البداية والنهاية/الجزء الرابع/صفحة واحدة
سنة ثلاث من الهجرة غزوة نجد
سنة ثلاث من الهجرة في أولها كانت: غزوة نجد ويقال لها: غزوة ذي أمر
قال ابن إسحاق: فلما رجع رسول الله ﷺ من غزوة السويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريبا منها، غزا نجدا يريد غطفان وهي: غزوة ذي أمر.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عثمان بن عفان.
قال ابن إسحاق: فأقام بنجد صفرا كله أو قريبا من ذلك، ثم رجع ولم يلق كيدا.
وقال الواقدي: بلغ رسول الله ﷺ أن جمعا من غطفان من بني ثعلبة بن محارب تجمعوا بذي أمر يريدون حربه، فخرج إليهم من المدينة يوم الخميس لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث.
واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، فغاب أحد عشر يوما وكان معه أربعمائة وخمسون رجلا، وهربت منه الأعراب في رؤوس الجبال، حتى بلغ ماء يقال له ذو أمر فعسكر به، وأصابهم مطر كثير، فابتلت ثياب رسول الله ﷺ، فنزل تحت شجرة هناك ونشر ثيابه لتجف، وذلك بمرأى من المشركين.
واشتغل المشركون في شؤونهم، فبعث المشركون رجلا شجاعا منهم يقال له غورث بن الحارث، أو دعثور بن الحارث فقالوا: قد أمكنك الله من قتل محمد، فذهب ذلك الرجل ومعه سيف صقيل، حتى قام على رسول الله ﷺ بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟
قال: الله، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله ﷺ فقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعا أبدا، فأعطاه رسول الله ﷺ سيفه، فلما رجع إلى أصحابه فقالوا: ويلك مالك؟
فقال: نظرت إلى رجل طويل فدفع في صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك وشهدت أن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعا، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام.
قال: ونزل في ذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ } الآية [1]
قال البيهقي: وسيأتي في غزوة ذات الرقاع قصة تشبه هذه فلعلهما قصتان.
قلت: إن كانت هذه محفوظة فهي غيرها قطعا، لأن ذلك الرجل اسمه غورث بن الحارث أيضا، لم يسلم بل استمر على دينه، ولم يكن عاهد النبي ﷺ أن لا يقاتله، والله أعلم.
غزوة الفرع من بحران
قال ابن إسحاق: فأقام بالمدينة ربيعا الأول كله، أو إلا قليلا منه، ثم غدا يريد قريشا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ بحران، وهو معدن بالحجاز من ناحية الفرع.
وقال الواقدي: إنما كانت غيبته عليه السلام عن المدينة عشرة أيام، فالله أعلم.
خبر يهود بني قينقاع في المدينة
وقد زعم الواقدي أنها كانت في يوم السبت النصف من شوال، سنة ثنتين من الهجرة، فالله أعلم، وهم المرادون بقوله تعالى: { كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [2].
قال ابن إسحاق: وقد كان فيما بين ذلك من غزو رسول الله ﷺ أمر بني قينقاع.
قال وكان من حديثهم: أن رسول الله ﷺ جمعهم في سوقهم ثم قال: يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم.
فقالوا: يا محمد إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.
قال ابن إسحاق: فحدثني مولى لزيد بن ثابت عن سعيد بن جبير، وعن عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } [3] يعني أصحاب بدر من أصحاب رسول الله ﷺ وقريش.
{ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [4]
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد، وحاربوا فيما بين بدر وأحد.
قال ابن هشام: فذكر عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي عون قال: كان أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ هناك منهم، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها.
فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فأغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله ﷺ حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فأبطأ عليه رسول الله ﷺ فقال: يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه.
قال: فأدخل يده في جيب درع النبي ﷺ.
قال ابن هشام: وكان يقال لها ذات الفضول، فقال له رسول الله ﷺ: «أرسلني» وغضب رسول الله ﷺ حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: «ويحك أرسلني».
قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر، وثلثمائة دراع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله أمرؤ أخشى الدوائر.
قال: فقال له رسول الله ﷺ: «هم لك».
قال ابن هشام: واستعمل رسول الله ﷺ في محاصرته إياهم أبا لبابة - بشير بن عبد المنذر - وكانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليلة.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي، عن عبادة بن الوليد، عن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله ﷺ تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم.
ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله ﷺ، وكان من بني عوف له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله ﷺ، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.
قال: وفيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات من المائدة: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض.. } الآيات حتى قوله: { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } يعني: عبد الله ابن أبي، إلى قوله: { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } يعني: عبادة بن الصامت، وقد تكلمنا على ذلك في التفسير.
سرية زيد بن حارثة إلى ذي القردة
إلى عير قريش صحبة أبي سفيان أيضا، وقيل صحبة صفوان.
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: وكانت بعد وقعة بدر بستة أشهر.
قال ابن إسحاق: وكان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان، ومعه فضة كثيرة، وهي عظم تجارتهم واستأجروا رجلا من بكر بن وائل يقال له: فرات بن حيان يعني - العجلي - حليف بني سهم ليدلهم على تلك الطريق.
قال ابن إسحاق: فبعث رسول الله ﷺ زيد بن حارثة فلقيهم على ماء يقال له القردة، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزه الرجال فقدم بها على رسول الله ﷺ، فقال في ذلك حسان بن ثابت:
دعوا فلجات الشام قد حال دونها * جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك
قال ابن هشام: وهذه القصيدة في أبيات لحسان، وقد أجابه فيها أبو سفيان بن الحارث.
وقال الواقدي: كان خروج زيد بن حارثة في هذه السرية مستهل جمادى الأولى على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة، وكان رئيس هذه العير صفوان بن أمية، وكان سبب بعثه زيد بن حارثة أن نعيم بن مسعود قدم المدينة ومعه خبر هذه العير، وهو على دين قومه.
واجتمع بكنانة بن أبي الحقيق في بني النضير، ومعهم سليط بن النعمان من أسلم، فشربوا وكان ذلك قبل أن تحرم الخمر، فتحدث بقضية العير نعيم بن مسعود، وخروج صفوان بن أمية فيها وما معه من الأموال.
فخرج سليط من ساعته فأعلم رسول الله ﷺ، فبعث من وقته زيد بن حارثة فلقوهم، فأخذوا الأموال، وأعجزهم الرجال، وإنما أسروا رجلا أو رجلين وقدموا بالعير، فخمسها رسول الله ﷺ فبلغ خمسها عشرين ألفا، وقسم أربعة أخماسها على السرية وكان فيمن أسر الدليل فرات بن حيان فأسلم رضي الله عنه.
قال ابن جرير: وزعم الواقدي أن في ربيع من هذه السنة تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله ﷺ، وأدخلت عليه في جمادى الآخرة منها.
مقتل كعب بن الأشرف
وكان من بني طيء، ثم أحد بني نبهان، ولكن أمه من بني النضير، هكذا ذكره ابن إسحاق قبل جلاء بني النضير، وذكره البخاري والبيهقي بعد قصة بني النضير، والصحيح ما ذكره ابن إسحاق لما سيأتي: فإن بني النضير إنما كان أمرها بعد وقعة أحد، وفي محاصرتهم حرمت الخمر كما سنبينه بطريقه إن شاء الله.
قال البخاري في صحيحه، باب قتل كعب بن الأشرف: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال عمرو بن دينار: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله ﷺ: «من لكعب بن الأشرف فإنه قد أذى الله ورسوله» فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟
قال: نعم. قال: فأذن لي أن أقول شيئا، قال: قل فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك.
قال: وأيضا، والله لتملنه.
قال: أنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا.
قال: نعم، ارهنوني.
قلت: أي شيء تريد؟
قال: ارهنوني نساءكم.
فقالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟
قال: فارهنوني أبناءكم.
قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا، ولكن نرهنك اللأمة، قال سفيان: يعني السلاح، فواعده أن يأتيه ليلا، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟
وقال غير عمرو: قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم.
قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنه بليل لأجاب.
قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين، فقال: إذا ما جاء فإني مائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، وقال مرة: ثم أشمكم، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحا أي أطيب.
وقال غير عمر، وقال: عندي أعطر نساء العرب، وأجمل العرب.
قال عمرو: فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟
قال: نعم، فشمه، ثم أشَمَّ أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟
قال: نعم، فلما استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه ثم أتوا النبي ﷺ فأخبروه.
وقال محمد ابن إسحاق: كان من حديث كعب بن الأشرف، وكان رجلا من طيء، ثم أحد بني نبهان، وأمه من بني النضير أنه لما بلغه الخبر عن مقتل أهل بدر، حين قدم زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة قال: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج إلى مكة فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف فأنزلته وأكرمته.
وجعل يحرض على قتال رسول الله ﷺ وينشد الأشعار، ويندب من قتل من المشركين يوم بدر، فذكر ابن إسحاق قصيدته التي أولها:
طحنت رحى بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر تستهل وتدمع
وذكر جوابها من حسان بن ثابت رضي الله عنه ومن غيره، ثم عاد إلى المدينة، فجعل يشبب بنساء المسلمين، ويهجو النبي ﷺ وأصحابه.
وقال موسى بن عقبة: وكان كعب بن الأشرف أحد بني النضير أو فيهم، قد أذى رسول الله ﷺ بالهجاء وركب إلى قريش فاستغواهم، وقال له أبو سفيان وهو بمكة: أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟ إنا نطعم الجزور الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونطعم ما هبت الشمال.
فقال له كعب بن الأشرف: أنتم أهدى منهم سبيلا.
قال: فأنزل الله على رسوله ﷺ: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا } [5] وما بعدها.
قال موسى ومحمد بن إسحاق: وقدم للمدينة يعلن بالعداوة ويحرض الناس على الحرب، ولم يخرج من مكة حتى أجمع أمرهم على قتال رسول الله ﷺ، وجعل يشبب بأم الفضل بن الحارث وبغيرها من نساء المسلمين.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله ﷺ - كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة -: «من لابن الأشرف» فقال له محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: «فافعل إن قدرت على ذلك».
قال: فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل، ولا يشرب، إلا ما يعلق نفسه، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فدعاه فقال له: «لم تركت الطعام والشراب؟» فقال: يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفي لك به أم لا؟
قال: «إنما عليك الجهد» قال: يا رسول الله إنه لا بد لنا أن نقول. قال: «فقولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك».
قال: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة، وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ أحد بني عبد الأشهل، أبو عبس بن جبر أخو بني حارثة.
قال: فقدموا بين أيديهم إلى عدو الله كعب سلكان بن سلامة أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، فتناشدا شعرا - وكان أبو نائلة يقول الشعر - ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني، قال: أفعل.
قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبيل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا.
فقال كعب: أنا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر يصير إلى ما أقول، فقال له سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعاما، ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك.
قال: ترهنوني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا إن معي أصحابا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء. وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاؤوا بها.
فقال: إن في الحلقة لوفاء. قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فاخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مشى معهم رسول الله ﷺ إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: «انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم».
ثم رجع رسول الله ﷺ إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، فانطلقوا حتى انتهوا إلى حصنه فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: أنت امرؤ محارب وأن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة.
قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر.
قال: يقول لها كعب: لو دعي الفتى لطعنة أجاب. فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن تتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟
قال: إن شئتم. فخرجوا فمشوا ساعة. ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شم يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط.
ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن.
ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها، فأخذ بفودي رأسه ثم قال: اضربوا عدو الله! فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا في سيفي فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة، لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار.
قال: فوضعته في ثنته، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، فوقع عدو الله وقد أُصيب الحارث بن أوس بجرح في رجله أو في رأسه، أصابه بعض سيوفنا.
قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث، حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس، ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتأنا يتبع آثارنا فاحتملناه، فجئنا به رسول الله ﷺ آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله.
وتفل رسول الله ﷺ على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو خائف على نفسه.
قال ابن جرير: وزعم الواقدي أنهم جاؤوا برأس كعب بن الأشرف إلى رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: وفي ذلك يقول كعب بن مالك:
فغودر منهم كعب صريعا * فذلت بعد مصرعه النضير
على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور
بأمر محمد إذ دس ليلا * إلى كعب أخا كعب يسير
فماكره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور
قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له في يوم بني النضير ستأتي.
قلت: كان قتل كعب بن الأشرف على يدي الأوس بعد وقعة بدر، ثم إن الخزرج قتلوا أبا رافع ابن أبي الحقيق بعد وقعة أحد، كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبه الثقة.
وقد أورد ابن إسحاق شعر حسان بن ثابت:
لله در عصابة لاقيتهم * يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحا كأسد في عرين مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفا ببيض ذفف
مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف
قال محمد بن إسحاق: وقال رسول الله ﷺ: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» فوثب عند ذلك محيصة بن مسعود الأوسي على ابن سنينة - رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم - فقتله.
وكان أخوه حويصة بن مسعود أسن منه، ولم يسلم بعد، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله أقتلته؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله.
قال محيصة: فقلت والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك.
قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة.
وقال: والله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم، والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها.
قال: فوالله إن دينا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة.
قال ابن إسحاق: حدثني بهذا الحديث مولى لبني حارثة عن ابنة محيصة عن أبيها، وقال في ذلك محيصة:
يلوم ابن أم لو أمرتُ بقتله * لطبقت ذفراه بأبيض قارب
حسام كلون الملح أخلصُ صقله * متى ما أصوبه فليس بكاذب
وما سرني أني قتلتك طائعا * وأن لنا ما بين بصرى ومأرب
وحكى ابن هشام عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو المدني أن هذه القصة كانت بعد مقتل بني قريظة، فإن المقتول كان كعب بن يهوذا، فلما قتله محيصة عن أمر رسول الله ﷺ يوم بني قريظة، قال له أخوه حويصة ما قال، فرد عليه محيصة بما تقدم، فأسلم حويصة يومئذ، فالله أعلم.
تنبيه: ذكر البيهقي، والبخاري قبله خبر بني النضير قبل وقعة أحد، والصواب إيرادها بعد ذلك كما ذكر ذلك محمد بن إسحاق وغيره من أئمة المغازي، وبرهانه أن الخمر حرمت ليالي حصار بني النضير.
وثبت في الصحيح أنه اصطبح الخمر جماعة ممن قتل يوم أحد شهيدا، فدل على أن الخمر كانت إذ ذاك حلالا، وإنما حرمت بعد ذلك، فتبين ما قلناه من أن قصة بني النضير بعد وقعة أحد، والله أعلم.
تنبيه آخر: خبر يهود بني قينقاع بعد وقعة بدر كما تقدم، وكذلك قتل كعب بن الأشرف اليهودي على يدي الأوس، وخبر بني النضير بعد وقعة أحد كما سيأتي، وكذلك مقتل أبي رافع اليهودي تاجر أهل الحجاز على يدي الخزرج، وخبر يهود بني قريظة بعد يوم الأحزاب، وقصة الخندق كما سيأتي.
غزوة أحد في شوال سنة ثلاث
فائدة ذكرها المؤلف في تسمية أحد، قال: سمي أحد أحدا لتوحده من بين تلك الجبال.
وفي الصحيح: «أحد جبل يحبنا ونحبه».
قيل: معناه أهله.
وقيل: لأنه كان يبشره بقرب أهله إذا رجع من سفره، كما يفعل المحب.
وقيل: على ظاهره كقوله: { وإن منها لما يهبط من خشية الله } .
وفي الحديث عن أبي عبس بن جبر: «أحد يحبنا ونحبه وهو على باب الجنة، وعير يبغضنا ونبغضه وهو على باب من أبواب النار».
قال السهيلي: مقويا لهذا الحديث، وقد ثبت أنه عليه السلام قال: «المرء مع من أحب» وهذا من غريب صنع السهيلي، فإن هذا الحديث إنما يراد به الناس، ولا يسمى الجبل امرءا.
وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثلاث، قاله الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، ومالك.
قال ابن إسحاق: للنصف من شوال.
وقال قتادة: يوم السبت الحادي عشر منه.
قال مالك: وكانت الوقعة في أول النهار، وهي على المشهور التي أنزل الله فيها قوله تعالى:
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } الآيات [6] وما بعدها إلى قوله ما:
{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } [7] وقد تكلمنا على تفاصيل ذلك كله في كتاب التفسير بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة.
ولنذكر ههنا ملخص الوقعة مما ساقه محمد بن إسحاق وغيره من علماء هذا الشأن رح: وكان من حديث أُحُد كما حدثني محمد بن مسلم الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم، من علمائنا كلهم، قد حدث ببعض هذا الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت.
قالوا أو من قال منهم: لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فلَّهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش، ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له تلك العير من قريش تجارة.
فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرا، ففعلوا.
قال ابن إسحاق: ففيهم كما ذكر لي بعض أهل العلم أنزل الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [8]
قالوا: فاجتمعت قريش لحرب رسول الله ﷺ حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها، ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة.
وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي قد منَّ عليه رسول الله ﷺ يوم بدر، وكان فقيرا ذا عيال وحاجة، وكان في الأسارى.
فقال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك واخرج معنا.
فقال: إن محمدا قد منَّ علي، فلا أريد أن أظاهر عليه.
قال: بلى فأعنا بنفسك فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن قتلت أن أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر.
فخرج أبو عزة يسير في تهامة، ويدعو بني كنانة ويقول:
أيا بني عبد مناة الرزام * أنتم حماة وأبوكم حام
لا يعدوني نصركم بعد العام * لا تسلموني لا يحل إسلام
قال: وخرج نافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم، ويقول:
يا مال مال الحسب المقدم * أنشد ذا القربى وذا التذمم
من كان ذا رحم ومن لم يرحم * الحلف وسط البلد المحرم
عند حطيم الكعبة المعظم *
قال: ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيا يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ بها، فقال له: أخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق.
قال: فخرجت قريش بحدها، وحديدها، وجدها، وأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة، وأن لا يفروا، وخرج أبو سفيان صخر بن حرب، وهو قائد الناس ومعه زوجته هند بنت عتبة بن ربيعة، وخرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته ابنة عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة.
وخرج عمه الحارث بن هشام بزوجته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج وهي أم ابنه عبد الله بن عمرو، وذكر غيرهم ممن خرج بامرأته.
قال: وكان وحشي كلما مر بهند بنت عتبة أو مرت به تقول: ويها أبا دسمة اشف واشتفِ. يعني تحرضه على قتل حمزة بن عبد المطلب.
قال: فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي، مقابل المدينة، فلما سمع بهم رسول الله ﷺ والمسلمون قال لهم: «قد رأيت والله خيرا رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة».
وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم جميعا عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي ﷺ قال: «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها أيضا بقرا والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي أتانا بعد يوم بدر».
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا الأصم، أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: تنفل رسول الله ﷺ سيفه ذا الفقار يوم بدر.
قال ابن عباس: وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، وذلك أن رسول الله ﷺ لما جاءه المشركون، يوم أحد كان رأيه أن يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا: نخرج يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد، ورجوا أن يصيبهم من الفضيلة ما أصاب أهل بدر، فما زالوا برسول الله ﷺ حتى لبس أداته، ثم ندموا وقالوا: يا رسول الله أقم فالرأي رأيك.
فقال لهم: ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد ما لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه.
قال: وكان قال لهم يومئذ قبل أن يلبس الأداة: «إني رأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، وأني مردف كبشا وأولته كبش الكتيبة، ورأيت أن سيفي ذا الفقار فل فأولته فلا فيكم، ورأيت بقرا يذبح فبقر والله خير».
رواه الترمذي، وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه به.
وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس مرفوعا قال: «رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا وكأن ضبة سيفي انكسرت، فأولت أني أقتل كبش القوم، وأولت كسر ضبة سيفي قتل رجل من عترتي» فقتل حمزة، وقتل رسول الله ﷺ طلحة وكان صاحب اللواء.
وقال موسى بن عقبة رح: ورجعت قريش فاستجلبوا من أطاعهم من مشركي العرب، وسار أبو سفيان بن حرب في جمع قريش، وذلك في شوال من السنة المقبلة من وقعة بدر، حتى طلعوا من بئر الحماوين، ثم نزلوا ببطن الوادي الذي قبلي أحد، وكان رجال من المسلمين لم يشهدوا بدرا قد ندموا على ما فاتهم من السابقة، وتمنوا لقاء العدو ليبلوا ما إبلى إخوانهم يوم بدر.
فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد، فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدرا بقدوم العدو عليهم، وقالوا: قد ساق الله علينا أمنيتنا، ثم إن رسول الله ﷺ أري ليلة الجمعة رؤيا فأصبح، فجاءه نفر من أصحابه فقال لهم: «رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح والله خير، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ضبته، أو قال: به فلول فكرهته، وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة وأني مردف كبشا» فلما أخبرهم رسول الله ﷺ برؤياه قالوا: يا رسول الله ماذا أولت رؤياك؟
قال: «أولت البقر الذي رأيت بقرا فينا، وفي القوم، وكرهت ما رأيت بسيفي».
ويقول رجال: كان الذي رأى بسيفه الذي أصاب وجهه فإن العدو أصاب وجهه يومئذ، وقصموا رباعيته، وخرقوا شفته، يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبي وقاص، وكان البقر من قتل من المسلمين يومئذ.
وقال: «أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو يقتله الله، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا واجعلوا الذراري في الأطام، فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم».
ورموا من فوق البيوت، وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى صارت كالحصن، فقال الذين لم يشهدوا بدرا: كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه الله إلينا وقرب المسير.
وقال رجل من الأنصار: متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا؟
وقال رجال: ماذا نمنع إذا لم تمنع الحرب بروع؟
وقال رجال قولا صدقوا به، ومضوا عليه منهم: حمزة بن عبد المطلب قال: والذي أنزل عليك الكتاب لنجادلنهم.
وقال نعيم بن مالك بن ثعلبة - وهو أحد بني سالم -: يا نبي الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال له رسول الله ﷺ: «بم؟».
قال: بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف.
فقال له رسول الله ﷺ: «صدقت» واستشهد يومئذ.
وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله ﷺ ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر، وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرا، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة.
فلما صلى رسول الله ﷺ الجمعة، وعظ الناس وذكَّرهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثم انصرف من خطبته وصلاته، فدعا بلأمته فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج.
فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي قالوا: أمرنا رسول الله ﷺ أن نمكث بالمدينة، وهو أعلم بالله وما يريد، ويأتيه الوحي من السماء.
فقالوا: يا رسول الله أمكث كما أمرتنا، فقال: ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب، وأذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو، وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا.
قال: فخرج رسول الله ﷺ والمسلمون، فسلكوا على البدائع وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فمضى رسول الله ﷺ حتى نزل بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلثمائة، فبقي رسول الله ﷺ في سبعمائة.
قال البيهقي رح: هذا هو المشهور عند أهل المغازي أنهم بقوا في سبعمائة مقاتل.
قال: والمشهور عن الزهري أنهم بقوا في أربعمائة مقاتل، كذلك رواه يعقوب بن سفيان عن أصبغ، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري.
وقيل عنه بهذا الإسناد سبعمائة، فالله أعلم.
قال موسى بن عقبة: وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد، وكان معهم مائة فرس، وكان لواؤه مع عثمان بن طلحة، قال: ولم يكن مع المسلمين فرس واحدة، ثم ذكر الوقعة كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
وقال محمد ابن إسحاق: لما قص رسول الله ﷺ رؤياه على أصحابه قال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله ﷺ في أن لا يخرج إليهم.
فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه.
فلم يزل الناس برسول الله ﷺ حتى دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من بني النجار يقال له مالك بن عمرو، فصلى عليه، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله ﷺ ولم يكن لنا ذلك.
فلما خرج عليهم قالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد، فقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» فخرج رسول الله ﷺ في ألف من أصحابه.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس؟
فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي والد جابر بن عبد الله فقال: يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، عند ما حضر من عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال.
فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه ﷺ.
قلت: وهؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى: { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } [9].
يعني: إنهم كاذبون في قولهم: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، وذلك لأن وقوع القتال أمره ظاهر بين واضح لا خفاء ولا شك فيه، وهم الذين أنزل الله فيهم: { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا... } الآية [10]
وذلك أن طائفة قالت: نقاتلهم، وقال آخرون: لا نقاتلهم، كما ثبت وبين في الصحيح.
وذكر الزهري: أن الأنصار استأذنوا حينئذ رسول الله ﷺ في الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة، فقال: «لا حاجة لنا فيهم».
وذكر عروة بن موسى بن عقبة أن بني سلمة وبني حارثة لما رجع عبد الله بن أبي وأصحابه همتا أن تفشلا، فثبتهما الله تعالى، ولهذا قال: { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [11]
قال جابر بن عبد الله: ما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: { والله وليهما } كما ثبت في الصحيحين عنه.
قال ابن إسحاق: ومضى رسول الله ﷺ حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله، فقال رسول الله ﷺ لصاحب السيف: «شم سيفك - أي: أغمده - فإني أرى السيوف ستسل اليوم».
ثم قال النبي ﷺ لأصحابه: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب - أي: من قريب - من طريق لا يمر بنا عليهم».
فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة، وبين أموالهم حتى سلك به في مال لمربع بن قيظي، وكان رجلا منافقا ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله ومن معه من المسلمين قام يحثي في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل في حائطي.
قال ابن إسحاق: وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من التراب في يده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله ﷺ: «لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر»
وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل قبل نهي رسول الله ﷺ فضربه بالقوس في رأسه فشجه، ومضى رسول الله ﷺ حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وفي الجبل، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: «لا يقاتلن أحد حتى أمره بالقتال».
وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمغة من قناة كانت للمسلمين، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله ﷺ عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟
وتعبأ رسول الله ﷺ للقتال وهو في سبعمائة رجل، وأمر على الرماة يومئذ عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلا فقال: «انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك».
وسيأتي شاهد هذا في الصحيحين إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق: وظاهر رسول الله ﷺ بين درعين، يعني لبس درعا فوق درع، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار.
قلت: وقد رد رسول الله ﷺ جماعة من الغلمان يوم أحد فلم يمكنهم من حضور الحرب لصغرهم، منهم: عبد الله بن عمر، كما ثبت في الصحيحين قال: عرضت على النبي ﷺ يوم أحد فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني.
وكذلك رد يومئذ أسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس بن قيظي. ذكره ابن قتيبة، وأورده السهيلي وهو الذي يقول فيه الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين
ومنهم: ابن سعيد بن خيثمة، ذكره السهيلي أيضا، وأجازهم كلهم يوم الخندق.
وكان قد رد يومئذ سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة سنة، فقيل: يا رسول الله إن رافعا رام فأجازه، فقيل: يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعا فأجازه.
قال ابن إسحاق رح: وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل بن هشام، وقال رسول الله ﷺ: «من يأخذ هذا السيف بحقه» فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة فقال: وما حقه يا رسول الله؟
قال: أن تضرب به في العدو حتى ينحني.
قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فأعطاه إياه.
هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعا.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد وعفان قالا: حدثنا حماد هو ابن سلمة، أخبرنا ثابت عن النبي ﷺ أن رسول الله ﷺ أخذ سيفا يوم أحد فقال: «من يأخذ هذا السيف؟»
فأخذ قوم فجعلوا ينظرون إليه، فقال: «من يأخذه بحقه» فأحجم القوم فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين.
ورواه مسلم عن أبي بكر عن عفان به.
قال ابن إسحاق: وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكان له عصابة حمراء يعلم بها عند الحرب يعتصب بها، فيعلم أنه سيقاتل.
قال: فلما أخذ السيف من يد رسول الله ﷺ أخرج عصابته تلك فاعتصب بها، ثم جعل يتبختر بين الصفين.
قال: فحدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم - مولى عمر بن الخطاب - عن رجل من الأنصار من بني سلمة قال: قال رسول الله ﷺ حين رأى أبا دجانة يتبختر: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن»
قال ابن إسحاق: وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم على القتال: يا بني عبد الدار قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه، فنكفيكموه فهموا به، وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع؟ وذلك الذي أراد أبو سفيان.
قال: فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال، ويحرضن على القتال، فقالت هند فيما تقول:
ويها بني عبد الدار * ويها حماة الأديار
ضربا بكل بتار
وتقول أيضا:
إن تقبلوا نعانق * ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق * فراق غير وامق
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن أبا عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان أحد بني ضبيعة، وكان قد خرج إلى مكة مباعدا لرسول الله ﷺ معه خمسون غلاما من الأوس، وبعض الناس يقول: كانوا خمسة عشر.
وكان يعد قريشا أن لو قد لقي قومه لم يتخلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش، وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس: أنا أبو عامر.
قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق. وكان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله الفاسق، فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالا شديدا، ثم أرضخهم بالحجارة.
قال ابن إسحاق: فأقبل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس.
قال ابن هشام: وحدثني غير واحد من أهل العلم أن الزبير بن العوام قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله ﷺ السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش، وقد قمت إليه وسألته إياه قبله فأعطاه أبا دجانة وتركني، والله لأنظرن ما يصنع، فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول له إذا تعصب فخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي * ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول * أضرب بسيف الله والرسول
وقال الأموي: حدثني أبو عبيد في حديث النبي ﷺ أن رجلا أتاه وهو يقاتل به فقال: «لعلك إن أعطيتك تقاتل في الكيول» قال: لا، فأعطاه سيفا فجعل يرتجز ويقول:
أنا الذي عاهدني خليلي * أن لا أقوم الدهر في الكيول
وهذا حديث يروى عن شعبة، ورواه إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق، عن هند بنت خالد أو غيره، يرفعه الكيول يعني مؤخر الصفوف، سمعته من عدة من أهل العلم، ولم أسمع هذا الخرف إلا في هذا الحديث.
قال ابن هشام: فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه، فجعل كل منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته، فعضيت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها. فقلت: الله ورسوله أعلم.
وقد رواه البيهقي في (الدلائل) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام بذلك.
قال ابن إسحاق: قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس حمسا شديدا فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة فأكرمت سيف رسول الله ﷺ أن أضرب به امرأة.
وذكر موسى بن عقبة أن رسول الله ﷺ لما عرضه طلبه منه عمر، فأعرض عنه، ثم طلبه منه الزبير فأعرض عنه، فوجدا في أنفسهما من ذلك، ثم عرضه الثالثة فطلبه أبو دجانة فدفعه إليه، فأعطى السيف حقه.
قال: فزعموا أن كعب بن مالك قال: كنت فيمن خرج من المسلمين فلما رأيت مثل المشركين بقتلى المسلمين، قمت فتجاورت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة، يجوز المسلمين وهو يقول: استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم.
قال: وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيأة.
قال: فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه، وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه، وقال: كيف ترى يا كعب أنا أبو دجانة.
مقتل حمزة رضي الله عنه
قال ابن إسحاق: وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، وكذلك قتل عثمان بن أبي طلحة وهو حامل اللواء، وهو يقول:
إن على أهل اللواء حقا * أن يخضبوا الصعدة أو تندقا
فحمل عليه حمزة فقتله، ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني، وكان يكنى بأبي نيار، فقال حمزة: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكانت ختَّانة بمكة، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله فقال وحشي - غلام جبير بن مطعم -:
والله إني لأنظر لحمزة يهد الناس بسيفه، ما يليق شيئا يمر به مثل الجمل الأورق، إذ قد تقدمني إليه سباع فقال حمزة: هلم يا ابن مقطعة البظور، فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي، فغلب فوقع وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي بشيء حاجة غيره.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن الفضل بن عياش بن ربيعة بن الحارث، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت أنا وعبيد الله بن عدي بن الخيار أحد بني نوفل بن عبد مناف، في زمان معاوية، فأدربنا مع الناس، فلما مررنا بحمص، وكان وحشي مولى جبير قد سكنها، وأقام بها، فلما قدمناها قال عبيد الله بن عدي: هل لك في أن نأتي وحشيا فنسأله عن قتل حمزة كيف قتله؟
قال: قلت له: إن شئت، فخرجنا نسأل عنه بحمص، فقال لنا رجل ونحن نسأل عنه إنكما ستجدانه بفناء داره، وهو رجل قد غلبت عليه الخمر، فإن تجداه صاحيا تجدا رجلا عربيا، وتجدا عنده بعض ما تريدان، وتصيبا عنده ما شئتما من حديث تسألانه عنه، وإن تجداه وبه بعض ما به فانصرفا عنه ودعاه.
قال: فخرجنا نمشي حتى جئناه فإذا هو بفناء داره على طنفسة له، وإذا شيخ كبير مثل البغاث، وإذا هو صاح لا بأس به، فلما انتهينا إليه سلمنا عليه، فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدي فقال: ابن لعدي بن الخيار أنت؟
قال: نعم.
قال: أما والله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التي أرضعتك بذي طوى، فإني ناولتكها وهي على بعيرها فأخذتك بعرضيك، فلمعت لي قدماك حتى رفعتك إليها، فوالله ما هو إلا أن وقفت علي فعرفتهما.
قال: فجلسنا إليه، فقلنا: جئناك لتحدثنا عن قتل حمزة كيف قتلته؟
فقال: أما إني سأحدثكما كما حدثت رسول الله ﷺ حين سألني عن ذلك: كنت غلاما لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر فلما سارت قريش إلى أحد، قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق.
قال: فخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلَّ ما أخطئ بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة، وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس كأنه الجمل الأورق، يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة، أو بحجر ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى.
فلما رآه حمزة قال: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه، قال: وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها، دفعتها عليه فوقعت في ثنته، حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر وقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق.
فلما قدمت مكة عتقت، ثم أقمت حتى إذا افتتح رسول الله ﷺ مكة، هربت إلى الطائف فمكثت بها، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله ﷺ ليسلموا تعَّيت علي المذاهب فقلت: ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد، فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك إنه والله لا يقتل أحدا من الناس دخل في دينه وشهد شهادة الحق.
قال: فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله ﷺ المدينة، فلم يرعه إلا بي قائما على رأسه أشهد شهادة الحق، فلما رآني قال لي: «أوحشي أنت؟» قلت: نعم يا رسول الله، قال: «اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة» قال فحدثته كما حدثتكما، فلما فرغت من حديثي قال: «ويحك غيب عني وجهك فلا أرينك»
قال: فكنت أتنكب برسول الله ﷺ حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله عز وجل.
فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس ورأيت مسيلمة قائما وبيده السيف وما أعرفه، فتهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده، فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه.
وشد عليه الأنصاري بالسيف، فربك أعلم أينا قتله فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله ﷺ، وقتلت شر الناس.
قلت: الأنصاري هو أبو دجانة سماك بن حرشة، كما سيأتي في مقتل أهل اليمامة.
وقال الواقدي في الردة: هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني.
وقال سيف بن عمرو: هو عدي بن سهل، وهو القائل:
ألم تر أني ووحشيهم * قتلت مسيلمة المغتبن
ويسألني الناس عن قتله * فقلت ضربت وهذا طعن
والمشهور: أن وحشيا هو الذي بدره بالضربة وذفف عليه أبو دجانة، لما روى ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن ابن عمر قال: سمعت صارخا يوم اليمامة يقول قتله العبد الأسود.
وقد روى البخاري قصة مقتل حمزة من طريق عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت مع عبد الله بن عدي بن الخيار فذكر القصة كما تقدم.
وذكر أن عبيد الله بن عدي كان معتجرا عمامة لا يرى منه وحشي إلا عينيه ورجليه، فذكر من معرفته له ما تقدم. وهذه قيافة عظيمة كما عرف مجزز المدلجي أقدام زيد وابنه أسامة مع اختلاف ألوانهما.
وقال في سباقته: فلما أن صفَّ الناس للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال له: يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله؟ ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب.
قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه. قال: فكان ذلك آخر العهد به، إلى أن قال: فلما قبض رسول الله ﷺ وخرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرج إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة.
قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه، حتى خرجت من كتفيه. قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته.
قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر البيت وا أمير المؤمناه قتله العبد الأسود.
قال ابن هشام: فبلغني أن وحشيا لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان، فكان عمر بن الخطاب يقول: قد قلت بأن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة.
قلت: وتوفي وحشي بن حرب أبو دسمة، ويقال: أبو حرب بحمص، وكان أول من لبس الثياب المدلوكة.
قال ابن إسحاق: وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله ﷺ حتى قتل، وكان الذي قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله ﷺ، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.
قلت: وذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) عن سعيد بن المسيب أن الذي قتل مصعبا هو أبي بن خلف، فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله ﷺ اللواء علي بن أبي طالب.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: كان اللواء أولا مع علي بن أبي طالب، فلما رأى رسول الله ﷺ لواء المشركين مع عبد الدار قال: نحن أحق بالوفاء منهم، أخذ اللواء من علي بن أبي طالب، فدفعه إلى مصعب بن عمير، فلما قتل مصعب أعطى اللواء علي بن أبي طالب.
قال ابن إسحاق: وقاتل علي بن أبي طالب ورجال من المسلمين.
قال ابن هشام: وحدثني مسلمة بن علقمة المازني قال: لما اشتد القتال يوم أحد جلس رسول الله ﷺ تحت راية الأنصار، وأرسل إلى علي أن قدّم الراية، فقدم علي وهو يقول: أنا أبو القصم فناداه أبو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين: هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟
قال: نعم. فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين، فضربه علي فصرعه، ثم انصرف ولم يجهز عليه.
فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله. وقد فعل ذلك علي رضي الله عنه يوم صفين مع بسر ابن أبي أرطأة، لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته فرجع عنه.
كذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه علي في بعض أيام صفين، أبدى عن عورته، فرجع علي أيضا. ففي ذلك يقول الحارث بن النضر:
أفي كلِّ يومٍ فارس غير منتهِ * وعورته وسط العجاجة باديه
يكف لها عنه عليٌّ سنانه * ويضحك منها في الخلاء معاويه
وذكر يونس عن ابن إسحاق: أن طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء المشركين يومئذ، دعا إلى البراز فأحجم عنه الناس فبرز إليه الزبير بن العوام، فوثب حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه، فأثنى عليه رسول الله ﷺ قال: «إن لكل نبي حواريا وحواريّ الزبير».
وقال: لو لم يبرز إليه لبرزت أنا إليه، لما رأيت من إحجام الناس عنه.
وقال ابن إسحاق: قتل أبا سعد بن أبي طلحة سعد بن أبي وقاص، وقاتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقتل نافع بن أبي طلحة وأخاه الجلاس كلاهما يشعره سهما، فيأتي أمه سلافة فيضع رأسه في حجرها فتقول: يا بني من أصابك؟
فيقول: سمعت رجلا حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبي الأقلح، فنذرت أن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وكان عاصم قد عاهد الله لا يمس مشركا أبدا، ولا يمسه، ولهذا حماه الله منه يوم الرجيع كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: والتقى حنظلة بن أبي عامر، واسمه عمرو، ويقال: عبد عمرو بن صيفي، وكان يقال لأبي عامر في الجاهلية: الراهب، لكثرة عبادته، فسماه رسول الله ﷺ الفاسق، لما خلف الحق وأهله، وهرب من المدينة هربا من الإسلام ومخالفة للرسول عليه السلام.
وحنظلة الذي يعرف بحنطلة الغسيل - لأنه غسلته الملائكة كما سيأتي - هو وأبو سفيان صخر بن حرب، فلما علاه حنظلة رآه شدَّاد بن الأوس، وهو الذي يقال له ابن شعوب، فضربه شدَّاد فقتله، فقال رسول الله ﷺ: «إن صاحبكم لتغسله الملائكة فاسألوا أهله ما شأنه» فسُئلت صاحبته.
قال الواقدي: هي جميلة بنت أبي ابن سلول، وكانت عروسا عليه تلك الليلة. فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله ﷺ: «كذلك غسلته الملائكة».
وقد ذكر موسى بن عقبة أن أباه ضرب برجله في صدره، وقال: ذنبان أصبتهما ولقد نهيتك عن مصرعك هذا، ولقد والله كنتَ وصولا للرحم، برا بالوالد.
قال ابن إسحاق: وقال ابن شعوب في ذلك:
لأحمينَّ صاحبي ونفسي * بطعنةٍ مثل شعاع الشمس
وقال ابن شعوب:
ولولا دفاعي يا ابن حرب ومشهدي * لألفيتَ يوم النعفِ غيرَ مجيب
ولولا مكري المهر بالنعف فرفرت * عليه ضباع أو ضراء كليب
وقال أبو سفيان:
ولو شئتُ نجتّني كُمَيتَ طمرة * ولم أحملِ النعماء لابن شعوب
وما زال مهري مزجَرَ الكلب منهم * لدن غدوةٍ حتى دنت لغروب
أقاتلهم وأدعي يا لغالب * وأدفعهم عني بركن صليب
فبكِّي ولا ترعي مقالة عاذل * ولا تسأمي من عَبرة ونحيب
أباكِ وإخوانا له قد تتابعوا * وحقا لهم من عَبرة بنصيب
وسَلي الذي قد كان في النفس أنني * قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرما كريما ومصعبا * وكان لدى الهيجاء غير هيوب
فلو أنني لم أشفِ نفسي منهم * لكانت شجى في القلب ذات ندوب
فأبوا وقد أوْدى الجلابيب منهمُ * بهم خدبٌ من مُغبطٍ وكئيب
أصابهمُ من لم يكن لدِمائهم * كفاء ولا في خطةٍ بضريب
فأجابه حسان بن ثابت:
ذكرت القروم الصِّيدَ من آل هاشم * ولست لزورٍ قلته بمصيبِ
أتعجبُ أن أقصدت حمزةَ منهم * نجيبا وقد سمَّيته بنجيب
ألم يقتلوا عَمرا وعتبة وابنه * وشيبة والحجاج وابن حبيب
غداة دعا العاصي عليا فراعَه * بضربةِ عَضْبٍ بَلّهُ بخضيب
فصل نصر الله للمسلمين يوم بدر
قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسُّوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها.
وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة على العسكر حين كشفنا القوم عنه، وخلوا ظهورنا للخيل، فأُتينا من خلفنا، وصرخ صارخ:
ألا إن محمدا قد قُتل، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا، بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد منهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم: أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به، وكان اللواء مع صؤاب غلام لبني أبي طلحة حبشي، وكان آخر من أخذه منهم فقاتل به حتى قطعت يداه، ثم برك عليه فأخذ اللواء بصدره وعنقه، حتى قتل عليه وهو يقول: اللهم هل أعزرت - يعني: اللهم هل أعذرت - فقال حسان بن ثابت في ذلك:
فَخَرْتم باللواءِ وشرُّ فخرٍ * لواءَ حين رُدَّ إلى صواب
جَعَلتُم فخركم فيه لعبدٍ * وإلام مَن يطا عُفْرَ التراب
ظننتم، والسفيهُ له ظنونٌ * وما إنْ ذاك من أمرِ الصواب
بأنَّ جلادنا يوم التقينا * بمكةَ بَيْعُكُم حُـمْرَ العِياب
أقرَّ العينَ أن عُصبتْ يداه * وما أن تُعصبَانِ على خِضَاب
وقال حسان أيضا في رفع عمرة بنت علقمة اللواء لهم:
إذا عضلٌ سيقت إلينا كأنها * جدايةُ شركٍ مُعْلَمات الحواجب
أقمنا لهم طعنا مبيرا منكِّلا * وحزْناهُم الضرب من كل جانب
فلولا لواءُ الحارثيةِ أصبحوا * يُباعونَ في الأسواق بَيْعَ الجلائب
قال ابن إسحاق: فانكشف المسلمون وأصاب منهم العدو، وكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة حتى خلص العدو إلى رسول الله ﷺ فذبَّ بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص.
فحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: كسرت رباعية النبي ﷺ يوم أحد وشجَّ في وجهه، فجعل يمسح الدم ويقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله» فأنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } [12].
قال ابن جرير في (تاريخه): حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن الفضل، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أتى ابن قمئة الحارثي فرمى رسول الله ﷺ بحجر فكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجهه فأثقله، وتفرق عنه أصحابه، ودخل بعضهم المدينة، وانطلق طائفة فوق الجبل إلى الصخرة، وجعل رسول الله ﷺ يدعو الناس: «إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله»
فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فجعلوا يسيرون بين يديه، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف، فحماه طلحة فرُمي بسهم في يده فيبست يده، وأقبل أبي بن خلف الجمحي وقد حلف ليقتلن النبي ﷺ فقال: بل أنا أقتله، فقال: يا كذاب أين تفر؟
فحمل عليه فطعنه النبي ﷺ في جيب الدرع، فجرح جرحا خفيفا، فوقع يخور خُوار الثور، فاحتملوه وقالوا: ليس بك جراحة فما يجزعك؟ قال: أليس قال لأقتلنك لو كانت تجتمع ربيعة ومضر لقتلهم، فلم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح.
وفشا في الناس أن رسول الله ﷺ قد قُتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمنةً من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قُتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم.
فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد ﷺ، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شدَّ بسيفه فقاتل حتى قُتل.
وانطلق رسول الله ﷺ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه يرميه فقال: «أنا رسول الله» ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله ﷺ، وفرح رسول الله ﷺ حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به.
فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله ﷺ ذهب عنهم الحزن فأقبلوا يذكرون الفتح، وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فقال الله عز وجل في الذين قالوا إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } الآية.
فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه وهمهم أبو سفيان.
فقال رسول الله ﷺ: «ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض».
ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، فقال أبو سفيان يومئذ: أعل، هبل، حنظلة بحنظلة، ويوم أُحد بيوم بدر. وذكر تمام القصة. وهذا غريب جدا وفيه نكارة.
قال ابن هشام: وزعم رُبيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي سعيد: أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله ﷺ فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن عبد الله بن قمئة جرح وجنته.
فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله ﷺ في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر، ليقع فيها المسلمون، فأخذ علي بن أبي طالب بيده، ورفعه طلحة بن عبيد الله، حتى استوى قائما، ومصَّ مالك بن سنان أبو أبي سعيد الدم من وجه رسول الله ﷺ.
ثم ازدرده فقال: «من مس دمه دمي لم تمسسه النار» قلت: وذكر قتادة أن رسول الله ﷺ لما وقع لشقه أغمى عليه، فمر به سالم مولى أبي حذيفة، فأجلسه ومسح الدم عن وجهه فأفاق وهو يقول: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله» فأنزل الله: { ليس لك من الأمر شيء... } الآية.
رواه ابن جرير وهو مرسل، وسيأتي بسط هذا في فصل وحده.
قلت: كان أول النهار للمسلمين على الكفار كما قال الله تعالى: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّا... } الآية [13].
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثني سليمان بن داود، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله، عن ابن عباس أنه قال: ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أُحد، قال: فأنكرنا ذلك فقال: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله، إن الله يقول في يوم أحد: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } .
يقول ابن عباس: والحس القتل.
{ حتى إذا فشلتم } إلى قوله: { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } وإنما عنى بهذا الرماة، وذلك أن النبي ﷺ أقامهم في موضع.
ثم قال: «احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا».
فلما غنم النبي ﷺ وأباحوا عسكر المشركين، أكب الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله ﷺ فهم هكذا - وشبك بين أصابع يديه - والتبسوا.
فلما أخلَّ الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي ﷺ، فضرب بعضهم بعضا فالتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة.
وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، إنما كان تحت المهراس وصاح الشيطان، قتل محمد! فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه حق، حتى طلع رسول الله ﷺ بين السعدين نعرفه بكتفيه إذا مشى.
قال: ففرحنا كأنه لم يصبنا ما أصابنا.
قال: فرقى نحونا وهو يقول: «اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله» ويقول مرة أخرى: «اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا» حتى انتهى إلينا فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اُعلُ هبل، اُعلُ هبل مرتين، يعني: آلهته، أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟
فقال عمر بن الخطاب: ألا أجيبه؟
قال: بلى.
قال: فلما قال: اُعلُ هبل قال: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: يا ابن الخطاب قد أنعمت عينها، فعاد عنها - أو فعال عنها - فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟
فقال عمر: هذا رسول الله ﷺ، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر.
قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الأيام دول، وإن الحرب سجال.
قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار.
قال: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذن وخسرنا.
ثم قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون في قتلاكم مثلة، ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا.
قال: ثم أدركته حمية الجاهلية، فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه.
وقد رواه ابن أبي حاتم، والحاكم في (مستدركه)، والبيهقي في (الدلائل) من حديث سليمان بن داود الهاشمي به.
وهذا حديث غريب، وهو من مرسلات ابن عباس. وله شواهد من وجوه كثيرة، سنذكر منها ما تيسر إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان وهو المستعان.
قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذٍ، وأجلس النبي ﷺ جيشا من الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال: «لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا».
فلما لقينا هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة! فقال عبد الله: عهد إليَّ النبي ﷺ أن لا تبرحوا فأبوا، فلما أبوا صرفت وجوههم فأصيب سبعون قتيلا، وأشرف أبو سفيان فقال:
أفي القوم محمد؟ فقال: «لا تجيبوه».
فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟
فقال: «لا تجيبوه».
فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟
فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلوا كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدوَ الله، أبقى الله عليك ما يحزنك.
فقال أبو سفيان: اُعلُ هبل.
فقال النبي ﷺ: «أجيبوه».
قالوا: ما نقول؟
قال: «قولوا الله أعلى وأجل».
فقال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم.
فقال النبي ﷺ: «أجيبوه».
قالوا: ما نقول؟
قال: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم».
قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم أمر بها، ولم تسؤني.
وهذا من إفراد البخاري دون مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق: أن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله ﷺ على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلا - عبد الله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال:
«إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم».
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل، وقد بدت أسوقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي: قوم الغنيمة ظهر أصحابكم، فما تنظرون؟
قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله ﷺ؟
قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبنَّ من الغنيمة! فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله ﷺ غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين رجلا.
وكان رسول الله ﷺ وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا، وسبعين قتيلا، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، أفي القوم محمد؟ ثلاثا فنهاهم رسول الله ﷺ أن يجيبوه.
ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب، أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، وقد كفيتموهم فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك.
فقال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم أمر بها، ولم تسؤني.
ثم أخذ يرتجز: اُعلُ هبل اُعلُ هبل، فقال رسول الله ﷺ: «ألا تجيبونه».
قالوا: يا رسول الله وما نقول؟
قال: «قولوا الله أعلى وأجل».
قال: إن العُزَّى لنا، ولا عزى لكم؟
قال رسول الله ﷺ: «ألا تجيبونه».
قالوا: يا رسول الله ما نقول؟
قال: «قولوا الله مولانا، ولا مولى لكم».
ورواه البخاري من حديث زهير، وهو ابن معاوية مختصرا، وقد تقدم روايته له مطولة من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت وعلي ابن زيد، عن أنس بن مالك أن المشركين لما رهقوا النبي ﷺ وهو في سبعة من الأنصار ورجل من قريش، قال: «من يردّهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟» فجاء رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل.
فلما رهقوه أيضا قال: «من يردّهم عنا، وهو رفيقي في الجنة؟» حتى قتل السبعة، فقال رسول الله ﷺ: «ما أنصفنا أصحابنا».
ورواه مسلم عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به.
وقال البيهقي في (الدلائل) بإسناده عن عمارة بن غزية، عن أبي الزبير، عن جابر قال: انهزم الناس عن رسول الله ﷺ يوم أحد، وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار فيهم: طلحة بن عبيد الله، وهو يصعد في الجبل فلحقهم المشركون فقال: «ألا أحد لهؤلاء؟».
فقال طلحة: أنا يا رسول الله.
فقال: «كما أنت يا طلحة».
فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل عنه، وصعد رسول الله ﷺ ومن بقي معه، ثم قتل الأنصاري فلحقوه.
فقال: «ألا رجل لهؤلاء؟».
فقال طلحة مثل قوله، فقال رسول الله ﷺ مثل قوله، فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل، وأصحابه يصعدون ثم قُتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل قوله الأول، ويقول طلحة أنا يا رسول، فيحبسه فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذن له فيقاتل، مثل من كان قبله حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما.
فقال رسول الله ﷺ: «من لهؤلاء؟» فقال طلحة: أنا، فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله، فقال: حس، فقال لو قلت: «بسم الله لرفعتك الملائكة، والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء».
ثم صعد رسول الله ﷺ إلى أصحابه وهم مجتمعون.
وروى البخاري: عن عبد الله بن أبي شيبة، عن وكيع، عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي ﷺ يوم أحد.
وفي الصحيحين من حديث موسى بن إسماعيل، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع النبي ﷺ في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة وسعد عن حديثهما.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية، عن هاشم بن هاشم السعدي، سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: نثل لي رسول الله ﷺ كنانته يوم أحد، وقال: «ارم فداك أبي وأمي».
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد، عن مروان به.
وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن شداد، عن علي بن أبي طالب قال: ما سمعت النبي ﷺ جمع أبويه لأحد، إلا لسعد بن مالك فإني سمعته يقول يوم أحد: «يا سعد ارم فداك أبي وأمي».
قال محمد بن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عن بعض آل سعد، عن سعد بن أبي وقاص: أنه رمى يوم أحد دون رسول الله ﷺ.
قال سعد: فلقد رأيت رسول الله ﷺ يناولني النبل ويقول: «ارم فداك أبي وأمي» حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل، فأرمي به.
وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي ﷺ وعن يساره، رجلين عليهما ثياب بيض، يقاتلان أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك ولا بعده، يعني: جبريل، وميكائيل عليهما السلام.
وقال أحمد: حدثنا عفان، أخبرنا ثابت بن أنس، أن أبا طلحة كان يرمي بين يدي النبي ﷺ يوم أحد، والنبي ﷺ خلفه يترس به، وكان راميا، وكان إذا رمى رفع رسول الله ﷺ شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره ويقول: هكذا بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك.
وكان أبو طلحة يسوّر نفسه بين يدي رسول الله ﷺ ويقول: إني جلد يا رسول الله، فوجهني في حوائجك، ومرني بما شئت.
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز، عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي ﷺ، وأبو طلحة بين يدي رسول الله ﷺ مجوَّب عليه بجحفة له.
وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل، فيقول: انثرها لأبي طلحة.
قال: ويشرف النبي ﷺ ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.
ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم، وأنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقران القرب على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم. ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة أما مرتين وأما ثلاثا.
قال البخاري: وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه، ويسقط فآخذه.
هكذا ذكر البخاري معلقا بصيغة الجزم، ويشهد له قوله تعالى:
{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [14].
قال البخاري: حدثنا عبدان، أخبرنا أبو حمزة، عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حجَّ البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؟
قال: هؤلاء قريش.
قال: من الشيخ؟
قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟
قال: أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فرَّ يوم أحد؟
قال: نعم.
قال: فتعلمه تغيَّب عن بدر فلم يشهدها؟
قال: نعم.
قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟
قال: نعم.
قال: فكبر.
قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه: أما فراره يوم أُحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت النبي ﷺ وكانت مريضة، فقال له رسول الله ﷺ:
«إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه» أما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه فبعث عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة.
فقال النبي ﷺ بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده فقال: «هذه لعثمان اذهب بهذا الآن معك».
وقد رواه البخاري أيضا في موضع آخر، والترمذي من حديث أبي عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب به.
وقال الأموي في (مغازيه) عن ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد، عن أبيه، عن جده، سمعت رسول الله ﷺ يقول، وقد كان الناس انهزموا عنه حتى بلغ بعضهم إلى المبقَّى دون الأعوص، وفرَّ عثمان بن عفان، وسعد بن عثمان رجل من الأنصار، حتى بلغوا الجَلعَب جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص.
فأقاموا ثلاثا ثم رجعوا، فزعموا أن رسول الله ﷺ قال لهم: «لقد ذهبتم فيها عريضة» والمقصود أن أحدا وقع فيها أشياء مما وقع في بدر، منها: حصول النعاس حال التحام الحرب، وهذا دليل على طمأنينة القلوب بنصر الله وتأييده، وتمام توكلها على خالقها وبارئها.
وقد تقدم الكلام على قوله تعالى في غزوة بدر: { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه... } الآية.
وقال ها هنا: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم } يعني: المؤمنين الكُمل، كما قال ابن مسعود، وغيره من السلف: النعاس في الحرب من الإيمان، والنعاس في الصلاة من النفاق، ولهذا قال بعد هذا: { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم... } الآية.
ومن ذلك أن رسول الله ﷺ استنصر يوم أُحد كما استنصر يوم بدر بقوله: «إن تشأ لا تعبد في الأرض».
كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد وعفان قالا: حدثنا حماد، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله ﷺ كان يقول يوم أحد: «اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض».
ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن عبد الصمد، عن حماد بن سلمة به.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع جابر بن عبد الله قال: قال رجل للنبي ﷺ يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟
قال: «في الجنة» فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل.
ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به، وهذا شبيه بقصة عمير بن الحمام التي تقدمت في غزوة بدر رضي الله عنهما وأرضاهما.
فصل فيما لقي النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ من المشركين قبحهم الله
قال البخاري: ما أصاب النبي ﷺ من الجراح يوم أُحد.
حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه - يشير إلى رباعيته - اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله».
ورواه مسلم من طريق عبد الرزاق: حدثنا مخلد بن مالك، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «اشتد غضب الله على من قتله النبي في سبيل الله، اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله» ﷺ.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا ثابت، عن أنس أن رسول الله ﷺ قال يوم أحد وهو يسلت الدم عن وجهه، وهو يقول: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعو إلى الله» فأنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } [15].
ورواه مسلم عن القعنبي، عن حماد بن سلمة به.
ورواه الإمام أحمد: عن هشيم ويزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس: أن رسول الله ﷺ كسرت رباعيته، وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه، فقال: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» فأنزل الله تعالى: { ليس لك من الأمر شيء } .
وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب، عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح النبي ﷺ فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله ﷺ، ومن كان يسكب الماء، وبما دووي.
قال: كانت فاطمة بنت رسول الله ﷺ تغسله، وعلي يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رمادا، ألصقتها فاستمسك الدم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه.
وقال أبو داود الطيالسي في (مسنده): حدثنا ابن المبارك، عن إسحاق، عن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، أخبرني عيسى بن طلحة، عن أم المؤمنين عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أُحد قال: ذاك يوم كله لطلحة.
ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلا يقاتل في سبيل الله دونه، وأراه قال حمية، قال: فقلت: كنْ طلحة، حيث فاتني ما فاتني، فقلت يكون رجلا من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله ﷺ منه، وهو يخطف المشي خطفا لا أخطفه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح.
فانتهينا إلى رسول الله ﷺ وقد كسرت رباعيته، وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، قال رسول الله ﷺ: «عليكما صاحبكما» يريد طلحة وقد نزف، فلم نلتفت إلى قوله.
قال: وذهبت لأنزع ذاك من وجهه، فقال: أقسم عليك بحقي لما تركتني، فتركته فكره تناولها بيده فيؤذي رسول الله ﷺ فأزم عليها بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني.
قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة رضي الله عنه من أحسن الناس هتما، فأصلحنا من شأن رسول الله ﷺ.
ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية وضربة أو أقل أو أكثر، وإذا قد قطعت إصبعه فأصلحنا من شأنه.
وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية، ورسول الله ﷺ وسطها، كل ذلك يصرف عنه.
ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يومئذ يقول: دُلُّوني على محمد، لا نجوت إن نجا، ورسول الله ﷺ إلى جنبه ما معه أحد، فجاوره، فعاتبه في ذلك صفوان بن أمية، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إليه.
قال الواقدي: ثبت عندي أن الذي رمى في وجنتي رسول الله ﷺ ابن قمئة، والذي رمى في شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص.
وقد تقدم عن ابن إسحاق نحو هذا، وأن الرباعية التي كسرت له عليه السلام هي اليمنى السفلى.
قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كيسان عمن حدثه، عن سعد بن أبي وقاص قال: و الله ما حرصت على قتل أحد قط، ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص، وإن كان ما علمت لسيء الخلق مبغضا في قومه، ولقد كفاني فيه قول رسول الله ﷺ: «اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله».
وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عثمان الجزري، عن مقسم أن رسول الله ﷺ دعا على عتبة بن أبي وقاص حين كسر رباعيته ودمى وجهه، فقال: «اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا» فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار.
وقال أبو سليمان الجوزجاني: حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا إبراهيم ابن محمد، حدثني ابن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن حرب، عن أبيه، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رسول الله ﷺ داوى وجهه يوم أحد بعظم بالٍ.
هذا حديث غريب رأيته في أثناء كتاب (المغازي) للأموي في وقعة أحد.
ولما نال عبد الله بن قمئة من رسول الله ﷺ ما نال، رجع وهو يقول: قتلت محمدا، وصرخ الشيطان أزبُّ العقبة يومئذ بأبعد صوت: ألا إن محمدا قد قتل!
فحصل بهتة عظيمة في المسلمين، واعتقد كثير من الناس ذلك، وصمموا على القتال عن جوزة الإسلام حتى يموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ، منهم: أنس بن النضر وغيره، ممن سيأتي ذكره.
وقد أنزل الله تعالى التسلية في ذلك على تقدير وقوعه فقال تعالى:
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابا مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } [16].
وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في كتابنا التفسير، ولله الحمد.
وقد خطب الصديق رضي الله عنه في أول مقام قامه بعد وفاة رسول الله ﷺ فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
ثم تلا هذه الآية: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم... } الآية.
قال: فكأن الناس لم يسمعوها قبل ذلك، فما من الناس أحد إلا يتلوها.
وروى البيهقي في (دلائل النبوة) من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال: مر رجل من المهاجرين يوم أحد على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قُتل؟
فقال الأنصاري: إن كان محمد ﷺ قد قتل، فقد بلغ الرسالة فقاتلوا عن دينكم فنزل: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل... } الآية.
ولعل هذا الأنصاري هو أنس بن النضر رضي الله عنه، وهو عم أنس بن مالك.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس أن عمه غاب عن قتال بدر، فقال: غبتُ عن أول قتال قاتله النبي ﷺ للمشركين، لئن الله أشهدني قتالا للمشركين ليرينَّ ما أصنع.
فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إني أعتذر إليك عما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد: أنا معك.
قال سعد: فلم أستطع أصنع ما صنع، فوجد فيه بضع وثمانون من بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم.
قال: فكنا نقول فيه وفي أصحابه نزلت { فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر }
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد والنسائي، عن إسحاق بن راهويه، كلاهما عن يزيد بن هارون به.
وقال الترمذي: حسن، قلت: بل على شرط الصحيحين من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا بهز، وحدثنا هاشم قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: قال أنس عمي، قال هاشم: أنس بن النضر، سميت به ولم يشهد مع رسول الله ﷺ يوم بدر.
قال: فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله ﷺ غبت عنه، ولئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله ﷺ ليرينَّ الله ما أصنع.
قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله ﷺ يوم أحد.
قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو أين؟ واها لريح الجنة أجده دون أحد.
قال: فقاتلهم حتى قُتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية.
قال: فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر، فما عرفت أخي إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا } [17].
قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه.
ورواه مسلم عن محمد بن حاتم عن بهز بن أسد.
ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن المبارك، وزاد النسائي، وأبو داود، وحماد بن سلمة أربعتهم، عن سليمان بن المغيرة به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أبو الأسود: عن عروة بن الزبير قال: كان أبي بن خلف أخو بني جمُح قد حلف، وهو بمكة ليقتلن رسول الله ﷺ، فلما بلغتْ رسول الله ﷺ حلفته قال: بل أنا أقتله إن شاء الله.
فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعا وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد، فحمل على رسول الله ﷺ يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله ﷺ بنفسه، فقتل مصعب بن عمير.
وأبصر رسول الله ﷺ ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها بالحربة، فوقع إلى الأرض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خُوار الثور، فقالوا له: ما أجزعك؟ إنما هو خدش.
فذكر لهم قول رسول الله ﷺ أنا أقتل أبيا. ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون، فمات إلى النار، فسحقا لأصحاب السعير.
وقد رواه موسى بن عقبة في (مغازيه)، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب نحوه.
وقال ابن إسحاق: لما أسند رسول الله ﷺ في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أي محمد لا نجوتُ إن نجوتَ. فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟
فقال رسول الله ﷺ: «دعوه!».
فلما دنا منه تناول رسول الله ﷺ الحربة من الحارث بن الصمة، فقال بعض القوم -كما ذُكر لي - فلما أخذها رسول الله ﷺ انتفض انتفاضة، تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله رسول الله ﷺ فطعنه في عنقه طعنه تدأدأ منها عن فرسه مرارا.
ذكر الواقدي عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه نحو ذلك.
قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل، إذا أنا بنار تأججت فهبتها، وإذا برجل يخرج منها بسلسلة يجذبها يهيجه العطش، فإذا رجل يقول: لا تسقه، فإنه قتيل رسول الله ﷺ، هذا أبي بن خلف.
وقد ثبت في الصحيحين كما تقدم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله».
ورواه البخاري من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: «اشتد غضب الله على من قتله رسول الله بيده في سبيل الله».
وقال البخاري: وقال أبو الوليد: عن شعبة، عن ابن المنكدر، سمعت جابرا قال: لما قُتل أبي جعلت أبكي، وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي ﷺ ينهونني، والنبي ﷺ لم ينه، وقال النبي ﷺ: «لا تبكه أو ما تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع».
هكذا ذكر هذا الحديث ههنا معلقا، وقد أسنده في الجنائز عن بندار، عن غندر بن شعبة.
ورواه مسلم والنسائي من طرق، عن شعبة به.
وقال البخاري: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم أن عبد الرحمن بن عوف أتى بطعام وكان صائما، فقال: قُتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كُفن في بردة إن غطِّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطِّي رجلاه بدا رأسه.
وأراه قال: وقتل حمزة، هو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى برد الطعام.
انفرد به البخاري.
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن خباب بن الأرت قال:
هاجرنا مع النبي ﷺ نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنَّا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئا، كان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أُحد لم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي ﷺ: «غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجله الأذخر».
ومنَّا من أينعت له ثمرته فهو يهديها.
وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن الأعمش به.
وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما كان يوم أُحد هزم المشركون فصرخ إبليس لعنة الله عليه: أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي.
قال: قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه.
فقال حذيفة: يغفر الله لكم.
قال عروة: فوالله ما زال في حذيفة بقية خير حتى لقي الله عز وجل.
قلت: كان سبب ذلك أن اليمان، وثابت بن وقش كانا في الأطام مع النساء لكبرهما وضعفهما فقالا: إنه لم يبق من آجالنا إلا ظمء حمار، فنزلا ليحضرا الحرب فجاء طريقهما ناحية المشركين، فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فقتله المسلمون خطأ، وتصدق حذيفة بدِيَّة أبيه على المسلمين، ولم يعاتب أحدا منهم لظهور العذر في ذلك.
فصل رد رسول الله عين قتادة بن النعمان عندما سقطت يوم أحد
قال ابن إسحاق: وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، حتى سقطت على وجنته، فردَّها رسول الله ﷺ بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما.
وفي الحديث عن جابر بن عبد الله أن قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم أحد حتى سالت على خده، فردها رسول الله ﷺ مكانها، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما، وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى.
وروى الدارقطني بإسناد غريب عن مالك، عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن أخيه قتادة بن النعمان قال: أصيبت عيناي يوم أحد، فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما رسول الله ﷺ فأعادهما مكانهما، وبصق فيهما فعادتا تبرقان.
والمشهور الأول أنه أصيبت عينه الواحدة، ولهذا لما وفد ولده على عمر بن عبد العزيز قال له: من أنت؟
فقال له مرتجلا:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه * فردت بكف المصطفى أحسنَ الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها * فيا حُسْنَها عينا ويا حُسْنُ ما خدّ
فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:
تلك المكارم لا قعبانِ من لبنٍ * شيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا
ثم وصله فأحسن جائزته رضي الله عنه.
فصل مشاركة أم عمارة في القتال يوم أحد
قال ابن هشام: وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد، فذكر سعيد بن أبي زيد الأنصاري أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلت على أم عمارة فقلت لها: يا خالة أخبريني خبرك.
فقالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين.
فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله ﷺ، فقمت أباشر القتال، وأذبُّ عنه بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إلي.
قالت: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت لها: أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة، أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله ﷺ أقبل يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا.
فاعترضت له أنا، ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله ﷺ، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان.
قال ابن إسحاق: وترس أبو دجانة دون رسول الله ﷺ بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله ﷺ رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده.
قال ابن إسحاق: وحدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار قال: انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم، فقال: فما يجلسكم؟
قالوا: قُتل رسول الله ﷺ.
قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ، ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قُتل، وبه سمي أنس بن مالك.
فحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم: أن عبد الرحمن بن عوف أصيب فوه يومئذ، فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.
فصل في أول من عرف رسول الله بعد الهزيمة كعب بن مالك
قال ابن إسحاق: وكان أول من عرف رسول الله ﷺ بعد الهزيمة، وقول الناس قتل رسول الله ﷺ - كما ذكر لي الزهري -كعب بن مالك.
قال: رأيت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله ﷺ، فأشار رسول الله ﷺ إلي أن أنصت.
قال ابن إسحاق: فلما عرف المسلمون رسول الله ﷺ نهضوا به، ونهض معهم نحو الشعب، معه أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، ورهط من المسلمين.
فلما أسند رسول الله ﷺ في الشعب أدركه أبي بن خلف، فذكر قتله عليه السلام أبيا كما تقدم.
قال ابن إسحاق: وكان أبي بن خلف، كما حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، يلقى رسول الله ﷺ بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العودَ - فرسا - أعلفه كل يوم فَرَقا من ذرة، أقتلك عليه.
فيقول رسول الله ﷺ: «بل أنا أقتلك إن شاء الله».
فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدم فقال: قتلني والله محمد.
فقالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إنْ بك بأس.
قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليَّ لقتلني، فمات عدو الله بسرَف وهم قافلون به إلى مكة.
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك:
لقد ورِثَ الضلالة عن أبيه * أبي يوم بارزه الرسولُ
أتيتَ إليه تحملُ رِمَّ عَظْمٍ * وتُوعِده وأنت به جَهول
وقد قَتلتْ بنو النجّار منكم * أميةَ إذ يغوث: يا عقيل
وتَبَّ ابنا ربيعةَ إذ أطاعا * أبا جهلٍ لأمهما الهبول
وأفلتَ حارثٌ لما شُغلنا * بأسْرِ القوم، أُسرتِهِ قليل
وقال حسان بن ثابت أيضا:
ألا مَن مبلغٌ عني أبيا * فقد ألقيت في سحق السعير
تمُني بالضلالة من بعيد * وتقُسِمُ إنّ قَدرتَ مع النُذور
تمنِّيكَ الأماني من بعيد * وقولُ الكفرِ يرجعُ في غرور
فقد لاقتك طعنةُ ذي حفاظٍ * كريمِ البيتِ ليس بذي فجور
له فضلٌ على الأحياء طُرا * إذا نابتْ مُلمّاتُ الأمور
قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله ﷺ إلى فم الشعب، خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته ماءً من المهراس، فجاء بها إلى رسول الله ﷺ ليشرب، منه فوجد له ريحا فعافه ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: «اشتد غضب الله على من دمى نبيه».
وقد تقدم شواهد ذلك من الأحاديث الصحيحة بما فيه الكفاية.
قال ابن إسحاق: فبينا رسول الله ﷺ في الشعب معه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل.
قال ابن هشام: فيهم خالد بن الوليد.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله ﷺ: «اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا» فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل، ونهض النبي ﷺ إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وقد كان بدَّن رسول الله ﷺ ظاهر بين درعين.
فلما ذهب لينهض لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوى عليها، فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول يومئذ: «أوجب طلحة» حين صنع برسول الله ﷺ يومئذ ما صنع.
قال ابن هشام: وذكر عمر مولى عفرة: أن رسول الله ﷺ صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التي أصابته وصلى المسلمون خلفه قعودا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أتيُّ لا يدرى من هو، يقال له: قزمان، فكان رسول الله ﷺ يقول إذا ذكر: «إنه لمن أهل النار».
قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا فقتل هو وحده ثمانية أو سبعة من المشركين، وكان ذا بأس فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر.
قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر.
قال: بماذا أبشر؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت.
قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته، فقتل به نفسه.
وقد ورد مثل قصة هذا في غزوة خيبر كما سيأتي، إن شاء الله.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن المسيب، عن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله ﷺ خيبر، فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: «هذا من أهل النار».
فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله الرجل الذي قلت إنه من أهل النار قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات.
فقال النبي ﷺ: «إلى النار» فكاد بعض القوم يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل فإنه لم يمت ولكن به جراح شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبي ﷺ بذلك، فقال: «الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله».
ثم أمر بلالا فنادى في الناس: «إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
وأخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به.
قال ابن إسحاق: و كان ممن قتل يوم أحد مخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن الغيطون، فلما كان يوم أحد قال: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق.
قالوا: إن اليوم يوم السبت.
قال: لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء.
ثم غدا إلى رسول الله ﷺ فقاتل معه حتى قتل، فقال رسول الله ﷺ فيما بلغنا: «مخيريق خير يهود».
قال السهيلي: فجعل رسول الله ﷺ أموال مخيريق - وكانت سبع حوائط - أوقافا بالمدينة لله.
قال محمد بن كعب القرظي: وكانت أول وقف بالمدينة.
وقال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن أبي هريرة أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلِ قط، فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ فيقول: أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش.
قال الحصين: فقلت لمحمود بن أسد كيف كان شأن الأصيرم؟
قال: كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم أحد بدا له فأسلم، ثم أخذ سيفه فغدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة.
قال: فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم ما جاء به، لقد تركناه، وإنه لمنكر لهذا الحديث، فسألوه فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟
فقال: بل رغبة في الإسلام أمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي وغدوت مع رسول الله ﷺ فقاتلت حتى أصابني ما أصابني، فلم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله ﷺ فقال: «إنه من أهل الجنة».
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي عن أشياخ من بني سلمة قالوا: كان عمرو بن الجموح رجلا أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد، يشهدون مع رسول الله ﷺ المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا: إن الله قد عذرك.
فأتى رسول الله ﷺ وقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة.
فقال رسول الله ﷺ: «أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك» وقال لبنيه: «ما عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة» فخرج معه فقتل يوم أحد رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة -كما حدثني صالح بن كيسان - والنسوة اللائي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله ﷺ، يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهن خدما وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
وذكر موسى بن عقبة أن الذي بقر كبد حمزة وحشي، فحملها إلى هند فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها فقالت:
نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان لي عن عتبةِ من صبر * ولا أخي وعمه وبكر
شفيت نفسي وقضيت نذري * شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشيٍ علي عمري * حتى ترم أعظمي في قبري
قال: فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت:
خزيت في بدر وبعد بدر * يا بنت وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر * م الهاشميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري * حمزة ليثيٌ وعلي صقري
إذ رأم شيب وأبوك غدري * فخضبا منه ضواحي النحر
ونذرك السوء فشر نذر *
قال ابن إسحاق: وكان الحليس بن زيان أخو بني الحارث بن عبد مناة - وهو يومئذ سيد الأحابيش - مر بأبي سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح، ويقول: ذق عقق.
فقال الحليس: يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما.
فقال: ويحك اكتمها عني فإنها كانت زلة.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف، أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل، أي: ظهر دينك.
فقال رسول الله ﷺ لعمر: «قم يا عمر فأجبه فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار».
فقال له أبو سفيان: هلم إلي يا عمر.
فقال رسول الله ﷺ لعمر: «ائته فانظر ما شأنه».
فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟
فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن.
قال: أنت عندي أصدق من ابن قمئة وأبر.
قال ابن إسحاق: ثم نادى أبو سفيان إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت ولا أمرت.
قال: ولما انصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله ﷺ لرجل من أصحابه: «قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد»
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب، فقال: «اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم».
قال علي: فخرجت في أثرهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكة.
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد
قال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفراري، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي، عن ابن رفاعة الزرقي، عن أبيه قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله ﷺ: «استووا حتى أثني على ربي عز وجل» فصاروا خلفه صفوفا فقال:
«اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف.
اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق».
ورواه النسائي في (اليوم والليلة) عن زياد بن أيوب، عن مروان بن معاوية، عن عبد الواحد بن أيمن، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه به.
فصل سؤال النبي عليه السلام عن سعد بن الربيع أهو حي أم ميت
قال ابن إسحاق: وفرغ الناس لقتلاهم فحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني، أخو بني النجار: أن رسول الله ﷺ قال: «من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات؟».
فقال رجل من الأنصار: أنا، فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق.
قال: فقال له: إن رسول الله ﷺ أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟
فقال: أنا في الأموات فأبلغ رسول الله ﷺ سلامي وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك الأنصار عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.
قال: ثم لم أبرح حتى مات، وجئت النبي ﷺ فأخبرته خبره.
قلت: كان الرجل الذي التمس سعدا في القتلى: محمد بن سلمة فيما ذكره محمد بن عمر الواقدي، وذكر أنه ناداه مرتين فلم يجبه، فلما قال: إن رسول الله أمرني أن أنظر خبرك أجابه بصوت ضعيف وذكره.
وقال الشيخ أبو عمر في (الاستيعاب): كان الرجل الذي التمس سعدا أبي كعب، فالله أعلم.
وكان سعد بن الربيع من النقباء ليلة العقبة رضي الله عنه، وهو الذي آخى رسول الله ﷺ بينه وبين عبد الرحمن بن عوف.
قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله ﷺ فيما بلغني يلتمس حمزة بن عبد المطلب، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثّل به فجدع أنفه وأذناه، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير أن رسول الله ﷺ قال حين رأى ما رأى: «لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع، وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم».
فلما رأى المسلمون حزن رسول الله ﷺ وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.
قال ابن إسحاق: فحدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب، وحدثني من لا أتهم عن ابن عباس: أن الله أنزل في ذلك: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ... } الآية [18]
قال: فعفا رسول الله ﷺ وصبر، ونهى عن المثلة.
قلت: هذه الآية مكية، وقصة أحد بعد الهجرة بثلاث سنين فكيف يلتئم هذا، فالله أعلم؟
قال: وحدثني حميد الطويل، عن الحسن، عن سمرة بن جندب قال: ما قام رسول الله ﷺ في مقام قط ففارقه، حتى يأمر بالصدقة وينهى عن المثلة.
وقال ابن هشام: ولما وقف النبي ﷺ على حمزة قال: «لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت قط موقفا أغيظ إلي من هذا».
ثم قال: «جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله».
قال ابن هشام: وكان حمزة وأبو سلمة بن عبد الأسد أخو رسول الله ﷺ من الرضاعة، أرضعتهم ثلاثتهم: ثويبة مولاة أبي لهب.
الصلاة على حمزة وقتلى أحد
وقال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: أمر رسول الله ﷺ بحمزة، فسجي ببردة، ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات، ثم أتي بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فصلى عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة.
وهذا غريب وسنده ضعيف.
قال السهيلي: ولم يقل به أحد من علماء الأمصار.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا عطاء بن السائب، عن الشعبي، عن ابن مسعود قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أنه ليس أحد منا يريد الدنيا، حتى أنزل الله: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم }
فلما خلف أصحاب رسول الله ﷺ وعصوا ما أمروا به، أفرد رسول الله ﷺ في تسعة - سبعة من الأنصار واثنين من قريش وهو عاشرهم - فلما رهقوه قال: «رحم الله رجلا ردهم عنا...» فلم يزل يقول ذا حتى قتل السبعة، فقال رسول الله ﷺ لصاحبيه: «ما أنصفنا أصحابنا» فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل؟
فقال رسول الله ﷺ: «قولوا الله أعلى وأجل» فقالوا: الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال رسول الله ﷺ: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم»
ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، يوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسر، حنظلة بحنظلة، وفلان بفلان.
فقال رسول الله ﷺ: «لا سواء أما قتلانا فأحياء يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون»
قال أبو سفيان: قد كانت في القوم مثلة، وإن كانت لعن غير ملأ منا ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت ولا ساءني ولا سرني.
قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها.
فقال رسول الله ﷺ: «أأكلت شيئا؟»
قالوا: لا.
قال: «ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار».
قال: فوضع رسول الله ﷺ حمزة فصلى عليه، وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه، فرفع الأنصاري وترك حمزة، وجيء بآخر فوضعه إلى جنب حمزة فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة.
تفرد به أحمد وهذا إسناد فيه ضعف أيضا من جهة عطاء بن السائب، فالله أعلم.
والذي رواه البخاري أثبت حيث قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن جابر بن عبد الله أخبره: أن رسول الله ﷺ كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: «أيهم أكثر أخذا للقرآن؟».
فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا.
تفرد به البخاري دون مسلم، ورواه أهل السنن من حديث الليث بن سعد به.
وقال أحمد: حدثنا محمد - يعني ابن جعفر - حدثنا شعبة، سمعت عبد ربه يحدث عن الزهري، عن ابن جابر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي ﷺ أنه قال في قتلى أحد: «فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة» ولم يصل عليهم.
وثبت أنه صلى عليهم بعد ذلك بسنين عديدة قبل وفاته بيسير، كما قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا زكريا بن عدي، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله ﷺ على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات.
ثم طلع المنبر فقال: «إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها».
قال: فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله ﷺ.
ورواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، من حديث يزيد بن أبي حبيب به نحوه.
وقال الأموي: حدثني أبي، حدثنا الحسن بن عمارة، عن حبيب بن أبي ثابت قال: قالت عائشة: خرجنا من السحر مخرج رسول الله ﷺ إلى أحد، نستطلع الخبر، حتى إذا طلع الفجر إذا رجل محتجر يشتد ويقول:
لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل
قال: فنظرنا فإذا أسيد بن حضير، ثم مكثنا بعد ذلك، فإذا بعير قد أقبل عليه امرأة بين وسقين قالت: فدنونا منها فإذا هي امرأة عمرو بن الجموح، فقلنا لها: ما الخبر؟
قالت: دفع الله عن رسول الله ﷺ، واتخذ من المؤمنين شهداء، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا.
ثم قالت لبعيرها: حل، ثم نزلت فقلنا لها: ما هذا؟
قالت: أخي وزوجي.
وقال ابن إسحاق: وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه، وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله ﷺ لابنها الزبير بن العوام: ألقها فأرجعها لا ترى ما بأخيها.
فقال لها: يا أمه إن رسول الله ﷺ يأمرك أن ترجعي.
قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله، فما أرضانا ما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فلما جاء الزبير إلى رسول الله ﷺ وأخبره بذلك، قال: «خلِّ سبيلها» فأتته فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت.
قال ابن إسحاق: ثم أمر به رسول الله ﷺ فدفن، ودفن معه ابن أخته عبد الله بن جحش، وأمه أميمة بنت عبد المطلب، وكان قد مثل به غير أنه لم ينقر عن كبده رضي الله عنهما.
قال السهيلي: وكان يقال له المجدع في الله.
قال: وذكر سعد أنه هو وعبد الله بن جحش دعيا بدعوة فاستجيبت لهما، فدعا سعد أن يلقى فارسا من المشركين فيقتله ويستلبه فكان ذلك، ودعا عبد الله بن جحش أن يلقاه فارس فيقتله ويجدع أنفه في الله فكان ذلك.
وذكر الزبير بن بكار: أن سيفه يومئذ انقطع فأعطاه رسول الله ﷺ عرجونا، فصار في يد عبد الله بن حجش سيفا يقاتل به، ثم بيع في تركة بعض ولده بمائتي دينار، وهذا كما تقدم لعكاشة في يوم بدر.
وقد تقدم في صحيح البخاري أيضا: أن رسول الله ﷺ كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، بل في الكفن الواحد، وإنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التي يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد، ويقدم في اللحد أكثرهما أخذا للقرآن.
وكان يجمع بين الرجلين المتصاحبين في اللحد الواحد، كما جمع بين عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، وبين عمرو بن الجموح لأنهما كانا متصاحبين ولم يغسلوا، بل تركهم بجراحهم ودمائهم.
كما روى ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: أن رسول الله ﷺ لما انصرف عن القتلى يوم أحد قال: «أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم، والريح ريح مسك»
قال: وحدثني عمي موسى بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم ﷺ: «ما من جريح يجرح في الله، إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى اللون لون الدم، والريح ريح المسك».
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أمر رسول الله ﷺ يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وقال: «ادفنوهم بدمائهم وثيابهم»
رواه أبو داود، وابن ماجه من حديث علي بن عاصم به.
وقال الإمام أبو داود في (سننه): حدثنا القعنبي أن سليمان بن المغيرة حدثهم، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر أنه قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله ﷺ يوم أحد فقالوا: قد أصابنا قرح وجهد فكيف تأمر؟
فقال: «احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد» قيل: يا رسول الله فأيهم يقدم؟
قال: «أكثرهم قرأنا».
ثم رواه من حديث الثوري عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر فذكره، وزاد: «وأعمقوا»
قال ابن إسحاق: وقد احتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله ﷺ عن ذلك وقال: «ادفنوهم حيث صرعوا»
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا عبد الله، وعتاب، حدثنا عبد الله، حدثنا عمر بن سلمة بن أبي يزيد المديني، حدثني أبي، سمعت جابر بن عبد الله يقول: استشهد أبي بأحد فأرسلني إخواني إليه بناضح لهن فقلن: اذهب فاحتمل أباك على هذا الجمل فادفنه في مقبرة بني سلمة.
