تطبيبا لقلوبهم، وتنقد بعض من لا يعلم من الجهلة والخوارج، كذي الخويصرة وأشباهه قبحه الله، كما سيأتي تفصيله وبيانه في الأحاديث الواردة في ذلك وبالله المستعان.

قال الإمام أحمد: حدثنا عارم، ثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبي يقول: ثنا السميط السدوسي، عن أنس بن مالك قال: فتحنا مكة ثم إنا غزونا حنينا، فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت، فصفت الخيل، ثم صفت المقاتلة، ثم صفت النساء من وراء ذلك، ثم صفت الغنم، ثم النعم.

قال: ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف، وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد.

قال: فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا.

قال: فلم نلبث أن انكشف خيلنا، وفرت الأعراب، ومن نعلم من الناس.

قال: فنادى رسول الله : «يا للمهاجرين، يا للمهاجرين، يا للأنصار؟».

قال أنس: هذا حديث عمته.

قال: قلنا: لبيك يا رسول الله.

قال: وتقدم رسول الله .

قال: «وأيم الله ما أتيناهم حتى هزمهم الله».

قال: فقبضنا ذلك المال، ثم انطلقنا إلى الطائف فحاصرناهم أربعين ليلة، ثم رجعنا إلى مكة.

قال: فنزلنا فجعل رسول الله يعطي الرجل المائة، ويعطي الرجل المائتين.

قال: فتحدث الأنصار بينها، أما من قاتله فيعطيه، وأما من لم يقاتله فلا يعطيه؟! فرفع الحديث إلى رسول الله ، ثم أمر بسراة المهاجرين والأنصار أن يدخلوا عليه، ثم قال: «لا يدخلن علي إلا أنصاري - أو الأنصار -».

قال: فدخلنا القبة حتى ملأناها، قال نبي الله : «يا معشر الأنصار» أو كما قال: «ما حديث أتاني؟».

قالوا: ما أتاك يا رسول الله؟

قال: «ما حديث أتاني؟».

قالوا: ما أتاك يا رسول الله.

قال: «ألا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وتذهبون برسول الله حتى تدخلوه بيوتكم؟»

قالوا: رضينا يا رسول الله.

قال: فرضوا أو كما قال.

وهكذا رواه مسلم من حديث معتمر بن سليمان، وفيه من الغريب قوله: أنهم كانوا يوم هوازن ستة آلاف، وإنما كانوا في اثني عشر ألفا، وقوله: إنهم حاصروا الطائف أربعين ليلة، وإنما حاصروها قريبا من شهر ودون العشرين ليلة، فالله أعلم.

وقال البخاري: ثنا عبد الله بن محمد، ثنا هشام، ثنا معمر، عن الزهري، حدثني أنس بن مالك قال: قال ناس من الأنصار حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن، فطفق النبي يعطي رجالا المائة من الإبل.

فقالوا: يغفر الله لرسول الله ، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟

قال أنس بن مالك: فحدث رسول الله بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة أدم، ولم يدع معهم غيرهم.

فلما اجتمعوا قام النبي فقال: «ما حديث بلغني عنكم؟»

قال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله ، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.

فقال رسول الله : «فإني لأعطي رجالا حديثي عهد بالكفر أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به».

قالوا: يا رسول الله قد رضينا.

فقال لهم النبي : «فستجدون أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض».

قال أنس: فلم يصبروا.

تفرد به البخاري من هذا الوجه.

ثم رواه البخاري ومسلم، من حديث ابن عوف، عن هشام بن زيد، عن جده أنس بن مالك قال: لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا، فقال: «يا معشر الأنصار».

قالوا: لبيك يا رسول الله وسعديك، لبيك نحن بين يديك.

فنزل رسول الله فقال: «أنا عبد الله ورسوله» فانهزم المشركون، فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا، فقالوا فدعاهم فأدخلهم في قبته، فقال: «أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله ؟».

قالوا: بلى.

فقال رسول الله : «لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار».

وفي رواية للبخاري من هذا الوجه: قال لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم، ومع رسول الله عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده، فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما.

التفت عن يمينه فقال: «يا معشر الأنصار؟»

قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك.

ثم التفت عن يساره فقال: «يا معشر الأنصار؟».

فقالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك، وهو على بغلة بيضاء، فنزل فقال: «أنا عبد الله ورسوله».

فانهزم المشركون، وأصاب يومئذ مغانم كثيرة، فقسم بين المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئا.

فقالت الأنصار: إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا، فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال: «يا معشر الأنصار ما حديث بلغني؟» فسكتوا.

فقال: «يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى بيوتكم؟».

قالوا: بلى.

فقال: «لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار».

قال هشام: قلت يا أبا حمزة وأنت شاهد ذلك؟

قال: وأين أغيب عنه.

ثم رواه البخاري ومسلم أيضا، من حديث شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: جمع رسول الله الأنصار فقال: «إن قريش حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم؟».

قالوا: بلى.

قال: «لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار».

وأخرجاه أيضا من حديث شعبة، عن أبي التياح يزيد بن حميد، عن أنس بنحوه، وفيه فقالوا: والله إن هذا لهو العجب، إن سيوفنا لتقطر من دمائهم والغنائم تقسم فيهم. فخطبهم وذكر نحو ما تقدم.

وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد، ثنا ثابت، عن أنس بن مالك، أن رسول الله أعطى أبا سفيان، وعيينة، والأقرع، وسهيل بن عمرو، في آخرين يوم حنين فقالت الأنصار: يا رسول الله سيوفنا تقطر من دمائهم، وهم يذهبون بالمغنم؟

فبلغ ذلك النبي ، فجمعهم في قبة له حتى فاضت فقال: «فيكم أحد من غيركم؟».

قالوا: لا إلا ابن أختنا.

قال: «ابن أخت القوم منهم».

ثم قال: «أقلتم كذا وكذا؟».

قالوا: نعم.

قال: «أنتم الشعار والناس الدثار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى دياركم؟».

قالوا: بلى.

قال: «الأنصار كرشي وعيبتي، لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعبهم، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار».

وقال: قال حماد: أعطى مائة من الإبل، فسمى كل واحد من هؤلاء.

تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط مسلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس، أن رسول الله قال: «يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي؟ ألم آتكم متفرقين فجمعكم الله بي، ألم آتكم أعداء فألف الله بين قلوبكم؟».

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: «أفلا تقولون جئتنا خائفا فأمناك، وطريدا فأويناك، ومخذولا فنصرناك؟».

قالوا: بل لله المن علينا ولرسوله.

وهذا إسناد ثلاثي على شرط الصحيحين، فهذا الحديث كالمتواتر عن أنس بن مالك.

وقد روي عن غيره من الصحابة.

قال البخاري: ثنا موسى ابن إسماعيل، ثنا وهيب، ثنا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد بن عاصم، قال: لما أفاء الله على رسوله يوم حنين، قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا في أنفسهم إذ لم يصيبهم ما أصاب الناس.

فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟».

كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمن.

قال: «لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».

ورواه مسلم من حديث عمرو بن يحيى المازني به.

وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري، قال: لما أصاب رسول الله الغنائم يوم حنين، وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله قومه.

فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله ، فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم.

فقال: «فيم؟»

قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء.

فقال رسول الله : «فأين أنت من ذلك يا سعد؟».

قال: ما أنا إلا امرؤ من قومي.

قال: فقال رسول الله : «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني».

فخرج سعد فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة فجاء رجل من المهاجرين فأذن له فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم.

فخرج رسول الله ، فقام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟».

قالوا: بلى.

ثم قال رسول الله : «ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟».

قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك؟ المن لله ولرسوله.

قال: «والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، جئتنا طريدا فأويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فأمناك، ومخذولا فنصرناك».

فقالوا: المن لله ولرسوله.

فقال رسول الله :

«أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار».

قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا بالله ربا ورسوله قسما ثم انصرف وتفرقوا.

وهكذا رواه الإمام أحمد: من حديث ابن إسحاق، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه، وهو صحيح.

وقد رواه الإمام أحمد، عن يحيى بن بكير، عن الفضل بن مرزوق، عن عطية بن سعد العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال رجل من الأنصار لأصحابه: أما والله لقد كنت أحدثكم أنه لو استقامت الأمور قد آثر عليكم.

قال: فردوا عليه ردا عنيفا، فبلغ ذلك رسول الله فجاءهم فقال لهم أشياء لا أحفظها.

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: «وكنتم لا تركبون الخيل» وكلما قال لهم شيئا، قالوا: بلى يا رسول الله، ثم ذكر بقية الخطبة كما تقدم.

تفرد به أحمد أيضا.

وهكذا رواه الإمام أحمد منفردا به من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد بنحوه.

ورواه أحمد أيضا عن موسى بن عقبة، عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر مختصرا.

وقال سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد بن مسروق، عن أبيه، عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن جده رافع بن خديج:

أن رسول الله أعطى المؤلفة قلوبهم من سبي حنين مائة من الإبل، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائة، وأعطى صفوان بن أمية مائة، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى علقمة بن علاثة مائة، وأعطى مالك بن عوف مائة، وأعطى العباس بن مرداس دون المائة، ولم يبلغ به أولئك، فأنشأ يقول:

أتجعل نهبي ونهب العبيد * بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما * ومن تخفض اليوم لا يرفع

وقد كنت في الحرب ذا تدري * فلم أعط شيئا ولم أمنع

قال: فأتم له رسول الله مائة.

رواه مسلم من حديث ابن عيينة بنحوه، وهذا لفظ البيهقي.

وفي رواية ذكرها موسى بن عقبة، وعروة بن الزبير، وابن إسحاق، فقال:

كانت نهابا تلافيتها * بكري على المهر في الأجرع

وإيقاظي الحي أن يرقدوا * إذا هجع الناس لم أهجع

فأصبح نهبي ونهب العبد * بين عيينة والأقرع

وقد كنت في الحرب ذا تدرئ * فلم أعط شيئا ولم أمنع

إلا أفايل أعطيتها * عديد قوائمها الأربع

وما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما * ومن تضع اليوم لا يرفع

قال عروة وموسى بن عقبة، عن الزهري: فبلغ ذلك رسول الله فقال له: «أنت القائل أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟».

فقال أبو بكر: ما هكذا قال يا رسول الله، ولكن والله ما كنت بشاعر، وما ينبغي لك.

فقال: «كيف قال؟». فأنشده أبو بكر.

فقال رسول الله : «هما سواء ما يضرك بأيهما بدأت».

ثم قال رسول الله : «اقطعوا عني لسانه» فخشي بعض الناس أن يكون أراد المثلة به، وإنما أراد النبي العطية.

قال: وعبيد فرسه.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء، ثنا أسامة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: كنت عند النبي وهو نازل بالجعرانة، بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى رسول الله أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟

فقال له: «أبشر».

فقال: قد أكثرت علي من أبشر!

فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: «رد البشرى فاقبلا أنتما» ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه وفيه ومج فيه، ثم قال: «اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما، وأبشرا» فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه طائفة. هكذا رواه.

وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته.

قال: مر لي من مال الله الذي عندك.

فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء.

وقد ذكر ابن إسحاق الذين أعطاهم رسول الله يومئذ مائة من الإبل وهم:

أبو سفيان صخر بن حرب، وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن كلدة أخو بني عبد الدار، وعلقمة بن علاثة، والعلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة، والحارث بن هشام، وجبير بن مطعم، ومالك بن عوف النصري، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وعيينة ابن حصن، وصفوان بن أمية، والأقرع بن حابس.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: أن قائلا قال لرسول الله من أصحابه: يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري؟!

فقال رسول الله : «أما والذي نفس محمد بيده، لجعيل خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع، ولكن تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه».

ثم ذكر ابن إسحاق من أعطاه رسول الله دون المائة ممن يطول ذكره.

وفي الحديث الصحيح عن صفوان بن أمية أنه قال: ما زال رسول الله يعطيني من غنائم حنين وهو أبغض الخلق إلي، حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه.

قدوم مالك بن عوف النصري على الرسول

قال ابن إسحاق: وقال رسول الله لوفد هوازن وسألهم عن مالك بن عوف ما فعل؟

فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف.

فقال: «أخبروه أنه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل».

فلما بلغ ذلك مالكا انسل من ثقيف حتى أتى رسول الله وهو بالجعرانة - أو بمكة - فأسلم وحسن إسلامه، فرد عليه أهله وماله، ولما أعطاه مائة فقال مالك بن عوف رضي الله عنه:

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * في الناس كلهم بمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى * ومتى تشأ يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عردت أنيابها * بالسمهري وضرب كل مهند

فكأنه ليث على أشباله * وسط الهباءة خادر في مرصد

قال: واستعمله رسول الله على من أسلم من قومه، وتلك القبائل ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفا لا يخرج لهم سرج إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم.

وقال البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير بن حازم، ثنا الحسن، حدثني عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله قوما ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه فقال: «إني أعطي قوما أخاف هلعهم وجزعهم وأكِل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب».

قال عمرو: فما أحب أن لي بكلمة رسول الله حمر النعم.

زاد أبو عاصم عن جرير: سمعت الحسن، ثنا عمرو بن تغلب، أن رسول الله أتي بمال - أو سبي - فقسمه بهذا.

وفي رواية للبخاري قال: أتي رسول الله بمال - أو بشيء - فأعطى رجالا وترك رجالا فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد» فذكر مثله سواء.

تفرد به البخاري.