فقال: فجئته وأعوان لي فبلغ ذلك نبي الله، وهو جالس بأحد فدعاني فقال: «والذي نفسي بيده لا يدفن إلا مع إخوته» فدفن مع أصحابه بأحد، تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح، عن جابر بن عبد الله: أن قتلى أحد حملوا من مكانهم، فنادى منادي النبي ﷺ: «أن ردوا القتلى إلى مضاجعهم».
وقد رواه أبو داود، والنسائي، من حديث الثوري، والترمذي، من حديث شعبة والنسائي أيضا، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينه، كلهم عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر بن عبد الله قال:
خرج رسول الله ﷺ من المدينة إلى المشركين يقاتلهم، وقال لي أبي عبد الله: يا جابر لا عليك أن تكون في نظاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما مصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي.
قال: فبينا أنا في النظارين، إذ جاءت عمتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، إذ لحق رجل ينادي: ألا إن النبي ﷺ يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت، فرجعناها بهما فدفناهما حيث قتلا.
فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال: يا جابر بن عبد الله، والله لقد أثار أباك عمال معاوية فبدأ فخرج طائفة منه، فأتيته فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتيل.
ثم ساق الإمام قصة وفائه دين أبيه كما هو ثابت في الصحيحين.
وروى البيهقي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: لما أجرى معاوية العين عند قتلى أحد بعد أربعين سنة استصرخناهم إليهم، فأتيناهم فأخرجناهم فأصابت المسحاة قدم حمزة فانبعث دما.
وفي رواية ابن إسحاق، عن جابر قال: فأخرجناهم كأنما دفنوا بالأمس.
وذكر الواقدي: أن معاوية لما أراد أن يجري العين نادى مناديه: من كان له قتيل بأحد فليشهد.
قال جابر: فحفرنا عنهم، فوجدت أبي في قبره كأنما هو نائم على هيئته وما تغير من حاله قليل ولا كثير، ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح ويده على جرحه، فأزيلت عنه فانبعث جرحه دما.
ويقال: إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك رضي الله عنهم أجمعين، وذلك بعد ست وأربعين سنة من يوم دفنوا.
وقد قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا حسين المعلم، عن عطاء، عن جابر قال: لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال لي: ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي ﷺ، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله ﷺ، وأن علي دينا فاقض، واستوص بأخواتك خيرا.
فأصبحنا وكان أول قتيل، فدفنت معه آخر في قبره، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته هيئته غير أذنه.
وثبت في الصحيحين: من حديث شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر أنه لما قتل أبوه جعل يكشف عن الثوب ويبكي، فنهاه الناس فقال رسول الله: «تبكيه أو لا تبكيه لم تزل الملائكة تظله حتى رفعتموه» وفي رواية أن عمته هي الباكية.
وقال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا فيض بن وثيق البصري، حدثنا أبو عبادة الأنصاري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ لجابر: «يا جابر ألا أبشرك؟»
قال: بلى بشرك الله بالخير.
فقال: «أشعرت أن الله أحيا أباك فقال: تمن عليّ عبدي ما شئت أعطكه. قال: يا رب عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقتل مع نبيك، وأقتل فيك مرة أخرى، قال: إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع».
وقال البيهقي: حدثنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف الإسفرايني، حدثنا أبو سهل بشر بن أحمد، حدثنا أحمد بن الحسين بن نصر، حدثنا علي بن المديني، حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري قال:
سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري ثم السلمي قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: نظر إلى رسول الله ﷺ فقال: «مالي أراك مهتما؟»
قال: قلت: يا رسول الله قتل أبي وترك دينا وعيالا، فقال: «ألا أخبرك ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا وقال له: يا عبدي سلني أعطك. فقال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال: إنه قد سبق مني القول إنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب فأبلغ من ورائي»
فأنزل الله: { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } الآية [19]
وقال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا، عن عبد الله بن محمد بن عقيل سمعت جابرا يقول: قال رسول الله ﷺ: «ألا أبشرك يا جابر؟».
قلت: بلى.
قال: «إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله، ثم قال له: ما تحب يا عبد الله ما تحب أن أفعل بك؟ قال: أي رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى».
وقد رواه أحمد، عن علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي، عن ابن عقيل، عن جابر، وزاد فقال الله: «إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون».
وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن عبد الله، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول إذا ذكر أصحاب أحد: «أما والله لوددت أني غودرت مع أصحابه بحضن الجبل» يعني سفح الجبل. تفرد به أحمد.
وقد روى البيهقي من حديث عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير، وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه فدعا له، ثم قرأ: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } الآية [20]
قال: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه».
وهذا حديث غريب. وروي عن عبيد بن عمير مرسلا.
وروى البيهقي من حديث موسى بن يعقوب، عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كان النبي ﷺ يأتي قبور الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب قال: «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار».
ثم كان أبو بكر بعد النبي ﷺ يفعله، وكان عمر بعد أبي بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله.
قال الواقدي: كان النبي ﷺ يزورهم كل حول، فإذا بلغ نقرة الشعب يقول: «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» ثم كان أبو بكر يفعل ذلك كل حول، ثم عمر، ثم عثمان، وكانت فاطمة بنت رسول الله ﷺ تأتيهم فتبكي عندهم وتدعو لهم.
وكان سعد يسلم ثم يقبل على أصحابه فيقول: ألا تسلمون على قوم يردون عليكم.
ثم حكى زيارتهم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وأم سلمة رضي الله عنهم.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم، حدثني الحكم بن نافع، حدثنا العطاف بن خالد، حدثتني خالتي قالت: ركبت يوما إلى قبور الشهداء - وكانت لا تزال تأتيهم - فنزلت عند حمزة فصليت ما شاء الله أن أصلي، وما في الوادي داع ولا مجيب إلا غلاما قائما آخذا برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي قلت هكذا بيدي: السلام عليكم.
قالت: فسمعت رد السلام علي يخرج من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله عز وجل خلقني، وكما أعرف الليل والنهار، فاقشعرت كل شعرة مني.
وقال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال النبي ﷺ:
«لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب، ولا يزهدوا في الجهاد؟ فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله في الكتاب قوله تعالى: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } ».
وروى مسلم والبيهقي من حديث أبي معاوية، عن الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله ﷺ فقال:
«أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في أيها شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، قال فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك إطلاعة فقال: اسألوني ما شئتم، فقالوا: يا ربنا وما نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أن لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك مرة أخرى، قال: فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا».
فصل في عدد الشهداء
قال موسى بن عقبة: جميع من استشهد يوم أحد من المهاجرين والأنصار تسعة وأربعون رجلا.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن البخاري عن البراء أنهم قتلوا من المسلمين سبعين رجلا، فالله أعلم.
وقال قتادة، عن أنس: قتل من الأنصار يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس أنه كان يقول: قارب السبعين يوم أحد، ويوم بئر معونة، ويوم مؤتة ويوم اليمامة.
وقال مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب: قتل من الأنصار يوم أحد ويوم اليمامة سبعون، ويوم جسر أبي عبيد سبعون، وهكذا قال عكرمة وعروة والزهري، ومحمد بن إسحاق في قتلى أحد، ويشهد له قوله تعالى: { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا } يعني أنهم قتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين.
وعن ابن إسحاق: قتل من الأنصار - لعله من المسلمين - يوم أحد خمسة وستون: أربعة من المهاجرين: حمزة، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان، والباقون من الأنصار. وسرد أسماءهم على قبائلهم.
وقد استدرك عليه ابن هشام زيادة على ذلك خمسة آخرين فصاروا سبعين، على قول ابن هشام.
وسرد ابن إسحاق أسماء الذين قتلوا من المشركين، وهم اثنان وعشرون رجلا.
وعن عروة: كان الشهداء يوم أحد أربعة أو قال سبعة وأربعين.
وقال موسى بن عقبة: تسعة وأربعون، وقتل من المشركين يومئذ ستة عشر رجلا، وقال عروة: تسعة عشر، وقال ابن إسحاق: اثنان وعشرون، وقال الربيع، عن الشافعي: ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي، وقد كان في الأسارى يوم بدر فمنّ عليه رسول الله ﷺ بلا فدية، واشترط عليه ألا يقاتله.
فلما أسر يوم أحد قال: يا محمد أمنن عليّ لبناتي وأعاهد أن لا أقاتلك، فقال رسول الله ﷺ: «لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول خدعت محمدا مرتين» ثم أمر به فضربت عنقه.
وذكر بعضهم أنه يومئذ قال رسول الله ﷺ: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين».
فصل نعي رسول الله لحمنة بنت جحش أخيها وخالها وزوجها يوم أحد
قال ابن إسحاق: ثم انصرف رسول الله ﷺ إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش كما ذكر لي، فلما لقيت الناس نعي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت.
فقال رسول الله ﷺ: «إن زوج المرأة منها لبمكان» لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها.
وقد قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا إسحاق بن محمد الفروي، حدثنا عبد الله بن عمر، عن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جحش، عن أبيه، عن حمنة بنت جحش: أنه قيل لها قتل أخوك، فقالت: رحمه الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فقالوا: قتل زوجك.
قالت: واحزناه.
فقال رسول الله ﷺ: «إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشيء».
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل، عن محمد عن سعد بن أبي وقاص قال: مر رسول الله ﷺ بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها، وأخوها، وأبوها مع رسول الله ﷺ بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله ﷺ؟
قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.
قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
قال ابن هشام: الجلل يكون من القليل والكثير، وهو ههنا القليل.
قال امرؤ القيس:
لقتل بني أسد ربهم * ألا كل شيء خلاه جلل
أي: صغير وقليل.
قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله ﷺ إلى أهله، ناول سيفه ابنته فاطمة فقال: «اغسلي عن هذا دمه يا بنيه، فوالله لقد صدقني في هذا اليوم» وناولها علي بن أبي طالب سيفه فقال: وهذا فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم.
فقال رسول الله ﷺ: «لئن كنت صدقت القتال، لقد صدقه معك سهل بن حنيف وأبو دجانة».
وقال موسى بن عقبة في موضع آخر: ولما رأى رسول الله ﷺ سيف علي مخضبا بالدماء قال: «لئن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف»
وروى البيهقي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء علي بن أبي طالب بسيفه يوم أحد قد انحنى فقال لفاطمة: هاك السيف حميدا فإنها قد شفتني.
فقال رسول الله ﷺ: «لئن كنت أجدت الضرب بسيفك، لقد أجاده سهل بن حنيف، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة».
قال ابن هشام: وسيف رسول الله ﷺ هذا هو ذو الفقار.
قال: وحدثني بعض أهل العلم، عن ابن أبي نجيح قال: نادى مناد يوم أحد: لا سيف إلا ذو الفقار.
قال: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ قال لعلي: لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح علينا.
قال ابن إسحاق: ومر رسول الله ﷺ بدار بني عبد الأشهل، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله ﷺ ثم قال: «لكن حمزة لا بواكي له».
فلما رجع سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير إلى دار بني عبد الأشهل أمرا نساءهن أن يتحزمن، ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله ﷺ.
فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن بعض رجال بني عبد الأشهل قال: لما سمع رسول الله ﷺ بكاءهن على حمزة، خرج عليهن وهن في باب المسجد يبكين فقال: «ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتن بأنفسكن».
قال: ونهى رسول الله ﷺ يومئذ عن النوح فيما قال ابن هشام.
وهذا الذي ذكره منقطع ومنه مرسل، وقد أسنده الإمام أحمد فقال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أسامة بن زيد، حدثني نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ لما رجع من أحد، فجعل نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن قال: فقال رسول الله ﷺ: «ولكن حمزة لا بواكي له».
قال: ثم نام فاستنبه وهن يبكين، قال: «فهن اليوم إذا يبكين يندبن حمزة». وهذا على شرط مسلم.
وقد رواه ابن ماجه، عن هارون بن سعيد، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ مر بنساء بني عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد، فقال رسول الله ﷺ: «لكن حمزة لا بواكي له».
فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة، فاستيقظ رسول الله ﷺ فقال: «ويحهن ما انقلبن بعد مرورهن، فلينقلبن ولا يبكين على هالك بعد اليوم».
وقال موسى بن عقبة: ولما دخل رسول الله ﷺ أزقة المدينة، إذا النوح والبكاء في الدور، قال: «ما هذا؟» قالوا: هذه نساء الأنصار يبكين قتلاهم.
فقال: «لكن حمزة لا بواكي له» واستغفر له فسمع ذلك سعد بن معاذ بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن رواحة، فمشوا إلى دورهم فجمعوا كل نائحة باكية كانت بالمدينة فقالوا: والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عم النبي ﷺ، فإنه قد ذكر أنه لا بواكي له بالمدينة، وزعموا أن الذي جاء بالنوائح عبد الله بن رواحة.
فلما سمع رسول الله ﷺ قال: «ما هذا؟» فأخبر بما فعلت الأنصار بنسائهم فاستغفر لهم، وقال لهم خيرا، وقال: «ما هذا أردت وما أحب البكاء» ونهى عنه.
وهكذا ذكر ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير سواء قال موسى بن عقبة: وأخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر والتفريق عن رسول الله ﷺ، وتحزين المسلمين، وظهر غش اليهود، وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل وقالت اليهود: لو كان نبيا ما ظهروا عليه، ولا أصيب منه ما أصيب، ولكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه.
وقال المنافقون مثل قولهم، وقالوا للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذين أصابوا منكم، فأنزل الله القرآن في طاعة من أطاع، ونفاق من نافق، وتعزية المسلمين يعني فيمن قتل منهم، فقال: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم.. } الآيات كلها كما تكلمنا على ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة.
خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما بهم من القرح والجراح في أثر أبي سفيان
قال موسى بن عقبة بعد اقتصاصه وقعة أحد، وذكره رجوعه عليه السلام إلى المدينة: وقدم رجل من أهل مكة على رسول الله ﷺ فسأله عن أبي سفيان وأصحابه فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون ويقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثم تركتموهم ولم تبتروهم، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم.
فأمر رسول الله ﷺ - وبهم أشد القرح -بطلب العدو ليسمعوا بذلك وقال: «لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال» فقال عبد الله بن أبي: أنا راكب معك.
فقال: «لا».
فاستجابوا لله ولرسوله على الذي بهم من البلاء فانطلقوا.
فقال الله في كتابه: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ } [21].
قال: وأذن رسول الله ﷺ لجابر حين ذكر أن أباه أمره بالمقام في المدينة على أخواته.
قال: وطلب رسول الله ﷺ العدو حتى بلغ حمراء الأسد.
وهكذا روى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير سواء.
وقال محمد بن إسحاق في (مغازيه): وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله ﷺ في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه ألا يخرجن أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله فأذن له.
قال ابن إسحاق: وإنما خرج رسول الله ﷺ مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
قال ابن إسحاق - رحمه الله -: فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من بني عبد الأشهل قال: شهدت أحدا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله ﷺ بالخروج في طلب العدو قلت لأخي وقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله ﷺ؟
والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله ﷺ وكنت أيسر جرحا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله ﷺ حتى انتهى إلى حمراء الأسد - وهي من المدينة على ثمانية أميال - فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.
قال ابن هشام: وقد كان استعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله ﷺ بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك مرَّ برسول الله ﷺ وهو مقيم بحمراء الأسد فقال:
يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله ﷺ بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان ابن حرب، ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله ﷺ وأصحابه وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم، فلنفرغن منهم.
فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟
قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أرَ مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط.
قال: ويلك ما تقول؟
قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل.
قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل شأفتهم.
قال: فإني أنهاك عن ذلك، ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر.
قال: وما قلت؟
قال: قلت:
كادت تهد من الأصوات راحلتي * إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة * عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة * لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم * إذا تغطمطت البطحاء بالجيل
إني نذير لأهل البسل ضاحية * لكل ذي أربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخش قنابله * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟
قالوا: المدينة.
قال: ولم؟
قالوا: نريد الميرة.
قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها.
قالوا: نعم.
قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم.
فمر الركب برسول الله ﷺ وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال: «حسبنا الله ونعم الوكيل». وكذا قال الحسن البصري.
وقد قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، أراه قال: حدثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. تفرد بروايته البخاري.
وقد قال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } قالت لعروة:
يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير، وأبو بكر رضي الله عنهما، لما أصاب رسول الله ﷺ ما أصاب يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا فقال: من يذهب في إثرهم؟
فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير. هكذا رواه البخاري.
وقد رواه مسلم مختصرا من وجه عن هشام.
وهكذا رواه سعيد بن منصور، وأبو بكر الحميدي جميعا عن سفيان بن عيينة.
وأخرجه ابن ماجه من طريقه عن هشام بن عروة به.
ورواه الحاكم في (مستدركه) من طريق أبي سعيد عن هشام بن عروة به.
ورواه من حديث السدي عن عروة، وقال: في كل منهما صحيح، ولم يخرجاه. كذا قال.
وهذا السياق غريب جدا فإن المشهور عند أصحاب (المغازي) أن الذين خرجوا مع رسول الله ﷺ إلى حمراء الأسد كل من شهد أحدا، وكانوا سبعمائة كما تقدم، قُتل منهم سبعون، وبقي الباقون.
وقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد الذي كان منه، فرجع إلى مكة وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون في ذي القعدة المدينة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة.
وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المسلمين القرح، واشتكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ، واشتد عليهم الذي أصابهم.
وإن رسول الله ﷺ ندب الناس لينطلقوا بهم، ويتبعوا ما كانوا متبعين، وقال لنا: ترتحلون الآن فتأتون الحج، ولا يقدرون على مثلها حتى عام قابل.
فجاء الشيطان يخوف أولياءه، فقال: إن الناس قد جمعوا لكم، فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال: إني ذاهب، وإن لم يتبعني أحد، فانتدب معه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة، وابن مسعود، وحذيفة في سبعين رجلا.
فساروا في طلب أبي سفيان حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله: { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } وهذا غريب أيضا.
وقال ابن هشام: حدثنا أبو عبيدة: أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف يوم أحد أراد الرجوع إلى المدينة، فقال لهم صفوان بن أمية: لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان، فارجعوا فرجعوا.
فقال النبي ﷺ وهو بحمراء الأسد، حين بلغه أنهم همُّوا بالرجعة: «والذي نفسي بيده لقد سُوّمت لهم حجارة، لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب».
قال: وأخذ رسول الله ﷺ في وجهه ذلك، قبل رجوعه المدينة معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس جد عبد الملك بن مروان لأمه عائشة بنت معاوية، وأبا عزة الجمحي.
وكان رسول الله ﷺ قد أسره ببدر، ثم منَّ عليه فقال: يا رسول الله أقلني.
فقال: «لا والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها و تقول خدعت محمدا مرتين، اضرب عنقه يا زبير» فضرب عنقه.
قال ابن هشام: بلغني عن ابن المسيب أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت» فضرب عنقه.
وذكر ابن هشام أن معاوية بن المغيرة بن أبي العاص استأمن له عثمان على أن لا يقيم بعد ثلاث، فبعث رسول الله ﷺ بعدها زيد بن حارثة وعمار بن ياسر، وقال: «ستجدانه في مكان كذا وكذا فاقتلاه» ففعلا رضي الله عنهما.
قال ابن إسحاق: ولما رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة كان عبد الله بن أبيّ كما حدثني الزهري، له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر، له شرفا في نفسه وفي قومه، وكان فيه شريفا، إذا جلس رسول الله ﷺ يوم الجمعة وهو يخطب الناس، قام فقال:
أيها الناس، هذا رسول الله بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا. ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع الناس، قام يفعل ذلك كما كان يفعله.
فأخذ المسلمون ثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس أي عدو الله، والله لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجُرا، أن قمت أشدد أمره.
فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك مالك؟ قال: قمت أشدد أمره، فوثب إلي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني، لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره، قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله ﷺ.
قال: والله ما أبغي أن يستغفر لي.
ثم ذكر ابن إسحاق ما نزل من القرآن في قصة أحد من سورة آل عمران عند قوله: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم } قال إلى تمام ستين آية.
وتكلم عليها، وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير بما فيه الكفاية.
ثم شرع ابن إسحاق في ذكر شهداء أحد وتعدادهم بأسمائهم، وأسماء آبائهم على قبائلهم، كما جرت عادته فذكر من المهاجرين أربعة: حمزة، ومصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان رضي الله عنهم، ومن الأنصار إلى تمام خمسة وستين رجلا.
واستدرك عليه ابن هشام خمسة أخرى فصاروا سبعين على قول ابن هشام.
ثم سمى ابن إسحاق من قُتل من المشركين، وهم: اثنان وعشرون رجلا على قبائلهم أيضا.
قلت: ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي، كما ذكره الشافعي وغيره، وقتله رسول الله ﷺ صبرا بين يديه أمر الزبير - ويقال عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح - فضرب عنقه.
فصل فيما تقاول به المؤمنون والكفار في وقعة أحد من الأشعار
وإنما نورد شعر الكفار لنذكر جوابها من شعر الإسلام، ليكون أبلغ في وقعها من الأسماع والأفهام، وأقطع لشبهة الكفرة الطغام.
قال الإمام محمد بن إسحاق - رحمه الله -: وكان مما قيل من الشعر يوم أحد قول هبيرة بن أبي وهب المخزومي، وهو على دين قومه من قريش فقال:
ما بال همٍّ عميدٍ بات يطرقني * بالود من هند إذ تعدو عواديها
باتت تعاتبني هندٌ وتعذلني * والحربُ قد شَغلت عني مواليها
مهلا فلا تعذليني إن من خُلُقي * ما قد علمتِ وما إن لستُ أُخفيها
مساعفٌ لبني كعبٍ بما كلفوا * حمال عبءٍ وأثقال أعانيها
وقد حملتُ سلاحي فوق مُشترفٍ * ساطٍ سبوحٍ إذا يجري يباريها
كأنه إذ جرى عَيرٌ بفدفدةٍ * مكدّمٌ لاحقٌ بالعون يحميها
من آل أعوجَ يرتاح النديُّ له * كجذع شعراءَ مستعلٍ مراقيها
أعددته ورقاقَ الحدّ منتخِلا * ومارنا لخطوبٍ قد ألاقيها
هذا وبيضاءُ مثلُ النُّهيِ محكمةٌ * لظَّت عليَّ فما تبدو مساويها
سُقْنا كنانة من أطراف ذي يمَنٍ * عرضَ البلادِ على ما كان يزجيها
قالت كنانةُ أنى تذهبون بنا * قلنا: النخيل فأموها ومن فيها
نحن الفوارس يوم الجرّ من أحد * هابتْ معدٌّ فقلنا نحن نأتيها
هابوا ضرابا وطعنا صادقا خذِما * مما يرون وقد ضُمَّت قواصيها
ثمتَّ رحنا كأنا عارض برد * وقام هام بني النجار يبكيها
كأن هامهم عند الوغى فلقٌ * من قيضِ ربدٍ نفتْه عن أداحيها
أو حنظلٌ ذعذعته الريحُ في غصن * بالٍ تعاوَرُه منها سوافيها
قد نبذل المالَ سحا لا حساب له * ونطعنُ الخيل شزرا في مآقيها
وليلةٍ يصطلي بالفرث جازرُها * يختص بالنَّقَرى المثرين داعيها
وليلةٍ من جمادى ذات أندية * جربا جمُاديةٍ قد بتُّ أسريها
لا ينبحُ الكلب فيها غيرَ واحدةٍ * من القَريس ولا تسري أفاعيها
أوقدت فيها لذي الضراء جاحمةً * كالبرق ذاكيةَ الأركان أحميها
أورثني ذلكم عمروٌ ووالده * من قبله كان بالمشتى يُغاليها
كانوا يُبارونَ أنواء النجوم فما * دنت عن السَوْرة العَليا مساعيها
قال ابن إسحاق: فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال: قال ابن هشام: وتروى لكعب بن مالك وغيره.
قلت: وقول ابن إسحاق أشهر وأكثر، والله أعلم:
سقتم كنانة جهلا من سفاهتكم * إلى الرسول فجندُ الله مخزيها
أوردتموها حياضَ الموت ضاحيةً * فالنار موعدُها والقتل لاقيها
جمعتموهم أحابيشا بلا حسب * أئمة الكفرِ غرَّتكم طواغيها
ألا اعتبرتم بخيلِ الله إذ قتلت * أهل القليب ومن ألقيتَه فيها
كم من أسير فككناهُ بلا ثمنٍ * وجزِّ ناصيةٍ كنا مواليها
قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يجيب هبيرة بن أبي وهب المخزومي أيضا:
ألا هل أتى غسان عنا ودونهم * من الأرض خرقٌ سيرُهُ متنعنع
صحارى و أعلام كأنّ قتامها * من البعدِ نقعٌ هامدً متقطع
تظل به البُزْلُ العراميس رُزَّحا * ويحلو به غيثُ السنين فيمرع
به جيفُ الحسرى يلوحُ صَليها * كما لاح كَتّان التِّجار الموضع
به العين والآرام يمشين خُلفةً * وبيض نعام قيضُه يتقلّع
مجالدنا عن ديننا كل فخمةٍ * مذرَّبةٍ فيها القوانس تلمع
وكلُّ صموتٍ في الصِّوان كأنها * إذا لبست نهي من الماء مُترع
ولكن ببدرٍ سائلوا من لقيتمُ * من الناس والأنباءُ بالغيب تنفع
وأنا بأرض الخوف لو كان أهلها * سوانا لقد أجلوا بليل فأقشعوا
إذا جاء منا راكبٌ كان قولُه * أعِدّوا لما يزجي ابنُ حربٍ ويجمع
فمهما يهمُّ الناس مما يكيدنا * فنحن له من سائر الناس أوسع
فلو غيرُنا كانت جميعا تكيدُه * البرِيَّة قد أعطوا يدا وتوزَّعوا
نُجالد لا تبقى علينا قبيلةٌ * من الناس إلا أن يهابوا ويفظعوا
ولما ابتنوا بالعِرضِ قالت سراتنا * علام إذا لم نمنع العرض نزرع
وفينا رسول الله نتبع أمره * إذا قال فينا القول لا نتظلع
تدلى عليه الروح من عند ربه * ينزَّل من جوّ السماء ويُرفع
نشاوره فيما نريد وقصرُنا * إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع
وقال رسول الله لما بدوا لنا * ذروا عنكمُ هول المنيّات وأطعموا
وكونوا كمن يشري الحياة تقرُّبا * إلى ملك يحيا لديه ويُرجَع
ولكن خُذوا أسيافكم وتوكلوا * على الله إن الأمر لله أجمع
فسرنا إليهم جهرةً في رحالهم * ضُحيّا علينا البيضُ لا نتخشع
بملمومةٍ فيها السنوَّر والقَنا * إذا ضربوا أقدامها لا تورّع
فجئنا إلى موجٍ من البحر وسطه * أحابيش منهم حاسر ومُقنَّع
ثلاثة آلاف ونحن نصيَّة * ثلاث مئين إن كثرنا فأربع
نغاورهم تجري المنية بيننا * نشارعهم حوض المنايا ونشرع
تهادي قسي النبع فينا وفيهم * وما هو إلا اليثربي المقطع
ومنجوفة حرمية صاعدية * يذر عليها السم ساعة تصنع
تصوب بأبدان الرجال وتارة * تمر بأعراض البِصَار تُقعقع
وخيل تراها بالفضاء كأنها * جراد صبا في قرة يتريع
فلما تلاقينا ودارت بنا الرحا * وليس لأمر حمه الله مدفع
ضربناهم حتى تركنا سراتهم * كأنهم بالقاع خشب مصرع
لدن غدوة حتى استفقنا عشية * كأن ذُكانا حر نار تلفع
وراحوا سراعا موجعين كأنهم * جهام هراقت ماءه الريح مقلع
ورحنا وأخرانا بطاء كأننا * أسود على لحم ببشة ضُلّع
فنلنا ونال القوم منا وربما * فعلنا ولكن ما لدى الله أوسع
ودارت رحانا واستدارت رحاهم * وقد جعلوا كل من الشر يشبع
ونحن أناس لا نرى القتل سبة * على كل من يحمي الذمار ويمنع
جلاد على ريب الحوادث لا نرى * على هالك عينا لنا الدهر تدمع
بنو الحرب لا نعيا بشيء نقوله * ولا نحن مما جرت الحرب نجزع
بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش * ولا نحن من أظفارنا نتوجع
وكنا شهابا يتقي الناس حره * ويُفرِج عنه من يليه ويسفع
فخرت علي ابن الزِّبَعْري وقد سرى * لكم طلب من آخر الليل متبع
فسل عنك في عليا معد وغيرها * من الناس من أخزى مقاما وأشنع
ومن هو لم يترك له الحرب مفخرا * ومن خده يوم الكريهة أضرع
شددنا بحول الله والنصر شدة * عليكم وأطراف الأسنة شرع
تكر القنا فيكم كأن فروعها * عزالى مزاد ماؤها يتهزع
عمدنا إلى أهل اللواء ومن يَطِر * بذكر اللواء فهو في الحمد أسرع
فحانوا وقد أعطوا يدا وتخاذلوا * أبى الله إلا أمره وهو أصنع
قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري في يوم أحد وهو يومئذ مشرك بعد:
يا غراب البين أسمعت فقل * إنما تنطق شيئا قد فعل
إن للخير وللشر مدى * وكلا ذلك وجه وقبل
والعطيات خساس بينهم * وسواء قبر مثر ومقل
كل عيش ونعيم زائل * وبنات الدهر يلعبن بكل
أبلغا حسان عني آية * فقريض الشعر يشفي ذا الغلل
كم ترى بالجر من جمجمة * وأكف قد أترت ورجل
وسرابيل حسان سريت * عن كماة أهلكوا في المنتزل
كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل
صادق النجدة قِرْم بارع * غير ملتاث لدى وقع الأسل
فسل المهراس ما ساكنه * بين أقحاف وهام كالحجل
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل
ثم خفوا عن ذاكم رقصا * رقص الحفان يعلو في الجبل
فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
لا ألوم النفس إلا أننا * لو كررنا لفعلنا المفتعل
بسيوف الهند تعلو هامهم * عَلَلا تعلوهم بعد نهل
قال ابن إسحاق: فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ذهبت بابن الزبعري وقعة * كان منا الفضل فيها لو عدل
ولقد نلتم ونلنا منكم * وكذاك الحرب أحيانا دُول
نضع الأسياف في أكتافكم * حيث نهوى عَللا بعد نهَل
نخرج الأصبح من أستاهكم * كسلاح النِّيب يأكلن العصل
إذ تولون على أعقابكم * هربا في الشعب أشباه الرِسَل
إذ شددنا شدة صادقة * فاجأناكم إلى سفح الجبل
بخناطيل كأشداق الملا * من يلاقوه من الناس يهل
ضاق عنا الشِّعب إذ نجزعه * وملأنا الفرط منه والرجل
برجال لستم أمثالهم * أيدوا جبريل نصرا فنزل
وعلونا يوم بدر بالتقى * طاعة الله وتصديق الرسل
وقتلنا كل رأس منهم * وقتلنا كل جحجاج رفل
وتركنا في قريش عورة * يوم بدر وأحاديث المثل
ورسول الله حقا شاهدا * يوم بدر والتنابيل الهبل
في قريش من جموع جمعوا * مثل ما يجمع في الخصب الهمل
نحن لا أمثالكم وُلْد آستِها * نحضر البأس إذا البأس نزل
قال ابن إسحاق: وقال كعب يبكي حمزة ومن قتل من المسلمين يوم أحد رضي الله عنهم:
نشجت وهل لك من منشج * وكنت متى تدكر تلجج
تذكر قوم أتاني لهم * أحاديث في الزمن الأعوج
فقلبك من ذكرهم خافق * من الشوق والحزن المنضج
وقتلاهم في جنان النعيم * كرام المداخل والمخرج
بما صبروا تحت ظل اللواء * لواء الرسول بذي الأضوج
غداة أجابت بأسيافها * جميعا بنو الأوس والخزرج
وأشياع أحمد إذ شايعوا * على الحق ذي النور والمنهج
فما برحوا يضربون الكماة * ويمضون في القسطل المرهج
كذلك حتى دعاهم مليك * إلى جنة دوحة المولج
وكلهم مات حر البلاء * على ملة الله لم يحرج
كحمزة لما وفى صادقا * بذي هبة صارم سلجج
فلاقاه عبد بني نوفل * يبربر كالجمل الأدعج
فأوجره حربة كالشهاب * تلهب في اللهب الموهج
ونعمان أوفى بميثاقه * وحنظلة الخير لم يحُنج
عن الحق حتى غدت روحه * إلى منزل فاخر الزبرج
أولئك لا من ثوى منكم * من النار في الدرك المرتج
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة ومن أصيب من المسلمين يوم أحد، وهي على روي قصيدة أمية بن أبي الصلت في قتلى المشركين يوم بدر.
قال ابن هشام: ومن أهل العلم بالشعر من ينكر هذه لحسان والله أعلم:
يا ميُّ قومي فاندبي بسحيرة شجو النوائح * كالحاملات الوقر بالثقل الملحات الدوالح
المعولات الخامشات وجوه حرات صحائح * وكأن سيل دموعها الأنصاب تخضب بالذبائح
ينقضن أشعارا لهن هناك بادية المسائح * وكأنها أذناب خيل بالضحى شمس روامح
من بين مشرور ومجزور يذعذع بالبوارح * يبكين شجو مسَّلبات كدحتهن الكوادح
ولقد أصاب قلوبها مجل له جلب قوارح * إذ أقصد الحدثان من كنا نرجي إذ نشايح
أصحاب أحد غالهم دهر ألم له جوارح * من كان فارسنا وحامينا إذا بعث المسالح
يا حمزُ لا والله لا أنساك ما صرَّ اللقائح * لمناخ أيتام وأضياف وأرملة تلامح
ولما ينوب الدهر في حرب لحرب وهي لافح * يا فارسا يا مدرها يا حمز قد كنت المصامح
عنا شديدات الخطوب إذا ينوب لهن فادح * ذكرتني أسد الرسول وذاك مدرهنا المنافح
عنا وكان يعد إذ عد الشريفون الجحاجح * يعلو القماقم جهرة سبط اليدين أغر واضح
لا طائش رعش ولا ذو علة بالحمل آنح * بحر فليس يغب جارا منه سَيْبُ أو منادح
أودى شباب إلى الحفائظ والثقيلون المراجح * المطعمون إذا المشاتي ما يصفقهن ناضح
لحم الجلاد وفوقه من شحمه شطب شرائح * ليدافعوا عن جارهم ما رأم ذو الضغن المكاشح
لهفي لشبان رُزئناهم كأنهم المصابح * شم بطارقة غطارفة خضارمة مسامح
المشترون الحمد بالأموال أن الحمد رابح * والجامزون بلجمهم يوما إذا ما صاح صائح
من كان يرمي بالنواقر من زمان غير صالح * ما أن تزال ركابه يرسمن في غبر صحاصح
راحت تَبارى وهو في ركب صدورهم رواشح * حتى تؤوب له المعالي ليس من فوز السفائح
يا حمز قد أوحدتني كالعود شذبه الكوافح * أشكو إليك وفوقك الترب المكور والصفائح
من جندل يلقيه فوقك إذ أجاد الضرح ضارح * في واسع يحشونه بالترب سوته المماسح
فعزاؤنا أنا نقول وقولنا برح بوارح * من كان أمسى وهو عما أوقع الحدثان جانح
فليأتنا فلتبك عيناه لهلكانا النوافح * القائلين الفاعلين ذوي السماحة والممادح
من لا يزال ندى يديه له طوال الدهر مائح
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان.
قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يبكي حمزة وأصحابه:
طرقت همومك فالرقاد مسهَّد * وجزعت أن سلخ الشباب الأغيد
ودعت فؤادك للهوى ضمرية * فهواك غوري وصحوك منجد
فدع التمادي في الغواية سادرا * قد كنت في طلب الغواية تفند
ولقد أتى لك أن تناهى طائعا * أو تستفيق إذا نهاك المرشد
ولقد هُددتُ لفقد حمزة هدة * ظلت بنات الجوف منها ترعد
ولو أنه فجعت حراء بمثله * لرأيت رأسي صخرها يتبدد
قِرم تمكن في ذؤابة هاشم * حيث النبوة والندى والسؤدد
والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت * ريح يكاد الماء منها يجمد
والتارك القِرنَ الكميَّ مجدلا * يوم الكريهة والقنا يتقصد
وتراه يرفل في الحديد كأنه * ذو لِبدة شَثن البراثن أربد
عم النبي محمد وصفيه * ورد الحمام فطاب ذاك المورد
وأتى المنية معلما في أسرة * نصروا النبي ومنهم المستشهد
ولقد إخال بذاك هندا بشرت * لتميت داخل غصة لا تبرد
مما صبحنا بالعقنقل قومها * يوما تغيب فيه عنها الأسعد
وببئر بدر إذ يرد وجوههم * جبريل تحت لوائنا ومحمد
حتى رأيت لدى النبي سراتهم * قسمين نقتل من نشاء ونطرد
فأقام بالعطن المعطن منهم * سبعون عتبة منهم والأسود
وابن المغيرة قد ضربنا ضربة * فوق الوريد لها رشاش مزبد
وأمية الجمحي قوم مَيْلَه * عضب بأيدي المؤمنين مهند
فأتاك فل المشركين كأنهم * والخيل والخليل تثفنهم نعام شرد
شتان من هو في جهنم ثاويا * أبدا ومن هو في الجنان مخلد
وقال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة وأصحابه يوم أحد. قال ابن هشام: وأنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك، فالله أعلم:
بكت عيني وحق لها بكاها * وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا * أحمزةُ ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا * هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى لك الأركان هدت * وأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك في جنان * مخالطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيار صبرا * فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم * بأمر الله ينطق إذ يقول
ألا من مبلغ عني لؤيا * فبعد اليوم دائلة تدول
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا * وقائعنا بها يشفى الغليل
نسيتم ضربنا بقليب بدر * غداة أتاكم الموت العجيل
غداة ثوى أبو جهل صريعا * عليه الطير حائمة تجول
وعتبة وابنه خرّا جميعا * وشيبة عضه السيف الصقيل
ومتركنا أمية مجلعبا * وفي حيزومه لدن نبيل
وهام بني ربيعة سائلوها * ففي أسيافنا منها فلول
ألا يا هند فابكي لا تملي * فأنت الواله العبرى الهبول
ألا يا هند لا تبدي شماتا * بحمزة إن عزكم ذليل
قال ابن إسحاق: وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة بن عبد المطلب، وهي أم الزبير عمة النبي ﷺ ورضي الله عنهم أجمعين:
أسائلة أصحاب أحد مخافة * بنات أبي من أعجم وخبير
فقال الخبير إن حمزة قد ثوى * وزير رسول الله خير وزير
دعاه إله الحق ذو العرش دعوة * إلى جنة يحيا بها وسرور
فذاك ما كنا نرجي ونرتجي * لحمزة يوم الحشر خير مصير
فوالله لا أنساك ما هبت الصبا * بكاء وحزنا محضري ومسيري
على أسد الله الذي كان مِدرها * يذود عن الإسلام كل كفور
فياليت شلوي عند ذاك وأعظمي * لدى أضبع تعتادني ونسور
أقول وقد أعلى النعي عشيرتي * جزى الله خيرا من أخ ونصير
قال ابن إسحاق: وقالت نُعم، امرأة شماس بن عثمان تبكي زوجها، والله أعلم، ولله الحمد والمنة:
يا عين جودي بفيض غير إبساس * على كريم من الفتيان لباس
صعب البديهة ميمون نقيبته * حمّال ألوية ركاب أفراس
أقول لما أتى الناعي له جزعا * أودى الجواد وأودى المطعم الكاسي
وقلت لما خلت منه مجالسه * لا يبعد الله منا قرب شماس
قال فأجابها أخوها أبو الحكم بن سعيد بن يربوع يعزيها فقال:
اقني حياءك في ستر وفي كرم * فإنما كان شماس من الناس
لا تقتلي النفس إذ حانت منيته * في طاعة الله يوم الروع والباس
قد كان حمزة ليث الله فاصطبري * فذاق يومئذ من كأس شماس
وقالت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان حين رجعوا من أحد:
رجعت وفي نفسي بلابل جمّـة * وقد فاتني بعض الذي كان مطلبي
من أصحاب بدر من قريش وغيرهم * بني هاشم منهم ومن أهل يثرب
ولكنني قد نلت شيئا ولم يكن * كما كنت أرجو في مسيري ومركبي
وقد أورد ابن إسحاق في هذا أشعارا كثيرة، تركنا كثيرا منها خشية الإطالة وخوف الملالة، وفيما ذكرنا كفاية ولله الحمد.
وقد أورد الأموي في (مغازيه) من الأشعار أكثر مما ذكره ابن إسحاق كما جرت عادته، ولا سيما ههنا فمن ذلك ما ذكره لحسان بن ثابت أنه قال: أنه قال في غزوة أحد فالله أعلم:
طاوعوا الشيطان إذ أخزاهم * فاستبان الخزي فيهم والفشل
حين صاحوا صيحة واحدة * مع أبي سفيان قالوا اعل هبل
فأجبناهم جميعا كلنا * ربنا الرحمن أعلى وأجَلّ
أثبتوا تستعملوها مرة * من حياض الموت والموت نهل
واعلموا أنا إذا ما نُضَحُتْ * عن خيال الموت قِدْر تشتعل
وكأن هذه الأبيات قطعة من جوابه لعبد الله بن الزبعري والله أعلم.
آخر الكلام على وقعة أحد
فصل قد تقدم ما وقع في هذه السنة الثالثة من الحوادث والغزوات والسرايا، ومن أشهرها وقعة أحد كانت في النصف من شوال منها، وقد تقدم بسطها ولله الحمد.
وفيها في أحد توفي شهيدا أبو يعلى، ويقال أبو عمارة أيضا حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ﷺ، الملقب بأسد الله وأسد رسوله، وكان رضيع النبي ﷺ هو وأبو سلمة بن عبد الأسد، أرضعتهم ثويبة مولاة أبي لهب كما ثبت ذلك في الحديث المتفق عليه.
فعلى هذا يكون قد جاوز الخمسين من السنين يوم قتل رضي الله عنهم، فإنه كان من الشجعان الأبطال، ومن الصديقين الكبار، وقتل معه يومئذ تمام السبعين رضي الله عنهم أجمعين.
وفيها عقد عثمان بن عفان على أم كلثوم بنت رسول الله ﷺ بعد وفاة أختها رقية، وكان عقده عليها في ربيع الأول منها، وبنى بها في جمادى الآخرة منها كما تقدم فيها ذكره الواقدي.