وقد ذكر ابن هشام أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال فيما كان من أمر الأنصار وتأخرهم عن الغنيمة:

ذر الهموم فماء العين منحدر * سحا إذا حفلته عبرة درر

وجدا بشماء إذ شماء بهكنة * هيفاء لا ذنن فيها ولا خور

دع عنك شماء إذ كانت مودتها * نزرا وشر وصال الواصل النزر

وائت الرسول وقل يا خير مؤتمن * للمؤمنين إذ ما عدد البشر

علام تدعي سليم وهي نازحة * قدام قوم هموا آووا وهم نصروا

سماهم الله أنصارا بنصرهم * دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترضوا * للنائبات وما خانوا وما ضجروا

والناس إلب علينا فيك ليس لنا * إلا السيوف وأطراف القنا وزر

تجالد الناس لا نبقي على أحد * ولا نضيع ما توحي به السور

ولا تهز جناة الحرب نادينا * ونحن حين تلظى نارها سعر

كما رددنا ببدر دون ما طلبوا * أهل النفاق وفينا ينزل الظفر

ونحن جندك يوم النعف من أحد * إذ حزبت بطرا أحزابها مضر

فما ونينا وما خمنا وما خبروا * منا عثارا وكل الناس قد عثروا

اعتراض بعض أهل الشقاق على الرسول

قال البخاري: ثنا قبيصة، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: لما قسم النبي قسمة حنين قال رجل من الأنصار: ما أراد بها وجه الله.

قال: فأتيت رسول الله فأخبرته فتغير وجهه، ثم قال: «رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».

ورواه مسلم من حديث الأعمش به.

ثم قال البخاري: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: لما كان يوم حنين آثر النبي ناسا، أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناسا، فقال رجل: ما أريد بهذه القسمة وجه الله.

فقلت: لأخبرن النبي فأخبرته، فقال: «رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».

وهكذا رواه من حديث منصور، عن المعتمر به.

وفي رواية للبخاري: فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله.

فقلت: والله لأخبرن رسول الله ، فأتيته فأخبرته فقال: «من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟! رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».

وقال محمد بن إسحاق: وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن مقسم أبي القاسم، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي، حتى أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو يطوف بالبيت معلقا نعله بيده، فقلنا له: هل حضرت رسول الله حين كلمه التميمي يوم حنين؟

قال: نعم، جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف عليه وهو يعطي الناس فقال له: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم.

فقال رسول الله : «أجل فكيف رأيت؟».

قال: لم أرك عدلت.

قال: فغضب النبي فقال: «ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟».

فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله؟

فقال: «دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء، ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث والدم».

وقال الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل بالجعرانة النبي منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله يقبض منها ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل.

قال: «ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل».

فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق؟

فقال: «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية».

ورواه مسلم: عن محمد بن رمح، عن الليث.

وقال أحمد: ثنا أبو عامر، ثنا قرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: بينما رسول الله يقسم مغانم حنين إذ قام إليه رجل فقال: اعدل.

فقال: «لقد شقيت إذ لم أعدل».

ورواه البخاري: عن مسلم بن إبراهيم، عن قرة بن خالد السدوسي به.

وفي الصحيحين من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد قال: بينما نحن عند رسول الله وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل.

فقال رسول الله : «ويلك ومن يعدل إن لم أعدل، لقد خبت وخسرت إذ لم أعدل فمن يعدل؟».

فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ايذن لي فيه فأضرب عنقه.

فقال رسول الله : «دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس».

قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله ، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله الذي نعت.

ورواه مسلم أيضا من حديث القاسم بن الفضل، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد به نحوه.

مجيء أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة عليه بالجعرانة

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض بني سعد بن بكر: أن رسول الله قال يوم هوازن: «إن قدرتم على نجاد - رجل من بني سعد بن بكر - فلا يفلتنكم».

وكان قد أحدث حدثا.

فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله من الرضاعة.

قال: فعنفوا عليها في السوق، فقالت للمسلمين: تعلمون والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة؟ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله .

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن عبيد السعدي - هو أبو وجزة - قال: فلما انتهى بها إلى رسول الله قالت: يا رسول الله إني أختك من الرضاعة.

قال: «وما علامة ذلك؟».

قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك.

قال: فعرف رسول الله العلامة، فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها، وقال: «إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت؟».

قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، فمتعها رسول الله وردها إلى قومها، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما يقال له مكحول وجارية، فزوجت أحدهما الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية.

وروى البيهقي: من حديث الحكم بن عبد الملك، عن قتادة قال: لما كان يوم فتح هوازن جاءت جارية إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله أنا أختك، أنا شيماء بنت الحارث.

فقال لها: «إن تكوني صادقة فإن بك مني أثر لا يبلى».

قال: فكشفت عن عضدها فقالت: نعم يا رسول الله حملتك وأنت صغير فعضضتني هذه العضة.

قال: فبسط لها رسول الله رداءه، ثم قال: «سلي تعطي، واشفعي تشفعي».

وقال البيهقي: أنبا أبو نصر بن قتادة، أنبا عمرو بن إسماعيل بن عبد السلمي، ثنا مسلم، ثنا أبو عاصم، ثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان، أخبرني عمي عمارة بن ثوبان: أن أبا الطفيل أخبره قال: كنت غلاما أحمل عضو البعير، ورأيت رسول الله يقسم نعما بالجعرانة، قال: فجاءته امرأة فبسط لها رداءه، فقلت: من هذه؟

قالوا: أمه التي أرضعته.

هذا حديث غريب، ولعله يريد أخته وقد كانت تحضنه مع أمها حليمة السعدية، وإن كان محفوظا فقد عمرت حليمة دهرا، فإن من وقت أرضعت رسول الله إلى وقت الجعرانة أزيد من ستين سنة، وأقل ما كان عمرها حين أرضعته ثلاثين سنة، ثم الله أعلم بما عاشت بعد ذلك.

وقد ورد حديث مرسل فيه: أن أبويه من الرضاعة قدما عليه والله أعلم بصحته.

قال أبو داود في (المراسيل): ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، ثنا ابن وهب، ثنا عمرو بن الحارث: أن عمر بن السائب حدثه:

أنه بلغه أن رسول الله كان جالسا يوما فجاءه أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم جاءه أخوه من الرضاعة فقام رسول الله فأجلسه بين يديه.

وقد تقدم أن هوازن بكمالها متوالية برضاعته من بني سعد بن بكر - وهم شرذمة من هوازن - فقال خطيبهم زهير بن صرد: يا رسول الله إنما في الحظائر أمهاتك وخالاتك وحواضنك، فأمنُن علينا منَّ الله عليك، وقال فيما قال:

أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر

أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم، فعادت فواضله عليه السلام عليهم قديما وحديثا، خصوصا وعموما.

وقد ذكر الواقدي، عن إبراهيم بن محمد بن شرحبيل، عن أبيه قال: كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول: الحمد لله الذي منَّ علينا بالإسلام، ومنَّ علينا بمحمد ، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الأخوة وبنو العم.

ثم ذكر عداوته للنبي ، وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين وهم على دينهم بعد، قال: ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم يمكنا ذلك، فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول الله فقال: «أنضير؟».

قلت: لبيك.

قال: «هل لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه؟».

قال: فأقبلت إليه سريعا.

فقال: «قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع».

قلت: قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

فقال رسول الله : «اللهم زده ثباتا»

قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتا في الدين، وتبصرة بالحق.

فقال رسول الله : «الحمد لله الذي هداه».