وفيها قال ابن جرير: ولد لفاطمة بنت رسول الله ﷺ الحسن بن علي بن أبي طالب، قال: وفيها علقت بالحسين رضي الله عنهم.
سنة أربع من الهجرة النبوية
في المحرم منها كانت سرية أبي سلمة بن عبد الأسد أبي طليحة الأسدي، فانتهى إلى ما يقال له قَطَن.
قال الواقدي: حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد اليربوعي، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة وغيره قالوا: شهد أبو سلمة أحدا، فجرح جرحا على عضده، فرجع إلى منزله فأقام شهرا يداوى، فلما كان المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة دعاه رسول الله ﷺ فقال:
اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها، وعقد له لواء وقال: سر حتى تأتي أرض بني أسد فأغر عليهم، وأوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا، وخرج معه في تلك السرية خمسون ومائة فانتهى إلى أدنى قطن وهو ماء لبني أسد، وكان هناك طليحة الأسدي وأخوه سلمة ابنا خويلد، وقد جمعا حلفاء من بني أسد ليقصدوا حرب النبي ﷺ، فجاء رجل منهم إلى النبي ﷺ فأخبره بما تمالأوا عليه فبعث معه أبا سلمة في سريته هذه.
فلما انتهوا إلى أرضهم تفرقوا وتركوا نعما كثيرا لهم من الإبل والغنم، فأخذ ذلك كله أبو سلمة، وأسر منهم معه ثلاثة مماليك، وأقبل راجعا إلى المدينة، فأعطى ذلك الرجل الأسدي الذي دلهم نصيبا وافرا من الغنم، وأخرج صفي النبي ﷺ عبدا وخمس الغنيمة وقسمها بين أصحابه ثم قدم المدينة.
قال عمر بن عثمان: فحدثني عبد الملك بن عبيد، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن عمر بن أبي سلمة قال: كان الذي جرح أبي أبو أسامة الجشمي، فمكث شهرا يداويه فبرأ، فلما برأ بعثه رسول الله ﷺ في المحرم، يعني من سنة أربع إلى قطن، فغاب بضع عشرة ليلة، فلما دخل المدينة انتقض به جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الأولى.
قال عمر: واعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشر، ثم تزوجها رسول الله ﷺ ودخل بها في ليال بقين من شوال، فكانت أمي تقول: ما بأس بالنكاح في شوال والدخول فيه، قد تزوجني رسول الله ﷺ في شوال وبني فيه.
قال: وماتت أم سلمة في ذي القعدة سنة تسع وخمسين. رواه البيهقي.
قلت: سنذكر في أواخر هذه السنة في شوالها تزويج النبي ﷺ بأم سلمة، وما يتعلق بذلك من ولاية الابن أمه في النكاح، ومذاهب العلماء في ذلك إن شاء الله تعالى، وبه الثقة.
غزوة الرجيع
قال الواقدي: وكانت في صفر، يعني سنة أربع بعثهم رسول الله ﷺ إلى أهل مكة ليجيزوه.
قال: والرجيع على ثمانية أميال من عسفان.
قال البخاري: حدثني إبراهيم بن موسى: أخبرنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي، عن أبي هريرة قال:
بعث النبي ﷺ سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رأم، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم.
فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلا.
فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها.
فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم، فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة بعد بدر، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث يستحدُّ بها فأعارته.
قالت: فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله.
وكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ من ثمره، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن مابي جزع من الموت لزدت. فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو.
ثم قال: اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا، ثم قال:
ولست أبالي حين أُقتل مسلما * على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع
قال: ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدَّبْر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن عمرو، سمع جابر بن عبد الله يقول: الذي قتل خبيبا هو أبو سروعة. قلت: واسمه عقبة بن الحارث، وقد أسلم بعد ذلك، وله حديث في الرضاع، وقد قيل: إن أبا سروعة وعقبة أخوان، فالله أعلم.
هكذا ساق البخاري في كتاب (المغازي) من صحيحه قصة الرجيع، ورواه أيضا في التوحيد، وفي الجهاد من طرق: عن الزهري، عن عمرو بن أبي سفيان، وأسد بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة، ومنهم من يقول: عمر بن أبي سفيان والمشهور عمرو.
وفي لفظ للبخاري: بعث رسول الله ﷺ عشرة رهط سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وساق بنحوه.
وقد خالفه محمد بن إسحاق، وموسى بن عقبة، وعروة بن الزبير، في بعض ذلك.
ولنذكر كلام ابن إسحاق ليعرف ما بينهما من التفاوت والاختلاف، على أن ابن إسحاق إمام في هذا الشأن، غير مدافع كما قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق.
قال محمد بن إسحاق: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله ﷺ بعد أحد رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام.
فبعث رسول الله ﷺ معهم نفرا ستة من أصحابه وهم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب.
قال ابن إسحاق: وهو أمير القوم، وخالد بن البكير الليثي - حليف بني عدي - وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخو بني عمرو بن عوف، وخبيب بن عدي أخو بني جَحْجَبى بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة أخو بني بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر رضي الله عنهم.
هكذا قال ابن إسحاق أنهم كانوا ستة، وكذا ذكر موسى بن عقبة وسماهم كما قال ابن إسحاق، وعند البخاري أنهم كانوا عشرة، وعنده أن كبيرهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدور الهدأة، غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم.
فأما مرثد، وخالد بن البكير، وعاصم بن ثابت فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا، وقال عاصم بن ثابت والله أعلم، ولله الحمد والمنة:
ما علتي وأنا جَلْدُ نابل * والقوس فيها وتر عنابل
تزل عن صفحتها المعابل * الموت حق والحياة باطل
وكل ما حم الإله نازل * بالمرء والمرء إليه آيل
إن لم أقاتلكم فأمي هابل
وقال عاصم أيضا:
أبو سليمان وريشُ المقعد * وضالةٌ مثلُ الجحيمِ الموقد
إذا النواجي افترشتْ لم أُرعِدِ * ومجنأ من جلد ثورٍ أجرد
ومؤمن بما على محمد
وقال أيضا:
أبو سليمان ومثلي راما * وكان قومي مَعْشرا كراما
قال: ثم قاتل حتى قتل وقتل صاحباه. فلما قُتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن سهيل، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أُحد لئن قدرتْ على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر، فمنعته الدَّبْر فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسي فيذهب عنه، فنأخذه، فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما فذهب به.
وقد كان عاصم قد أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركا أبدا تنجسا.
فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركا أبدا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته، كما امتنع منه في حياته.
قال ابن إسحاق: وأما خبيب، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، فلانوا ورقُّوا ورغبوا في الحياة، وأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القِران ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران.
وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة، فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة.
قال ابن إسحاق: فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لأمه ليقتله بأبيه.
قال: وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له: نسطاس إلى التنعيم، و أخرجه من الحرم ليقتله.
واجتمع رهط من قريش فيهم: أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قَدِمَ ليُقتل: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟
قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي.
قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحد كحب أصحاب محمد محمدا، قال: ثم قتله نسطاس.
قال: وأما خبيب بن عدي: فحدثني عبد الله بن أبي نجيح، أنه حُدِّث عن ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب، وكانت قد أسلمت، قالت: كان عندي خبيب حبس في بيتي، فلقد اطلعت عليه يوما وإن في يده لقطفا من عنب، مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم في أرض الله عنبا يؤكل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي نجيح أنهما قالا: قالت: قال لي حين حضره القتل: ابعثي إليَّ بحديدة أتطهر بها للقتل. قالت: فأعطيت غلاما من الحي الموسى، فقلت له: ادخل بها على هذا الرجل البيت.
فقالت: فوالله إن هو إلا أن ولى الغلام بها إليه، فقلت: ماذا صنعتُ! أصاب والله الرجل، وثأره يقتل هذا الغلام، فيكون رجلا برجل، فلما ناوله الحديدة أخذها من يده، ثم قال: لعمرك، ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إليَّ، ثم خلى سبيله.
قال ابن هشام: ويقال إن الغلام ابنها.
قال ابن إسحاق: قال عاصم: ثم خرجوا بخبيب حتى جاؤوا به إلى التنعيم ليصلبوه، وقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا: دونك فاركع، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طوَّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة.
قال: فكان خبيب أول من سنَّ هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين.
قال: ثم رفعوه على خشبة، فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يُصنع بنا، ثم قال: اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، ثم قتلوه.
وكان معاوية ابن أبي سفيان يقول: حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبي سفيان، فلقد رأيته يلقيني إلى الأرض فرقا من دعوة خُبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دُعي عليه، فاضطجع لجنبه زلّت عنه.
وفي (مغازي) موسى بن عقبة: أن خبيبا وزيد بن الدثنة قتلا في يوم واحد، وأن رسول الله ﷺ سمع يوم قُتلا وهو يقول: وعليكما أو عليك السلام خبيب قتلته قريش.
وذكر أنهم لما صلبوا زيد بن الدثنة رموه بالنبل ليفتنوه عن دينه، فما زاده إلا إيمانا وتسليما.
وذكر عروة وموسى بن عقبة أنهم لما رفعوا خبيبا على الخشبة نادوه يناشدونه أتحب أن محمدا مكانك؟
قال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه، فضحكوا منه.
وهذا ذكره ابن إسحاق في قصة زيد بن الدثنة، فالله أعلم.
قال موسى بن عقبة: زعموا أن عمرو بن أمية دفن خبيبا.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عقبة بن الحارث قال: سمعته يقول: والله ما أنا قتلت خبيبا لأنا كنت أصغر من ذلك، ولكنَّ أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا قال: كان عمر بن الخطاب استعمل سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي على بعض الشام، فكانت تصيبه غشية وهو بين ظهري القوم، فذُكر ذلك لعمر، وقيل إن الرجل مصاب، فسأله عمر في قدمة قدمها عليه فقال: يا سعيد ما هذا الذي يصيبك؟
فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي، وأنا في مجلس قط إلا غُشي عليَّ، فزادته عند عمر خيرا.
وقد قال الأموي: حدثني أبي قال: قال ابن إسحاق: وبلغنا أن عمر قال: من سره أن ينظر إلى رجل نسيج وحده فلينظر إلى سعيد بن عامر.
قال ابن هشام: أقام خبيب في أيديهم حتى انسلخت الأشهر الحرم، ثم قتلوه.
وقد روى البيهقي من طريق إبراهيم بن إسماعيل: حدثني جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، عن جده عمرو بن أمية: أن رسول الله ﷺ كان بعثه عينا وحده.
قال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون، فأطلقته فوقع إلى الأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم التفتُّ فلم أر شيئا، فكأنما بلعته الأرض، فلم تُذكر لخبيب رمة حتى الساعة.
ثم روى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: لما قتل أصحاب الرجيع قال ناس من المنافقين: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا، لا هم أقاموا في أهلهم، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله فيهم: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } [22] وما بعدها.
وأنزل الله في أصحاب السرية { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [23].
قال ابن إسحاق: وكان مما قيل من الشعر في هذه الغزوة قول خبيب حين أجمعوا على قتله.
قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها له:
لقد جمّع الأحزاب حولي وألّبوا * قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وكلهمُ مبدي العداوةِ جاهدٌ * عليَّ لأني في وثاقٍ بمضبع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم * وقُرِّبْتُ من جِذع طويل ممنّع
إلى الله أشكو غُربتي ثم كُربتي * وما أرصدَ الأعداء لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي * فقد بَضَعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ * يبارك على أوصال شِلوٍ ممزع
وقد خيروني الكفرَ والموت دونه * وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حذارُ الموت إني لميتٌ * ولكن حذاري جحمُ نار ملفع
فوالله ما أرجو إذا متّ مسلما * على أي جنب كان في الله مضجعي
فلستُ بمبدٍ للعدو تخشعا * ولا جزعا أني إلى الله مرجعي
وقد تقدم في صحيح البخاري بيتان من هذه القصيدة وهما قوله:
فلست أبالي حين أُقتل مسلما * على أي شِقٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذاتِ الإله وإن يشأ * يباركْ على أوصال شِلوٍ ممزع
وقال حسان بن ثابت يرثي خبيبا فيما ذكره ابن إسحاق:
ما بالُ عينك لا ترقى مدامعُها * سحا على الصدر مثل اللؤلؤ الفلق
على خبيب فتى الفتيان قد علموا * لا فشل حين تلقاه ولا نزق
فاذهب خبيب جزاك الله طيبةً * وجنة الخلد عند الحور في الرفق
ماذا تقولون إن قال النبي لكم * حين الملائكة الأبرار في الأفق
فيم قتلتم شهيد الله في رجل * طاغ قد أوعث في البلدان والرفق
قال ابن هشام: تركنا بعضها لأنه قد أقذع فيها.
وقال حسان يهجو الذين غدروا بأصحاب الرجيع من بني لحيان فيما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم ولله الحمد والمنة والتوفيق والعصمة:
إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له * فأتِ الرجيع فسل عن دار لحيان
قوم تواصوا بأكل الجار بينهم * فالكلب والقرد والإنسان مثلان
لو ينطق التيس يوما قام يخطبهم * وكان ذا شرف فيهم وذا شأن
وقال حسان بن ثابت أيضا، يهجو هذيلا وبني لحيان على غدرهم بأصحاب الرجيع رضي الله عنهم أجمعين:
لعمري لقد شانت هذيل بن مدرك * أحاديث كانت في خبيب وعاصم
أحاديث لحيان صلوا بقبيحها * ولحيان جرامون شر الجرائم
أناسٌ هم من قومهم في صميمهم * بمنزلة الزمعان دبر القوادم
هم غادروا يوم الرجيع وأسلمت * أمانتهم ذا عفة ومكارم
رسول رسولَ الله غدرا ولم تكن * هذيل توقى منكرات المحارم
فسوف يرون النصر يوما عليهم * بقتل الذي تحميه دون الحرائم
أبابيل دبر شمس دون لحمه * حمت لحم شهاد عظيم الملاحم
لعل هذيلا أن يروا بمصابه * مصارع قتلى أو مقاما لماتم
ونوقع فيها وقعة ذات صولة * يوافى بها الركبان أهل المواسم
بأمر رسول الله إن رسوله * رأى رأي ذي حزم بلحيان عالم
قبيلةٌ ليس الوفاء يهمهُم * وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم
إذا الناس حلوا بالفضاء رأيتهم * بمجرى مسيل الماء بين المخارم
محلهم دار البوار ورأيهم * إذا نابهم أمر كرأي البهائم
وقال حسان رضي الله عنه أيضا يمدح أصحاب الرجيع ويسميهم بشعره، كما ذكره ابن إسحاق رحمه الله تعالى:
صلى الإله على الذين تتابعوا * يوم الرجيع فأكرموا وأثيبوا
رأس السرية مرثد وأميرهم * وابن البكير أمامهم وخبيب
وابن لطارقَ وابن دثنة منهم * وافاه ثم حمامه المكتوب
والعاصم المقتول عند رجيعهم * كسب المعالي إنه لكسوب
منع المقادة أن ينالوا ظهرهُ * حتى يجالد إنه لنجيب
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان.
سرية عمرو بن أمية الضمري
قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه وعبد الله بن أبي عبيدة، عن جعفر بن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية الضمري، وعبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عوف، وزاد بعضهم على بعض قالوا:
كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة: أما أحد يغتال محمدا فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا؟
فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله، وقال له: إن أنت وفيتني وخرجت إليه حتى أغتاله، فإني هاد بالطريق خريت، معي خنجر مثل خافية النسر.
قال: أنت صاحبنا، وأعطاه بعيرا ونفقة، وقال: اطوِ أمرك فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد.
قال: قال العربي: لا يعلمه أحد.
فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا، وصبَّح ظهر الحي يوم سادسه، ثم أقبل يسأل عن رسول الله ﷺ حتى أتى المصلى، فقال له قائل: قد توجه إلى بني عبد الأشهل.
فخرج الأعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بني عبد الأشهل، فعقل راحلته، ثم أقبل يؤم رسول الله ﷺ فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده، فلما دخل ورآه رسول الله ﷺ قال لأصحابه: «إن هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده».
فوقف وقال: أيكم ابن عبد المطلب؟
فقال له رسول الله ﷺ: «أنا ابن عبد المطلب».
فذهب ينحني على رسول الله ﷺ كأنه يُساره، فجبذه أسيد بن حضير وقال: تنح عن رسول الله ﷺ، وجذب بداخل إزاره فإذا الخنجر.
فقال: يا رسول الله هذا غادر فأسقط في يد الأعرابي، وقال: دمي دمي يا محمد. وأخذه أسيد بن حضير يلببه، فقال له النبي ﷺ: «اصدقني ما أنت، وما أقدمك؟ فإن صدقتني نفعك الصدق، وإن كذبتني فقد اطلعتُ على ما هممت به».
قال العربي: فأنا أمن؟ قال: «وأنت أمن...» فأخبره بخبر أبي سفيان، وما جعل له فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير ثم دعا به من الغد فقال: قد أمنتك فاذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك.
قال: وما هو؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفْرقُ من الرجال، فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت، ثم اطلعت على ما هممت به فما سبقت به الركبان، ولم يطلع عليه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان.
فجعل النبي ﷺ يتبسم، وأقام أياما ثم استأذن النبي ﷺ فخرج من عنده، ولم يسمع له بذكر، وقال رسول الله ﷺ لعمرو بن أمية الضمري، ولسلمة بن أسلم بن حريش: «أخرجا حتى تأتيا أبا سفيان ابن حرب فإن أصبتما منه غرة فاقتلاه»
قال عمرو: فخرجت أنا وصاحبي حتى أتينا بطن يأجج فقيدنا بعيرنا، وقال لي صاحبي: يا عمرو هل لك في أن نأتي مكة فنطوف بالبيت سبعا ونصلي ركعتين؟
فقلت: أنا أعلم بأهل مكة منك، إنهم إذا أظلموا رشُّوا أفنيتهم ثم جلسوا بها، و إني أعرف بمكة من الفرس الأبلق، فأبى علي فانطلقنا فأتينا مكة، فطفنا أسبوعا وصلينا ركعتين، فلما خرجت لقيني معاوية بن أبي سفيان فعرفني، وقال: عمرو بن أمية واحزناه.
فنذر بنا أهل مكة فقالوا: ما جاء عمرو في خير، وكان عمرو فاتكا في الجاهلية، فحشد أهل مكة وتجمعوا، وهرب عمرو وسلمة، وخرجوا في طلبهما واشتدوا في الجبل.
قال عمرو: فدخلت في غار، فتغيبت عنهم حتى أصبحت، وباتوا يطلبوننا في الجبل، وعمى الله عليهم طريق المدينة أن يهتدوا له، فلما كان ضحوة الغد أقبل عثمان بن مالك بن عبيد التيمي يختلي لفرسه حشيشا، فقلت لسلمة بن أسلم: إذا أبصرنا أشعر بنا أهل مكة، وقد انفضوا عنا، فلم يزل يدنو من باب الغار حتى أشرف علينا.
قال: فخرجت إليه فطعنته طعنة تحت الثدي بخنجري، فسقط وصاح فاجتمع أهل مكة فأقبلوا بعد تفرقهم، ورجعت إلى مكاني فدخلت فيه، وقلت لصاحبي: لا تتحرك فأقبلوا حتى أتوه وقالوا من قتلك؟
قال: عمرو بن أمية الضمري، فقال أبو سفيان: قد علمنا أنه لم يأت لخير، ولم يستطع أن يخبرهم بمكاننا فإنه كان بآخر رمق فمات، وشغلوا عن طلبنا بصاحبهم فحملوه، فمكثنا ليلتين في مكاننا حتى سكن عنا الطلب، ثم خرجنا إلى التنعيم، فقال صاحبي: يا عمرو بن أمية هل لك في خبيب بن عدي ننزله؟
فقلت له: أين هو؟ قال: هو ذاك مصلوب حوله الحرس. فقلت: أمهلني وتنح عني، فإن خشيت شيئا فانج إلى بعيرك فاقعد عليه، فأت رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، ودعني فإني عالم بالمدينة.
ثم استدرت عليه حتى وجدته فحملته على ظهري، فما مشيت به إلا عشرين ذراعا حتى استيقظوا، فخرجوا في أثري، فطرحت الخشبة فما أنسى وجيبها - يعني صوتها - ثم أهلت عليه التراب برجلي، فأخذت طريق الصفراء فأعيوا ورجعوا، وكنت لا أدري مع بقاء نفسي.
فانطلق صاحبي إلى البعير فركبه، وأتى النبي ﷺ فأخبره، وأقبلت حتى أشرفت على الغليل: غليل ضنجنان فدخلت في غار معي قوسي وأسهمي وخنجري، فبينما أنا فيه إذ أقبل رجل من بني الديل بن بكر أعور طويل، يسوق غنما ومعزى فدخل الغار وقال: من الرجل؟
فقلت: رجل من بني بكر.
فقال: وأنا من بني بكر، ثم اتكأ ورفع عقيرته يتغنى ويقول:
فلست بمسلم ما دمت حيا * ولست أدين دين المسلمينا
فقلت في نفسي: والله إني لأرجو أن أقتلك.
فلما نام قمت إليه فقتلته شر قتلة قتلها أحد قط، ثم خرجت حتى هبطت، فلما أسهلت في الطريق إذا رجلان بعثهما قريش يتجسسان الأخبار فقلت: استأسرا فأبى أحدهما فرميته فقتلته، فما رأى ذلك الآخر استأسر، فشددته وثاقا.
ثم أقبلت به إلى النبي ﷺ، فلما قدمت المدينة أتى صبيان الأنصار وهم يلعبون، وسمعوا أشياخهم يقولون: هذا عمرو، فاشتد الصبيان إلى النبي ﷺ فأخبروه، وأتيته بالرجل قد ربطت إبهامه بوتر قوسي، فلقد رأيت النبي ﷺ وهو يضحك، ثم دعا لي بخير.
وكان قدوم سلمة قبل قدوم عمرو بثلاثة أيام. رواه البيهقي. وقد تقدم أن عمرا لما أهبط خبيبا لم ير له رمة ولا جسدا، فلعله دفن مكان سقوطه، والله أعلم.
وهذه السرية إنما استدركها ابن هشام على ابن إسحاق، وساقها بنحو من سياق الواقدي لها، لكن عنده أن رفيق عمرو بن أمية في هذه السرية جبار بن صخر، فالله أعلم، ولله الحمد.
سرية بئر معونة
وقد كانت في صفر منها، وأغرب مكحول رحمه الله حيث قال: إنها كانت بعد الخندق.
قال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز، عن أنس بن مالك قال:
بعث رسول الله ﷺ سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال لها بئر معونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، وإنما نحن مجتازون في حاجة للنبي ﷺ فقتلوهم، فدعا النبي ﷺ عليهم شهرا في صلاة الغداة، وذاك بدء القنوت وما كنا نقنت.
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بنحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعد، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رعلا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله ﷺ على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي ﷺ فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان.
قال أنس: فقرأنا فيهم قرأنا، ثم إن ذلك رفع، بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا.
ثم قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك أن النبي ﷺ بعث حراما أخا لأم سليم في سبعين راكبا، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل، خير رسول الله ﷺ بين ثلاث خصال فقال:
يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف، فطعن عامر في بيت أم فلان فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة من آل فلان، ائتوني بفرسي فمات على ظهر فرسه، فانطلق حرام أخو أم سليم وهو رجل أعرج، ورجل من بني فلان فقال: كونا قريبا حتى آتيهم، فإن أمنوني كنتم قريبا، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم.
فقال: أتؤمنوني حتى أبلغ رسالة رسول الله ﷺ؟ فجعل يحدثهم وأومأوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه.
قال همام: أحسبه حتى أنفذه بالرمح، فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة، فلحق الرجل فقتلوا كلهم غير الأعرج، وكان في رأس جبل، فأنزل الله علينا، ثم كان من المنسوخ: أنا لقد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا.
فدعا النبي ﷺ ثلاثين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وعصية الذين عصوا الله ورسوله.
وقال البخاري: حدثنا حبان، حدثنا عبد الله، أخبرني معمر، حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس أنه سمع أنس بن مالك يقول لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه وقال: فزت ورب الكعبة.
وروى البخاري، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة أخبرني أبي قال: لما قتل الذين ببئر معونة، وأسر عمرو بن أمية الضمري قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ وأشار إلى قتيل.
فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة.
قال: لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء، حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وضع فأتي النبي ﷺ خبرهم فنعاهم، فقال: «إن أصحابكم قد أصيبوا وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا» فأخبرهم عنهم.
وأصيب يومئذ فيهم عروة بن أسماء بن الصلت فسمي عروة به، ومنذر بن عمرو وسمي به منذر.
هكذا وقع في رواية البخاري مرسلا عن عروة.
وقد رواه البيهقي من حديث يحيى بن سعيد، عن أبى أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة فساق من حديث الهجرة، وأدرج في آخره ما ذكره البخاري ههنا فالله أعلم.
وروى الواقدي، عن مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود وعن عروة، فذكر القصة وشأن عامر بن فهيرة، وأخبار عامر بن الطفيل أنه رفع إلى السماء، وذكر أن الذي قتله جبار بن سلمى الكلابي، قال: ولما طعنه بالرمح قال: فزت ورب الكعبة، ثم سأل جبار بعد ذلك: ما معنى قوله فزت؟ قالوا: يعني بالجنة.
فقال: صدق والله، ثم أسلم جبار بعد ذلك لذلك.
وفي (مغازي) موسى بن عقبة، عن عروة أنه قال: لم يوجد جسد عامر بن فهيرة، يرون أن الملائكة وارته.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: فأقام رسول الله ﷺ - يعني بعد أحد - بقية شوال، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، فحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما من أهل العلم قالوا:
قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله ﷺ بالمدينة، فعرض عليه الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك.
فقال ﷺ: إني أخشى عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا لهم جار، فبعث رسول الله ﷺ المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين، فيهم: الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر في رجال من خيار المسلمين.
فساروا حتى نزلوا بئر معونة - وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم - فلما نزلوا بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله ﷺ إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في الكتاب حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم، وقالوا: لن نخفر أبا براء.
وقد عقد لهم عقدا وجوارا فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم - عصية ورعلا وذكوان والقارة - فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا أسيافهم، ثم قاتلوا القوم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه به رمق، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف، فلم ينبئهما بمصاب القوم إلا الطير تحوم حول العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة.
فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى؟
فقال: أرى أن نلحق برسول الله ﷺ فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني لم أكن لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لأخبر عنه الرجال.
فقاتل القوم حتى قتل، وأخذ عمرو أسيرا، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه فيما زعم.
قال: وخرج عمرو بن أمية، حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عهد من رسول الله ﷺ، وجوار لم يعلمه عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟
قالا: من بني عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما وقتلهما، وهو يرى أن قد أصاب بهما ثأرا من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله ﷺ.
فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله ﷺ أخبره الخبر، فقال رسول الله ﷺ: «لقد قتلت قتيلين لأدينهما» ثم قال رسول الله ﷺ: «هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارها متخوفا».
فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب أصحاب رسول الله ﷺ بسببه وجواره.
فقال حسان بن ثابت في إخفار عامر أبا براء، ويحرض بني أبي براء على عامر:
بني أم البنين ألم يرعكم * وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء * ليخفره وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي * فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براء * وخالك ماجد حكم بن سعد
قال ابن هشام: أم البنين أم أبي براء، وهي بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
قال: فحمل ربيعة بن عامر بن مالك على عامر بن الطفيل، فطعنه في فخذه فأشواه، ووقع عن فرسه وقال: هذا عمل أبي براء، إن أمت فدمي لعمي فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي.
وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري نحو سياق محمد بن إسحاق، قال موسى: وكان أمير القوم المنذر بن عمرو، وقيل مرثد بن أبي مرثد.
وقال حسان بن ثابت يبكي قتلى بئر معونة، فيما ذكره ابن إسحاق رحمه الله، والله أعلم:
على قتلى معونة فاستهلي * بدمع العين سحا غير نزر
على خيل الرسول غداة لاقوا * ولاقتهم مناياهم بقدر
أصابهم الفناء بعقد قوم * تخوَّن عقد حبلهم بغدر
فيالهفي لمنذر إذ تولى * وأعنق في منيته بصبر
وكائن قد أصيب غداة ذاكم * من أبيض ماجد من سر عمرو
غزوة بني النضير وفيها سورة الحشر
في صحيح البخاري عن ابن عباس: أنه كان يسميها سورة بني النضير.
وحكى البخاري، عن الزهري، عن عروة أنه قال: كانت بنو النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد، وقد أسنده ابن أبي حاتم في تفسيره: عن أبيه، عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري به.
وهكذا روى حنبل بن إسحاق، عن هلال بن العلاء، عن عبد الله بن جعفر الرقي، عن مطرف بن مازن اليماني، عن معمر، عن الزهري، فذكر غزوة بدر في سابع عشر رمضان سنة ثنتين.
قال: ثم غزا بني النضير، ثم غزا أحدا في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع.
وقال البيهقي: وقد كان الزهري يقول: هي قبل أحد.
قال: وذهب آخرون إلى أنها بعدها وبعد بئر معونة أيضا.
قلت: هكذا ذكر ابن إسحاق كما تقدم، فإنه بعد ذكره بئر معونة، ورجوع عمرو بن أمية وقتله ذينك الرجلين من بني عامر، ولم يشعر بعهدهما الذي معهما من رسول الله ﷺ، ولهذا قال له رسول الله ﷺ: «لقد قتلت رجلين لأدينهما».
قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله ﷺ إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية للعهد الذي كان ﷺ أعطاهما، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عهد وحلف، فلما أتاهم ﷺ قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت.
ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله ﷺ إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟
فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله ﷺ في نفر من أصحابه، فيهم: أبو بكر، وعمر، وعلي.
فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة، فلما استلبث النبي ﷺ أصحابه، قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله ﷺ حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به.
قال الواقدي: فبعث رسول الله ﷺ محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام، ويعدونهم النصر، فقويت عند ذلك نفوسهم، وحمى حيي بن أحطب وبعثوا إلى رسول الله ﷺ أنهم لا يخرجون، ونابدوه بنقض العهود، فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم.
قال الواقدي: فحاصروهم خمس عشرة ليلة.
وقال ابن إسحاق: وأمر النبي ﷺ بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في شهر ربيع الأول.
قال ابن إسحاق: فسار حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال، ونزل تحريم الخمر حينئذ، وتحصنوا في الحصون، فأمر رسول الله ﷺ بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟
قال: وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم: عبد الله بن أبي، ووديعة، ومالك بن أبي قوقل، وسويد، وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة.
وقال العوفي، عن ابن عباس: أعطى كل ثلاثة بعيرا يتعقبونه وسقا. رواه البيهقي.
وروي من طريق يعقوب بن محمد، عن الزهري، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن مسلمة: أن رسول الله ﷺ بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال.
وروى البيهقي وغيره: أنه كانت لهم ديون مؤجلة، فقال رسول الله ﷺ: «ضعوا وتعجلوا» وفي صحته نظر، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.
فكان من أشراف من ذهب منهم إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، فلما نزلوها دان لهم أهلها.
فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقبلوا بالنساء والأبناء والأموال، معهم الدفوف والمزامير والقيان، يعزفن خلفهم بزهاء وفخر ما رؤي مثله لحي من الناس في زمانهم.
قال: وخلوا الأموال لرسول الله ﷺ - يعني النخيل والمزارع - فكانت له خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقرا فأعطاهما، وأضاف بعضهم إليهما الحارث بن الصمة. حكاه السهيلي.
قال ابن إسحاق: ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان وهما: يامين بن عمير بن كعب بن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين: أن رسول الله ﷺ قال ليامين: «ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني؟» فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش، فقتله لعنه الله.
قال ابن إسحاق: فأنزل الله فيهم سورة الحشر بكمالها، يذكر فيها ما أصابهم به من نقمته، وما سلط عليهم به رسوله، وما عمل به فيهم.
ثم شرع ابن إسحاق يفسرها، وقد تكلمنا عليها بطولها مبسوطة في كتابنا التفسير، ولله الحمد.
قال الله تعالى: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } [24].
سبح سبحانه وتعالى نفسه الكريمة، وأخبر أنه يسبح له جميع مخلوقاته العلوية والسفلية، وأنه العزيز وهو منيع الجناب، فلا ترام عظمته وكبرياؤه، وأنه الحكيم في جميع ما خلق وجميع ما قدر وشرع، فمن ذلك تقديره وتدبيره وتيسيره لرسول الله ﷺ وعباده المؤمنين في ظفرهم بأعدائهم اليهود الذين شاقوا الله ورسوله، وجانبوا رسوله وشرعه، وما كان من السبب المفضي لقتالهم كما تقدم، حتى حاصرهم المؤيد بالرعب والرهب مسيرة شهر.
ومع هذا فأسرهم بالمحاصرة بجنوده ونفسه الشريفة ست ليال، فذهب بهم الرعب كل مذهب، حتى صانعوا وصالحوا على حقن دمائهم، وأن يأخذوا من أموالهم ما استقلت به ركابهم، على أنهم لا يصحبون شيئا من السلاح إهانة لهم واحتقارا، فجعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ثم ذكر تعالى أنه لو لم يصبهم الجلاء: وهو التسيير والنفي من جوار الرسول من المدينة لأصابهم ما هو أشد منه من العذاب الدنيوي وهو القتل، مع ما ادخر لهم في الآخرة من العذاب الأليم المقدر لهم.
ثم ذكر تعالى حكمة ما وقع من تحريق نخلهم، وترك ما بقي لهم، وإن ذلك كله سائغ فقال: ما قطعتم من لينة - وهو جيد الثمر - أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله، إن الجميع قد أذن فيه شرعا وقدرا فلا حرج عليكم فيه، ولنعم ما رأيتم من ذلك، وليس هو بفساد كما قاله شرار العباد إنما هو إظهار للقوة، وإخزاء للكفرة الفجرة.
وقد روى البخاري ومسلم جميعا، عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ حرق نخل بني النضير، وقطع وهي بالبويرة، فأنزل الله: { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليجزي الفاسقين }
وعند البخاري، من طريق جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة، ولها يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول:
أدام الله ذلك من صنيع * وحرق في نواحيها السعير
ستعلم أينا منها بستر * وتعلم أي أرضينا نضير
قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير، وقتل كعب بن الأشرف، فالله أعلم:
لقد خزيت بغدرتها الحبور * كذاك الدهر ذو صرف يدور
وذلك أنهم كفروا برب * عظيم أمره أمر كبير
وقد أوتوا معا فهما وعلما * وجاءهم من الله النذير
نذير صادق أدى كتابا * وآيات مبينة تنير
فقالوا ما أتيت بأمر صدق * وأنت بمنكر منا جدير
فقال بلى لقد أديت حقا * يصدقني به الفهم الخبير
فمن يتبعه يهد لكل رشد * ومن يكفر به يخزَ الكفور
فلما أشربوا غدرا وكفرا * وجد بهم عن الحق النفور
أرى الله النبي برأي صدق * وكان الله يحكم لا يجور
فأيده وسلطه عليهم * وكان نصيره نعم النصير
فغودر منهم كعب صريعا * فذلت بعد مصرعه النضير
على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور
بأمر محمد إذ دس ليلا * إلى كعب أخا كعب يسير
فماكره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور
فتلك بنو النضير بدار سوء * أبارهم بما اجترموا المبير
غداة أتاهم في الزحف رهوا * رسول الله وهو بهم بصير
وغسان الحماة مؤازروه * على الأعداء وهو لهم وزير
فقال السلم ويحكم فصدوا * وخالف أمرهم كذب وزور
فذاقوا غب أمرهم وبالا * لكل ثلاثة منهم بعير
وأجلوا عامدين لقينقاع * وغودر منهم نخل ودور
وقد ذكر ابن إسحاق جوابها لسمال اليهودي فتركناها قصدا.
قال ابن إسحاق: وكان مما قيل في بني النضير قول ابن لقيم العبسي، ويقال: قالها قيس بن بحر بن طريف الأشجعي:
أهلي فداء لامرئ غير هالك * أحل اليهود بالحسي المزنم
يقيلون في خمر العضاه وبدلوا * أهيضب عودا بالودي المكمم
فإن يك ظني صادقا بمحمد * تروا خيله بين الضلا ويرمرم
يؤم بها عمرو بن بهثة إنهم * عدو وما حي صديق كمجرم
عليهن أبطال مساعير في الوغى * يهزون أطراف الوشيج المقوم
وكل رقيق الشفرتين مهند * توورثن من أزمان عاد وجرهم
فمن مبلغ عني قريشا رسالة * فهل بعدهم في المجد من متكرم
بأن أخاهم فاعلمن محمدا * تليد الندى بين الحجون وزمزم
فدينوا له بالحق تجسم أموركم * وتسمو من الدنيا إلى كل معظم
نبي تلافته من الله رحمة * ولا تسألوه أمر غيب مرجم
فقد كان في بدر لعمري عبرة * لكم يا قريش والقليب الملمم
غداة أتى في الخزرجية عامدا * إليكم مطيعا للعظيم المكرم
معانا بروح القدس ينكى عدوه * رسولا من الرحمن حقا بمعلم
رسولا من الرحمن يتلو كتابه * فلما أنار الحق لم يتلعثم
أرى أمره يزداد في كل موطن * علوا لأمر جعل الله محكم
قال ابن إسحاق: وقال علي بن أبي طالب، وقال ابن هشام: قالها رجل من المسلمين، ولم أر أحدا يعرفها لعلي:
عرفت ومن يعتدل يعرف * وأيقنت حقا ولم أصدف
عن الكلم المحكم اللاء من * لدى الله ذي الرأفة الأراف
رسائل تدرسُ في المؤمنين * بهن اصطفى أحمد المصطفى
فأصبح أحمد فينا عزيزا * عزيز المقامة والموقف
فيا أيها الموعدوه سفاها * ولم يأت جورا ولم يعنف
ألستم تخافون أدنى العذاب * وما أمن الله كالأخوف
وإن تصرعوا تحت أسيافه * كمصرع كعب أبي الأشرف
غداة رأى الله طغيانه * وأعرض كالجمل الأجنف
فأنزل جبريل في قتله * بوحي إلى عبده ملطف
فدس الرسول رسولا له * بأبيض ذي هبة مرهف
فباتت عيون له معولات * متى ينع كعب لها تذرف
وقلن لأحمد ذرنا قليلا * فإنا من النوح لم نشتف
فخلاهم ثم قال اظعنوا * دحورا على رغم الأنف
وأجلى النضير إلى غربة * وكانوا بدار ذوي زخرف
إلى أذرعات ردافا وهم * على كل ذي دبر أعجف
وتركنا جوابها أيضا من سماك اليهودي قصدا.
ثم ذكر تعالى حكم الفيء، وأنه حكم بأموال بني النضير لرسول الله ﷺ وملكها له، فوضعها رسول الله ﷺ حيث أراه الله تعالى، كما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال:
كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله ﷺ خاصة، فكان يعزل نفقة أهل سنة، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل.
ثم بين تعالى حكم الفيء وأنه للمهاجرين، والأنصار، والتابعين لهم بإحسان على منوالهم وطريقتهم، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
قال الإمام أحمد: حدثنا عارم وعفان، قالا: حدثنا معتمر سمعت أبي يقول: حدثنا أنس بن مالك عن نبي الله ﷺ أن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات، أو كما شاء الله، حتى فتحت عليه قريظة والنضير.
قال: فجعل يرد بعد ذلك. قال: وإن أهلي أمروني أن آتي نبي الله ﷺ فأسأله الذي كان أهله أعطوه، أو بعضه، وكان نبي الله ﷺ أعطاه أم أيمن، أو كما شاء الله.
قال: فسألت النبي ﷺ فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي، وجعلت تقول: كلا والله الذي لا إله إلا هو، لا أعطيكهن وقد أعطانيهن، أو كما قالت.
فقال النبي ﷺ: «لك كذا وكذا».
وتقول: كلا والله.
قال: ويقول: «لك كذا وكذا».
وتقول: كلا والله.
قال: «ويقول لك كذا وكذا» حتى أعطاها، حسبت أنه قال: عشرة أمثاله، أو قال: قريبا من عشرة أمثاله، أو كما أخرجاه بنحوه من طرق عن معتمر به.
ثم قال تعالى ذاما للمنافقين الذين مالوا إلى بني النضير في الباطن، كما تقدم ووعدوهم النصر فلم يكن من ذلك شيء، بل خذلوهم أحوج ما كانوا إليهم، وغروهم من أنفسهم فقال:
{ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدا أَبَدا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ } [25]
ثم ذمهم تعالى على جبنهم، وقلة علمهم، وخفة عقلهم النافع، ثم ضرب لهم مثلا قبيحا شنيعا بالشيطان حين قال للإنسان اكفر، فلما كفر قال إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين، فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها، وذلك جزاء الظالمين.
قصة عمرو بن سعدي القرظي
حين مر على ديار بني النضير، وقد صارت يبابا ليس بها داع ولا مجيب، وقد كانت بنو النضير أشرف من بني قريظة، حتى حداه ذلك على الإسلام وأظهر صفة رسول الله ﷺ من التوراة.
قال الواقدي: حدثنا إبراهيم بن جعفر، عن أبيه قال: لما خرجت بنو النضير من المدينة، أقبل عمرو بن سعدى فأطاف بمنازلهم، فرأى خرابها وفكر، ثم رجع إلى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة، فنفخ في بوقهم فاجتمعوا، فقال الزبير بن باطا: يا أبا سعيد أين كنت منذ اليوم لم تزل وكان لا يفارق الكنيسة، وكان يتأله في اليهودية.
قال: رأيت اليوم عبرا قد عبرنا بها، رأيت منازل إخواننا خالية بعد ذلك العز والجلد، والشرف الفاضل والعقل البارع، قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل.
ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة، وقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف ذي عزهم، ثم بيَّته في بيته أمنا، وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم، وهم أهل جد يهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم، وكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب.
يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمدا والله إنكم لتعلمون أنه نبي قد بشرنا به، وبأمره ابن الهيبان أبو عمير، وابن حراش، وهما أعلم يهود جاءانا يتوكفان قدومه وأمرانا باتباعه، جاءانا من بيت المقدس، وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما، ودفناهما بحرتنا هذه، فأسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم، ثم أعاد هذا الكلام ونحوه، وخوفهم بالحرب والسباء والجلاء.
فقال الزبير بن باطا: قد والتوراة قرأت صفته في كتاب باطا التوراة، التي نزلت على موسى ليس في المثاني الذي أحدثنا.
قال: فقال له كعب بن أسد ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه؟
قال: أنت يا كعب.
قال كعب: فلم والتوراة ما حلت بينك وبينه قط.