عمرة الجعرانة في ذي القعدة

قال الإمام أحمد: ثنا بهز وعبد الصمد المعنى قالا: ثنا همام بن يحيى، ثنا قتادة قال: سألت أنس بن مالك قلت: كم حج رسول الله ؟

قال: حجة واحدة، واعتمر أربع مرات.

عمرته زمن الحديبية، وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة، حيث قسم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته.

ورواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي من طرق عن همام بن يحيى به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني العطار - عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اعتمر رسول الله أربع عمر؛ عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته.

ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث داود بن عبد الرحمن العطار المكي، عن عمرو بن دينار به. وحسنه والترمذي.

وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ثنا حجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - قال: اعتمر رسول الله ثلاث عمر، كل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الحجر.

غريب من هذا الوجه. وهذه الثلاث عمر اللاتي وقعن في ذي القعدة ما عدا عمرته مع حجته فإنها وقعت في ذي الحجة مع الحجة، وإن أراد ابتداء الإحرام بهن في ذي القعدة فلعله لم يرد عمرة الحديبية لأنه صد عنها، ولم يفعلها، والله أعلم.

قلت: وقد كان نافع ومولاه ابن عمر ينكران أن يكون رسول الله اعتمر من الجعرانة بالكلية، وذلك فيما قال البخاري: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إنه كان علي اعتكاف يوم في الجاهلية فأمره أن يفي به.

قال: وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين، فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال: فمنَّ رسول الله على سبي حنين فجعلوا يسعون في السكك، فقال عمر: يا عبد الله انظر ما هذا؟

قال: منَّ رسول الله على السبي.

قال: اذهب فأرسل الجاريتين.

قال نافع: ولم يعتمر رسول الله من الجعرانة، ولو اعتمر لم يخف على عبد الله.

وقد رواه مسلم من حديث أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر به.

ورواه مسلم أيضا، عن أحمد بن عبدة الضبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله من الجعرانة فقال: لم يعتمر منها.

وهذا غريب جدا عن ابن عمرو عن مولاه نافع في إنكارهما عمرة الجعرانة، وقد أطبق النقلة ممن عداهما على رواية ذلك من أصحاب الصحاح، والسنن، والمسانيد، وذكر ذلك أصحاب المغازي والسنن كلهم.

وهذا أيضا كما ثبت في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح، عن عروة، عن عائشة أنها أنكرت على ابن عمر قوله: إن رسول الله اعتمر في رجب، وقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط.

وقال الإمام أحمد: ثنا نمير، ثنا الأعمش، عن مجاهد قال: سأل عروة بن الزبير ابن عمر في أي شهر اعتمر رسول الله ؟

قال: في رجب، فسمعتنا عائشة فسألها ابن الزبير وأخبرها بقول ابن عمر، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وقد شهدها، وما اعتمر قط إلا في ذي القعدة.

وأخرجه البخاري، ومسلم من حديث جرير، عن منصور عن مجاهد به نحوه.

ورواه أبو داود، والنسائي أيضا من حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن مجاهد: سئل ابن عمر كم اعتمر رسول الله ؟

فقال: مرتين، فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع.

قال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن آدم، ثنا مفضل، عن منصور، عن مجاهد قال: دخلت مع عروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر مستند إلى حجرة عائشة، وأناس يصلون الضحى، فقال عروة: أبا عبد الرحمن ما هذه الصلاة؟

قال: بدعة.

فقال له عروة: أبا عبد الرحمن كم اعتمر رسول الله؟

فقال: أربعا إحداهن في رجب.

قال: وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، فقال لها عروة: إن أبا عبد الرحمن يزعم أن رسول الله اعتمر أربعا إحداهن في رجب.

فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر النبي إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط.

وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن الحسن بن موسى، عن شيبان، عن منصور.

وقال: حسن صحيح غريب.

وقال الإمام أحمد: ثنا روح، ثنا ابن جريج، أخبرني مزاحم بن أبي مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن مخرش الكعبي:

أن رسول الله خرج من الجعرانة ليلا حتى أمسى معتمرا، فدخل مكة ليلا يقضي عمرته، ثم خرج من تحت ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، حتى إذا زالت الشمس خرج من الجعرانة في بطن سرف، حتى جاء مع الطريق - طريق المدينة - بسرف.

قال مخرش: فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس.

ورواه الإمام أحمد: عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج كذلك، وهو من أفراده.

والمقصود أن عمرة الجعرانة ثابتة بالنقل الصحيح الذي لا يمكن منعه ولا دفعه، ومن نفاها لا حجة معه في مقابلة من أثبتها، والله أعلم.

ثم هم كالمجمعين على أنها كانت في ذي القعدة بعد غزوة الطائف، وقسم غنائم حنين.

وما رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في (معجمه الكبير) قائلا: حدثنا الحسن بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا محمد بن الحسن الأسدي، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عمير - مولى عبد الله بن عباس - عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله من الطائف نزل بالجعرانة فقسم بها الغنائم، ثم اعتمر منها، وذلك لليلتين بقيتا من شوال، فإنه غريب جدا، وفي إسناده نظر، والله أعلم.

وقال البخاري: ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا إسماعيل، ثنا ابن جريج، أخبرني عطاء بن صفوان بن يعلى بن أمية، أخبره أن يعلى كان يقول: ليتني أرى رسول الله حين ينزل عليه.

قال: فبينا رسول الله بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به معه فيه ناس من أصحابه، إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمخ بطيب، قال: فأشار عمر بن الخطاب إلى يعلى بيده أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه، فإذا النبي محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سرى عنه، فقال: «أين الذي يسألني عن العمرة آنفا؟»

فالتمس الرجل فأتي به.

قال: «أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك».

ورواه مسلم من حديث ابن جريج، وأخرجاه من وجه آخر عن عطاء كلاهما، عن صفوان بن يعلى بن أمية به.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو أسامة، أنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: دخل رسول الله عام الفتح من كداء من أعلى مكة، ودخل في العمرة من كدى.

وقال أبو داود: ثنا موسى أبو سلمة، ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثا ومشوا أربعا، وجعلوا أرديتهم تحت أباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى.

تفرد به أبو داود.

ورواه أيضا، وابن ماجه من حديث ابن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس مختصرا.

وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاووس: أن ابن عباس أخبره، أن معاوية أخبره قال: قصرت عن رسول الله بمشقص - أو قال: رأيته يقصر عنه بمشقص عند المروة -

وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن جريج به.

ورواه مسلم أيضا: من حديث سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاووس، عن ابن عباس، عن معاوية به.

ورواه أبو داود، والنسائي أيضا: من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه به.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عمرو بن محمد الناقد، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن ابن عباس، عن معاوية قال: قصرت عن رأس رسول الله عند المروة.

والمقصود أن هذا إنما يتوجه أن يكون في عمرة الجعرانة، وذلك أن عمرة الحديبية لم يدخل إلى مكة فيها، بل صد عنها كما تقدم بيانه، وأما عمرة القضاء فلم يكن أبو سفيان أسلم، ولم يبق بمكة من أهلها أحد حين دخل رسول الله ، بل خرجوا منها وتغيبوا عنها مدة مقامه عليه السلام بها تلك الثلاثة الأيام.