قال الزبير: بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا، فإن اتبعته اتبعناه، وإن أبيت أبينا، فأقبل عمرو بن سعدى على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال عمرو ما عندي في أمره إلا ما قلت: ما تطيب نفسي أن أصير تابعا. رواه البيهقي.
غزوة بني لحيان
ذكرها البيهقي في (الدلائل) وإنما ذكرها ابن إسحاق فيما رأيته من طريق هشام، عن زياد عنه، في جمادى الأولى من سنة ثنتين من الهجرة بعد الخندق وبني قريظة، وهو أشبه مما ذكره البيهقي، والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار وغيره قالوا: لما أصيب خبيب وأصحابه، خرج رسول الله ﷺ طالبا بدمائهم ليصيب من بني لحيان غرة، فسلك طريق الشام ليرى أنه لا يريد بني لحيان، حتى نزل بأرضهم من هذيل، ليصيب منهم غرة، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال.
فقال رسول الله ﷺ: «لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة» فخرج في مائتي راكب حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم ثم انصرفا، فذكر أبو عياش الزرقي: أن رسول الله ﷺ صلى بعُسفان صلاة الخوف.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عياش قال: كنا مع رسول الله ﷺ بعُسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله ﷺ صلاة الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم.
ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم.
قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر، { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } قال: فحضرت فأمرهم رسول الله ﷺ فأخذوا السلاح، فصففنا خلفه صفين، ثم ركع فركعنا جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا، جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء.
قال: ثم ركع فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد الصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون، فسجدوا، ثم سلم عليهم ثم انصرف.
قال: فصلاها رسول الله ﷺ مرتين: مرة بأرض عسفان، ومرة بأرض بني سليم.
ثم رواه أحمد، عن غندر، عن شعبة، عن منصور به نحوه.
وقد رواه أبو داود، عن سعيد بن منصور، عن جرير بن عبد الحميد.
والنسائي، عن الفلاس، عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن محمد بن المثنى وبندار، عن غندر، عن شعبة ثلاثتهم، عن منصور به.
وهذا إسناد على شرط الصحيحين، ولم يخرجه واحد منهما، لكن روى مسلم من طريق أبي خيثمة زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، عن جابر قال: غزونا مع رسول الله ﷺ قوما من جهينة فقاتلوا قتالا شديدا، فلما أن صلى الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله ﷺ بذلك.
وذكر لنا رسول الله ﷺ قال: «وقالوا إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد..» فذكر الحديث كنحو ما تقدم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: صلى رسول الله ﷺ بأصحابه الظهر بنخل، فهمَّ به المشركون ثم قالوا: دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه الصلاة هي أحب إليهم من أبنائهم.
قال: فنزل جبريل على رسول الله ﷺ فأخبره، فصلى بأصحابه صلاة العصر، فصفهم صفين بين أيديهم رسول الله، والعدو بين يدي رسول الله ﷺ، فكبر وكبروا جميعا، وركعوا جميعا، ثم سجد الذين يلونهم والآخرون قيام، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون، ثم تقدم هؤلاء وتأخر هؤلاء، فكبروا جميعا وركعوا جميعا، ثم سجد الذين يلونه والآخرون قيام، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون.
وقد استشهد البخاري في صحيحه برواية هشام هذه، عن أبي الزبير، عن جابر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا سعيد بن عبيد الهنائي، حدثنا عبد الله بن شقيق، حدثنا أبو هريرة: أن رسول الله ﷺ نزل بين صنجنان وعسفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة.
وإن جبريل أتى رسول الله ﷺ وأمره أن يقيم أصحابه شطرين فيصلي ببعضهم، ويقدم الطائفة الأخرى وراءهم، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ثم تأتي الأخرى فيصلون معه، ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم ليكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله ﷺ، ولرسول الله ركعتان.
ورواه الترمذي، والنسائي، من حديث عبد الصمد به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
قلت: إن كان أبو هريرة شهد هذا فهو بعد خيبر، وإلا فهو من مرسلات الصحابي ولا يضر ذلك عند الجمهور، والله أعلم.
ولم يذكر في سياق حديث جابر عند مسلم، ولا عند أبي داود الطيالسي، أمر عسفان ولا خالد بن الوليد، لكن الظاهر أنها واحدة.
بقي الشأن في أن غزوة عسفان قبل الخندق أو بعدها، فإن من العلماء منهم الشافعي من يزعم أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد يوم الخندق، فإنهم أخّروا الصلاة يومئذ عن ميقاتها لعذر القتال، ولو كانت صلاة الخوف مشروعة إذ ذاك لفعلوها ولم يؤخروها، ولهذا قال بعض أهل المغازي: إن غزوة بني لحيان التي صلى فيها صلاة الخوف بعسفان، كانت بعد بني قريظة.
وقد ذكر الواقدي بإسناده، عن خالد بن الوليد قال: لما خرج رسول الله ﷺ إلى الحديبية لقيته بعسفان، فوقفت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا، فأطلعه الله على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف.
قلت: وعمرة الحديبية كانت في ذي القعدة، سنة ست بعد الخندق وبني قريظة كما سيأتي.
وفي سياق حديث أبي عياش الزرقي ما يقتضي أن آية صلاة الخوف نزلت في هذه الغزوة يوم عسفان، فاقتضى ذلك أنها أول صلاة خوف صلاها، والله أعلم، وسنذكر إن شاء الله تعالى كيفية صلاة الخوف، واختلاف الروايات فيها في كتاب (الأحكام الكبير) إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
غزوة ذات الرقاع
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهري ربيع وبعض جمادى، ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر.
قال ابن هشام: ويقال عثمان بن عفان.
قال ابن إسحاق: فسار حتى نزل نخلا وهي غزوة ذات الرقاع.
قال ابن هشام: لأنهم رّقعوا فيها راياتهم، ويقال لشجرة هناك اسمها ذات الرقاع.
وقال الواقدي: بجبل فيه بقع حمر وسود وبيض.
وفي حديث أبي موسى: إنما سميت بذلك لما كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق من شدة الحر.
قال ابن إسحاق: فلقي بها جمعا عظيما من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا حتى صلى رسول الله ﷺ بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف الناس.
وقد أسند ابن هشام حديث صلاة الخوف ههنا: عن عبد الوارث بن سعيد التنوري، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله، وعن عبد الوارث، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر، وعن عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر.
ولكن لم يذكر في هذه الطرق غزوة نجد، ولا ذات الرقاع، ولم يتعرض لزمان ولا مكان، وفي كون غزوة ذات الرقاع التي كانت بنجد لقتال بني محارب وبني ثعلبة بن غطفان قبل الخندق نظر.
وقد ذهب البخاري إلى أن ذلك كان بعد خيبر، واستدل على ذلك بأن أبا موسى الأشعري شهدها كما سيأتي، وقدومه إنما كان ليالي خيبر صحبة جعفر وأصحابه، وكذلك أبو هريرة، وقد قال: صليت مع رسول الله ﷺ في غزوة نجد صلاة الخوف.
ومما يدل على أنها بعد الخندق: أن ابن عمر إنما أجازه رسول الله ﷺ في القتال أول ما أجازه يوم الخندق.
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: غزوت مع رسول الله ﷺ قبل نجد، فذكر صلاة الخوف.
وقول الواقدي: إنه عليه السلام خرج إلى ذات الرقاع في أربعمائة، ويقال: سبعمائة من أصحابه ليلة السبت لعشر خلون من المحرم سنة خمس فيه نظر، ثم لا يحصل به نجاة من أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق، لأن الخندق كان في شوال سنة خمس على المشهور، وقيل: في شوال سنة أربع، فتحصل على هذا القول مخلص من حديث ابن عمر، فأما حديث أبي موسى وأبي هريرة فلا.
قصة غورث بن الحارث
قال ابن إسحاق في هذه الغزوة: حدثني عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله أن رجلا من بني محارب، يقال له: غورث، قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا؟
قالوا: بلى، وكيف تقتله؟
قال: أفتك به.
قال: فأقبل إلى رسول الله ﷺ وهو جالس، وسيف رسول الله ﷺ في حجره، فقال: يا محمد، انظر إلى سيفك هذا؟
قال: نعم، فأخذه ثم جعل يهزه ويهم، فكبته الله، ثم قال: يا محمد أما تخافني؟
قال: لا ما أخاف منك.
قال: أما تخافني وفي يدي السيف؟
قال: لا، يمنعني الله منك.
ثم عمد إلى سيف النبي ﷺ فرده عليه، فأنزل الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [26].
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان: أنها إنما نزلت في عمرو بن جحاش، أخي بني النضير وما همَّ به.
هكذا ذكر ابن إسحاق قصة غورث هذا، عن عمرو بن عبيد القدري، رأس الفرقة الضالة، وهو وإن كان لا يتهم بتعمد الكذب في الحديث، إلا أنه ممن لا ينبغي أن يروى عنه لبدعته ودعائه إليها.
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه، ولله الحمد.
فقد أورد الحافظ البيهقي ها هنا طرقا لهذا الحديث من عدة أماكن، وهي ثابتة في الصحيحين من حديث الزهري، عن سنان بن أبي سنان، وأبي سلمة، عن جابر: أنه غزا مع رسول الله ﷺ غزوة نجد، فلما قفل رسول الله ﷺ أدركته القائلة في واد كثير العضاه، فتفرق الناس يستظلون بالشجر، وكان رسول الله ﷺ تحت ظل شجرة، فعلق بها سيفه.
قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله ﷺ يدعونا فأجبناه، وإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله ﷺ: «إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا» فقال: من يمنعك مني؟
قلت: «الله».
فقال: من يمنعك مني؟
قلت: «الله» فشأم السيف وجلس، ولم يعاقبه رسول الله ﷺ وقد فعل ذلك.
وقد رواه مسلم أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ، حتى إذا كنا بذات الرقاع، وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله ﷺ، فجاءه رجل من المشركين وسيف رسول الله ﷺ معلق بشجرة، فأخذ سيف رسول الله ﷺ فاخترطه، وقال لرسول الله ﷺ: تخافني؟
قال: «لا».
قال: فمن يمنعك مني؟
قال: «الله يمنعني منك».
قال: فهدده أصحاب رسول الله ﷺ فأغمد السيف وعلقه، قال: ونودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين.
قال: فكانت لرسول الله ﷺ أربع ركعات، وللقوم ركعتان.
وقد علقه البخاري بصيغة الجزم عن أبان به.
قال البخاري: وقال مسدد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر: أن اسم الرجل غورث بن الحارث.
وأسند البيهقي من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال: قاتل رسول الله ﷺ محارب وغطفان بنخل، فرأوا من المسلمين غِرة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث، حتى قام على رأس رسول الله ﷺ بالسيف وقال: من يمنعك مني؟
قال: «الله» فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله ﷺ السيف وقال: «من يمعنك مني؟»
قال: كن خير آخذ.
قال: «تشهد أن لا إله إلا الله؟»
قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس.
ثم ذكر صلاة الخوف وأنه صلى أربع ركعات بكل طائفة ركعتين.
وقد أورد البيهقي هنا طرق صلاة الخوف بذات الرقاع، عن صالح بن خوات بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة. وحديث الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر، في صلاة الخوف بنجد، وموضع ذلك كتاب (الأحكام) والله أعلم.
قصة الذي أصيبت امرأته يومذاك
قال محمد بن إسحاق: حدثني عمي صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في غزوة ذات الرقاع من نخل، فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فلما انصرف رسول الله ﷺ قافلا، أتى زوجها وكان غائبا.
فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد دما، فخرج يتبع إثر رسول الله ﷺ، فنزل رسول الله ﷺ منزلا فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟
فانتدب رجل من المهاجرين، ورجل من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله.
قال: «فكونا بفم الشعب من الوادي» وهما: عمار بن ياسر، وعباد بن بشر، فلما خرجا إلى فم الشعب قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل تحب أن أكفيكه، أوله أم آخره؟
قال: بل اكفني أوله، فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي.
قال: وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرمى بسهم فوضعه فيه، فانتزعه ووضعه وثبت قائما.
قال: ثم رمى بسهم آخر فوضعه فيه، فنزعه فوضعه وثبت قائما.
قال: ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهبَّ صاحبه، فقال: اجلس فقد أثبتُّ.
قال: فوثب الرجل فلما رآهما عرف أنه قد نذرا به، فهرب.
قال: ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله أفلا أهببتني أول ما رماك؟
قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع علي الرمي ركعت فأذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله ﷺ بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها.
هكذا ذكره ابن إسحاق في (المغازي).
وقد رواه أبو داود، عن أبي توبة، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن إسحاق به.
وقد ذكر الواقدي، عن عبد الله العمري، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه حديث صلاة الخوف بطوله.
قال: وكان رسول الله ﷺ قد أصاب في محالهم نسوة، وكان في السبي جارية وضيئة، وكان زوجها يحبها، فحلف ليطلبن محمدا ولا يرجع حتى يصيب دما أو يخلص صاحبته.
ثم ذكر من السياق نحو ما أورده محمد بن إسحاق.
قال الواقدي: وكان جابر بن عبد الله يقول: بينا أنا مع رسول الله ﷺ إذ جاء رجل من أصحابه بفرخ طائر، ورسول الله ﷺ ينظر إليه، فأقبل إليه أبواه أو أحدهما، حتى طرح نفسه في يدي الذي أخذ فرخه، فرأيت أن الناس عجبوا من ذلك، فقال رسول الله ﷺ: «أتعجبون من هذا الطائر أخذتم فرخه، فطرح نفسه رحمة لفرخه، فوالله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه».
قصة جمل جابر
قال محمد بن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله ﷺ إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله ﷺ، جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله ﷺ فقال: «مالك يا جابر؟»
قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا.
قال: «أنخه».
قال: فأنخته، وأناخ رسول الله ﷺ ثم قال: «أعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع عصا من الشجرة» ففعلت، فأخذها رسول الله ﷺ فنخسه بها نخسات، ثم قال: «اركب» فركبت فخرج، والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة.
قال: وتحدثت مع رسول الله ﷺ فقال: «أتبيعني جملك هذا يا جابر؟»
قال: قلت بل أهبه لك.
قال: «لا ولكن بعنيه».
قال: قلت: فسُمْنيه.
قال: «قد أخذته بدرهم».
قال: قلت: لا، إذا تغبنني يا رسول الله.
قال: «فبدرهمين».
قال: قلت: لا.
قال: فلم يزل يرفع لي رسول الله ﷺ حتى بلغ الأوقية.
قال: فقلت: أفقد رضيت؟
قال: نعم، قلت: فهو لك.
قال: «قد أخذته» ثم قال: «يا جابر هل تزوجت بعد».
قال: قلت: نعم يا رسول الله.
قال: «أثيبا أم بكرا؟» قال: قلت: بل ثيبا.
قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك».
قال قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن فتقوم عليهن.
قال: «أصبت إن شاء الله، أما إنا لو جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت، فأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها».
قال: فقلت: والله يا رسول الله مالنا نمارق.
قال: «إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا».
قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله ﷺ بجزور ونحرت، فأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله ﷺ دخل ودخلنا.
قال: فحدثت المرأة الحديث، وما قال لي رسول الله ﷺ، قالت: فدونك فسمع وطاعة، فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله ﷺ، ثم جلست في المسجد قريبا منه، قال: وخرج رسول الله ﷺ فرأى الجمل فقال: «ما هذا؟».
قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر.
قال: «فأين جابر؟» فدعيت له.
قال: فقال: «يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك».
قال: ودعا بلالا فقال: «اذهب بجابر فأعطه أوقية».
قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية، وزادني شيئا يسيرا.
قال: فوالله ما زال ينمي عندي، ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا. يعني يوم الحرة.
وقد أخرجه صاحب الصحيح من حديث عبيد الله بن عمر العمري، عن وهب بن كيسان، عن جابر بنحوه.
قال السهيلي: في هذا الحديث إشارة إلى ما كان أخبر به رسول الله ﷺ جابر بن عبد الله: أن الله أحيا والده وكلمه فقال له: تمن علي، وذلك أنه شهيد، وقد قال الله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } وزادهم على ذلك في قوله: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } .
ثم جمع لهم بين العوض والمعوض، فرد عليهم أرواحهم التي اشتراها منهم فقال: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون } والروح للإنسان بمنزلة المطية كما قال عمر بن عبد العزيز.
قال: فلذلك اشترى رسول الله ﷺ من جابر جمله وهو مطيته، فأعطاه ثمنه، ثم رده عليه وزاده مع ذلك.
قال: ففيه تحقيق لما كان أخبره به عن أبيه، وهذا الذي سلكه السهيلي ها هنا إشارة غريبة وتخيل بديع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ترجم الحافظ البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) على هذا الحديث في هذه الغزوة فقال: باب ما كان ظهر في غزاته هذه من بركاته وآياته في جمل جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وهذا الحديث له طرق عن جابر، وألفاظ كثيرة، وفيه اختلاف كثير في كمية ثمن الجمل، وكيفية ما اشترط في البيع، وتحرير ذلك واستقصاؤه لائق بكتاب البيع من الأحكام والله أعلم.
وقد جاء تقييده بهذه الغزوة، وجاء تقييده بغيرها كما سيأتي، ومستبعد تعداد ذلك، والله أعلم.
غزوة بدر الآخرة
وهي بدر الموعد التي توعدوا إليها من أحد كما تقدم.
قال ابن إسحاق: ولما رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبا، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول.
قال ابن إسحاق: فنزل رسول الله ﷺ بدرا، وأقام عليه ثمانية ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران، وبعض الناس يقول: قد بلغ عسفان.
ثم بدا له في الرجوع فقال: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
قال: وأتى مخشي بن عمرو الضمري، وقد كان وادع النبي ﷺ في غزوة ودان على بني ضمرة، فقال: يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟
قال: «نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك».
قال: لا والله يا محمد ما لنا بذلك من حاجة، ثم رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة ولم يلق كيدا.
قال ابن إسحاق: وقد قال عبد الله بن رواحة يعني في انتظارهم أبا سفيان ورجوعه بقريش عامه ذلك، قال ابن هشام: وقد أنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك:
وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد * لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسمُ لو لاقيتنا فلقِيتَنا * لأبت ذميما وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه * وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أف لدينكم * وأمركم السيء الذي كان غاويا
فإني وإن عنفتموني لقائل * فدى لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره * شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في ذلك:
دعوا فلجات الشام قد حال دونها *جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك
أقمنا على الرس النزوع ثمانيا * بأرعن جرار عريض المبارك
بكل كميت جَوزُه نصف خَلْقه * وقُبٍّ طوال مشرفات الحوارك
ترى العرفج العامي تذري أصوله * مناسم أخفاف المطي الرواتك
فإن تلق في تطوافنا والتماسنا * فرات بن حيان يكن رهن هالك
وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده * يزد في سواد لونه لون حالك
فأبلغ أبا سفيان عني رسالة * فإنك من غر الرجال الصعالك
قال: فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وقد أسلم فيما بعد ذلك:
أحسان إنا يا ابن آكلة الفغا * وجدَّك نغتال الخروق كذلك
خرجنا وما تنجو اليعافير بيننا * ولو وألت منا بشد مدارك
إذا ما انبعثنا من مُناخ حسبته * مد من أهل الموسم المتعارك
أقمت على الرس النزوع تريدنا * وتتركنا في النخل عند المدارك
على الزرع تمشي خيلنا وركابنا * فما وطئت ألصقنه بالدكادك
أقمنا ثلاثا بين سَلع وفارع * بجُرد الجياد والمطي الرواتك
حسبتم جلاد القوم عند فنائكم * كمأخذكم بالعين أرطال آنك
فلاتبعث الخيل الجياد وقل لها * على نحو قول المعصم المتماسك
سعدتم بها وغيركم كان أهلها * فوارس من أبناء فهر بن مالك
فإنك لا في هجرة إن ذكرتها * ولا حرمات دينها أنت ناسك
قال ابن هشام: تركنا منها أبياتا لاختلاف قوافيها، وقد ذكر موسى بن عقبة، عن الزهري وابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير:
أن رسول الله ﷺ استنفر الناس لموعد أبي سفيان، وانبعث المنافقون في الناس يثبطونهم، فسلم الله أولياءه، وخرج المسلمون صحبة رسول الله ﷺ إلى بدر، وأخذوا معهم بضائع وقالوا: إن وجدنا أبا سفيان وإلا اشترينا من بضائع موسم بدر.
ثم ذكر نحو سياق ابن إسحاق في خروج أبي سفيان إلى مجنة ورجوعه، وفي مقاولة الضمري، وعرض النبي ﷺ المنابذة فأبى ذلك.
قال الواقدي: خرج رسول الله ﷺ إليها في ألف وخمسمائة من أصحابه، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وكان خرجوه إليها في مستهل ذي القعدة يعني سنة أربع، والصحيح قول ابن إسحاق: أن ذلك في شعبان من هذه السنة الرابعة، ووافق قول موسى بن عقبة أنها في شعبان، لكن قال في سنة ثلاث وهذا وهم.
فإن هذه تواعدوا إليها من أحد، وكان أحد في شوال سنة ثلاث كما تقدم، والله أعلم.
قال الواقدي: فأقاموا ببدر مدة الموسم الذي كان يعقد فيها ثمانية أيام، فرجعوا وقد ربحوا من الدرهم درهمين، وقال غيره: فانقلبوا كما قال الله عز وجل: { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [27].
فصل في جملة من الحوادث الواقعة سنة أربع من الهجرة
قال ابن جرير: وفي جمادى الأولى من هذه السنة مات عبد الله بن عثمان بن عفان رضي الله عنه، يعني من رقية بنت رسول الله ﷺ، وهو ابن ست سنين، فصلى عليه رسول الله ﷺ، ونزل في حفرته والده عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قلت: وفيه توفي أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، وأمه برة بنت عبد المطلب عمة رسول الله ﷺ، وكان رضيع رسول الله ﷺ، ارتضعا من ثويبة مولاة أبي لهب، وكان إسلام أبي سلمة وأبي عبيدة وعثمان بن عفان والأرقم بن أبي الأرقم قديما في يوم واحد.
وقد هاجر هو وزوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة، ثم عاد إلى مكة وقد ولد لهما بالحبشة أولاد، ثم هاجر من مكة إلى المدينة، وتبعته أم سلمة إلى المدينة كما تقدم، وشهد بدرا وأحدا، ومات من آثار جرح جرحه بأحد رضي الله عنه وأرضاه، له حديث واحد في الاسترجاع عند المصيبة، سيأتي في سياق تزويج رسول الله ﷺ بأم سلمة قريبا.
قال ابن جرير: وفي ليال خلون من شعبان منها، ولد الحسين بن علي من فاطمة بنت رسول الله ﷺ، ورضي الله عنهم.
قال: وفي شهر رمضان من هذه السنة تزوج رسول الله ﷺ زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية.
وقد حكى أبو عمر ابن عبد البر، عن علي بن عبد العزيز الجرجاني أنه قال: كانت أخت ميمونة بنت الحارث. ثم استغربه وقال: لم أره لغيره. وهي التي يقال لها أم المساكين لكثرة صدقاتها عليهم، وبرها لهم وإحسانها إليهم، وأصدقها ثنتي عشرة أوقية ونشا، ودخل بها في رمضان، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها.
قال أبو عمر ابن عبد البر، عن علي بن عبد العزيز الجرجاني: ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف.
قال ابن الأثير في (أسد الغابة): وقيل كانت تحت عبد الله بن جحش، فقتل عنها يوم أحد.
قال أبو عمر: ولا خلاف أنها ماتت في حياة رسول الله ﷺ، وقيل: لم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة حتى توفيت رضي الله عنها.
وقال الواقدي: في شوال من هذه السنة تزوج رسول الله ﷺ أم سلمة بنت أبي أمية.
قلت: وكانت قبله عند زوجها أبي أولادها أبي سلمة ابن عبد الأسد، وقد كان شهد أحدا كما تقدم، وجرح يوم أحد فداوى جرحه شهرا حتى برئ، ثم خرج في سرية فغنم منها نعما ومغنما جيدا، ثم أقام بعد ذلك سبعة عشر يوما، ثم انتقض عليه جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الأولى من هذه السنة.
فلما حلت في شوال خطبها رسول الله ﷺ إلى نفسها بنفسه الكريمة، وبعث إليها عمر بن الخطاب في ذلك مررا، فتذكر أنها امرأة غيرى - أي: شديدة الغيرة - وأنها مصبية - أي: لها صبيان - يشغلونها عنه، ويحتاجون إلى مؤنة تحتاج معها أن تعمل لهم في قوتهم.
فقال: أما الصبية فإلى الله وإلى رسوله - أي: نفقتهم ليس إليك، وأما الغيرة فأدعو الله فيذهبها، فأذنت في ذلك وقالت لعمر آخر ما قالت له: قم فزوج النبي ﷺ - تعني قد رضيت وأذنت - فتوهم بعض العلماء أنها تقول لابنها عمر بن أبي سلمة، وقد كان إذ ذاك صغيرا لا يلي مثله العقد، وقد جمعت في ذلك جزءا مفردا بينت فيه الصواب في ذلك، ولله الحمد والمنة.
وإن الذي ولي عقدها عليه ابنها سلمة بن أبي سلمة - وهو أكبر ولدها - وساغ هذا لأن أباه ابن عمها، فللابن ولاية أمه إذا كان سببا لها من غير جهة البنوة بالإجماع، وكذا إذا كان معتقا أو حاكما، فأما محض البنوة فلا يلي بها عقد النكاح عند الشافعي وحده، وخالفه الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله، ولبسط هذا موضع آخر يذكر فيه، وهو كتاب النكاح من (الأحكام الكبير) إن شاء الله.
قال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ليث - يعني ابن سعد - عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله ﷺ فقال: لقد سمعت من رسول الله ﷺ قولا سررت به، قال: «لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا فعل به».
قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت، وقلت: اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: من أين لي خير من أبي سلمة، فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله ﷺ وأنا أدبغ إهابا لي، فغسلت يدي من القرظ وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف، فقعد عليها فخطبني إلى نفسي.
فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله ما بي أن لا تكون بك الرغبة، ولكني امرأة بي غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن، وأنا ذات عيال.
فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسيذهبها الله عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي.
فقالت: فقد سلمت لرسول الله ﷺ.
فقالت أم سلمة: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه رسول الله ﷺ.
وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، عن عمر بن أبي سلمة، عن أمه أم سلمة، عن أبي سلمة به.
وقال الترمذي: حسن غريب.
وفي رواية للنسائي، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه.
ورواه ابن ماجه، عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن يزيد بن هارون، عن عبد الملك بن قدامة الجمحي، عن أبيه عمر بن أبي سلمة به.
وقال ابن إسحاق: ثم انصرف رسول الله ﷺ يعني من بدر الموعد راجعا إلى المدينة، فأقام بها حتى مضى ذو الحجة، وولى تلك الحجة المشركون وهي سنة أربع.
وقال الواقدي: وفي هذه السنة - يعني سنة أربع - أمر رسول الله ﷺ زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود.
قلت: فثبت عنه في الصحيح أنه قال: تعلمته في خمسة عشر يوما، والله أعلم.
سنة خمس من الهجرة النبوية غزوة دومة الجندل
قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله ﷺ دومة الجندل.
قال ابن هشام: في ربيع الأول يعني من سنة خمس، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري.
قال ابن إسحاق: ثم رجع إلى المدينة قبل أن يصل إليها، ولم يلق كيدا فأقام بالمدينة بقية سنته. هكذا قال ابن إسحاق.
وقد قال محمد بن عمر الواقدي بإسناده عن شيوخه، عن جماعة من السلف قالوا: أراد رسول الله ﷺ أن يدنو إلى أداني الشام، وقيل له: إن ذلك مما يفزع قيصر، وذكر له أن بدومة الجندل جمعا كبيرا، وأنهم يظلمون من مر بهم، وكان لها سوق عظيم، وهم يريدون أن يدنو من المدينة.
فندب رسول الله ﷺ الناس فخرج في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عذرة يقال له: مذكور، هاد خريت.
فلما دنا من دومة الجندل أخبره دليله بسوائم بني تميم، فسار حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا، فنزل رسول الله ﷺ بساحتهم، فلم يجد فيها أحد، فأقام بها أياما وبث السرايا.
ثم رجعوا وأخذ محمد بن سلمة رجلا منهم، فأتي به رسول الله ﷺ فسأله عن أصحابه فقال: هربوا أمس، فعرض عليه رسول الله ﷺ الإسلام فأسلم، ورجع رسول الله ﷺ إلى المدينة.
قال الواقدي: وكان خروجه عليه السلام إلى دومة الجندل في ربيع الآخر سنة خمس.
قال: وفيه توفيت أم سعد بن عبادة وابنها مع رسول الله ﷺ في هذه الغزوة.
وقد قال أبو عيسى الترمذي في (جامعه): حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن أم سعد ماتت والنبي ﷺ غائب، فلما قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر، وهذا مرسل جيد، وهو يقتضي أنه عليه السلام غاب في هذه الغزوة شهرا فما فوقه، على ما ذكره الواقدي رحمه الله.
غزوة الخندق أو الأحزاب
وقد أنزل الله تعالى فيها صدر سورة الأحزاب فقال تعالى
- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّا وَلَا نَصِيرا * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ * أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرا * يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانا وَتَسْلِيما * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورا رَحِيما * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرا } [28].
وقد تكلمنا على كل من هذه الآيات الكريمات في التفسير، ولله الحمد والمنة، ولنذكر ها هنا ما يتعلق بالقصة إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
وقد كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، نص على ذلك ابن إسحاق، وعروة بن الزبير، وقتادة والبيهقي، وغير واحد من العلماء سلفا وخلفا.
وقد روى موسى بن عقبة، عن الزهري أنه قال: ثم كانت وقعة الأحزاب في شوال سنة أربع.
وكذلك قال الإمام مالك بن أنس، فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى بن داود عنه.
قال البيهقي: ولا اختلاف بينهم في الحقيقة لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين، وقبل استكمال خمس، ولا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد، واعدوا المسلمين إلى بدر العام المقابل، فذهب النبي ﷺ وأصحابه كما تقدم في شعبان سنة أربع، ورجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام، فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتعين أن الخندق في شوال من سنة خمس، والله أعلم.
وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين، ولا خلاف أن أُحدا في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة الثانية لسنة الهجرة، ولم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الأول إلى آخرها، كما حكاه البيهقي.
وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي، وقد صرح بأن بدرا في الأولى، وأحدا في سنة ثنتين، وبدر الموعد في شعبان سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع، وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالك من ربيع الأول سنة الهجرة، فصارت الأقوال ثلاثة، والله أعلم.
والصحيح قول الجمهور أن أحدا في شوال سنة ثلاث، وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، والله أعلم.
فأما الحديث المتفق عليه في الصحيحين من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: عرضت على رسول الله ﷺ يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني، فقد أجاب عنها جماعة من العلماء منهم البيهقي بأنه عرض يوم أحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الأحزاب في أواخر الخامسة عشرة.
قلت: ويحتمل أنه أراد أنه لما عرض عليه يوم الأحزاب كان قد استكمل خمس عشرة سنة التي يجاز لمثلها الغلمان، فلا يبقى على هذا زيادة عليها، ولهذا لما بلَّغ نافع عمر بن عبد العزيز هذا الحديث قال:
إن هذا الفرق بين الصغير والكبير، ثم كتب به إلى الآفاق، واعتمد على ذلك جمهور العلماء، والله أعلم.
وهذا سياق القصة مما ذكره ابن إسحاق وغيره.
قال ابن إسحاق: ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس، فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة ومن لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا، وبعضهم يحدث ما لا يحدث بعض قالوا:
إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم: سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله ﷺ خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله ﷺ وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.
فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه.
قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين أنزل الله فيهم: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا } [29]
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله ﷺ، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاؤوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب النبي ﷺ، وأخبروهم أنهم يكونون معهم عليه، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك واجتمعوا معهم فيه.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع.
فلما سمع بهم رسول الله ﷺ وما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة.
قال ابن هشام: يقال إن الذي أشار به سلمان.
قال الطبري، والسهيلي: أول من حفر الخنادق منوشهر بن أيرج بن أفريدون، وكان في زمن موسى عليه السلام.
قال ابن إسحاق: فعمل فيه رسول الله ﷺ ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون، وتخلف طائفة من المنافقين يعتذرون بالضعف، ومنهم من ينسل خفية بغير إذنه ولا علمه عليه الصلاة والسلام.
وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى:
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [30].
قال ابن إسحاق: فعمل المسلمون فيه حتى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جُعيل سماه رسول الله ﷺ عمرا، فقالوا فيما يقولون:
سماه من بعد جُعَيلِ عمرا * وكان للبائس يوما ظهرا
وكانوا إذا قالوا عمرا، قال معهم رسول الله ﷺ عمرا، وإذا قالوا ظهرا قال لهم ظهرا.
وقد قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن حميد سمعت أنسا قال: خرج رسول الله ﷺ إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: «اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر الأنصار والمهاجره» فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا * على الجهاد ما بقينا أبدا
وفي الصحيحين من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس نحوه.
وقد رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد، عن أنس بنحوه.
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا * على الإسلام ما بقينا أبدا
قال: يقول النبي ﷺ مجيبا لهم: «اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة»
قال: يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: كنا مع رسول الله ﷺ في الخندق وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله ﷺ: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار».
ورواه مسلم، عن القعنبي، عن عبد العزيز به.
وقال البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله ﷺ ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه، أو أغبر بطنه يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا
ورفع بها صوته: أبينا أبينا.
ورواه مسلم من حديث شعبة به.
ثم قال البخاري: حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، حدثني إبراهيم بن يوسف، حدثني أبي، عن أبي إسحاق، عن البراء يحدث قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله ﷺ رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبد الله بن رواحة، وهو ينقل من التراب يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا
ثم يمد صوته بآخرها.
وقال البيهقي في (الدلائل): أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل بن الفضل البجلي، حدثنا إبراهيم بن يوسف البلخي، حدثنا المسيب بن شريك، عن زياد بن أبي زياد، عن أبي عثمان، عن سلمان: أن رسول الله ﷺ ضرب في الخندق وقال:
بسم الله وبه هُدينا * ولو عبدنا غيره شقينا
يا حبذا ربا وحبَّ دينا
وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان، حدثنا شعبة، عن معاوية ابن قرة، عن أنس أن رسول الله ﷺ قال وهم يحفرون الخندق: «اللهم لا خير إلا خير الآخرة فأصلح الأنصار والمهاجرة».
وأخرجاه في الصحيحين من حديث غندر، عن شعبة.
قال ابن إسحاق: وقد كان في حفر الخندق أحاديث بلغتني من الله فيها عبرة في تصديق رسول الله ﷺ وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون.
فمن ذلك أن جابر بن عبد الله كان يحدث: أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كُدْيَة، فشكوها إلى رسول الله ﷺ، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح الماء على تلك الكدية.
فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق نبيا، لانهالت حتى عادت كالكثيب، ما ترد فأسا ولا مسحاة. هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وقد قال البخاري - رحمه الله -: حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه قال: أتيت جابرا فقال: أنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْيًة شديدة، فجاؤوا النبي ﷺ فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: «أنا نازل».
ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فأخذ النبي ﷺ المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل، أو أهيم. فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت النبي ﷺ شيئا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟
قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي ﷺ والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: «كم هو؟» فذكرت له، فقال: «كثير طيب، قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي».
فقال: «قوموا» فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك، جاء النبي ﷺ بالمهاجرين والأنصار ومن معهم.
قالت: هل سألك؟ قلت: نعم.
فقال: «ادخلوا ولا تضاغطوا» فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز، ويغرف حتى شبعوا، وبقي بقية. قال: كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة. تفرد به البخاري.
وقد رواه الإمام أحمد عن وكيع، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه أيمن الحبشي مولى بني مخزوم، عن جابر بقصة الكدية، وربط الحجر على بطنه الكريم.
ورواه البيهقي في (الدلائل) عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر قصة الكدية والطعام، وطوله أتم من رواية البخاري قال فيه:
لما علم النبي ﷺ بمقدار الطعام، قال للمسلمين جميعا: «قوموا إلى جابر» فقاموا، قال: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وقلت: جاءنا بخلق على صاع من شعير وعناق، ودخلت على امرأتي أقول: افتضحت جاءك رسول الله ﷺ بالخندق أجمعين.
فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟
قلت: نعم.
فقالت: الله ورسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا.
قال: فكشفت عني غما شديدا.
قال: فدخل رسول الله ﷺ فقال: «خدمي ودعيني من اللحم» وجعل رسول الله ﷺ يثرد، ويغرف اللحم، ويخمر هذا، ويخمر هذا، فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين، ويعود التنور والقدر أملأ ما كانا.
ثم قال رسول الله ﷺ: «كلي وأهدي» فلم تزل تأكل وتهدي يومها.
وقد رواه كذلك أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر به، وأبسط أيضا.
وقال في آخره: وأخبرني أنهم كانوا ثمانمائة، أو قال ثلثمائة.
وقال يونس بن بكير: عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر فذكر القصة بطولها في الطعام فقط، وقال: وكانوا ثلثمائة.
ثم قال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن أبي الزبير، حدثنا ابن ميناء، سمعت جابر بن عبد الله قال: لما حفر الخندق رأيت من النبي ﷺ خمصا، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله ﷺ خمصا شديدا.
فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها فطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله ﷺ فقالت: لا تفضحني برسول الله ﷺ وبمن معه.
فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحت بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاح رسول الله ﷺ فقال: «يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع سؤرا فحيهلا بكم».
فقال رسول الله ﷺ: «لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء» فجئت، وجاء رسول الله ﷺ يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت، فأخرجت لنا عجينا فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق وبارك.
ثم قال: «ادع خبازة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك، ولا تنزلوها» وهم ألف، فأُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا كما هو.
ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن أبي عاصم به نحوه.
وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث، وفي سياقه غرابة من بعض الوجوه فقال:
حدثني سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال: عملنا مع رسول الله ﷺ في الخندق، وكانت عندي شويهة غير جد سمينة قال: فقلت والله لو صنعناها لرسول الله ﷺ قال: وأمرت امرأتي، فطحنت لنا شيئا من شعير، فصنعت لنا منه خبزا، وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله ﷺ.
فلما أمسينا وأراد رسول الله ﷺ الانصراف عن الخندق، قال وكنا نعمل فيه نهارا، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا فقلت: يا رسول الله إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير، فأنا أحب أن تنصرف معي إلى منزلي.
قال: وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله ﷺ وحده.
قال: فلما أن قلت ذلك، قال: «نعم» ثم أمر صارخا فصرخ، أن انصرفوا مع رسول الله ﷺ إلى بيت جابر بن عبد الله.
قال: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال: فأقبل رسول الله ﷺ، وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، قال: فبرك وسمى الله تعالى، ثم أكل، وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا، وجاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها.
والعجب أن الإمام أحمد إنما رواه من طريق سعيد بن ميناء، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق عنه، عن جابر مثله سواء.
قال محمد بن إسحاق: وحدثني سعيد بن ميناء أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما.
قالت: فأخذتها وانطلقت بها فمررت برسول الله ﷺ، وأنا ألتمس أبي وخالي فقال: «تعالي يا بنية ما هذا معك؟»
قالت: قلت يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه.
فقال: «هاتيه».
قالت: فصببته في كفي رسول الله ﷺ، فما ملأتهما. ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب.
ثم قال لإنسان عنده: «اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء» فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
هكذا رواه ابن إسحاق وفيه انقطاع.
وهكذا رواه الحافظ البيهقي من طريقه، ولم يزد.
قال ابن إسحاق: وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله ﷺ قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى.
قال: ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت، لمع تحت المعول وأنت تضرب؟
قال: «أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟» قال: قلت: نعم.
قال: «أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق».
قال البيهقي: وهذا الذي ذكره ابن إسحاق قد ذكره موسى بن عقبة في (مغازيه).
وذكره أبو الأسود عن عروة.
ثم روى البيهقي من طريق محمد بن يونس الكديمي، وفي حديثه نظر.
لكن رواه ابن جرير في (تاريخه) عن محمد بن بشار وبندار، كلاهما عن محمد بن خالد بن عثمة، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، فذكر حديثا فيه أن رسول الله ﷺ خطَّ الخندق بين كل عشرة أربعين ذراعا.
قال: واحتق المهاجرون والأنصار في سلمان، فقال رسول الله ﷺ: «سلمان منا أهل البيت».
قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان، وحذيفة، والنعمان بن مقرن، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا بلغنا الندى، ظهرت لنا صخرة بيضاء مروة، فكسرت حديدنا، وشقت علينا.
فذهب سلمان إلى رسول الله ﷺ وهو في قبة تركية، فأخبره عنها، فجاء فأخذ المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربة فصدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعني المدينة - حتى كأنها مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله ﷺ تكبير فتح، وكبر المسلمون.
ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، وذكر ذلك سلمان والمسلمون لرسول الله ﷺ، وسألوه عن ذلك النور، فقال:
«لقد أضاء لي من الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثالثة أضاءت قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا» واستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعود صادق.
قال: ولما طلعت الأحزاب قال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما، وقال المنافقون: يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل فيهم: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورا } [31] وهذا حديث غريب.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هارون بن ملول، حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو قال: لما أمر رسول الله ﷺ بالخندق، فخندق على المدينة قالوا: يا رسول الله إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها.
فقام النبي ﷺ وقمنا معه، فلما أتاها أخذ المعول فضرب أخرى فكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال: «فتحت فارس» ثم ضرب أخرى فكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال «فتحت الروم» ثم ضرب أخرى فكبر.
فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال: «جاء الله بحمير أعوانا وأنصارا» وهذا أيضا غريب من هذا الوجه، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي فيه ضعف، فالله أعلم.
وقال الطبراني أيضا: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا أبو نميلة، حدثنا نعيم بن سعيد الغري أن عكرمة حدث عن ابن عباس قال: احتفر رسول الله ﷺ الخندق، وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع.
فلما رأى ذلك رسول الله ﷺ قال: «هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة؟»
قال رجل: نعم.
قال: «أما لا، فتقدم فدلنا عليه» فانطلقوا إلى بيت الرجل فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه منه، فأرسلت امرأته أن جئ، فإن رسول الله ﷺ قد أتانا.
فجاء الرجل يسعى وقال: بأبي وأمي، وله معزة ومعها جديها، فوثب إليها فقال النبي ﷺ: «الجدي من ورائها» فذبح الجدي، وعمدت المرأة إلى طحينة لها فعجنتها وخبزت، فأدركت القدر، فثردت قصعتها فقربتها إلى رسول الله ﷺ وأصحابه.
فوضع رسول الله ﷺ إصبعه فيها وقال: «بسم الله اللهم بارك فيها أطعموا» فأكلوا منها حتى صدروا، ولم يأكلوا منها إلا ثلثها وبقي ثلثاها، فسرح أولئك العشرة الذين كانوا معه أن اذهبوا وسرحوا إلينا بعدتكم، فذهبوا فجاء أولئك العشرة، فأكلوا منها حتى شبعوا، ثم قام ودعا لربة البيت، وسمت عليها، وعلى أهل بيتها.
ثم مشوا إلى الخندق فقال: «اذهبوا بنا إلى سلمان» وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال رسول الله ﷺ: «دعوني فأكون أول من ضربها» فقال: «بسم الله» فضربها، فوقعت فلقة ثلثها، فقال: «الله أكبر قصور الشام ورب الكعبة».
ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال: «الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة» فقال عندها المنافقون: نحن نخندق على أنفسنا، وهو يعدنا قصور فارس والروم.
ثم قال الحافظ البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا محمد بن غالب بن حرب، حدثنا هوذة، حدثنا عوف، عن ميمون بن أستاذ الزهري، حدثني البراء بن عازب الأنصاري قال:
لما كان حين أمرنا رسول الله ﷺ بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة، لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ، فلما رآها أخذ المعول وقال: «بسم الله» وضرب ضربة فكسر ثلثها.
وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله» ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض».
ثم ضرب الثالثة فقال: «بسم الله» فقطع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة» وهذا حديث غريب أيضا، تفرد به ميمون بن أستاذ هذا، وهو بصري روى عن البراء، وعبد الله بن عمرو وعنه حميد الطويل، والجريري، وعوف الأعرابي.
قال أبو حاتم، عن إسحاق بن منصور، عن ابن معين: كان ثقة.
وقال علي بن المديني: كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه.
وقال النسائي: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ضمرة، عن أبي زرعة السيباني، عن أبي سكينة - رجل من البحرين - عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: لما أمر رسول الله ﷺ بحفر الخندق، عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر.
فقام النبي ﷺ وأخذ المعول، ووضع رداءه ناحية الخندق، وقال: { وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله ﷺ برقة.
ثم ضرب الثانية وقال: { وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلمات الله وهو السميع العليم } فندر الثلث الآخر وبرقت برقة، فرآها سلمان.
ثم ضرب الثالثة وقال: { وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } فندر الثلث الباقي.
وخرج رسول الله ﷺ فأخذ رداءه وجلس، فقال سلمان: يا رسول الله رأيتك حين ضربت لا تضرب إلا كانت معها برقة، قال رسول الله ﷺ: «يا سلمان رأيت ذلك؟» قال: أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله.
قال: «فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها، ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني».
فقال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله ادع أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم. فدعا بذلك.
قال: «ثم ضربت الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها، حتى رأيتها بعيني» قالوا: يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم، فدعا.
ثم قال: «ثم ضربت الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى، حتى رأيتها بعيني».
ثم قال رسول الله ﷺ: «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك وما تركوكم هكذا» رواه النسائي مطولا وإنما روى منه أبو داود «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم» عن عيسى بن محمد الرملي، عن ضمرة بن ربيعة، عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني به.
ثم قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر، وزمان عثمان، وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة، ولا تفتحونها إلى يوم القيامة، إلا وقد أعطى الله محمدا ﷺ مفاتيحها قبل ذلك.
وهذا من هذا الوجه منقطع أيضا، وقد وصل من غير وجه ولله الحمد.
فقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي».
وقد رواه البخاري منفردا به عن يحيى بن بكير، وسعد بن عفير، كلاهما عن الليث به. وعنده قال أبو هريرة: فذهب رسول الله ﷺ وأنتم تنتثلونها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي» وهذا إسناد جيد قوي على شرط مسلم، ولم يخرجوه.
وفي الصحيحين: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله».
وفي الحديث الصحيح: «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها».
فصل نزول قريش بمجتمع الأسيال يوم الخندق
قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله ﷺ من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجرف وزغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمى، إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله ﷺ والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء، فجعلوا فوق الأطام.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم.
قلت: وهذا معنى قوله تعالى: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } [32].
قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قوله تعالى: { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار } قالت: ذلك يوم الخندق.
قال موسى بن عقبة: ولما نزل الأحزاب حول المدينة أغلق بنو قريظة حصنهم دونهم.
قال ابن إسحاق: وخرج حيي بن أخطب النضري، حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقدهم وعهدهم، فلما سمع به كعب أغلق باب حصنه دون حيي، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه: ويحك يا كعب افتح لي.
قال: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا.
قال: ويحك افتح لي أكلمك.
قال: ما أنا بفاعل، قال: والله إن أغلقت دوني إلا خوفا على جشيشتك أن آكل معك منها، فاحفظ الرجل، ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام.
قال: وما ذاك؟
قال: جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة وبغطفان، على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى، إلى جانب أحد، وقد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه.
فقال كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه، يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي! فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا وفاءً وصدقا.
وقد تكلم عمر بن سعد القرظي فأحسن فيما ذكره موسى بن عقبة: ذكرهم ميثاق رسول الله ﷺ وعهده ومعاقدتهم إياه على نصره وقال: إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوه.
قال ابن إسحاق: فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب، حتى سمع له - يعني في نقض عهد رسول الله ﷺ وفي محاربته مع الأحزاب - على أن أعطاه حيي عهد الله وميثاقه لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد العهد، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله ﷺ.
قال موسى بن عقبة: وأمر كعب بن أسد بنو قريظة حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش وغطفان رهائن، تكون عندهم لئلا ينالهم ضيم إن هم رجعوا ولم يناجزوا محمدا، قالوا: وتكون الرهائن تسعين رجلا من أشرافهم، فنازلهم حيي على ذلك، فعند ذلك نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد إلا بني سعنة أسد وأسيد وثعلبة، فإنهم خرجوا إلى رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: فلما انتهى الخبر إلى رسول الله ﷺ وإلى المسلمين، بعث سعد بن معاذ وهو يومئذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة وهو يومئذ سيد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير.
قال: «انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحقٌ ما بلغنا عنهم، فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس».
قال: فخرجوا حتى أتوهم.
قال موسى بن عقبة: فدخلوا معهم حصنهم، فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف، فقالوا: الآن وقد كسر جناحنا وأخرجهم يريدون بني النضير، ونالوا من رسول الله ﷺ، فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم، فأغضبوه فقال له سعد بن معاذ: إنا والله ما جئنا لهذا، ولما بيننا أكبر من المشاتمة.
ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال: إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة، وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير، أو أمر منه.
فقالوا: أكلت أير أبيك.
فقال: غير هذا من القول كان أجمل بكم وأحسن.
وقال ابن إسحاق: نالوا من رسول الله ﷺ وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد.
فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان رجلا فيه حدة فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم لما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله ﷺ فسلموا عليه، ثم قالوا: عضل والقارة أي: كغدرهم بأصحاب الرجيع: خبيب وأصحابه.
فقال رسول الله ﷺ: «الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين».
قال موسى بن عقبة: ثم تقنع رسول الله ﷺ بثوبه حين جاءه الخبر عن بني قريظة، فاضطجع ومكث طويلا، فاشتد على الناس البلاء والخوف حين رأوه اضطجع، وعرفوا أنه لم يأته عن بني قريظة خير، ثم إنه رفع رأسه وقال: «أبشروا بفتح الله ونصره».
فلما أن أصبحوا، دنا القوم بعضهم من بعض، وكان بينهم رمي بالنبل والحجارة.
قال سعيد بن المسيب: قال رسول الله ﷺ: «اللهم إني أسألك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد».
قال ابن إسحاق: وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير - أخو بني عمرو بن عوف -: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
وحتى قال أوس بن قيظي: يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك عن ملأ من رجال قومه، فأذن لنا أن نرجع إلى دارنا فإنها خارج من المدينة.
قلت: هؤلاء وأمثالهم المرادون بقوله تعالى: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارا } [33].
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله ﷺ مرابطا، وأقام المشركون يحاصرونه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بينهم حرب إلا الرميا بالنبل، فلما اشتد على الناس البلاء، بعث رسول الله ﷺ كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ومن لا أتهم عن الزهري إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه.
فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة، فلما أراد رسول الله ﷺ أن يفعل ذلك، بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به ولا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟
فقال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما»
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
فقال النبي ﷺ: «أنت وذاك» فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا عليها.
قال: فأقام النبي ﷺ وأصحابه محاصرين، ولم يكن بينهم وبين عدوهم قتال، إلا أن فوارس من قريش - منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أحد بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهر المخزوميان، وضرار بن الخطاب بن مرداس، أحد بني محارب بن فهر - تلبسوا للقتال.
ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع.
وخرج علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين، حتى أخذوا عليه الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما خرج هو وخيله قال: من يبارز؟
فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: يا عمرو إنك كنت هاعدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه.
قال: أجل.
قال له علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام.
قال: لا حاجة لي بذلك.
قال: فإني أدعوك إلى النزال.
قال له: لمَ يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك.
قال له علي: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه، فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه وخرجت خيلهم منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة.
قال ابن إسحاق: وقال علي بن أبي طالب في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصواب
فصدرت حين تركته متجدلا * كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو أنني * كنت المقطر بزَّنى أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه * ونبيه يا معشر الأحزاب
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر يشك فيها لعلي.
قال ابن هشام: وألقى عكرمة رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو، فقال في ذلك حسان بن ثابت:
فر وألقى لنا رمحه * لعلك عكرم لم تفعل
ووليت تعدو كعدو الظليـ * ـم ما إن يحور عن المعدل
ولم تلو ظهرك مستأنسا * كأن قفاك قفا فرعل
قال ابن هشام: الفراعل صغار الضباع.
وذكر الحافظ البيهقي في (دلائل النبوة): عن ابن إسحاق في موضع آخر من السيرة قال: خرج عمرو بن عبد ود وهو مقنع بالحديد، فنادى من يبارز؟
فقام علي بن أبي طالب فقال: أنا لها يا نبي الله.
فقال: «إنه عمرو اجلس».
ثم نادى عمرو: ألا رجل يبرز؟
فجعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها، أفلا تبرزون إلي رجلا؟
فقام علي فقال: أنا يا رسول الله؟
فقال: «اجلس».
ثم نادى الثالثة فقال:
ولقد بححت من النداء * لجمعهم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجع * موقف القرن المناجز
ولذاك إني لم أزل * متسرعا قبل الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى * والجود من خير الغرائز
قال: فقام علي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أنا.
فقال: «إنه عمرو».
فقال: وإن كان عمرا. فأذن له رسول الله ﷺ فمشى إليه حتى أتى وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتاك * مجيب صوتك غير عاجز
في نية وبصيرة * والصدق منجي كل فائز
إني لأرجو أن أقي * م عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء * يبقى ذكرها عند الهزاهز
فقال له عمرو: من أنت؟
قال: أنا علي.
قال: ابن عبد مناف؟
قال: أنا علي بن أبي طالب.
فقال: يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهريق دمك؟
فقال له علي: لكني والله لا أكره أن أهريق دمك، فغضب فنزل وسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضبا واستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو في درقته فقدها، وأثبت فيها السيف، وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله ﷺ التكبير، فعرفنا أن عليا قد قتله، فثم يقول علي:
أعلي تقتحم الفوارس هكذا * عني وعنهم أخروا أصحابي
اليوم يمنعني الفرار حفيظتي * ومصمم في الرأس ليس بنابي
إلى أن قال:
عبد الحجارة من سفاهة رأيه * وعبدت رب محمد بصواب
إلى آخرها.
قال: ثم أقبل علي نحو رسول الله ﷺ ووجهه يتهلل فقال له عمر بن الخطاب: هلا استلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منها؟ فقال: ضربته فاتقاني بسوءته، فاستحييت ابن عمي أن أسلبه.
قال: وخرجت خيوله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق.
وذكر ابن إسحاق فيما حكاه، عن البيهقي: أن عليا طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه، فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله ﷺ يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال: «هو لكم لا نأكل ثمن الموتى».
وقال الإمام أحمد: حدثنا نصر بن باب، حدثنا حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال: قتل المسلمون يوم الخندق رجلا من المشركين، فأعطوا بجيفته مالا، فقال رسول الله ﷺ: «ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية» فلم يقبل منهم شيئا.
وقد رواه البيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن حجاج وهو ابن أرطأة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن رجلا من المشركين قتل يوم الأحزاب، فبعثوا إلى رسول الله ﷺ: أن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم اثني عشر ألفا، فقال رسول الله ﷺ: «لا خير في جسده ولا في ثمنه».
وقد رواه الترمذي، من حديث سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وقال غريب.
وقد ذكر موسى بن عقبة: أن المشركين إنما بعثوا يطلبون جسد نوفل بن عبد الله المخزومي حين قتل، وعرضوا عليه الدية، فقال: «إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، فلا أرب لنا في ديته، ولسنا نمنعكم أن تدفنوه».
وذكر يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: وخرج نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، فسأل المبارزة فخرج إليه الزبير بن العوام، فضربه فشقه باثنتين حتى فلَّ في سيفه فلا، وانصرف وهو يقول:
إني امرؤ أحمي وأحتمي * عن النبي المصطفى الأمي
وقد ذكر ابن جرير: أن نوفلا لما تورط في الخندق رماه الناس بالحجارة، فجعل يقول قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب، فنزل إليه علي فقتله وطلب المشركون رمته من رسول الله ﷺ بالثمن، فأبى عليهم أن يأخذ منهم شيئا، ومكنهم من أخذه إليهم.
وهذا غريب من وجهين.
وقد روى البيهقي: من طريق حماد بن يزيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: جعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان في الأطم، ومعي عمر بن أبي سلمة، فجعل يطأطئ لي، فأصعد على ظهره فأنظر إليهم كيف يقتتلون، وأطأطئ له فيصعد فوق ظهري فينظر.
قال: فنظرت إلى أبي وهو يحمل مرة ها هنا ومرة ها هنا، فما يرتفع له شيء إلا أتاه، فلما أمسى جاءنا إلى الأطم.
قلت: يا أبة رأيتك اليوم وما تصنع.
قال: ورأيتني يا بني؟
قلت: نعم.
قال: فدى لك أبي وأمي.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، أخو بني حارثة: أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة.
قال: وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن.
قالت عائشة: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب. قالت: فمر سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربته يرفل بها ويقول:
لبّثْ قليلا يشهد الهيجا جمَل * لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت له أمه: الحق بني فقد والله أخرت.
قالت عائشة: فقلت لها يا أم سعد، والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي.
قالت: وخفت عليه، حيث أصاب السهم منه، فرُمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: رماه حيان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي، فلما أصابه قال: خذها مني وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك أنه كان يقول: ما أصاب سعدا يومئذ إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم.
وقد قال أبو أسامة في ذلك شعرا قاله لعكرمة بن أبي جهل:
أعكرم هلاّ لمتني إذ تقول لي * فداك بآطام المدينة خالدَ
ألست الذي ألزمت سعدا مريشة * لها بين أثناء المرافق عاند
قضى نحبه منها سعيد فأعولت * عليه مع الشمط العذارى النواهد
وأنت الذي دافعت عنه وقد دعا * عبيدة جمعا منهم إذ يكابد
على حين ما هم جائر عن طريقه * وآخر مرعوبٌ عن القصد قاصد
قال ابن إسحاق: والله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن هشام: ويقال إن الذي رمى سعدا خفاجة بن عاصم بن حبان.
قلت: وقد استجاب الله دعوة وليه سعد بن معاذ في بني قريظة، أقر الله عينه فحكم فيهم بقدرته وتيسيره، وجعلهم هم الذين يطلبون ذلك كما سيأتي بيانه، فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، حتى قال له رسول الله ﷺ: لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع، حصن حسان بن ثابت، قالت: وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان، فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله ﷺ وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله ﷺ والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إذ أتانا آت.
فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما أمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل رسول الله ﷺ وأصحابه فانزل إليه فاقتله.
قال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.
قالت: فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت، ثم أخذت عمودا، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل فاستلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل.
قال: مالي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب.
قال موسى بن عقبة: وأحاط المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم، فحاصروهم قريبا من عشرين ليلة، وأخذوا بكل ناحية حتى لا يدرى أتم أم لا.
قال: ووجهوا نحو منزل رسول الله ﷺ كتيبة غليظة، فقاتلوهم يوما إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة، فلم يقدر النبي ﷺ ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا، فانكفأت الكتيبة مع الليل، فزعموا أن رسول الله ﷺ قال: «شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقلوبهم» وفي رواية «وقبورهم نارا».
فلما اشتد البلاء نافق ناس كثير، وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله ﷺ ما بالناس من البلاء والكرب، جعل يبشرهم ويقول: «والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق أمنا، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله».
وقد قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا روح، حدثنا هشام، عن محمد، عن عبيدة، عن علي، عن النبي ﷺ أنه قال يوم الخندق: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس».
وهكذا رواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي به.
ورواه مسلم والترمذي، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن عبيدة، عن علي به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
ثم قال البخاري: حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب.
قال النبي ﷺ: «والله ما صليتها» فنزلنا مع رسول الله ﷺ بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.
وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم، والترمذي، والنسائي من طرق، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت، حدثنا هلال، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قاتل النبي ﷺ عدوا، فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها، فلما رأى ذلك قال: «اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى فاملأ بيوتهم نارا، واملأ قبورهم نارا» ونحو ذلك تفرد به أحمد، وهو من رواية هلال بن خباب العبدي الكوفي، وهو ثقة يصحح له الترمذي وغيره.
وقد استدل طائفة من العلماء بهذه الأحاديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، كما هو منصوص عليه في هذه الأحاديث، وألزم القاضي الماوردي مذهب الشافعي بهذا لصحة الحديث.
وقد حررنا ذلك نقلا واستدلالا عند قوله تعالى: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } خطأ استشهاد: إغلاق </ref>
مفقود لوسم <ref>
.
قال: فدعا رسول الله ﷺ بلالا فأمره، فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك، وذلك قبل أن ينزل.
قال حجاج في صلاة الخوف: { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانا } [34].
وقد رواه النسائي عن الفلاس، عن يحيى القطان، عن ابن أبي ذئب به.
قال: شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس فذكره.
وقال أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا أبو الزبير، عن نافع بن جبير، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه: أن المشركين شغلوا رسول الله ﷺ يوم الخندق عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء الله.
قال: فأمر بلالا فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا مؤمل - يعني ابن إسماعيل- حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن عبد الكريم - يعني ابن أبي المخارق- عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله:
أن النبي ﷺ شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى الظهر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العشاء، ثم قال: «ما على وجه الأرض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم».
تفرد به البزار وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد رواه بعضهم، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن أبي عبيدة، عن عبد الله.
فصل في دعائه عليه السلام على الأحزاب
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا الزبير - يعني ابن عبد الله - حدثنا ربيح بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟
قال: «نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا».
قال: فضرب الله وجوه أعدائه بالريح.
وقد رواه ابن أبي حاتم في (تفسيره) عن أبيه، عن أبي عامر - وهو العقدي - عن الزبير بن عبد الله مولى عثمان بن عفان، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه عن أبي سعيد، فذكره وهذا هو الصواب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين، عن ابن أبي ذئب، عن رجل من بني سلمة، عن جابر بن عبد الله: أن النبي ﷺ أتى مسجد الأحزاب فوضع رداءه، وقام ورفع يديه مدا يدعو عليهم ولم يصل.
قال: ثم جاء ودعا عليهم وصلى.
وثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله ﷺ على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» وفي الرواية: «اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم».
وروى البخاري، عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ كان يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده».
وقال ابن إسحاق: وأقام رسول الله ﷺ وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
قال: ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت.
فقال رسول الله ﷺ: «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم.
قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم.
فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها.
وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه.
قالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب، ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني.
قالوا: نفعل.
قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم؟
فأرسل إليهم: أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا، ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني.
قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.
قال: فاكتموا عني.
قالوا: نفعل، ثم قال لهم ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنيع الله تعالى لرسوله ﷺ أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان، إلى بني قريظة: عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان.
فقال لهم: إنا لسنا بدار مقام، هلك الخف والحافر، فأعدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه.
فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابهم ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك منه.
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا ولله لا ندفع إليكم رجلا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم.
فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله ما نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم، وبعث الله الريح في ليلة شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم.
وهذا الذي ذكره ابن إسحاق من قصة نعيم بن مسعود أحسن مما ذكره موسى بن عقبة.
وقد أورده عنه البيهقي في (الدلائل) فإنه ذكر ما حاصله: أن نعيم بن مسعود كان يذيع ما يسمعه من الحديث، فاتفق أنه مر برسول الله ﷺ ذات يوم عشاء، فأشار إليه أن تعال، فجاء فقال: «ما وراءك؟».
فقال: إنه قد بعثت قريش وغطفان إلى بني قريظة يطلبون منهم أن يخرجوا إليهم فيناجزوك، فقالت قريظة: نعم، فأرسلوا إلينا بالرهن، وقد ذكر فيما تقدم: أنهم إنما نقضوا العهد على يدي حيي بن أخطب، بشرط أن يأتيهم برهائن تكون عندهم توثقة.
قال: فقال له رسول الله ﷺ: «إني مسر إليك شيئا فلا تذكره» قال: «إنهم قد أرسلوا إلي يدعونني إلى الصلح، وأرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم».
فخرج نعيم بن مسعود عامدا إلى غطفان، وقال رسول الله ﷺ: «الحرب خدعة، وعسى أن يصنع الله لنا».
فأتى نعيم غطفان وقريشا فأعلمهم، فبادر القوم وأرسلوا إلى بني قريظة عكرمة وجماعة معه، واتفق ذلك ليلة السبت، يطلبون منهم أن يخرجوا للقتال معهم، فاعتلت اليهود بالسبت، ثم أيضا طلبوا الرهن توثقة، فأوقع الله بينهم واختلفوا.
قلت: وقد يحتمل أن تكون قريظة لما يئسوا من انتظام أمرهم مع قريش وغطفان، بعثوا إلى رسول الله ﷺ يريدون منه الصلح على أن يرد بني النضير إلى المدينة، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جمعهم، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله أرأيتم رسول الله ﷺ وصحبتموه؟
قال: نعم يا ابن أخي.
قال: فكيف كنتم تصنعون؟
قال: والله لقد كنا نجتهد.
قال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.
قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله ﷺ بالخندق، وصلى رسول الله ﷺ هويا من الليل، ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقول فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع - فشرط له رسول الله ﷺ الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة؟
فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد، فلما لم يقم أحد دعاني، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال: «يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا».
قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه؟
قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت؟
قال: فلان ابن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل.
ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله ﷺ إلي لا تحدث شيئا حتى تأتيني لقتلته بسهم.
قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله ﷺ وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل، فلما رآني أدخلني إلى رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم، وهذا منقطع من هذا الوجه.
وقد روى هذا الحديث مسلم بن الحجاج في صحيحه: من حديث الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال له رجل: لو أدركت رسول الله ﷺ قاتلت معه وأبليت، فقال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟
لقد رأيتنا مع رسول الله ﷺ ليلة الأحزاب، في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله ﷺ: «ألا رجل يأتيني بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة؟» فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله.
ثم قال: «يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم» فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال: «اذهب ائتني بخبر القوم، ولا تذعرهم عليَّ».
قال: فمضيت، كأنما أمشي في حمام، حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد قوسي وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله ﷺ: «لا تذعرهم علي» ولو رميته لأصبته.
فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت رسول الله ﷺ، فأصابني برد حين رجعت وقررت، فأخبرت رسول الله ﷺ، وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أبرح نائما حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله ﷺ: «قم يا نومان».
وقد روى الحاكم والحافظ البيهقي في (الدلائل) هذا الحديث مبسوطا من حديث عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، قال: ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله ﷺ فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا.
فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحا منها في أصوات ريحها، أمثال الصواعق وهي ظلمة، ما يرى أحدنا أصبعه.
فجعل المنافقون يستأذنون النبي ﷺ ويقولون: إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم ويتسللون، ونحن ثلاثمائة ونحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله ﷺ رجلا رجلا.
حتى أتى عليَّ وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي، ما يجاوز ركبتي، قال: فأتاني وأنا جاث على ركبتي، فقال: «من هذا؟» فقلت: حذيفة، فقال: «حذيفة!» فتقاصرت للأرض، فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم، فقمت فقال: «إنه كائن في القوم خبر، فأتني بخبر القوم» قال: وأنا من أشد الناس فزعا، وأشدهم قرا.
قال: فخرجت، فقال رسول الله ﷺ: «اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته».
قال: فوالله ما خلق الله فزعا، ولا قرا في جوفي، إلا خرج من جوفي فما أجد فيه شيئا.
قال: فلما وليت، قال: «يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني».
قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم، نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم، يقول بيديه على النار، ويمسح خاصرته، ويقول: الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك.
فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله ﷺ: «لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني» فأمسكت، ورددت سهمي إلى كنانتي.
ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل، لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضرب بها.
ثم إني خرجت نحو رسول الله ﷺ، فلما انتصفت بي الطريق أو نحو من ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاه.
قال: فرجعت إلى رسول الله ﷺ وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول الله ﷺ بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل علي شملته، وكان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم، أخبرته أني تركتهم يرحلون.
قال: وأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا } [35] يعني الآيات كلها، إلى قوله: { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا } [36].
أي: صرف الله عنهم عدوهم، بالريح التي أرسلها عليهم والجنود من الملائكة وغيرهم، التي بعثها الله إليهم، وكفى الله المؤمنين القتال أي: لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم، بل صرفهم القوي العزيز بحوله وقوته.
لهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ﷺ يقول: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده».
وفي قوله: { وكفى الله المؤمنين القتال } إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبينهم، وهكذا وقع ولم ترجع قريش بعدها إلى حرب المسلمين، كما قال محمد بن إسحاق رحمه الله.
فلما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله ﷺ فيما بلغنا: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم، ولكنكم تغزونهم» قال: فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة، وهذا بلاغ من ابن إسحاق.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق، سمعت سليمان بن صرد رضي الله عنه يقول: قال رسول الله ﷺ: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا».
وهكذا رواه البخاري من حديث إسرائيل، وسفيان الثوري، كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي، عن سليمان بن صرد به.
قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم الخندق ثلاثة من بني عبد الأشهل، وهم: سعد بن معاذ - وستأتي وفاته مبسوطة - وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة الجشميان السلميان، وكعب بن زيد النجاري، أصابه سهم غرب فقتله.
قال: وقُتل من المشركين ثلاثة وهم: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، اقتحم الخندق بفرسه فتورط فيه فقتل هناك، وطلبوا جسده بثمن كبير كما تقدم، وعمرو بن عبد ود العامري، قتله علي بن أبي طالب.
قال ابن هشام: وحدثني الثقة أنه حدث عن الزهري أنه قال: قتل علي يومئذ عمرو بن عبد ود، وابنه حسل بن عمرو.
قال ابن هشام: ويقال عمرو بن عبد ود، ويقال عمرو بن عبد.
فصل في غزوة بني قريظة
وما أحل الله تعالى بهم من البأس الشديد، مع ما أعد الله لهم في الآخرة من العذاب الأليم، وذلك لكفرهم ونقضهم العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله ﷺ، وممالأتهم الأحزاب عليه، فما أجدى ذلك عنهم شيئا، وباؤا بغضب من الله ورسوله، والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة.
وقد قال الله تعالى: { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرا } [37].
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا عبد الله، حدثنا موسى بن عقبة، عن سالم ونافع عن عبد الله أن رسول الله ﷺ كان إذا قفل من الغزو والحج والعمرة، يبدأ فيكبر ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».
قال محمد بن إسحاق رحمه الله: ولما أصبح رسول الله ﷺ انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة و المسلمون، ووضعوا السلاح، فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله ﷺ، كما حدثني الزهري معتجرا بعمامة من استبرق، على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟
قال: «نعم» فقال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم.
فأمر رسول الله ﷺ مؤذنا فأذن في الناس: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة».
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
وقال البخاري: حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما رجع النبي ﷺ من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل، أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح والله ما وضعناه! فاخرج إليهم.
قال: «فإلى أين؟» قال: ها هنا، وأشار إلى بني قريظة. فخرج النبي ﷺ.
وقال أحمد: وحدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله ﷺ لما فرغ من الأحزاب دخل المغتسل ليغتسل، وجاء جبريل فرأيته من خلل البيت قد عصب رأسه الغبار، فقال: يا محمد أوضعتم أسلحتكم؟
فقال: «وضعنا أسلحتنا» فقال: إنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهد إلى بني قريظة.
ثم قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جرير بن حازم، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل، حين سار رسول الله ﷺ إلى بني قريظة.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ يوم الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي العصر حتى نأتيها.
وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي ﷺ فلم يعنف واحدا منهم.
وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد بن أسماء به.
وقال الحافظ البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن خالد بن علي، حدثنا بشر بن حرب، عن أبيه، حدثنا الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عمه عبيد الله أخبره:
أن رسول الله ﷺ لما رجع من طلب الأحزاب، وضع عنه اللأمة واغتسل واستحم، فتبدى له جبريل عليه السلام فقال: عذيرك من محارب إلا أراك قد وضعت اللأمة، وما وضعناها بعد.
قال: فوثب النبي ﷺ فزعا، فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر إلا في بني قريظة، قال: فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروب الشمس.
فقال بعضهم: إن رسول الله ﷺ عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله ﷺ، فليس علينا إثم. وصلى طائفة من الناس احتسابا، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس، فصلوها حين جاؤوا بني قريظة احتسابا فلم يعنف رسول الله ﷺ واحدا من الفريقين.
ثم روى البيهقي من طريق عبد الله العمري، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان عندها فسلم علينا رجل ونحن في البيت، فقام رسول الله ﷺ فزعا، وقمت في أثره فإذا بدحية الكلبي.
فقال: «هذا جبريل أمرني أن أذهب إلى بني قريظة» وقال: «قد وضعتم السلاح، لكنا لم نضع، طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد» وذلك حين رجع رسول الله ﷺ من الخندق.
فقام رسول الله ﷺ فزعا، وقال لأصحابه: «عزمت عليكم أن لا تصلوا صلاة العصر حتى تأتوا بني قريظة» فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقالت طائفة من المسلمين:
إن رسول الله ﷺ لم يرد أن تدعوا الصلاة فصلوا، وقالت طائفة: والله إنا لفي عزيمة رسول الله ﷺ وما علينا من إثم، فصلت طائفة إيمانا واحتسابا، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا، ولم يعنف رسول الله ﷺ واحدا من الفريقين.
وخرج رسول الله ﷺ فمر بمجالس بينه وبين بني قريظة، فقال: «هل مر بكم أحد؟» فقالوا: مر علينا دحية الكلبي، على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج، فقال: «ذلك جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم، ويقذف في قلوبهم الرعب».
فحاصرهم النبي ﷺ، وأمر أصحابه أن يستروه بالجحف حتى يسمع كلامهم فناداهم: يا إخوة القردة والخنازير.
فقالوا: يا أبا القاسم لم تكن فحاشا، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ.
وكانوا حلفاءه فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم.
ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها.
وقد اختلف العلماء في المصيب من الصحابة يومئذ من هو؟ بل الإجماع على أن كلا من الفريقين مأجور ومعذور غير معنف، فقالت طائفة من العلماء: الذين أخروا الصلاة يومئذ عن وقتها المقدر لها حتى صلوها في بني قريظة هم المصيبون، لأن أمرهم يومئذ تأخير الصلاة خاص فيقدم على عموم الأمر بها في وقتها المقدر لها شرعا.
قال أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب (السيرة): وعلم الله أنا لو كنا هناك، لم نصل العصر إلا في بني قريظة، ولو بعد أيام.
وهذا القول منه ماش على قاعدته الأصلية في الأخذ بالظاهر.
وقالت طائفة أخرى من العلماء: بل الذين صلوا الصلاة في وقتها، لما أدركتهم وهم في مسيرهم هم المصيبون، لأنهم فهموا أن المراد إنما هو تعجيل السير إلى بني قريظة، لا تأخير الصلاة، فعملوا بمقتضى الأدلة الدالة على أفضلية الصلاة في أول وقتها، مع فهمهم عن الشارع ما أراد، ولهذا لم يعنفهم، ولم يأمرهم بإعادة الصلاة في وقتها التي حولت إليه يومئذ كما يدعيه أولئك.
وأما أولئك الذين أخروا فعذروا بحسب ما فهموا، وأكثر ما كانوا يؤمرون بالقضاء، وقد فعلوه.
وأما على قول من يجوز تأخير الصلاة لعذر القتال، كما فهمه البخاري، حيث احتج على ذلك بحديث ابن عمر المتقدم في هذا، فلا إشكال على من أخر، ولا على من قدم أيضا، والله أعلم.
ثم قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب، ومعه رايته، وابتدرها الناس.
وقال موسى بن عقبة في (مغازيه) عن الزهري: فبينما رسول الله ﷺ في مغتسله كما يزعمون، قد رجل أحد شقيه، أتاه جبريل على فرس، عليه لأمته، حتى وقف بباب المسجد، عند موضع الجنائز، فخرج إليه رسول الله ﷺ فقال له جبريل: غفر الله لك، أو قد وضعت السلاح؟
قال: «نعم» فقال جبريل: لكنا لم نضعه منذ نزل بك العدو، وما زلت في طلبهم حتى هزمهم الله - ويقولون إن على وجه جبريل لأثر الغبار - فقال له جبريل: إن الله قد أمرك بقتال بني قريظة، فأنا عامد إليهم بمن معي من الملائكة نزلزل بهم الحصون، فاخرج بالناس.
فخرج رسول الله ﷺ في أثر جبريل، فمر على مجلس بني غنم وهم ينتظرون رسول الله ﷺ فسألهم فقال: «مر عليكم فارس آنفا؟» قالوا: مر علينا دحية الكلبي على فرس أبيض، تحته نمط أو قطيفة ديباج، عليه اللأمة.
فذكروا أن رسول الله ﷺ قال: «ذاك جبريل».
وكان رسول الله ﷺ يشبه دحية الكلبي بجبريل، فقال: «ألحقوني ببني قريظة، فصلوا فيهم العصر» فقاموا وما شاء الله من المسلمين، فانطلقوا إلى بني قريظة، فحانت صلاة العصر وهم بالطريق، فذكروا الصلاة فقال بعضهم لبعض: ألم تعلموا أن رسول الله ﷺ أمركم أن تصلوا العصر في بني قريظة.
وقال آخرون: هي الصلاة، فصلى منهم قوم، وأخرت طائفة الصلاة حتى صلوها في بني قريظة بعد أن غابت الشمس، فذكروا لرسول الله ﷺ من عجل منهم الصلاة، ومن أخرها، فذكروا أن رسول الله ﷺ لم يعنف واحدا من الفريقين.
قال: فلما رأى علي بن أبي طالب رسول الله ﷺ مقبلا، تلقاه وقال: ارجع يا رسول الله فإن الله كافيك اليهود.
وكان علي قد سمع منهم قولا سيئا لرسول الله ﷺ وأزواجه رضي الله عنهن، فكره أن يسمع ذلك رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: «لمَ تأمرني بالرجوع؟» فكتمه ما سمع منهم.
فقال: «أظنك سمعت فيَّ منهم أذى، فامض فإن أعداء الله لو رأوني لم يقولوا شيئا مما سمعت».
فلما نزل رسول الله ﷺ بحصنهم، وكانوا في أعلاه نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافهم حتى أسمعهم فقال: «أجيبوا يا معشر يهود، يا إخوة القردة، قد نزل بكم خزي الله عز وجل»
فحاصرهم رسول الله ﷺ بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، ورد الله حيي بن أخطب حتى دخل حصن بني قريظة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، فصرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر - وكانوا حلفاء الأنصار - فقال أبو لبابة: لا آتيهم حتى يأذن لي رسول الله ﷺ.
فقال له رسول الله ﷺ: «قد أذنت لك» فأتاهم أبو لبابة فبكوا إليه، وقالوا: يا أبا لبابة ماذا ترى، وماذا تأمرنا، فإنه لا طاقة لنا بالقتال.
فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، وأمر عليه أصابعه، يريهم إنما يراد بهم القتل.
فلما انصرف أبو لبابة سقط في يده، ورأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة، فقال: والله لا أنظر في وجه رسول الله ﷺ، حتى أحدث لله توبة نصوحا يعلمها الله من نفسي.
فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد، وزعموا أنه ارتبط قريبا من عشرين ليلة.
فقال رسول الله ﷺ حين غاب عليه أبو لبابة: «أما فرغ أبو لبابة من حلفائه؟» فذكر له ما فعل. فقال: «لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت له، وإذ قد فعل هذا فلن أحركه من مكانه، حتى يقضي الله فيه ما يشاء.
وهكذا رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة.
وكذا ذكره محمد بن إسحاق في (مغازيه) في مثل سياق موسى بن عقبة، عن الزهري، ومثل رواية أبي الأسود عن عروة.
قال ابن إسحاق: ونزل رسول الله ﷺ على بئر من آبار بني قريظة، من ناحية أموالهم، يقال لها بئر أنى، فحصرهم خمسا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب.
وقد كان حيي بن أخطب دخل معهم حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاءً لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه.
فلما أيقنوا أن رسول الله ﷺ غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر، ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا بما شئتم منها.
قالوا: وما هن؟
قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتُأمنون به على دمائكم، وأموالكم، وأبنائكم، ونسائكم قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم عليَّ هذه فهلم، فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه، رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك، ولم نترك نسلا نخشى عليه، وإن نظهر، فلعمري لنجدن النساء والأبناء.
قالوا: أنقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير العيش بعدهم؟
قال: فإن أبيتم علي هذه، فالليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة.
قالوا: أنفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عنك، من المسخ فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما.
ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله ﷺ أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله ﷺ فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقالوا يا أبا لبابة: أترى أن ننزل على حكم محمد؟
قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح.
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله ﷺ حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله أن لا أطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
قال ابن هشام: وأنزل الله فيما قال سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [38].
قال ابن هشام: أقام مرتبطا ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة، فتحله حتى يتوضأ ويصلي، ثم يرتبط حتى نزلت توبته في قوله تعالى: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحا وَآخَرَ سَيِّئا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [39].
وقول موسى بن عقبة: إنه مكث عشرين ليلة مرتبطا به، والله أعلم.
وذكر ابن إسحاق: أن الله أنزل توبته على رسوله من آخر الليل وهو في بيت أم سلمة، فجعل يبتسم، فسألته أم سلمة فأخبرها بتوبة الله على أبي لبابة، فاستأذنته أن تبشره فأذن لها، فخرجت فبشرته، فثار الناس إليه يبشرونه، وأرادوا أن يحلوه من رباطه، فقال: والله لا يحلني إلا رسول الله ﷺ، فلما خرج رسول الله ﷺ إلى صلاة الفجر حله من رباطه، رضي الله عنه وأرضاه.
قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم أسلموا في تلك الليلة التي أنزلت فيها قريظة على حكم رسول الله ﷺ، وخرج في تلك عمرو بن سُعدى القرظي فمر بحرس رسول الله ﷺ وعليهم محمد بن مسلمة تلك الليلة، فلما رآه قال: من هذا؟
قال: أنا عمرو بن سعدى - وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله ﷺ وقال: لا أغدر بمحمد أبدا - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه:
اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، ثم خلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله ﷺ بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب لم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا، فذكر شأنه لرسول الله ﷺ فقال: «ذاك رجل نجاه الله بوفائه».
قال: وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة، فأصبحت رمته ملقاة ولم يدر أين ذهب، فقال رسول الله ﷺ فيه تلك المقالة، والله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن إسحاق: فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله ﷺ، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت، يعنون عفوه عن بني قينقاع، حين سأله فيهم عبد الله ابن أبيّ كما تقدم.
قال ابن إسحاق: فلما كلمته الأوس قال رسول الله ﷺ: «يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟».
قالوا: بلى.
قال: «فذلك إلى سعد بن معاذ».
وكان رسول الله ﷺ قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده، وكانت تداوي الجرحى، فلما حكمه في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما جميلا.
ثم أقبلوا معه إلى رسول الله ﷺ وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله ﷺ إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله ﷺ والمسلمين، قال رسول الله ﷺ: «قوموا إلى سيدكم».
فأما المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: قد عم رسول الله ﷺ المسلمين، فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمر إن رسول الله ﷺ قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.
فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، إن الحكم فيهم لما حكمت؟
قالوا: نعم.
قال: وعلي من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله ﷺ، وهو معرض عن رسول الله ﷺ إجلالا له، فقال رسول الله ﷺ: «نعم».
قال سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي قال: قال رسول الله ﷺ لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة».
وقال ابن هشام: حدثني من أثق به من أهل العلم: إن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير بن العوام وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو أقتحم حصنهم.
فقالوا: يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمعت أبا أمامة بن سهل، سمعت أبا سعيد الخدري قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ قال: فأرسل رسول الله ﷺ إلى سعد فأتاه على حمار، فلما دنا قريبا من المسجد قال:
قال رسول الله ﷺ: «قوموا لسيدكم أو خيركم» ثم قال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك.
قال: نقتل مقاتلتهم ونسبي ذريتهم.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «قضيت بحكم الله» وربما قال: «قضيت بحكم الملك» وفي رواية «الملك» أخرجاه في الصحيحين من طرق عن شعبة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجين، ويونس قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أنه قال: رمى يوم الأحزاب سعد بن معاذ فقطعوا أكحله، فحسمه رسول الله ﷺ بالنار، فانتفخت يده فنزفه فحسمه أخرى، فانتفخت يده فنزفه.
فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقه فما قطر قطرة حتى نزلوا على حكم سعد، فأرسل إليه فحكم أن تقتل رجالهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم، يستعين بهم المسلمون.
فقال رسول الله ﷺ: «أصبت حكم الله فيهم» وكانوا أربعمائة، فلما فرغ من قتلهم انفتق عرقه فمات.
وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة، عن الليث به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، عن هشام، أخبرني أبي عن عائشة قالت: لما رجع رسول الله ﷺ من الخندق ووضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل وعلى رأسه الغبار فقال: قد وضعت السلاح، فوالله ما وضعتها، أُخرج إليهم.
قال رسول الله ﷺ: «فأين؟» قال: ها هنا، وأشار إلى بني قريظة، فخرج رسول الله ﷺ إليهم.