وعمرته التي كانت مع حجته لم يتحلل منها بالاتفاق، فتعين أن هذا التقصير الذي تعاطاه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من رأس رسول الله عند المروة إنما كان في عمرة الجعرانة كما قلنا، والله تعالى أعلم.

وقال محمد بن إسحاق رحمه الله: ثم خرج رسول الله من الجعرانة معتمرا، وأمر ببقاء الفيء فحبس بمجنة بناحية مر الظهران.

قلت: الظاهر أنه عليه السلام إنما استبقى بعض المغنم ليتألف به من يلقاه من الأعراب فيما بين مكة والمدينة.

قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله من عمرته انصرف راجعا إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن.

وذكر عروة وموسى بن عقبة، أن رسول الله خلف معاذا مع عتاب بمكة قبل خروجه إلى هوازن، ثم خلفهما بها حين رجع إلى المدينة.

وقال ابن هشام: وبلغني عن زيد بن أسلم أنه قال: لما استعمل رسول الله عتاب بن أسيد على مكة، رزقه كل يوم درهما، فقام فخطب الناس فقال: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله درهما كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد.

قال ابن إسحاق: وكانت عمرة رسول الله في ذي القعدة، وقدم المدينة في بقية ذي القعدة، أو في أول ذي الحجة.

قال ابن هشام: قدمها لست بقين من ذي القعدة فيما قال أبو عمرو المديني.

قال ابن إسحاق: وحج الناس ذلك العام على ما كانت العرب تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد وهي سنة ثمان.

قال: وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة إلى رمضان من سنة تسع.

إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى وذكر قصيدته بانت سعاد

قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله من منصرفه عن الطائف، كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه لأبويه كعب بن زهير، يخبره أن رسول الله قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقي من شعراء قريش؛ ابن الزبعري، وهبيرة بن أبي وهب، هربوا في كل وجه.

فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله ، فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض.

وكان كعب قد قال:

ألا بلغا عني بجيرا رسالة * فويحك فيما قلت ويحك هل لكا

فبين لنا إن كنت لست بفاعل * على أي شيء غير ذلك دلكا

على خلق لم ألف يوما أبا له * عليه وما تلقى عليه أبا لكا

فإن أنت لم تفعل فلست بآسف * ولا قائل أما عثرت لعالكا

سقاك بها المأمون كأسا روية * فأنهلك المأمون منها وعلَّكا

قال ابن هشام: وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر:

من مبلع عني بجيرا رسالة * فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا

شربت مع المأمون كأسا روية * فأنهلك المأمون منها وعلكا

وخالفت أسباب الهدى واتبعته * على أي شيء ويب غيرك دلكا

على خلق لم تلف أما ولا أبا * عليه ولم تدرك عليه أخا لكا

فإن أنت لم تفعل فلست بآسف * ولا قائل أما عثرت لعا لكا

قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجير أكره أن يكتمها رسول الله فأنشده إياها، فقال رسول الله ، لما سمع سقاك بها المأمون: «صدق وإنه لكذوب، أنا المأمون».

ولما سمع على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه قال: «أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه».

قال ثم كتب بجير إلى كعب يقول له:

من مبلغ كعبا فهل لك في التي * تلوم عليها باطلا وهي أحزم

إلى الله لا العزى ولا اللات وحده * فتنجو إذا كان النجاء وتسلم

لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت * من الناس إلا طاهر القلب مسلم

فدين زهير وهو لا شيء دينه * ودين أبي سلمى عليَّ محرم

قال: فلما بلغ كعب الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان في حاضره من عدوه، وقالوا: هو مقتول، فلما لم يجد من شيء بدا قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله ، وذكر فيها خوفه، وإرجاف الوشاة به من عدوه.

ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة كما ذكر لي، فغدا به إلى رسول الله في صلاة الصبح، فصلى مع رسول الله ، ثم أشار له إلى رسول الله ، فقال: هذا رسول الله، فقم إليه فاستأمنه.

فذُكر لي: أنه قام إلى رسول الله فجلس إليه، ووضع يده في يده، وكان رسول الله لا يعرفه، فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن جئتك به؟

فقال رسول الله : «نعم».

فقال: إذا أنا يا رسول الله كعب بن زهير.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه: وثب عليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، دعني وعدو الله أضرب عنقه؟

فقال رسول الله : «دعه عنك، فإنه جاء تائبا نازعا».

قال: فغضب كعب بن زهير على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، فقال في قصيدته التي قال حين قدم على رسول الله :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم عندها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا * إلا أغن غضيض الطرف مكحول

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة * لا يشتكي قصر منها ولا طول

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت * كأنه منهل بالراح معلول

شجت بذي شيم من ماء محنية * صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

تنفي الرياح الفدى عنه وأمرعه * من صوب غادية بيض يعاليل

فيا لها خلة لو أنها صدقت * بوعدها أو لو آن النصح مقبول

لكنها خلة قد سيط من دمها * فجع وولع وإحلاف وتبديل

فما تدوم على حال تكون بها * كما تلون في أثوابها الغول

وما تمسك بالعهد الذي زعمت * إلا كما يمسك الماء الغرابيل

فلا يغرنك ما منت وما وعدت * إن الأماني الأحلام تضليل

كانت مواعيد عرقوب لها مثلا * وما مواعيدها إلا الأباطيل

أرجو وآمل أن تدنو مودتها * وما لهن أخال الدهر تعجيل

أمست سعاد عرضتها بأرض لا تبلغها * إلا العتاق النجيبات المراسيل

ولن يبلغها إلا عذافرة * فيها على الأبن إرقال وتبغيل

من كل نضاحة الذفري إذا عرقت * عرضتها طامس الأعلام مجهول

ترمي الغيوب بعيني مفرد لهق * إذا توقدت الحزان والميل

ضخم مقلدها فعمَّ مقيدها * في خلقها عن بنات الفحل تفضيل

حرف أخوها أبوها من مهجنة * وعمها خالها قوداء شمليل

يمشى القراد عليها ثم يزلقه * منها لبان وأقراب زهاليل

عيرانةٌ قذفت بالنحص عن عرض * مرفقها عن بنات الزور مفتول

قنواءٌ في حربتيها للبصير بها * عتق مبين وفي الخدين تسهيل

كأنما فات عينيها ومذبحها * من خطمها ومن اللحيين برطيل

تمر مثل عسيب النخل ذا خصل * في غادر لم تخونه الأحاليل

تهوي على يسرات وهي لاهية * ذوابل وقعهن الأرض تحليل

يوما تظل به الحرباء مصطخدا * كأن ضاحية بالشمس محلول

وقال للقوم حاديهم وقد جعلت * ورق الجنادب يركضن الحصا قيلوا

أوبٌ بذي فاقدٍ شمطاء معولة * قامت فجاء بها نكر مثاكيل

نواحةٌ رخوة الضبعين ليس لها * لما نعى بكرها الناعون معقول

تفري اللبان بكفيها ومدرعها * مشقق عن تراقيها رعابيل

تسعى الغواة جنابيها وقولهم * إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول

وقال كل صديق كنت أمله * لا ألهينك إني عنك مشغول

فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم * فكل ما قدر الرحمن مفعول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته * يوما على آلة حدباء محمول

نبئتُ أن رسول الله أوعدني * والعفو عند رسول الله مأمول

مهلا هداك الذي أعطاك نافلة * القرآن فيه مواعيظ وتفصيل

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم * أذنب ولو كثرت فيَّ الأقاويل

لقد أقوم مقاما لو يقوم به * أرى وأسمع ما قد يسمع الفيل

لظل يرعد من وجد موارده * من الرسول بإذن الله تنزيل

حتى وضعت يميني ما أنازعها * في كف ذي نقمات قوله القيل

فلهو أخوف عندي إذ أكلمه * وقيل إنك منسوب ومسئول

من ضيغم بضراء الأرض مخدرة * في بطن عثر غيل ذرنه غيل

يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما * لحم من الناس معفور خراديل

إذا يساور قرنا لا يحل له * أن يترك القرن إلا وهو مغلول

منه تظل حمير الوحش نافرة * ولا تمشي بواديه الأراجيل

ولا يزال بواديه أخو ثقة * مضرج البر والدرسان مأكول

إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول

في عصبة من قريش قال قائلهم * ببطن مكة لما أسلموا زولوا

زالوا فما زال أنكاس ولا كشف * عند اللقاء ولا ميل معازيل

يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم * ضرب إذا عرد السود التنابيل

شم العرانين أبطال لبوسهم * من نسج داود في الهيجا سرابيل

بيض سوابغ قد شكت لها حلق * كأنها حلق القفعاء مجدول

ليسوا معاريج إن نالت رماحهم * قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا

لا يقع الطعن إلا في نحورهم * ولا لهم عن حياض الموت تهليل

قال ابن هشام: هكذا أورد محمد بن إسحاق هذه القصيدة ولم يذكر لها إسنادا.

وقد رواها الحافظ البيهقي في (دلائل النبوة) بإسناد متصل فقال: أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد الأسدي بهذان، ثنا إبراهيم بن الحسين، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير بن أبي سلمى، عن أبيه، عن جده قال:

خرج كعب وبجير ابنا زهير، حتى أتيا أبرق العزاف فقال بجير لكعب: اثبت في هذا المكان حتى آتي هذا الرجل - يعني رسول الله - فأسمع ما يقول، فثبت كعب وخرج بجير، فجاء رسول الله فعرض عليه الإسلام فأسلم فبلغ ذلك كعبا فقال:

ألا أبلغا عني بجيرا رسالة * على أي شيء ويب غيرك دلكا

على خلق لم تلف أما ولا أبا * عليه ولم تدرك عليه أخا لكا

سقاك أبو بكر بكأس روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا

فلما بلغت الأبيات رسول الله أهدر دمه، وقال: «من لقي كعبا فليقتله».

فكتب بذلك بجير إلى أخيه، وذكر له أن رسول الله قد أهدر دمه، ويقول له: النجاء وما أراك تنفلت.

ثم كتب إليه بعد ذلك: أعلم أن رسول الله لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله إلا قبل ذلك منه، وأسقط ما كان قبل ذلك، فإذا جاءك كتابي هذا، فأسلم وأقبل.

قال: فأسلم كعب وقال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله ، ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله ، ثم دخل المسجد ورسول الله مع أصحابه كالمائدة بين القوم، و القوم متحلقون معه حلقة خلف حلقة، يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم.

قال كعب: فأنخت راحلتي بباب المسجد، ثم دخلت المسجد فعرفت رسول الله بالصفة، حتى جلست إليه فأسلمت، وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله، الأمان يا رسول الله.

قال: «ومن أنت؟».

قال: كعب بن زهير.

قال: «الذي يقول».

ثم التفت رسول الله إلى أبي بكر فقال: «كيف قال يا أبا بكر؟».

فأنشده أبو بكر:

سقاك بها المأمون كأسا روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا

قال: يا رسول الله ما قلت هكذا.

قال: «فكيف قلت؟».

قال: قلت:

سقاك بها المأمون كأسا روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا

فقال رسول الله : «مأمون والله».

ثم أنشده القصيدة كلها حتى أتى على آخرها، وهي هذه القصيدة:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم عندها لم يغد مكبول

وقد تقدم ما ذكرناه من الرمز لما اختلف فيه إنشاد ابن إسحاق والبيهقي رحمهما الله عز وجل.

وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب (الاستيعاب) أن كعبا لما انتهى إلى قوله:

إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول

نبئتُ أن رسول الله أوعدني * والعفو عند رسول الله مأمول

قال: فأشار رسول الله إلى من معه أن اسمعوا.

وقد ذكر ذلك قبله موسى بن عقبة في مغازيه، ولله الحمد والمنة.

قلت: ورد في بعض الروايات أن رسول الله أعطاه بردته حين أنشده القصيدة، وقد نظر ذلك الصرصري في بعض مدائحه.

وهكذا ذكر ذلك الحافظ أبو الحسن بن الأثير في (الغابة)، قال: وهي البردة التي عند الخلفاء.

قلت: وهذا من الأمور المشهورة جدا، ولكن لم أر ذلك في شيء من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه، فالله أعلم.

وقد روي أن رسول الله قال له لما قال: بانت سعاد: «ومن سعاد؟».

قال: زوجتي يا رسول الله.

قال: «لم تبن، ولكن لم يصح ذلك» وكأنه على ذلك توهم أن بإسلامه تبين امرأته، والظاهر أنه إنما أراد البينونة الحسية لا الحكمية، والله تعالى أعلم.

قال ابن إسحاق: وقال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب - يعني في قصيدته - إذا عرد السود التنابيل، وإنما يريدنا معشر الأنصار، لما كان صاحبنا صنع به ما صنع، وخص المهاجرين من قريش بمدحته، غضبت عليه الأنصار.

فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار، ويذكر بلاءهم من رسول الله ، وموضعهم من اليمن:

من سره كرم الحياة فلا يزل * في مقنب من صالحي الأنصار

ورثوا المكارم كابرا عن كابر * إن الخيار هموا بنوا الأخيار

المكرهين السمهري بأذرع * كسوالف الهندي غير قصار

والناظرين بأعين محمرة * كالجمر غير كليلة الأبصار

والبائعين نفوسهم لنبيهم * للموت يوم تعانق وكرار

والقائدين الناس عن أديانهم * بالمشرفي وبالقنال الخطار

يتطهرون يرونه نسكا لهم * بدماء من علقوا من الكفار

دربوا كما دربت بطون خيفة * غلب الرقاب من الأسود ضواري

وإذا حللت لينعوك إليهم * أصبحت عند معاقل الأعفار

ضربوا عليا يوم بدر ضربةً * دانت لوقعتها جميع نزار

لو يعلم الأقوام علمي كله * فيهم لصدقني الذين أُماري

قوم إذا خوت النجوم فإنهم * للطارقين النازلين مقاري

قال ابن هشام: ويقال إن رسول الله قال له حين أنشده بانت سعاد: «لولا ذكرت الأنصار بخير فإنهم لذلك أهل».