قال هشام: فأخبرني أبي أنهم نزلوا على حكم النبي ﷺ، فرد الحكم فيهم إلى سعد، قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية وتقسم أموالهم.
قال هشام: قال أبي: فأخبرت أن رسول الله ﷺ قال: «لقد حكمت فيهم بحكم الله».
وقال البخاري: حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له: حِبَّان بن العرقة، رماه في الأكحل، فضرب النبي ﷺ خيمة في المسجد ليعوده من قريب.
فلما رجع رسول الله ﷺ من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعته، أُخرج إليهم.
قال النبي ﷺ: «فأين؟» فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله ﷺ، فنزلوا على حكمه، فرد الحكم إلى سعد، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم.
قال هشام: فأخبرني أبي عن عائشة: أن سعدا قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء، فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتي فيها.
فانفجرت من لبته، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا هو سعد يغدو جرحه دما فمات منها.
وهذا رواه مسلم من حديث عبد الله بن نمير به.
قلت: كان دعا أولا بهذا الدعاء قبل أن يحكم في بني قريظة ولهذا قال فيه: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة فاستجاب الله له، فلما حكم فيهم وأقر الله عينه أيَّ قرار، دعا ثانيا بهذا الدعاء، فجعلها الله له شهادة رضي الله عنه وأرضاه. وسيأتي ذكر وفاته قريبا إن شاء الله.
وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر عن عائشة مطولا جدا وفيه فوائد فقال: حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة بن وقاص قال: أخبرتني عائشة قالت: خرجت يوم الخندق أقفو الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة.
قالت: فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه، فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت: وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، فمر وهو يرتجز ويقول:
لبث قليلا يدركَ الهيجا جملٌ * ما أحسنَ الموت إذا حانَ الأجل
قالت: فقمت فاقتحمت حديقة فإذا نفر من المسلمين، فإذا فيها عمر بن الخطاب، وفيهم رجل عليه سبغة له - تعني المغفر - فقال عمر: ما جاء بك والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوّز، فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض فتحت ساعتئذ فدخلت فيها.
فرفع الرجل السبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيد الله فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عز وجل.
قالت: ويرمي سعدا رجل من قريش يقال له: ابن العرقة وقال: خذها، وأنا ابن العرقة، فأصاب أكحله فقطعه، فدعا الله سعد فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
قالت: وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، قالت: فرقأ كلمة، وبعث الله الريح على المشركين، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا.
فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله ﷺ إلى المدينة، وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد في المسجد.
قالت: فجاء جبريل وإن على ثناياه لنقع الغبار، فقال: أقد وضعت السلاح لا والله ما وضعت الملائكة السلاح بعد، أخرج إلى بني قريظة فقاتلهم.
قالت: فلبس رسول الله ﷺ لأمته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، فمر على بني غنم وهم جيران المسجد حوله فقال: «من مر بكم؟».
قالوا: مر بنا دحية الكلبي - وكان دحية الكلبي تشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه السلام - فأتاهم رسول الله ﷺ فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة.
فلما اشتد حصرهم، واشتد البلاء قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله ﷺ، فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله ﷺ: «انزلوا على حكم سعد بن معاذ».
فأُتي به على حمار عليه أكاف من ليف قد حمل عليه، وحف به قومه فقالوا: يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت، قالت: ولا يرجع إليهم شيئا، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم.
قالت: قال أبو سعيد: فلما طلع قال رسول الله ﷺ: «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» قال عمر: سيدنا الله، قال: «أنزلوه» فأنزلوه.
قال رسول الله ﷺ: «اُحكم فيهم» فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم.
فقال رسول الله ﷺ: «لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله».
ثم دعا سعد فقال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئا فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك.
قالت: فانفجر كلمه، وكان قد برئ حتى لا يرى منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله ﷺ.
قالت عائشة: فحضره رسول الله ﷺ، وأبو بكر، وعمر قالت: فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر، من بكاء أبي بكر، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله: { رحماء بينهم } .
قال علقمة: فقلت: يا أمة فكيف كان رسول الله ﷺ يصنع؟
قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته.
وهذا الحديث إسناده جيد، وله شواهد من وجوه كثيرة، وفيه التصريح بدعاء سعد مرتين مرة قبل حكمه في بني قريظة، ومرة بعد ذلك كما قلناه أولا، ولله الحمد والمنة، وسنذكر كيفية وفاته ودفنه وفضله في ذلك رضي الله عنه وأرضاه، بعد فراغنا من القصة.
قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله ﷺ بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار قلت: هي نسيبة ابنة الحارث بن كرز بن حبيب بن عبد شمس، وكانت تحت مسيلمة الكذاب، ثم خلف عليها عبد الله بن عامر بن كريز.
ثم خرج ﷺ إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، فخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد، رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة. والمكثر لهم يقول: كانوا ما بين الثمانمائة والتسعمائة.
قلت: وقد تقدم فيما رواه الليث عن أبى الزبير عن جابر: أنهم كانوا أربعمائة، فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: وقد قالوا لكعب بن أسد، وهم يُذهب بهم إلى رسول الله ﷺ أرسالا: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون، ألا ترون الداعي لا ينزع، ومن ذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل.
فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم، وأُتي بحيي بن أخطب وعليه حلة له فقاحية، قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل.
فلما نظر إلى رسول الله ﷺ قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل.
ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوال الثعلبي:
لعمرك ما لام ابن أخطبَ نفسه * ولكنه مَنْ يخذلِ الله يخُذل
لجاهدَ حتى أبلغَ النفس عُذرها * وقلقل يبغي العزّ كل مقلقل
وذكر ابن إسحاق قصة الزبير بن باطا، وكان شيخا كبيرا قد عمي، وكان قد منَّ يوم بعاث على ثابت بن قيس بن شماس، وجزَّ ناصيته، فلما كان هذا اليوم أراد أن يكافئه فجاءه فقال: هل تعرفني يا أبا عبد الرحمن؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ فقال له ثابت: أريد أن أكافئك فقال: إن الكريم يجزي الكريم.
فذهب ثابت إلى رسول الله ﷺ فاستطلقه فأطلقه له، ثم جاءه فأخبره فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ فذهب إلى رسول الله ﷺ فاستطلق له امرأته وولده، فأطلقهم له ثم جاءه فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك؟
فأتى ثابت إلى رسول الله ﷺ فاستطلق مال الزبير بن باطا فأطلقه له، ثم جاءه فأخبره فقال له: يا ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى حي كعب بن أسد؟
قال: قتل.
قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟
قال: قتل.
قال: قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا: عزال بن شموال؟
قال: قتل.
قال: فما فعل المجلسان؟ - يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة - قال: ذهبوا قتلوا.
قال: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله فيلة دلو ناضح، حتى ألقى الأحبة. فقدمه ثابت فضربت عنقه.
فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله: ألقى الأحبة، قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا.
قال ابن إسحاق: فيلة بالفاء والياء المثناة من أسفل.
وقال ابن هشام: بالقاف والباء الموحدة.
وقال ابن هشام: الناضح البعير الذي يستقي عليه الماء لسقي النخل.
وقال أبو عبيدة: معناه إفراغه دلو.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ قد أمر كل بقتل من أنبت منهم.
فحدثني شعبة بن الحجاج عن عبد الملك بن عُمير، عن عطية القرظي قال: كان رسول الله ﷺ قد أمر أن يقتل من بني قريظة كل من أنبت منهم، وكنت غلاما فوجدوني لم أنبت، فخلوا سبيلي.
ورواه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي نحوه.
وقد استدل به من ذهب من العلماء إلى أن إنبات الشعر الخشن حول الفرج دليل على البلوغ، بل هو بلوغ في أصح قولي الشافعي، ومن العلماء من يقرن بين صبيان أهل الذمة يكون بلوغا في حقهم دون غيرهم، لأن المسلم قد يتأذى بذلك لمقصد.
وقد روى ابن إسحاق عن أيوب بن عبد الرحمن، أن سلمى بنت قيس، أم المنذر استطلقت من رسول الله ﷺ رفاعة بن شموال، وكان قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك فأطلقه لها، وكانت قالت: يا رسول الله إن رفاعة يزعم أنه سيصلى ويأكل لحمل الجمل، فأجابها إلى ذلك فأطلقه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، قالت: والله إنها لعندي تحدث معي، تضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله ﷺ يقتل رجالها في السوق، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟
قالت: أنا والله، قالت: قلت لها: ويلك مالك؟ قالت: أقتل! قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته، قالت: فانطلق بها فضربت عنقها.
وكانت عائشة تقول: فوالله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل.
وهكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه عن محمد بن إسحاق به.
قال ابن إسحاق: هي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته، يعني: فقتلها رسول الله ﷺ به.
قال ابن إسحاق في موضع آخر: وسماها نباتة امرأة الحكم القرظي.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله ﷺ قسَّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، بعد ما أخرج الخمس، وقسَّم للفارس ثلاثة أسهم، سهمين للفرس، وسهما لراكبه، وسهما للراجل، وكانت الخيل يومئذ ستا وثلاثين.
قال: وكان أول فيء وقعت فيه السهمان وخمس.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله ﷺ سعيد بن زيد بسبايا من بني قريظة إلى نجد، فابتاع بها خيلا وسلاحا.
وكان رسول الله ﷺ قد اصطفى من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، وكان عليها حتى توفي عنها، وهي في ملكه، وقد كان رسول الله ﷺ عرض عليها الإسلام فامتنعت، ثم أسلمت بعد ذلك.
فسُر رسول الله ﷺ بإسلامها، وقد عرض عليها أن يعتقها ويتزوجها، فاختارت أن تستمر على الرق ليكون أسهل عليها، فلم تزل عنده حتى توفي عليه الصلاة والسلام.
ثم تكلم ابن إسحاق على ما نزل من الآيات في قصة الخندق من أول سورة الأحزاب، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسيرها، ولله الحمد والمنة.
وقد قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم بني قريظة: خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو الخزرجي، طرحت عليه رحا فشدخته شدخا شديدا، فزعموا أن رسول الله ﷺ قال: «إن له لأجر شهيدين» قلت: كان الذي ألقى عليه الرحى تلك المرأة التي لم يقتل من بني قريظة امرأة غيرها كما تقدم، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ومات أبو سنان بن محصن بن حُرثان، من بني أسد بن خزيمة، ورسول الله ﷺ محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم اليوم.
وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه
قد تقدم: أن حبان بن العرقة لعنه الله، رماه بسهم فأصاب أكحله فحسمه رسول الله ﷺ كيا بالنار فاستمسك الجرح، وكان سعد قد دعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة، وذلك حين نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله ﷺ من العهود، والمواثيق، والذمام، ومالوا عليه مع الأحزاب.
فلما ذهب الأحزاب وانقشعوا عن المدينة، وباءت بنو قريظة بسواد الوجه، والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، وسار إليهم رسول الله ﷺ ليحاصرهم كما تقدم، فلما ضيق عليهم وأخذهم من كل جانب، أنابوا أن ينزلوا على حكم رسول الله ﷺ فيحكم فيهم بما أراد الله، فرد الحكم فيهم إلى رئيس الأوس.
وكانوا حلفاءهم في الجاهلية وهو: سعد بن معاذ، فرضوا بذلك، ويقال: بل نزلوا ابتداءً على حكم سعد، لما يرجون من حنوه عليهم، وإحسانه وميله إليهم، ولم يعلموا بأنهم أبغض إليه من أعدادهم من القردة والخنازير، لشدة إيمانه وصديقيته رضي الله عنه وأرضاه.
فبعث إليه رسول الله ﷺ وكان في خيمة في المسجد النبوي، فجيء به على حمار تحته إكاف قد وطئ تحته لمرضه، ولما قارب خيمة الرسول ﷺ أمر عليه السلام من هناك بالقيام له.
قيل: لينزل من شدة مرضه، وقيل: توقيرا له بحضرة المحكوم عليهم، ليكون أبلغ في نفوذ حكمه، والله أعلم.
فلما حكم فيهم بالقتل، والسبي، وأقر الله عينه، وشفى صدره منهم، وعاد إلى خيمته من المسجد النبوي صحبه رسول الله ﷺ، دعا الله عز وجل أن تكون له شهادة، واختار الله له ما عنده، فانفجر جرحه من الليل، فلم يزل يخرج منه الدم حتى مات رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه، فمات منه شهيدا.
قال ابن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاهة الزرقي قال: حدثني من شئت من رجال قومي: أن جبريل أتى رسول الله ﷺ حين قبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق، فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟
قال: فقام رسول الله ﷺ سريعا يجر ثوبه إلى سعد، فوجده قد مات رضي الله عنه.
هكذا ذكره ابن إسحاق رحمه الله.
وقد قال الحافظ البيهقي في (الدلائل): حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبي وشعيب بن الليث قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر بن عبد الله قال:
جاء جبريل إلى رسول الله ﷺ فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات، فتحت له أبواب السماء، وتحرك له العرش؟
قال: فخرج رسول الله ﷺ فإذا سعد بن معاذ.
قال: فجلس رسول الله ﷺ على قبره وهو يدفن، فبينما هو جالس إذ قال: «سبحان الله» مرتين، فسبَّح القوم، ثم قال: «الله أكبر، الله أكبر» فكبر القوم، ثم قال رسول الله ﷺ: «عجبت لهذا العبد الصالح، شُدد عليه في قبره، حتى كان هذا حين فرِّج له».
وروى الإمام أحمد والنسائي: من طريق يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، ويحيى بن سعيد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ لسعد يوم مات وهو يدفن: «سبحان الله لهذا الصالح الذي تحرك له عرش الرحمن، وفتحت له أبواب السماء، شُدِّد عليه، ثم فرج الله عنه».
وقال محمد بن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة، عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، عن جابر بن عبد الله قال: لما دفن سعد ونحن مع رسول الله ﷺ، سبَّح رسول الله ﷺ فسبح الناس معه، ثم كبر فكبر الناس معه، فقالوا: يا رسول الله ممَّ سبحت؟: «قال لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه».
وهكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق به.
قال ابن هشام: ومجاز هذا الحديث قول عائشة، قال رسول الله ﷺ: «إن للقبر ضمة، لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ».
قلت: وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن سعد ابن إبراهيم، عن نافع، عن عائشة، عن النبي ﷺ قال: «إن للقبر ضغطة، ولو كان أحد ناجيا منها لنجا سعد بن معاذ».
وهذا الحديث سنده على شرط الصحيحين، إلا أن الإمام أحمد رواه عن غندر عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن إنسان، عن عائشة به.
ورواه الحافظ البزار عن نافع، عن ابن عمر قال: حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا داود، عن عبد الرحمن، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك إلى الأرض لم يهبطوا قبل ذلك، ولقد ضمه القبر ضمة» ثم بكى نافع.
وهذا إسناد جيد، لكن قال البزار: رواه غيره عن عبيد الله عن نافع مرسلا.
ثم رواه البزار عن سليمان بن سيف، عن أبي عتاب، عن سكين بن عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطئوا الأرض قبلها» وقال حين دفن: «سبحان الله لو انفلت أحد من ضغطة القبر لانفلت منها سعد».
وقال البزار: حدثنا إسماعيل بن حفص، عن محمد بن فضيل، حدثنا عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعد بن معاذ.
فقيل: إنما يعني: السرير، ورفع أبويه على العرش.
قال: تفتحت أعواده.
قال: ودخل رسول الله ﷺ قبره، فاحتبس فلما خرج قيل له: يا رسول الله ما حبسك؟
قال: «ضم سعد في القبر ضمة، فدعوت الله فكشف عنه».
قال البزار: تفرد به عطاء بن السائب.
قلت: وهو متكلم فيه.
وقد ذكر البيهقي رحمه الله بعد روايته ضمة سعد رضي الله عنه في القبر أثرا غريبا فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد ابن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد: ما بلغكم من قول رسول الله ﷺ في هذا؟
فقالوا: ذُكر لنا أن رسول الله ﷺ سُئل عن ذلك فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الفضل بن مساور، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ».
وعن الأعمش: حدثنا أبو صالح، عن جابر، عن النبي ﷺ مثله فقال رجل لجابر: فإن البراء بن عازب يقول: اهتز السرير.
فقال: إنه كان بين هذين الحيين ضغائن، سمعت النبي ﷺ يقول: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ».
ورواه مسلم عن عمرو الناقد، عن عبد الله بن إدريس، وابن ماجه، عن علي بن محمد، عن أبي معاوية كلاهما، عن الأعمش به، وليس عندهما زيادة قول الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول - وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم -: «اهتز لها عرش الرحمن».
ورواه مسلم عن عبد بن حميد، والترمذي عن محمود بن غيلان كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عوف، حدثنا أبو نضرة، سمعت أبا سعيد عن النبي ﷺ: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ».
ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى به.
وقال أحمد: حدثنا عبد الوهاب عن سعيد، قال قتادة: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: «وجنازته موضوعة اهتز لها عرش الرحمن».
ورواه مسلم عن محمد بن عبد الله الأزدي، عن عبد الوهاب به.
وقد روى البيهقي من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن البصري قال: اهتز عرش الرحمن فرحا بروحه.
وقال الحافظ البزار: حدثنا زهير بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: لما حملت جنازة سعد قال المنافقون: ما أخف جنازته وذلك لحكمه في بني قريظة، فسئل رسول الله ﷺ فقال: لا ولكن الملائكة تحملته.
إسناد جيد.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت البراء بن عازب يقول: أهديت للنبي ﷺ حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال: «أتعجبون من لين هذه، لمناديل سعد بن معاذ خير منها أو ألين».
ثم قال: رواه قتادة والزهري، سمعنا أنسا عن النبي ﷺ.
وقال أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد - هو ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله ﷺ جبة، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، فلبسها فعجب الناس منها فقال: «والذي نفسي بيده لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذه».
وهذا إسناد على شرط الشيخين ولم يخرجوه، وإنما ذكره البخاري تعليقا.
وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، حدثني واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال محمد: وكان واقد من أحسن الناس وأعظمهم وأطولهم قال: دخلت على أنس بن مالك فقال لي: من أنت؟
قلت: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ.
فقال: إنك بسعد لشبيه، ثم بكى وأكثر البكاء، وقال: رحمة الله على سعد كان من أعظم الناس وأطولهم.
ثم قال: بعث رسول الله ﷺ جيشا إلى أكيدر دومة، فأرسل إلى رسول الله ﷺ بجبة من ديباج منسوج فيها الذهب، فلبسها رسول الله ﷺ فقام على المنبر، وجلس فلم يتكلم، ثم نزل فجعل الناس يلمسون الجبة وينظرون إليها.
فقال رسول الله ﷺ: «أتعجبون منها، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون».
وهكذا رواه الترمذي، والنسائي، من حديث محمد بن عمرو به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
قال ابن إسحاق: بعد ذكر اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ، وفي ذلك يقول رجل من الأنصار:
وما اهتز عرش الله من موت هالك * سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
قال: وقالت أمه يعني كبيشسة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة الخدرية الخزرجية حين احتمل سعد على نعشه تندبه:
ويل أم سعد سعدا * صرامة وحدّا
وسؤددا ومجدا * وفارسا معدا
سد به مسدا * يقدّها ما قدّا
قال: يقول رسول الله ﷺ: «كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ».
قلت: كانت وفاته بعد انصراف الأحزاب بنحو من خمس وعشرين ليلة، إذ كان قدوم الأحزاب في شوال سنة خمس كما تقدم، فأقاموا قريبا من شهر، ثم خرج رسول الله ﷺ لحصار بني قريظة، فأقام عليهم خمسا وعشرين ليلة.
ثم نزلوا على حكم سعد، فمات بعد حكمه عليهم بقليل، فيكون ذلك في أواخر ذي القعدة، أو أوائل ذي الحجة من سنة الحجة من سنة خمس، والله أعلم.
وهكذا قال محمد بن إسحاق: إن فتح بنى قريظة كان في ذي القعدة وصدر ذي الحجة.
قال: وولي تلك الحجة المشركون.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يرثي سعد بن معاذ رضي الله عنه:
لقد سجمت من دمع عيني عبرة * وحق لعيني أن تفيض على سعد
قتيل ثوى في معرك فجعت به * عيون ذواري الدمع دائمة الوجد
على ملة الرحمن وارث جنَّة * مع الشهداء وفدها أكرم الوفد
فإن تك قد وعدتنا وتركتنا * وأمسيت في غبراء مظلمة اللحد
فأنت الذي يا سعد أبت بمشهد * كريم وأثواب المكارم والمجد
بحكمك في حيي قريظة بالذي * قضى الله فيهم ما قضيت على عمد
فوافق حكم الله حكمك فيهم * ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد
فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى * شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد
فنعم مصير الصادقين إذا دعوا * إلى الله يوما للوجاهة والقصد
فصل الأشعار في الخندق وبني قريظة
قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة، حدثنا عدي بن ثابت أنه سمع البراء بن عازب قال: قال النبي ﷺ لحسان: «اهجهم أو هاجهم وجبريل معك».
قال البخاري: وزاد إبراهيم بن طهمان، عن الشيباني، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: قال النبي ﷺ يوم قريظة لحسان بن ثابت: «أهج المشركين فإن جبريل معك».
وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم، والنسائي من طرق عن شعبة بدون الزيادة التي ذكرها البخاري يوم بني قريظة.
قال ابن إسحاق رحمه الله: وقال ضرار بن الخطاب بن مرداس أخو بني محارب بن فهر في يوم الخندق، قلت: وذلك قبل إسلامه:
ومشفقة تظن بنا الظنونا * وقد قدنا عرندسة طحونا
كأن زهاءها أحد إذا ما * بدت أركانه للناظرينا
ترى الأبدان فيها مسبغات * على الأبطال واليلب الحصينا
وجردا كالقداح مسومات * نؤم بها الغَواة الخاطئينا
كأنهم إذا صالوا وصُلنا * بباب الخندقين مصافحونا
أناسٌ لا نرى فيهم رشيدا * وقد قالوا ألسنا راشدينا
فأحجرناهم شهرا كريتا * وكنا فوقهم كالقاهرينا
نُراوحهم ونغدو كل يوم * عليهم في السلاح مدججينا
بأيدينا صوارم مرهفات * نقدُّ بها المفارق والشئونا
كأن وميضهن معرِّيات * إذا لاحت بأيدي مصلتينا
وميضُ عقيقةٍ لمعت بليلٍ * ترى فيها العقائق مستبينا
فلولا خندق كانوا لديه * لدمرنا عليهم أجمعينا
ولكن حال دونهم وكانوا * به من خوفنا متعوذينا
فإن نرحل فأنا قد تركنا * لدى أبياتكم سعدا رهينا
إذا جن الظلام سمعت نوحا * على سعدٍ يرجعن الحنينا
وسوف نزوركم عما قريبٍ * كما زرناكم متوازرينا
بجمعٍ من كنانة غير عُزلٍ * كأسد الغاب إذ حمَت العرينا
قال: فأجابه كعب بن مالك أخو بني سلمة رضي الله عنه فقال:
وسائلةٍ تسائل ما لقينا * ولو شهدتُ رأتنا صابرينا
صبرنا لا نرى لله عدلا * على ما نابنا متوكلينا
وكان لنا النبي وزير صدقٍ * به نعلو البرية أجمعينا
نقاتلُ معشرا ظلموا وعقوا * وكانوا بالعداوة مرصدينا
نعالجهم إذا نهضوا إلينا * بضرب يعجل المتسرعينا
ترانا في فضافض سابغاتٍ * كغُدران الملا مُتَسَرْبلينا
وفي أيماننا بيض خفاف * بها نشفي مِراح الشاغبينا
بباب الخندقين كأن أسدا * شوابكهن يحمين العرينا
فوارسنا إذا بكروا وراحوا * على الأعداء شوسا معلمينا
لننصر أحمدا والله حتى * نكون عبادَ صدقٍ مخلصينا
ويعلم أهل مكة حين ساروا * وأحزاب أتوا متحزبينا
بأن الله ليس له شريك * وأن الله مولى المؤمنينا
فأما تقتلوا سعدا سفاها * فإن الله خير القادرينا
سيدخله جناتا طيباتٍ * تكون مقامة للصالحينا
كما قد ردَّكم فلا شريدا * بغيظكم خزايا خائبينا
خزايا لم تنالوا ثم خيرا * وكدتم أن تكونوا دامرينا
بريحٍ عاصف هبتْ عليكم * فكنتم تحتها متكمِّهينا
قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري السهمي في يوم الخندق، قلت: وذلك قبل أن يسلم:
حيِّ الديار محا معارفَ رسمها * طولُ البلى وتراوحُ الأحقاب
فكأنما كتب اليهودُ رسومها * ألا الكنيف ومعقد الأطناب
قفرا كأنك لم تكن تلهو بها * في نعمةٍ بأوانس أتراب
فاترك تذكُّر ما مضى من عيشةٍ * ومحلَّة خلقِ المقام يباب
واذكر بلاء معاشرٍ واشكرهمُ * ساروا بأجمعهم من الأنصاب
أنصاب مكةَ عامدين ليثرب * في ذي غياطلَ جحفلٍ جبجاب
يدع الحرُون مناهجا معلومة * في كل نشْزٍ ظاهرٍ وشِعاب
فيها الجيادُ شوازبٌ مجنوبةٌ * قُبَّ البطون واحقُ الأقراب
من كل سلهبةٍ وأجردَ سلهب * كالسيدِ بادر غفلةَ الرقاب
جيشُ عيينةُ قاصد بلوائه * فيه وصخرُ قائد الأحزاب
قرمان كالبدرين أصبح فيهما * غيث الفقير ومعقلُ الهرّاب
حتى إذا وردوا المدينة وارتدوا * للموت كل مجرَّب قضَّاب
شهرا وعشرا قاهرين محمدا * وصحابُهُ في الحرب خيرُ صحاب
نادوا برحلتهم صبيحةَ قلتم * كدنا نكون بها مع الخيَّاب
لولا الخنادقُ غادروا من جمعهم * قتلى لطيرٍ سُغّب وذئاب
قال: فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال:
هل رسم دراسة المقام يباب * متكلم لمحاورٍ بجواب
قفر عفا رهمُ السحاب رسومَه * وهبوب كل مطلةٍ مرباب
ولقد رأيتُ بها الحلول يزينُهم * بيض الوجوه ثواقبُ الأحساب
فدع الديارَ وذكر كل خريدةٍ * بيضاءَ أنسةِ الحديث كَعاب
واشكُ الهموم إلى الإله وما ترى * من معشرٍ ظلموا الرسول غضاب
ساروا بأجمعهم إليه وألَّبوا * أهل القرى وبواديَ الأعراب
جيشٌ عيينةُ وابن حربٍ فيهم * متخمطون بحلبةِ الأحزاب
حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا * قتل الرسول ومغنم الأسلاب
وغدوا علينا قادرين بأيدهم * رُدوا بغيظهم على الأعقاب
بهبوبِ معصفةٍ تُفرِّق جمعهم * وجنودُ ربك سيد الأرباب
فكفى الإله المؤمنينَ قتالهم * وأثابهم في الأجر خير ثواب
من بعد ما قنطوا ففرَّق جمعهم * تنزيل نصر مليكنا الوهاب
وأقر عين محمدٍ وصحابه * وأذل كل مكذِّب مرتاب
عاتي الفؤاد موقعٌ ذي ريبة * في الكفر ليس بطاهر الأثواب
عِلَق الشقاءُ بقلبه ففؤاده * في الكفر آخر هذه الأحقاب
قال: وأجابه كعب بن مالك رضي الله عنه أيضا فقال:
أبقى لنا حدثُ الحروب بقية * من خير نحلةِ ربنا الوهاب
بيضاءَ مشرفة الذُرى ومعاطنا * حُمَّ الجذوع غزيرة الأحلاب
كاللوب يُبذل جمُّها وحفيلها * للجار وابن العمِّ والمنتاب
ونزائعا مثل السراج نمى بها * علفُ الشعير وجزَّة المقضاب
عرَّى الشَّوى منها وأردف نحضها * جردُ المتون وسائر الأراب
قَوْدا تُراح إلى الصباح إذا غدت * فعلَ الضِّراء تُراحُ للكلاب
وتحوط سائمة الديار وتارةً * تُردي العدى وتئوبُ بالأسلاب
حوشُ الوحوش مطارةً عند الوغى * عبسُ اللقاء مبينة الأنجاب
عُلفت على دَعَةٍ فصارت بُدنا * دُخْسُ البضيع خفيفة الأقصاب
يغدون بالزغف المضاعف شكَّه * وبمترصاتٍ في الثَّقاف صياب
وصوارمٍ نزعَ الصياقلُ عُلبها * وبكل أروعَ ماجدِ الأنساب
يصلُ اليمين بمارنٍ متقارب * وكلت وقيعته إلى خَباب
وأغرّ أزرق في القناة كأنه * في طُيْخة الظلماء ضوءُ شهاب
وكتيبةٍ ينفي القران قتيرُها * وتردُّ حد قواحِزِ النشاب
جأوى ململمةً كأن رماحها * في كل مجمعةٍ صريمة غاب
تأوي إلى ظل اللواء كأنه * في صعدة الخطي فيءُ عُقاب
أعيت أبا كربٍ وأعيت تبعا * وأبت بسالتها على الأعراب
ومواعظٍ من ربنا نهدي بها * بلسان أزهر طيب الأثواب
عرضت علينا فاشتهينا ذكرها * من بعد ما عرضت على الأحزاب
حكما يراها المجرمون بزعمهم * حرجا ويفهمها ذوو الألباب
جاءت سخينةُ كي تغالب ربها * فليغلبن مغالبُ الغلاب
قال ابن هشام: حدثني من أثق به، حدثني عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير: أن رسول الله ﷺ قال له لما سمع منه هذا البيت: «لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا».
قلت: ومراده بسخينة قريش، وإنما كانت العرب تسميهم بذلك لكثرة أكلهم الطعام السخن، الذي لا يتهيأ لغيرهم غالبا من أهل البوادي، فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك أيضا:
من سرَّه ضربٌ يمعمع بعضه * بعضا كمعمعة الإناء المحرق
فليأت مأسدة تسن سيوفها * بين الذاد وبين جذع الخندق
دربوا بضرب المعلّمين وأسلموا * مهجات أنفسهم لربِّ المشرق
في عُصبةٍ نصرَ الإله نبيَّه * بهمُ وكان بعبده ذا مرفق
في كل سابغةٍ تخطّ فُضُولها * كالنهي هبَّتْ ريحه المترقرق
بيضاءَ محكمةٍ كأن قتيرها * حدق الجنادب ذات شك موثق
جدلاء يحفرها نجاد مهندٍ * صافي الحديدة صارمٍ ذي رونق
تلكم مع التقوى تكون لباسَنا * يوم الهياج وكل ساعة مصدق
نصلُ السيوف إذا قصرن بخطونا * قدما ونلحقها إذا لم تلحق
فترى الجماجم ضاحيا هاماتها * بُله الأكف كأنها لم تخلق
نلقى العدو بفخمةٍ ملمومةٍ * تنفي الجموع كقصد رأس المشرق
ونعدُّ للأعداء كل مقلص * ورد ومحجول القوائم أبلق
تردى بفرسان كأن كماتهم * عند الهياج أسودُ طل ملتق
صُدقٍ يعاطون الكماة حتوفهم * تحت العماية بالوشيج المزهق
أمر الإله بربطها لعدوه * في الحرب إن الله خير موفق
لتكون غيظا للعدو وحيِّطا * للدار إن دلفت خيول النزق
ويعيننا الله العزيز بقوة * منه وصدق الصبر ساعة نلتقي
ونطيع أمر نبينا ونجيبه * وإذا دعا لكريهة لم نسبق
ومتى ينادى للشدائد نأتها * ومتى نرى الحومات فيها نعتق
من يتبع قول النبي فإنه * فينا مطاع الأمر حق مصدق
فبذاك ينصرنا ويظهر عزنا * ويصيبنا من نيل ذاك بمرفق
إن الذين يكذبون محمدا * كفروا وضلوا عن سبيل المتقي
قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك أيضا:
لقد علم الأحزاب حين تألبوا * علينا وراموا ديننا ما نوادع
أضاميمُ من قيس بن غيلان أصفقت * وخندف لم يدروا بما هو واقع
يذودوننا عن ديننا ونذودهم * عن الكفر والرحمن رادٌ وسامع
إذا غايظونا في مقام أعاننا * على غيظهم نصر من الله واسع
وذلك حفظ الله فينا وفضله * علينا ومن لم يحفظ الله ضائع
هدانا لدين الحق واختاره لنا * ولله فوق الصانعين صانع
قال ابن هاشم: وهذه الأبيات في قصيدة له - يعني طويلة -، قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في مقتل بني قريظة:
لقد لقيت قريظة ما ساءها * وما وجدت لذل من نصير
أصابهم بلاء كان فيه * سوى ما قد أصاب بني النضير
غداة أتاهم يهوي إليهم * رسول الله كالقمر المنير
له خيل مجنبةٌ تغادي * بفرسان عليها كالصقور
تركناهم وما ظفروا بشيءٍ * دماؤهم عليها كالعبير
فهم صرعى تحوم الطير فيهم * كذاك يدان ذو العند الفجور
فأنذر مثلها نصحا قريشا * من الرحمن إن قبلت نذيري
قال: وقال حسان بن ثابت أيضا في بني قريظة:
تعاقد معشر نصروا قريشا *وليس لهم ببلدتهم نصير
هم أوتوا الكتاب فضيعوه * وهم عميٌّ من التوراة بور
كفرتم بالقرآن وقد أتيتم * بتصديق الذي قال النذير
فهان على سراة بني لؤيٍ * حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقال:
أدام الله ذلك من صنيعٍ * وحرَّق في طائفها السعير
ستعلم أينا منها بنزه * وتعلم أي أرضينا تضير
فلو كان النخيل بها ركابا * لقالوا لا مقام لكم فسيروا
قلت: وهذا قاله أبو سفيان بن الحارث قبل أن يسلم.
وقد تقدم في صحيح البخاري بعض هذه الأبيات.
وذكر ابن إسحاق جواب حسان في ذلك لجبل بن جوال الثعلبي تركناه قصدا.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت أيضا يبكي سعدا وجماعة ممن استشهد يوم بني قريظة:
ألا يا لقومي هل لما حم دافع * وهل ما مضى من صالح العيش راجع
تذكرت عصرا قد مضى فتهافتت * بنات الحشا وأنهل مني المدامع
صبابة وجد ذكرتني إخوة * وقتلى مضى فيها طفيل ورافع
وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت * منازلهم فالأرض منهم بلاقع
وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم * ظلال المنايا والسيوف اللوامع
دعا فأجابوه بحق وكلهم * مطيع له في كل أمر وسامع
فما نكلوا حتى توالوا جماعة * ولا يقطع الآجال إلا المصارع
لأنهم يرجون منه شفاعة * إذا لم يكن إلا النبيون شافع
فذلك يا خير العباد بلاؤنا * إجابتنا لله والموت ناقع
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا * لأولنا في ملة الله تابع
ونعلم أن الملك لله وحده * وأن قضاء الله لا بد واقع
مقتل أبي رافع اليهودي
قال ابن إسحاق: ولما انقضى شأن الخندق وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق - وهو أبو رافع - فيمن حزب الأحزاب على رسول الله ﷺ، وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف، فاستأذن الخزرج رسول الله ﷺ في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر، فأذن لهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: وكان مما صنع الله لرسوله ﷺ أن هذين الحيين من الأنصار الأوس والخزرج، كانا يتصاولان مع رسول الله ﷺ تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا فيه غناء عن رسول الله ﷺ إلا وقالت الخزرج:
والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله ﷺ فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك.
قال: ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله ﷺ، قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا.
قال: فتذكروا من رجل لرسول الله ﷺ في العداوة كابن الأشرف؟
فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا الرسول ﷺ في قتله، فأذن لهم.
فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث ابن ربعي، وخزاعى بن أسود حليف لهم من أسلم.
فخرجوا وأمر عليهم رسول الله ﷺ عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة، فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر، أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا بيتا في الدار حتى أغلقوه على أهله.
قال: وكان في علية له إليها عجلة، قال: فأسندوا إليها حتى قاموا على بابه، فاستأذنوا فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟
قالوا: أناس من العرب نلتمس الميرة.
قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليه الحجرة تخوفا أن يكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه.
قال: فصاحت امرأته فنوهت بنا، فابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الله إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة.
قال: فلما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهي رسول الله ﷺ فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل.
قال: فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قطني قطني أي: حسبي حسبي.
قال: وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر، قال فوقع من الدرجة فوثبت يده وثبا شديدا، وحملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم فندخل فيه، فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبونا، حتى إذا يئسوا رجعوا إليه فاكتنفوه وهو يقضي.
قال: فقلنا كيف لنا بأن نعلم بأن عدو الله قد مات؟
قال: فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس.
قال: فوجدتها - يعني امرأته - ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدثهم، وتقول: أما والله قد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت نفسي وقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد، ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه فقالت: فاظ وإله يهود، فما سمعت كلمة كانت ألذ على نفسي منها.
قال: ثم جاءنا فأخبرنا فاحتملنا صاحبنا، وقدمنا على رسول الله ﷺ فأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه.
قال: فقال: «هاتوا أسيافكم» فجئنا بها فنظر إليها فقال: لسيف عبد الله بن أنيس هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام.
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك:
لله در عصابة لاقيتهم * يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحا كأسد في عرين مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفا ببيض ذفف
مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف
هكذا أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق رحمه الله.
وقد قال الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: بعث النبي ﷺ رهطا إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا وهو نائم فقتله.
قال البخاري: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: بعث رسول الله ﷺ إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار، وأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله ﷺ ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم قال عبد الله لأصحابه:
اجلسوا مكانكم فإني منطلق متلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على ود.
قال: فقمت إلى الأقاليد وأخذتها، وفتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل.
فقلت: إن القوم سدروا لي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت.
قلت: أبا رافع. قال: من هذا؟
فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف ضربة وأنا دهش فما أغنيت شيئا، وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟
فقال: لأمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف.
قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت صبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا، حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة حتى انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته.
فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعي أبا رافع ناصر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي ﷺ فحدثته فقال: «ابسط رجلك» فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها قط.
قال البخاري: حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، حدثنا شريح، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق سمعت البراء قال: بعث رسول الله ﷺ إلى أبي رافع عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن عتبة في ناس معهم، فانطلقوا حتى دنوا من الحصن، فقال لهم عبد الله بن عتيك: امكثوا أنتم حتى أنطلق أنا فأنظر.
قال: فتلطفت حتى أدخل الحصن، ففقدوا حمارا لهم فخرجوا بقبس يطلبونه، قال: فخشيت أن أعرف قال: فغطيت رأسي وجلست كأني أقضي حاجة، ثم نادى صاحب الباب فقال: من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه، فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن، فتعشوا عند أبي رافع وتحدثوا حتى ذهب ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الأصوات ولا أسمع حركة خرجت.
قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة، فأخذته ففتحت به باب الحصن.
قال: قلت: إن نذر بي القوم انطلقت على مهل، ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم، فإذا البيت مظلم قد طفئ سراجه، فلم أدر أين الرجل.
فقلت: يا أبا رافع.
قال: من هذا؟
فعمدت نحو الصوت فأضربه وصاح فلم تغن شيئا، قال: ثم جئته كأني أغيثه، فقلت: ما لك يا أبا رافع؟ وغيرت صوتي.
قال: لا أعجبك لأمك الويل دخل علي رجل فضربني بالسيف.
قال: فعمدت إليه أيضا فأضربه أخرى، فلم تغن شيئا فصاح وقام أهله، ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث فإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف في بطنه ثم أنكفئ عليه، حتى سمعت صوت العظم، ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل، فأسقط منه فانخلعت رجلي فعصبتها، ثم أتيت أصحابي أحجل، فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله ﷺ فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية.
فلما كان وجه الصبح صعد الناعية فقال: أنعي أبا رافع.
قال: فقمت أمشي ما بي قلبه، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله ﷺ فبشرته.
تفرد به البخاري بهذه السياقات من بين أصحاب الكتب الستة.
ثم قال: قال الزهري: قال أبي بن كعب: فقدموا على رسول الله ﷺ وهو على المنبر، فقال: «أفلحت الوجوه» قال: أفلح وجهك يا رسول الله.
قال: «أفتكتموه» قالوا: نعم. قال: «ناولني السيف» فسله فقال: أجل هذا طعامه في ذباب السيف.
قلت: يحتمل أن عبد الله بن عتيك لما سقط من تلك الدرجة انفكت قدمه، وانكسرت ساقه، ووثبت رجله، فلما عصبها استكن ما به لما هو فيه من الأمر الباهر.
ولما أراد المشي أعين على ذلك لما هو فيه من الجهاد النافع، ثم لما وصل إلى رسول الله ﷺ واستقرت نفسه ثاوره الوجع في رجله، فلما بسط رجله ومسح رسول الله ﷺ ذهب ما كان بها ما بأس في الماضي، ولم يبق بها وجع يتوقع حصوله في المستقبل، جمعا بين هذه الرواية والتي تقدمت، والله أعلم.
هذا وقد ذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) مثل سياق محمد بن إسحاق، وسمى الجماعة الذين ذهبوا إليه كما ذكره ابن إسحاق، وإبراهيم، وأبو عبيد.
مقتل خالد بن سفيان الهذلي
ذكره الحافظ البيهقي في (الدلائل) تلو مقتل أبي رافع.
قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه قال: دعاني رسول الله ﷺ فقال: «إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني، وهو بعرنة فائته فاقتله».
قال: قلت: يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه.
قال: «إذا رأيته وجدت له قشعريرة».
قال: فخرجت متوشحا سيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلا، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله ﷺ من القشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي للركوع والسجود.
فلما انتهيت إليه قال: من الرجل؟
قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لذلك.
قال: أجل أنا في ذلك.
قال: فمشيت معه شيئا، حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله ﷺ فرآني قال: «أفلح الوجه».
قال: قلت: قتلته يا رسول الله.
قال: «صدقت».
قال: ثم قام معي رسول الله ﷺ فدخل في بيته، فأعطاني عصا فقال: «أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس».
قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟
قال: قلت أعطانيها رسول الله ﷺ وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله ﷺ فتسأله عن ذلك.
قال: فرجعت إلى رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟
قال: «آية بيني وبينك يوم القيامة إن أقل الناس المتخصرون يومئذ».
قال: فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت في كفنه، ثم دفنا جميعا.
ثم رواه الإمام أحمد: عن يحيى بن آدم، عن عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن بعض ولد عبد الله بن أنيس - أو قال عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس - عن عبد الله بن أنيس فذكر نحوه.
وهكذا رواه أبو داود: عن أبي معمر، عن عبد الوارث، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، فذكر نحوه.