فقال كعب هذه الأبيات وهي في قصيدة له.

قال: وبلغني عن علي بن زيد بن جدعان: أن كعب بن زهير أنشد رسول الله في المسجد: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.

وقد رواه الحاقظ البيهقي بإسناده المتقدم إلى إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثني معن بن عيسى، حدثني محمد بن عبد الرحمن، الأفطس عن ابن جدعان فذكره، وهو مرسل.

وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في (كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب) بعد ما أورد طرفا من ترجمة كعب بن زهير إلى أن قال: وقد كان كعب بن زهير شاعرا مجودا كثير الشعر، مقدما في طبقته هو وأخو بجير، وكعب أشعرهما، وأبوهما زهير فوقهما، ومما يستجاد من شعر كعب بن زهير قوله:

لو كنت أعجب من شيء لأعجبني * سعي الفتى وهو مخبوء له القدر

يسعى الفتى لأمور ليس يدركها * فالنفس واحدة والهم منتشر

والمرء ما عاش ممدود له أمل * لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر

ثم أورد له ابن عبد البر أشعارا كثيرة يطول ذكرها، ولم يؤرخ وفاته، وكذا لم يؤرخها أبو الحسن بن الأثير في كتاب (الغابة في معرفة الصحابة) ولكن حكى أن أباه توفي قبل المبعث بسنة، فالله أعلم.

وقال السهيلي: ومما أجاد فيه كعب بن زهير قوله يمدح رسول الله :

تجري به الناقة الأدماء معتجرا * بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم

ففي عطافيه أو أثناء بردته * ما يعلم الله من دين ومن كرم

الحوادث المشهورة في سنة ثمان والوفيات

فكان في جمادى منها وقعة مؤتة، وفي رمضان غزوة فتح مكة، وبعدها في شوال غزوة هوازن بحنين، وبعده كان حصار الطائف.

ثم كانت عمرة الجعرانة في ذي القعدة، ثم عاد إلى المدينة في بقية السنة.

قال الواقدي: رجع رسول الله إلى المدينة لليالي بقين من ذي الحجة في سفرته هذه.

قال الواقدي: وفي هذه السنة بعث رسول الله عمرو بن العاص إلى جيفر، وعمرو ابني الجلندي من الأزد، وأخذت الجزية من مجوس بلدهما ومن حولها من الأعراب.

قال: وفيها تزوج رسول الله فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في ذي القعدة، فاستعاذت منه عليه السلام ففارقها، وقيل بل خيرها فاختارت الدنيا ففارقها.

قال: وفي ذي الحجة منها ولد إبراهيم ابن رسول الله من مارية القبطية، فاشتدت غيره أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولدا ذكرا، وكانت قابلتها فيه سلمى مولاة رسول الله .

فخرجت إلى أبي رافع فأخبرته، فذهب فبشر به رسول الله فأعطاه مملوكا، ودفعه رسول الله إلى أم برة بنت المنذر بن أسيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف بن مبذول.

وكانت فيها وفاة من ذكرنا من الشهداء في هذه الوقائع، وقد قدمنا هدم خالد بن الوليد البيت الذي كانت العزى تعبد فيه بنخلة بين مكة والطائف، وذلك لخمس بقين من رمضان منها.

قال الواقدي: وفيها كان هدم سواع الذي كانت تعبده هذيل برهاط، هدمه عمرو بن العاص رضي الله عنه، ولم يجد في خزانته شيئا.

وفيها هدم مناة بالمشلل؛ وكانت الأنصار أوسها وخزرجها يعظمونه، هدمه سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه.

وقد ذكرنا من هذا فصلا مفيدا مبسوطا في تفسير سورة النجم عند قوله تعالى: { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } .

قلت: وقد ذكر البخاري بعد فتح مكة قصة تخريب خثعم البيت الذي كانت تعبوه، ويسمونه الكعبة اليمانية مضاهية للكعبة التي بمكة، ويسمون التي بمكة الكعبة الشامية، ولتلك - الكعبة اليمانية -.

فقال البخاري: ثنا يوسف بن موسى، ثنا أبو أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير قال: قال لي رسول الله : «ألا تريحني من ذي الخلصة؟».

فقلت: بلى. فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي فضرب يده في صدري حتى رأيت أثر يده في صدري، وقال: «اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا».

قال: فما وقعت عن فرس بعد.

قال: وكان ذو الخلصة بيتا باليمن لخثعم وبجيلة، فيه نصب تعبد يقال له: الكعبة اليمانية.

قال: فأتاها فحرقها في النار وكسرها.

قال: فلما قدم جرير اليمن، كان بها رجل يستقسم بالأزلام، فقيل له: إن رسول رسول الله ها هنا، فإن قدر عليك ضرب عنقك.

قال: فبينما هو يضرب بها، إذ وقف عليه جرير فقال: لتكسرنها وتشهد أن لا إله إلا الله، أو لأضربن عنقك؟ فكسرها وشهد.

ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أرطأة إلى النبي يبشره بذلك.

قال: فلما أتى رسول الله قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب.

قال: فبارك رسول الله على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.

ورواه مسلم من طرق متعددة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي بنحوه.

)تم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات الجزء الرابع من تاريخ البداية والنهاية لابن كثير، ويتلوه الجزء الخامس، وأوله ذكر غزوة تبوك في رجب منها.(


هامش

  1. [المائدة: 11]
  2. [الحشر: 11]
  3. [آل عمران: 12-13]
  4. [آل عمران: 13]
  5. [النساء: 51-52]
  6. [آل عمران: 121-125]
  7. [آل عمران: 179]
  8. [الأنفال: 36]
  9. [آل عمران: 167]
  10. [النساء: 88]
  11. [آل عمران: 122]
  12. [آل عمران: 128]
  13. [آل عمران: 152_ 153]
  14. [آل عمران: 154 -155]
  15. [آل عمران: 128]
  16. [آل عمران: 144-151]
  17. [الأحزاب: 23]
  18. [النحل: 126]
  19. [آل عمران: 169]
  20. [الأحزاب: 23]
  21. [آل عمران: 172]
  22. [البقرة: 204]
  23. [البقرة: 207]
  24. [الحشر: 1-5]
  25. [الحشر: 11-12]
  26. [المائدة: 11]
  27. [آل عمران: 174]
  28. [الأحزاب: 9-27]
  29. [النساء: 51 -52]
  30. [النور: 62-64]
  31. [الأحزاب: 12]
  32. [الأحزاب: 10]
  33. [الأحزاب: 12-13]
  34. [البقرة: 239]
  35. [الأحزاب: 9]
  36. [الأحزاب: 25]
  37. [الأحزاب: 25-27]
  38. [الأنفال: 27]
  39. [التوبة: 102]
  40. [الممتحنة: 7]
  41. [الأحزاب: 37-38]
  42. [الأحزاب: 53-54]
  43. [11- 26]
  44. [الفتح: 27]
  45. [مريم: 71]
  46. [مريم: 72]
  47. [الممتحنة: 10]
  48. [الفتح: 26]
  49. [البقرة: 196]
  50. [الممتحنة: 10]
  51. [النساء: 94]
  52. [مريم: 71]
  53. [الأحزاب: 4]
  54. [الأحزاب: 5]
  55. [الأحزاب: 40]
  56. [الأحزاب: 37]
  57. [آل عمران: 13]
  58. [النساء: 29]
  59. [الحديد: 10]
  60. [النصر: 1-3]
  61. [أول سورة الممتحنة]
  62. [الإسراء: 81]
  63. [الحديد: 10]
  64. [التوبة: 25-27]
  65. [النساء: 24]
البداية والنهاية - الجزء الرابع
سنة ثلاث من الهجرة غزوة نجد | غزوة الفرع من بحران | خبر يهود بني قينقاع في المدينة | سرية زيد بن حارثة إلى ذي القردة | مقتل كعب بن الأشرف | غزوة أحد في شوال سنة ثلاث | مقتل حمزة رضي الله عنه | فصل نصر الله للمسلمين يوم بدر | فصل فيما لقي النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ من المشركين قبحهم الله | فصل رد رسول الله عين قتادة بن النعمان عندما سقطت يوم أحد | فصل مشاركة أم عمارة في القتال يوم أحد | فصل في أول من عرف رسول الله بعد الهزيمة كعب بن مالك | دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد | فصل سؤال النبي عليه السلام عن سعد بن الربيع أهو حي أم ميت | الصلاة على حمزة وقتلى أحد | فصل في عدد الشهداء | فصل نعي رسول الله لحمنة بنت جحش أخيها وخالها وزوجها يوم أحد | خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما بهم من القرح والجراح في أثر أبي سفيان | فصل فيما تقاول به المؤمنون والكفار في وقعة أحد من الأشعار | آخر الكلام على وقعة أحد | سنة أربع من الهجرة النبوية | غزوة الرجيع | سرية عمرو بن أمية الضمري | سرية بئر معونة | غزوة بني النضير وفيها سورة الحشر | قصة عمرو بن سعدي القرظي | غزوة بني لحيان | غزوة ذات الرقاع | قصة غورث بن الحارث | قصة الذي أصيبت امرأته يومذاك | قصة جمل جابر | غزوة بدر الآخرة | فصل في جملة من الحوادث الواقعة سنة أربع من الهجرة | سنة خمس من الهجرة النبوية غزوة دومة الجندل | غزوة الخندق أو الأحزاب | فصل نزول قريش بمجتمع الأسيال يوم الخندق | فصل في دعائه عليه السلام على الأحزاب | فصل في غزوة بني قريظة | وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه | فصل الأشعار في الخندق وبني قريظة | مقتل أبي رافع اليهودي | مقتل خالد بن سفيان الهذلي | قصة عمرو بن العاص مع النجاشي | فصل في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة | تزويجه بزينب بنت جحش | نزول الحجاب صبيحة عرس زينب | سنة ست من الهجرة | غزوة ذي قرد | غزوة بني المصطلق من خزاعة | قصة الإفك | غزوة الحديبية | سياق البخاري لعمرة الحديبية | فصل في السرايا التي كانت في سنة ست من الهجرة | فصل فيما وقع من الحوادث في هذه السنة | سنة سبع من الهجرة غزوة خيبر في أولها | فصل فتح رسول الله عليه السلام للحصون | ذكر قصة صفية بنت حيي النضرية | فصل محاصرة النبي عليه السلام أهل خيبر في حُصنيهم | فصل فتح حصونها وقسيمة أرضها | فصل تخصيص شيء من الغنيمة للعبيد والنساء ممن شهدوا خيبر | ذكر قدوم جعفر بن أبي طالب ومسلمو الحبشة المهاجرون | قصة الشاة المسمومة والبرهان الذي ظهر | فصل انصراف رسول الله إلى وادي القرى ومحاصرة أهله | فصل من استشهد بخيبر من الصحابة | خبر الحجاج بن علاط البهزي | فصل مروره صلى الله عليه وسلم بوادي القرى ومحاصرة اليهود ومصالحتهم | فصل تقسيم الثمار و الزروع في خيبر بين المسلمين و اليهود بالعدل | سرية أبي بكر الصديق إلى بني فزارة | سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة وراء مكة بأربعة أميال | سرية عبد الله بن رواحة إلى يسير بن رزام اليهودي | سرية أخرى مع بشير بن سعد | سرية بني حدرد إلى الغابة | السرية التي قتل فيها محلم بن جثامة عامر بن الأضبط | سرية عبد الله بن حذافة السهمي | عمرة القضاء | قصة تزويجه عليه السلام بميمونة | ذكر خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة بعد قضاء عمرته | فصل إرسال سرية ابن أبي العوجاء إلى بني سليم | فصل رد رسول الله عليه السلام ابنته زينب على زوجها أبي العاص | سنة ثمان من الهجرة النبوية | طريق إسلام خالد بن الوليد | سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى هوازن | سرية كعب بن عمير إلى بني قضاعة | غزوة مؤتة | فصل إصابة جعفر وأصحابه | فصل عطف رسول الله عليه السلام على ابن جعفر عند إصابة أبيه | فصل في فضل زيد وجعفر وعبد الله رضي الله عنهم | فصل في من استشهد يوم مؤتة | ما قيل من الأشعار في غزوة مؤتة | كتاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الآفاق وكتبه إليهم | إرساله صلى الله عليه وسلم إلى ملك العرب من النصارى بالشام | بعثه إلى كسرى ملك الفرس | بعثه صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب مدينة الإسكندرية واسمه جريج بن مينا القبطي | غزوة ذات السلاسل | سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر | غزوة الفتح الأعظم وكانت في رمضان سنة ثمان | قصة حاطب بن أبي بلتعة | فصل استخلاف كلثوم بن حصين الغفاري على المدينة | فصل إسلام العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم | فصل نزول النبي عليه السلام إلى مر الظهران | صفة دخوله صلى الله عليه وسلم مكة | فصل عدد الذين شهدوا فتح مكة | بعثه عليه السلام خالد بن الوليد بعد الفتح إلى بني جذيمة من كنانة | بعث خالد بن الوليد لهدم العزى | فصل في مدة إقامته عليه السلام بمكة | فصل فيما حكم عليه السلام بمكة من الأحكام | فصل مبايعة رسول الله الناس يوم الفتح على الإسلام والشهادة | غزوة هوازن يوم حنين | الوقعة وما كان أول الأمر من الفرار ثم العاقبة للمتقين | فصل هزيمة هوازن | فصل في الغنائم | فصل أمره صلى الله عليه وسلم أن لا يقتل وليدا | غزوة أوطاس | من استشهد يوم حنين وأوطاس | ما قيل من الأشعار في غزوة هوازن | غزوة الطائف | مرجعه عليه السلام من الطائف | قدوم مالك بن عوف النصري على الرسول | اعتراض بعض أهل الشقاق على الرسول | مجيء أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة عليه بالجعرانة | عمرة الجعرانة في ذي القعدة | إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى وذكر قصيدته بانت سعاد | الحوادث المشهورة في سنة ثمان والوفيات