ورواه الحافظ البيهقي: من طريق محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن أنيس، عن أبيه فذكره.
وقد ذكر قصة عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة، في (مغازيهما) مرسلة، فالله أعلم.
قال ابن هشام: وقال عبد الله بن أنيس في قتله خالد بن سفيان:
تركت ابن ثور كالحوار وحوله * نوائح تفري كل جيب معدد
تناولته والظعن خلفي وخلفه * بأبيض من ماء الحديد المهند
عجوم لهام الدارعين كأنه * شهاب غضي من ملهب متوقد
أقول له والسيف يعجم رأسه * أنا ابن أنيس فارس غير قعدد
أنا ابن الذي لم ينزل الدهر قدره * رحيب فناء الدار غير مزند
وقلت له: خذها بضربة ماجد * خفيف على دين النبي محمد
وكنت إذا هم النبي بكافر * سبقت إليه باللسان وباليد
قلت: عبد الله بن أنيس بن حرام: أبو يحيى الجهني صحابي مشهور كبير القدر، كان فيمن شهد العقبة وشهد أحدا والخندق وما بعد ذلك، وتأخر موته بالشام إلى سنة ثمانين على المشهور، وقيل توفي سنة أربع وخمسين، والله أعلم.
وقد فرق علي بن الزبير، وخليفة بن خياط بينه وبين عبد الله بن أنيس أبي عيسى الأنصاري، الذي روى عن النبي ﷺ أنه دعا يوم أحد بأداوة فيها ماء، فحل فمها وشرب منها.
كما رواه أبو داود، والترمذي من طريق عبد الله العمري، عن عيسى بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه.
ثم قال الترمذي: وليس إسناده يصح، وعبد الله العمري ضعيف من قبل حفظه.
قصة عمرو بن العاص مع النجاشي
قال محمد بن إسحاق بعد مقتل أبي رافع: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب بن أوس أبي الثقفي، عن حبيب بن أبي أوس، حدثني عمرو بن العاص من فيه قال: لما انصرفنا يوم الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإني لقد رأيت أمرا فما ترون فيه؟
قالوا: وما رأيت؟
قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا إن نكن تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير.
قالوا: إن هذا لرأي.
قلت: فاجمعوا لنا ما نهدي له، فكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله ﷺ قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه.
قال: فدخل عليه، ثم خرج من عنده.
قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع.
فقال: مرحبا بصديقي هل أهديت لي من بلادك شيئا؟
قال: قلت: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا.
قال: ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
قال: فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت الأرض لدخلت فيها فرقا، ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه.
قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله؟
قال: قلت: أيها الملك أكذاك هو؟
قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى بن عمران على فرعون وجنوده.
قال: قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟
قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامدا إلى رسول الله ﷺ لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة.
فقلت: أين أبا سليمان؟
فقال: والله لقد استقام الميسم، وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم فحتى متى؟
قال: قلت: والله ما جئت إلا لأسلم.
قال: فقدمنا المدينة على النبي ﷺ فتقدم خال بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «يا عمرو بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها».
قال: فبايعته ثم انصرفت.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة كان معهما أسلم حين أسلما، فقال عبد الله بن أبي الزبعري السهمي:
أنشد عثمان بن طلحة خلفنا * وملقى نعال القوم عند المقبل
وما عقد الإباء من كل حلقة * وما خالد من مثلها بمحلل
أمفتاح بيت غير بيتك تبتغي * وما تبتغي من بيت مجد مؤثل
فلا تأمنن خالدا بعد هذه * وعثمان جاءا بالدهيم المعضل
قلت: كان إسلامهم بعد الحديبية، وذلك أن خالد بن الوليد كان يومئذ في خيل المشركين كما سيأتي بيانه، فكان ذكر هذا الفصل في إسلامهم بعد ذلك أنسب.
ولكن ذكرنا ذلك تبعا للإمام محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى، لأن أول ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان بعد وقعة الخندق، الظاهر أنه ذهب بقية سنة خمس، والله أعلم.
فصل في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة
ذكر البيهقي بعد وقعة الخندق من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً } [40].
قال: هو تزويج النبي ﷺ بأم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين.
ثم قال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا علي بن عيسى قال: حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، أنبأنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن أم حبيبة أنها كانت عند عبد الله بن جحش، وكان رحل إلى النجاشي فمات.
وأن رسول الله ﷺ تزوج بأم حبيبة وهي بأرض الحبشة، وزوجها إياه النجاشي ومهرها أربعة آلاف درهم، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وجهزها من عنده، وما بعث رسول الله ﷺ بشيء.
قال: وكان مهور أزواج النبي ﷺ أربعمائة، قلت: والصحيح أن مهور أزواج النبي ﷺ كانت ثنتي عشرة أوقية ونشا، والوقية: أربعون درهما. والنش: النصف. وذلك يعدل خمسمائة درهم.
ثم روى البيهقي: من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة أن عبيد الله بن جحش مات بالحبشة نصرانيا، فخلف على زوجته أم حبيبة رسول الله ﷺ زوجها منه عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قلت: أما تنصر عبيد الله بن جحش فقد تقدم بيانه، وذلك على أثر ما هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة، استزله الشيطان فزين له دين النصارى، فصار إليه حتى مات عليه لعنه الله، وكان يعير المسلمين فيقول لهم: أبصرنا وصأصأتم، وقد تقدم شرح ذلك في هجرة الحبشة.
وأما قول عروة: إن عثمان زوجها منه فغريب، لأن عثمان كان قد رجع إلى مكة قبل ذلك، ثم هاجر إلى المدينة وصحبته زوجته رقية كما تقدم، والله أعلم.
والصحيح ما ذكره يونس، عن محمد بن إسحاق قال: بلغني أن الذي ولي نكاحها ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص.
قلت: وكان وكيل رسول الله ﷺ في قبول العقد أصحمة النجاشي ملك الحبشة، كما قال يونس، عن محمد بن إسحاق: حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: بعث رسول الله ﷺ عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وساق عنه أربعمائة دينار.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن زهير، عن إسماعيل بن عمرو: أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشي، جارية يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ووهنه، فاستأذنت علي، فأذنت لها فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله ﷺ كتب إلي أن أزوجكه.
فقلت: بشرك الله بالخير.
وقالت: يقول لك الملك وكلي من يزوجك.
قالت: فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته، وأعطيت أبرهة سوارين من فضة، وخذمتين من فضة كانتا علي، وخواتيم من فضة في كل أصابع رجلي سرورا بما بشرتني به، فلما أن كان من العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب، ومن كان هناك من المسلمين أن يحضروا.
وخطب النجاشي وقال: الحمد لله الملك القدوس المؤمن العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، أما بعد:
فإن رسول الله ﷺ طلب أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ، وقد أصدقها أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم.
فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد:
فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول الله ﷺ، ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإن من سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا.
قلت: فلعل عمرو بن العاص لما رأى عمرو بن أمية خارجا من عند النجاشي بعد الخندق إنما كان في قضية أم حبيبة فالله أعلم.
لكن قال الحافظ البيهقي: ذكر أبو عبد الله ابن منده أن تزويجه عليه السلام بأم حبيبة كان في سنة ست، وأن تزويجه بأم سلمة كان في سنة أربع.
قلت: وكذا قال خليفة، وأبو عبيد الله معمر بن المثنى، وابن البرقي، وأن تزويج أم حبيبة كان في سنة ست، وقال بعض الناس: سنة سبع.
قال البيهقي: هو أشبه.
قلت: قد تقدم تزويجه عليه السلام بأم سلمة في أواخر سنة أربع، وأما أم حبيبة فيحتمل أن يكون قبل ذلك، ويحتمل أن يكون بعده، وكونه بعد الخندق أشبه لما تقدم من ذكر عمرو بن العاص، أنه رأى عمرو بن أمية عند النجاشي، فهو في قضيتها، والله أعلم.
وقد حكى الحافظ ابن الأثير في (الغابة): عن قتادة أن أم حبيبة لما هاجرت من الحبشة إلى المدينة، خطبها رسول الله ﷺ وتزوجها.
وحكي عن بعضهم أنه تزوجها بعد إسلام أبيها بعد الفتح. واحتج هذا القائل بما رواه مسلم: من طريق عكرمة بن عمار اليماني، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس أن أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن.
قال: «نعم».
قال: تؤمرني على أن أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.
قال: «نعم»
قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك.
قال: «نعم»
قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها.
الحديث بتمامه.
قال ابن الأثير: وهذا الحديث مما أنكر على مسلم، لأن أبا سفيان لما جاء يجدد العقد قبل الفتح، دخل على ابنته أم حبيبة، فثنت عنه فراش النبي ﷺ، فقال: والله ما أدري أرغبت بي عنه، أو به عني؟
قالت: بل هذا فراش رسول الله ﷺ، وأنت رجل مشرك.
فقال: والله لقد أصابك بعدي يا بنية شر.
وقال ابن حزم: هذا الحديث وضعه عكرمة بن عمار، وهذا القول منه لا يتابع عليه.
وقال آخرون: أراد أن يجدد العقد لما فيه بغير إذنه من الغضاضة عليه.
وقال بعضهم: لأنه اعتقد انفساخ نكاح ابنته بإسلامه.
وهذه كلها ضعيفة، والأحسن في هذا أنه أراد أن يزوجه ابنته الأخرى مرة، لما رأى في ذلك من الشرف له، واستعان بأختها أم حبيبة كما في الصحيحين، وإنما وهم الراوي في تسميته أم حبيبة، وقد أوردنا لذلك خبرا مفردا.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: توفيت قبل معاوية لسنة، وكانت وفاة معاوية في رجب سنة ستين.
تزويجه بزينب بنت جحش
ابن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدية أم المؤمنين، وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله ﷺ، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه.
قال قتادة، والواقدي، وبعض أهل المدينة: تزوجها عليه السلام سنة خمس، زاد بعضهم في ذي القعدة.
قال الحافظ البيهقي: تزوجها بعد بني قريظة.
وقال خليفة بن خياط، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وابن منده: تزوجها سنة ثلاث.
والأول أشهر، وهو الذي سلكه ابن جرير، وغير واحد من أهل التاريخ.
وقد ذكر غير واحد من المفسرين، والفقهاء، وأهل التاريخ في سبب تزويجه إياها عليه السلام حديثا ذكره أحمد بن حنبل في مسنده، تركنا إيراده قصدا لئلا يضعه من لا يفهم على غير موضعه.
وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرا مَقْدُورا } [41].
وقد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه كفاية، فالمراد بالذي أنعم الله عليه ها هنا: زيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ، أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه رسول الله ﷺ بالعتق، وزوجه بابنة عمه زينب بنت جحش.
قال مقاتل بن حبان: وكان صداقه لها عشرة دنانير، وستين درهما، وخمارا، وملحفة، ودرعا، وخمسين مدا، وعشرة أمداد من تمر، فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زوجها يشكو إلى رسول الله ﷺ فكان يقول له: «اتق الله وأمسك عليك زوجك».
قال الله: { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } .
قال علي بن الحسين زيد العابدين، والسدي: كان رسول الله قد علم أنها ستكون من أزواجه، فهو الذي كان في نفسه عليه السلام.
وقد تكلم كثير من السلف ها هنا بآثار غريبة، وبعضها فيه نظر، تركناها.
قال الله تعالى: { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها } ذلك أن زيدا طلقها، فلما انقضت عدتها بعث إليها رسول الله ﷺ يخطبها إلى نفسها ثم تزوجها، وكان الذي زوجها منه رب العالمين تبارك وتعالى.
كما ثبت في صحيح البخاري: عن أنس بن مالك أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي ﷺ فتقول: زوجكن أهليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
وفي رواية من طريق عيسى بن طهمان عن أنس قال: كانت زينب تفخر على نساء النبي ﷺ وتقول: أنكحني الله من السماء.
وفيها أنزلت آية الحجاب { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } الآية.
وروى البيهقي من حديث حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: جاء زيد يشكو زينب فجعل رسول الله ﷺ يقول: «اتق الله وأمسك عليك زوجك».
قال أنس: فلو كان رسول الله ﷺ كاتما شيئا لكتم هذه، فكانت تفخر على أزواج النبي ﷺ تقول: زوجكن أهليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
ثم قال: رواه البخاري عن أحمد، عن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن حماد بن زيد.
ثم روى البيهقي: من طريق عفان، عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: جاء زيد يشكو إلى رسول الله ﷺ من زينب بنت جحش فقال النبي ﷺ: «أمسك عليك أهلك» فنزلت { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } .
ثم قال أخرجه البخاري: عن محمد بن عبد الرحيم، عن يعلى بن منصور، عن محمد مختصرا.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: كانت زينب تقول للنبي ﷺ: إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهم: إن جدي وجدك واحد - تعني عبد المطلب - فإنه أبو أبي النبي ﷺ وأبو أمها أميمة بنت عبد المطلب، وإني أنكحنيك الله عز وجل من السماء، وإن السفير جبريل عليه السلام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم - يعني ابن القاسم - حدثنا النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال النبي ﷺ لزيد: «اذهب فاذكرها علي».
فانطلق حتى أتاها، وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، إن رسول الله ﷺ ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله ﷺ بذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل.
ثم قامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله ﷺ فدخل عليها بغير إذن.
قال أنس: ولقد رأيتنا حين دخل عليها رسول الله ﷺ أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله ﷺ واتبعته، فجعل يتبع حجر نسائه، يسلم عليهم ويقلن: يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟
فما أدري أنا أخبرته، والقوم قد خرجوا أو أخبر.
قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم... } الآية، وكذا رواه مسلم، والنسائي، من طريق سليمان بن المغيرة.
نزول الحجاب صبيحة عرس زينب
فناسب نزول الحجاب في هذا العرس صيانة لها، ولأخواتها من أمهات المؤمنين، وذلك وفق الرأي العمري.
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله الرقاش، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبي حدثنا أبو مجلز، عن أنس بن مالك قال: لما تزوج رسول الله ﷺ زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا وجلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا.
فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، وجاء النبي ﷺ ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي ﷺ أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي... } الآية.
وقد رواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم، والنسائي، من طرق، عن معتمر.
ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس نحوه.
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: بُني على النبي ﷺ بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعيا، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقلت: يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه، قال: «ارفعوا طعامكم».
وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي ﷺ فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته» قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، كيف وجدت أهلك بارك الله لك؟ فتقرَّى حجر نسائه كلهن، ويقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة.
ثم رجع النبي ﷺ فإذا رهط ثلاثة في البيت يتحدثون، وكان النبي ﷺ شديد الحياء، فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا، فخرج حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب، وأخرى خارجه أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب.
تفرد به البخاري من هذا الوجه، ثم رواه منفردا به أيضا: عن إسحاق هو ابن نصر، عن عبد الله بن بكير السهمي، عن حميد بن أنس بنحو ذلك، وقال: رجلان بدل ثلاثة، فالله أعلم.
قال البخاري: وقال إبراهيم بن طهمان، عن الجعد أبي عثمان، عن أنس فذكر نحوه.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو المظفر، حدثنا جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان اليشكري، عن أنس بن مالك قال: أعرس رسول الله ﷺ ببعض نسائه، فصنعت أم سليم حيسا، ثم حطته في ثور فقالت: اذهب إلى رسول الله ﷺ وأخبره إن هذا منا له قليل.
قال أنس: والناس يومئذ في جهد، فجئت به فقلت: يا رسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك، وهي تقرئك السلام وتقول: إن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قال: «ضعه في ناحية البيت».
ثم قال: «اذهب فادع لي فلانا وفلانا» فسمى رجالا كثيرا.
قال: ومن لقيت من المسلمين، فدعوت من قال لي، ومن لقيت من المسلمين، فجئت والبيت والصفة والحجرة ملاء من الناس، فقلت: يا أبا عثمان كم كانوا؟
قال: كانوا زهاء ثلثمائة.
قال أنس: فقال لي رسول الله ﷺ: «جيء» فجئت به إليه، فوضع يده عليه، ودعا، وقال ما شاء الله، ثم قال: «ليتلحق عشرة عشرة ويسموا، وليأكل كل أنسان مما يليه» فجعلوا يسمون، ويأكلون، حتى أكلوا كلهم.
فقال لي رسول الله ﷺ: «ارفعه».
قال: فجئت فأخذت الثور، فنظرت فيه فلا أدري أهو حين وضعته أكثر أم حين رفعته؟
قال: وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله ﷺ، وزوج رسول الله ﷺ التي دخل بها معهم، مولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول الله ﷺ، وكان أشد الناس حياء، ولو علموا كان ذلك عليهم عزيزا.
فقام رسول الله ﷺ فسلم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب، فخرجوا وجاء رسول الله ﷺ حتى أرخى الستر، ودخل البيت وأنا في الحجرة، فمكث رسول الله ﷺ في بيته يسيرا، وأنزل الله القرآن فخرج وهو يقرأ هذه الآية:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيما } [42].
قال أنس: فقرأهن عليَّ قبل الناس، وأنا أحدث الناس بهن عهدا.
وقد رواه مسلم، والترمذي، والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الجعد أبي عثمان به.
وقد روى هذا الحديث البخاري، والترمذي، والنسائي، من طرق: عن أبي بشر الأحمسي الكوفي، عن أنس بنحوه.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي نضرة العبدي، عن أنس بنحوه، ولم يخرجوه.
ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد، ومن حديث الزهري عن أنس نحو ذلك.
قلت: كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها من المهاجرات الأول، وكانت كثيرة الخير والصدقة، وكان اسمها أولا بره، فسماها النبي ﷺ زينب، وكانت تكنى بأم الحكم.
قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت امرأة قط خيرا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم أمانة وصدقة.
وثبت في الصحيحين كما سيأتي في حديث الإفك، عن عائشة أنها قالت: وسأل رسول الله ﷺ عني زينب بنت جحش، وهي التي كانت تساميني من نساء النبي ﷺ، فعصمها الله بالورع، فقالت: يا رسول الله احمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا.
وقال مسلم بن الحجاج في (صحيحه): حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله ﷺ: «أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا».
قالت: فكنا نتطاول أينا أطول يدا، قالت: فكانت زينب أطولنا يدا، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق.
انفرد به مسلم.
قال الواقدي وغيره من أهل السير، والمغازي، والتواريخ: توفيت سنة عشرين من الهجرة، وصلى عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودفنت بالبقيع، وهي أول امرأة صنع لها النعش.
سنة ست من الهجرة
قال البيهقي: كان يقال في المحرم، منها سرية محمد بن مسلمة قبل نجد، وأسروا فيها ثمامة بن أنال اليمامي، قلت: لكن في سياق ابن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة: أنه شهد ذلك، وهو إنما هاجر بعد خيبر، فيؤخر إلى ما بعدها، والله أعلم.
وهي السنة التي كان في أوائلها غزوة بني لحيان على الصحيح.
قال ابن إسحاق: وكان فتح بني قريظة في ذي القعدة، وصدر من ذي الحجة، وولى تلك الحجة المشركون، يعني في سنة خمس كما تقدم.
قال: ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة ذا الحجة، والمحرم، وصفرا، وشهري ربيع، وخرج في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى بني لحيان، يطلب بأصحاب الرجيع حبيب وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام، ليصيب من القوم غرة.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، والمقصود أنه عليه السلام لما انتهى إلى منازلهم، هربوا من بين يديه، فتحصنوا في رؤوس الجبال، فمال إلى عسفان، فلقي بها جمعا من المشركين، وصلى بها صلاة الخوف.
وقد تقدم ذكر هذه الغزوة في سنة أربع، وهنالك ذكرها البيهقي، والأشبه ما ذكره ابن إسحاق أنها كانت بعد الخندق، وقد ثبت أنه صلى بعسفان يوم بني لحيان، فلتكتب هاهنا، وتحول من هناك اتباعا لإمام أصحاب المغازي في زمانه وبعده، كما قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق.
وقد قال كعب بن مالك في غزوة بني لحيان:
لو أن بني لحيان كانوا تناظروا * لقوا عصبا في دارهم ذات مصدق
لقوا سرعانا يملأ السرب روعه * أمام طحون كالمجرَّة فيلق
ولكنهم كانوا وبارا تتبعت * شعاب حجازٍ غير ذي متنفق
غزوة ذي قرد
قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله ﷺ المدينة، فلم يقم بها إلا ليالي قلائل، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، في خيل من غطفان على لقاح النبي ﷺ بالغابة، وفيها رجل من بني غفار ومعه امرأته، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ومن لا أتهم، عن عبد الله بن كعب بن مالك - كل قد حدث في غزوة ذي قرد بعض الحديث - أنه كان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله، ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله، معه فرس له يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم.
فأشرف في ناحية سلع ثم صرخ: واصباحاه! ثم خرج يشتد في آثار القوم وكان مثل السبع، حتى لحق بالقوم، فجعل يردهم بالنبل ويقول:
خذها وأنا ابن الأكوع * اليوم يوم الرضَّع
فإذا وجهت الخيل نحوه، انطلق هاربا ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى، ثم قال:
خذها وأنا ابن الأكوع * اليوم يوم الرضع
قال: فيقول قائلهم: أويكعنا هو أول النهار.
قال: وبلغ رسول الله ﷺ صياح ابن الأكوع، فصرخ بالمدينة: «الفزع الفزع» فترامت الخيول إلى رسول الله ﷺ، فكان أول من انتهى إليه من الفرسان:
المقداد بن الأسود، ثم عباد بن بشر، وسعد بن زيد، وأسيد بن ظهير - يشك فيه - وعكاشة بن محصن، ومحرز بن نضلة أخو بني أسد بن خزيمة، وأبو قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة، وأبو عياش عبيد بن زيد بن الصامت أخو بني زريق.
قال: فلما اجتمعوا إلى رسول الله ﷺ أمَّر عليهم سعد بن زيد، ثم قال: «اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس».
وقد قال النبي ﷺ لأبي عياش فيما بلغني عن رجال من بني زريق: «يا أبا عياش لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك فلحق بالقوم».
قال أبو عياش: فقلت يا رسول الله أنا أفرس الناس، ثم ضربت الفرس فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني، فعجبت من ذلك، فزعم رجال من زريق أن رسول الله ﷺ أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص، أو عائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة، وكان ثامنا.
قال: وبعض الناس يعد سلمة بن الأكوع ثامنا، ويطرح أسيد بن ظهير، فالله أعلم أي ذلك كان.
قال: ولم يكن سلمة بن الأكوع يومئذ فارسا قد كان أول من لحق بالقوم على رجليه.
قال: فخرج الفرسان حتى تلاحقوا، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة، وكان يقال له: الأخرم، ويقال له: قمير، وكانت الفرس التي تحته لمحمود بن مسلمة، وكان يقال للفرس ذو اللمة.
فلما انتهى إلى العدو قال لهم: قفوا معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من أدباركم من المهاجرين والأنصار، قال: فحمل عليه رجل منهم فقتله، وجال الفرس، فلم يقدر عليه حتى وقف على أرية من بني عبد الأشهل، أي: رجع إلى مربطه الذي كان فيه بالمدينة.
قال ابن إسحاق: ولم يقتل يومئذ من المسلمين غيره.
قال ابن هشام: وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنه قد قتل معه أيضا وقاص بن مجرز المدلجي.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك: أن محرزا كان على فرس لعكاشة بن محصن يقال لها: الجناح، فقتل محرز واستلب جناح، فالله أعلم.
قال: ولما تلاحقت الخيل، قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة وغشاه برده، ثم لحق بالناس، وأقبل رسول الله ﷺ في المسلمين.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
فإذا حبيب مسجى ببرد أبي قتادة، فاسترجع الناس وقالوا: قُتل أبو قتادة، فقال رسول الله ﷺ: «ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل لأبي قتادة» ووضع عليه برده، لتعرفوا أنه صاحبه.
قال: وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا، وابنه عمرو بن أوبار وهما على بعير واحد، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعا، واستنقذوا بعض اللقاح.
قال: وسار رسول الله ﷺ حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وتلاحق به الناس، فأقام عليه يوما وليلة، وقال له سلمة بن الأكوع: يا رسول الله لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح، وأخذت بأعناق القوم.
فقال رسول الله ﷺ - فيما بلغني -: «إنهم الآن ليغبقون في غطفان» فقسم رسول الله ﷺ في أصحابه في كل مائة رجل جزورا، وأقاموا عليه، ثم رجع قافلا حتى قدم المدينة.
قال: وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل النبي ﷺ حتى قدمت عليه المدينة فأخبرته الخبر، فلما فرغت قالت: يا رسول الله إني قد نذرت الله أن أنحرها أن نجاني الله عليها.
قال: فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: «بئسما جزيتيها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة الله».
قال ابن إسحاق: والحديث في ذلك عن أبي الزبير المكي، عن الحسن البصري.
هكذا أورد ابن إسحاق هذه القصة بما ذكر من الإسناد والسياق.
وقد قال البخاري رحمه الله بعد قصة الحديبية، وقبل خيبر غزوة ذي قرد، وهي الغزوة التي أغاروا على لقاح النبي ﷺ قبل خيبر بثلاث: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، سمعت سلمة بن الأكوع يقول: خرجت قبل أن يؤذن بالأولى، وكانت لقاح النبي ﷺ ترعى بذي قرد.
قال: فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال: أخذت لقاح النبي ﷺ.
فقلت: من أخذها؟
قال: غطفان.
قال: فصرخت ثلاث صرخات واصباحاه.
قال: فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم، وقد أخذوا يستقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي وكنت راميا وأقول: أنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرضع، وأرتجز حتى استنقذت اللقاح منهم، واستلبت منهم ثلاثين بردة.
قال: وجاء النبي ﷺ والناس فقلت: يا رسول الله قد حميت القوم الماء وهم عطاش، فابعث إليهم الساعة.
فقال: «يا ابن الأكوع ملكت فأسجح» ثم رجعنا وردفني رسول الله ﷺ على ناقته حتى قدمنا المدينة.
وهكذا رواه مسلم عن قتيبة به.
ورواه البخاري: عن أبي عاصم السهلي، عن يزيد بن أبي عبيدة، عن مولاة سلمة بنحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: قدمنا المدينة زمن الحديبية مع رسول الله ﷺ، فخرجت أنا ورباح غلام النبي ﷺ بظهر رسول الله ﷺ، وخرجت بفرس لطلحة بن عبيد الله أريد أن أنديه مع الإبل.
فلما كان بغلس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله ﷺ فقتل راعيها، وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل فقلت: يا رباح اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة.
وأخبر رسول الله ﷺ أنه قد أغير على سرحه.
قال: وقمت على تل، فجعلت وجهي من قبل المدينة، ثم ناديت ثلاث مرات: يا صباحاه!
قال: ثم اتبعت القوم معي سيفي ونبلي فجعلت أرميهم وأعقر بهم، وذلك حين يكثر الشجر، فإذا رجع إلي فارس جلست له في أصل شجرة، ثم رميت فلا يقبل فارس إلا عقرت به فجعلت أرميهم وأنا أقول:
أنا ابن الأكوع * واليوم يوم الرضع
قال: فألحق برجل منهم فأرميه وهو على راحلته، فيقع سهمي في الرجل حتى انتظم كتفه، فقلت:
خذها وأنا ابن الأكوع * واليوم يوم الرضع
فإذا كنت في الشجر أحرقتهم بالنبل، فإذا تضايقت الثنايا علوت الجبل فرديتهم بالحجارة، فما زال ذاك شأني وشأنهم أتبعهم وأرتجز حتى ما خلق الله شيئا من ظهر رسول الله ﷺ إلا خلفته وراء ظهري، فاستنقذته من أيديهم.
ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا، وأكثر من ثلاثين بردة، يستخفون منها ولا يلقون من ذلك شيئا إلا جعلت عليه حجارة، وجمعته على طريق رسول الله ﷺ، حتى إذا امتد الضحى أتاهم عيينة بن بدر الفزاري مددا لهم، وهم في ثنية ضيقة، ثم علوت الجبل فأنا فوقهم.
فقال عيينة: ما هذا الذي أرى؟
قالوا: لقينا من هذا البرح ما فارقنا بسحر حتى الآن، وأخذ كل شيء بأيدينا وجعله وراء ظهره.
فقال عيينة: لولا أن هذا يرى أن وراءه طلبا لقد ترككم، ليقم إليه نفر منكم.
فقام إليه نفر منهم أربعة فصعدوا في الجبل، فلما أسمعتهم الصوت قلت: أتعرفونني؟
قالوا: ومن أنت؟
قلت: أنا ابن الأكوع، والذي كرم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني.
فقال رجل منهم: إن أظن.
قال: فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله ﷺ يخللون الشجر، وإذا أولهم الأخرم الأسدي، وعلى أثره أبو قتادة فارس رسول الله ﷺ، وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندي، فولى المشركون مدبرين، وأنزل من الجبل فأعرض للأخرم، فأخذ عنان فرسه.
فقلت: يا أخرم ائذن القوم - يعني احذرهم - فإني لا أمن أن يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله ﷺ وأصحابه.
قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق، والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة.
قال: فخليت عنان فرسه، فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة، ويعطف عليه عبد الرحمن، فاختلفا طعنتين فعقر الأخرم بعبد الرحمن، وطعنه عبد الرحمن فقتله، فتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن، فاختلفا طعنتين، فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة، وتحول أبو قتادة على فرس الأخرم.
ثم إني خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار صحابة النبي ﷺ شيئا، ويعرضون قبل غيبوبة الشمس إلى شعب فيه ماء، يقال له ذو قَرَدٍ، فأرادوا أن يشربوا منه فأبصروني أعدوا وراءهم، فعطفوا عنه وأسندوا في الثنية ثنية ذي بئر، وغربت الشمس وألحق رجلا فأرميه فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع.
قال: فقال: يا ثكل أم أكوع بكرة.
فقلت: نعم، أي: عدو نفسه.
وكان الذي رميته بكرة وأتبعته سهما آخر، فعلق به سهمان ويخلفون فرسين، فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله ﷺ وهو على الماء الذي أجليتهم عنه ذو قرد، وإذا بنبي الله ﷺ في خمسمائة، وإذا بلال قد نحر جزورا مما خلفت، فهو يشوي لرسول الله ﷺ من كبدها وسنامها، فأتيت رسول الله ﷺ فقلت:
يا رسول الله خلني، فأنتخب من أصحابك مائة، فآخذ على الكفار بالعشوة، فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته.
فقال: «أكنت فأعلى ذلك يا سلمة؟»
قال: قلت: نعم والذي أكرمك.
فضحك رسول الله ﷺ حتى رأيت نواجذه في ضوء النار، ثم قال: «إنهم يقرون الآن بأرض غطفان».
فجاء رجل من غطفان فقال: مروا على فلان الغطفاني، فنحر لهم حزورا، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها، وخرجوا هرابا، فلما أصبحنا قال رسول الله ﷺ: «خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة».
فأعطاني رسول الله ﷺ سهم الفارس والراجل جميعا، ثم أردفني وراءه على العضباء، راجعين إلى المدينة.
فلما كان بيننا وبينها قريب من ضحوة وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق، جعل ينادي: هل من مسابق، إلا رجل يسابق إلى المدينة؟ فأعاد ذلك مرارا وأنا وراء رسول الله ﷺ مردفي، فقلت له: أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا؟
قال: لا إلا رسول الله ﷺ.
قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي خلني فلأسابق الرجل.
قال: «إن شئت».
قلت: أذهب إليك، فطفر عن راحلته وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة، ثم إني ربطت عليه شرفا أو شرفين - يعني استبقيت من نفسي - ثم أني عدوت حتى ألحقه فأصك بين كتفيه بيدي.
قلت: سبقتك والله أو كلمة نحوها.
قال: فضحك، وقال: إن أظن، حتى قدمنا المدينة.
وهكذا رواه مسلم من طرق عن عكرمة بن عمار بنحوه، وعنده فسبقته إلى المدينة فلم نلبث إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر.
ولأحمد هذا السياق.
ذكر البخاري، والبيهقي هذه الغزوة بعد الحديبية وقبل خيبر، وهو أشبه مما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم.
فينبغي تأخيرها إلى أوائل سنة سبع من الهجرة، فإن خيبر كانت في صفر منها.
وأما قصة المرأة التي نجت على ناقة النبي ﷺ ونذرت نحرها لنجاتها عليها، فقد أوردها ابن إسحاق بروايته عن أبي الزبير، عن الحسن البصري مرسلا.
وقد جاء متصلا من وجوه أخر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، فأسر الرجل، فأخذت العضباء معه.
قال: فمر به رسول الله ﷺ وهو في وثاق ورسول الله ﷺ على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علام تأخذوني وتأخذون سابقة الحاج؟
فقال رسول الله ﷺ: «نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف».
قال: وكانت ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي ﷺ.
وقال: فيما قال إني مسلم.
فقال رسول الله ﷺ: «لو قتلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح».
قال: ومضى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد إني جائع فأطعمني، وإني ظمآن فاسقني.
فقال رسول الله ﷺ: «هذه حاجتك» ثم فدي بالرجلين، وحبس رسول الله ﷺ العضباء لرحله.
ثم قال: إن المشركين أغاروا على سرح المدينة فذهبوا به وكانت العضباء فيه، وأسروا امرأة من المسلمين.
قال: وكانوا إذا نزلوا أراحوا إبله بأفنيتهم.
قال: فقامت المرأة ذات ليلة بعد ما ناموا فجعلت كلما أتت على بعير رغا حتى أتت على العضباء، فأتت على ناقة ذلول مجرسة فركبتها، ثم وجهتها قبل المدينة.
قال: ونذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، فقيل: ناقة رسول الله ﷺ.
قال: وأخبر رسول الله ﷺ بنذرها، أو أتته فأخبرته.
فقال: «بئس ما جزيتيها» أو «بئس ما جزتها أن أنجاها الله عليها لتنحرنها».
قال: ثم قال رسول الله ﷺ: «لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم».
ورواه مسلم: عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد.
قال ابن إسحاق: وكان مما قيل من الأشعار في غزوة ذي قرد قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
لولا الذي لاقت ومس نسورها * بجنوب ساية أمس في التقواد
للقبنكم يحملن كل مدجج * حامي الحقيقة ماجد الأجداد
ولسر أولاد اللقيطة أننا * سلم غداة فوارس المقداد
كنا ثمانية وكانوا جحفلا * لجبا فشكوا بالرماح بداد
كنا من القوم الذين يلونهم * ويقدمون عنان كل جواد
كلا ورب الراقصات إلى منى * يقطعن عرض مخارم الأطواد
حتى نبيل الخيل في عرصاتكم * ونئوب بالملكات والأولاد
رهوا بكل مقلص وطمرةٍ * في كل معترك عطفن وواد
أفنى دوابرها ولاح متونها * يوم تقاد به ويوم طراد
فكذاك إن جيادنا ملبونة * والحرب مشعلة بريح غواد
وسيوفنا بيض الحدائد تجتلي * جنن الحديد وهامة المرتاد
أخذ الإله عليهم لحرامه * ولعزة الرحمن بالأسداد
كانوا بدار ناعمين فبدلوا * أيام ذي قرد وجوه عناد
قال ابن إسحاق: فغضب سعد بن زيد أمير سرية الفوارس المتقدمين أمام رسول الله ﷺ على حسان، وحلف لا يكلمه أبدا وقال: انطلق إلى خيلي وفوارسي فجعلها للمقداد.
فاعتذر إليه حسان بأنه وافق الروي اسم المقداد، ثم قال أبياتا يمدح بها سعد بن زيد:
إذا أردتم الأشد الجلدا * أو ذا غناء فعليكم سعدا
سعد بن زيد لا يهد هدا
قال: فلم تقع منه بموقع.
وقال حسان بن ثابت في يوم ذي قرد:
أظن عيينة إذ زارها * بأن سوف يهدم فيها قصورا
فأكذبت ما كنت صدقته * وقلتم سنغنم أمرا كبيرا
فعفت المدينة إذ زرتها * وأنست للأسد فيها زئيرا
وولوا سراعا كشد النعام * ولم يكشفوا عن ملط حصيرا
أمير علينا رسول المليك * أحبب بذاك إلينا أميرا
رسول يصدق ما جاءه * ويتلو كتابا مضيئا منيرا
وقال كعب بن مالك في يوم ذي قرد يمدح الفرسان يومئذ من المسلمين:
أيحسب أولاد اللقيطة أننا * على الخيل لسنا مثلهم في الفوارس
وأنا أناس لا نرى القتل سبة * ولا ننثني عند الرماح المداعس
وأنا لنقري الضيف من قمع الذرى * ونضرب رأس الأبلج المتشاوس
نرد كماة المعلمين إذا انتحوا * بضرب يسلي نخوة المتقاعس
بكل فتى حامي الحقيقة ماجد * كريم كسرحان العضاة مخالس
يذودون عن أحسابهم وبلادهم * ببيض تقد الهام تحت القوانس
فسائل بني بدر إذا ما لقيتهم * بما فعل الإخوان يوم التمارس
إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتم * ولا تكتموا أخباركم في المجالس
وقولوا زللنا عن مخالب خادر * به وحر في الصدر ما لم يمارس
غزوة بني المصطلق من خزاعة
قال البخاري: وهي غزوة المريسيع.
قال محمد بن إسحاق: وذلك في سنة ست.
وقال موسى بن عقبة: سنة أربع.
وقال النعمان بن راشد عن الزهري كان حديث الإفك في غزوة المريسيع.
هكذا رواه البخاري عن مغازي موسى بن عقبة أنها كانت في سنة أربع، والذي حكاه عنه وعن عروة أنها كانت في شعبان سنة خمس.
وقال الواقدي: كانت لليلتين من شعبان سنة خمس في سبعمائة من أصحابه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار بعد ما أورد قصة ذي قرد: فأقام رسول الله ﷺ بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجب، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان سنة ست.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري.
ويقال: نميلة بن عبد الله الليثي.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان، كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق قالوا: بلغ رسول الله ﷺ أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث التي تزوجها رسول الله ﷺ بعد هذا.
فلما سمع بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحم الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم، ونقل رسول الله ﷺ أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه.
وقال الواقدي: خرج رسول الله ﷺ لليلتين مضتا من شعبان سنة خمس من الهجرة في سبعمائة من أصحابه إلى بني المصطلق، وكانوا حلفاء بني مدلج، فلما انتهى إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق، ويقال إلى عمار بن ياسر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، ثم أمر عمر بن الخطاب فنادى في الناس: أن قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، فأبوا فتراموا بالنبل.
ثم أمر رسول الله ﷺ المسلمين فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم رجل واحد، وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد.
وثبت في الصحيحين: من حديث عبد الله بن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فقال: قد أغار رسول الله ﷺ على بني المصطلق، وهم غارون في أنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم، فأصاب يومئذ - أحسبه قال - جويرية بنت الحارث.
وأخبرني عبد الله بن عمر بذلك، وكان بذلك الجيش.
قال ابن إسحاق: وقد أصيب رجل من المسلمين يقال له هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ.
وذكر ابن إسحاق: أن أخاه مقيس بن صبابة قدم من مكة مظهرا للإسلام فطلب دية أخيه هشام من رسول الله ﷺ لأنه قتل خطأ، فأعطاه ديته، ثم مكث يسيرا ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ورجع مرتدا إلى مكة، وقال في ذلك:
شفى النفس أن قد بات بالقاع مسندا * يضرج ثوبيه دماء الأخادع
وكانت هموم النفس من قبل قتله * تلم فتحميني وطاء المضاجع
حللت به وتري وأدركت ثؤرتي * وكنت إلى الأوثان أول راجع
ثأرت به فهرا وحملت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع
قلت: ولهذا كان مقيس هذا من الأربعة الذين أهدر رسول الله ﷺ يوم الفتح دماءهم، وإن وجدوا معلقين بأستار الكعبة.
قال ابن إسحاق: فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم غلام حدث.
فقال: أوقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.
فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله.
فقال رسول الله ﷺ: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن أذن بالرحيل».
وذلك في ساعة لم يكن رسول الله ﷺ يرتحل فيها، فارتحل الناس.
وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله ﷺ حين بلغه أن زيد بن أرقم بلغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وكان في قومه شريفا عظيما.
فقال من حضر رسول الله ﷺ من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل حدبا على ابن أبي، ودفعا عنه، فلما استقل رسول الله ﷺ وسار، لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، وقال: يا رسول الله والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها.
فقال له رسول الله ﷺ: «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟».
قال: أي صاحب يا رسول الله؟
قال: عبد الله بن أبي.
قال: وما قال؟
قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل
قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز.
ثم قال: يا رسول الله ارفق لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
ثم مشى رسول الله ﷺ بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما.
وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي، ثم راح رسول الله ﷺ بالناس، وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع، يقال له: بقعاء.
فلما راح رسول الله ﷺ هبت على الناس ريح شديدة، فآذتهم وتخوفوها، فقال رسول الله ﷺ: «لا تخوفوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار».
فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع، وكان عظيما من عظماء اليهود وكهفا للمنافقين مات ذلك اليوم.
وهكذا ذكر موسى بن عقبة، والواقدي.
وروى مسلم من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر نحو هذه القصة، إلا أنه لم يسم الذي مات من المنافقين.
قال: هبت ريح شديدة والنبي ﷺ في بعض أسفاره، فقال: «هذه لموت منافق».
فلما قدمنا المدينة إذا هو قد مات عظيم من عظماء المنافقين.
قال ابن إسحاق: ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، فأخذ رسول الله ﷺ بأُذن زيد بن أرقم وقال: «هذا الذي أوفى لله بأذنه».
قلت: وقد تكلمنا على تفسيرها بتمامها في كتابنا التفسير بما فيه كفاية عن إعادته ها هنا، وسردنا طرق هذا الحديث عن زيد بن أرقم، ولله الحمد والمنة، فمن أراد الوقوف عليه أو أحب أن يكتبه ها هنا فليطلبه من هناك، وبالله التوفيق.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول أتى رسول الله ﷺ فقال:
يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فأعلى فمر لي به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من الرجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر، فأدخل النار.
فقال رسول الله ﷺ: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا».
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه.
فقال رسول الله ﷺ لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: «كيف ترى يا عمر أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته».
فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله ﷺ أعظم بركة من أمري.
وقد ذكر عكرمة، وابن زيد وغيرهما: أن ابنه عبد الله رضي الله عنه وقف لأبيه عبد الله بن أبي بن سلول عند مضيق المدينة، فقال: قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله ﷺ في ذلك، فلما جاء رسول الله ﷺ استأذنه في ذلك، فأذن له فأرسله حتى دخل المدينة.
قال ابن إسحاق: وأصيب يومئذ من بني المصطلق ناس، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين مالكا وابنه.
قال ابن هشام: وكان شعار المسلمين: يا منصور أمت أمت.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ أصاب منهم سبيا كثيرا فقسمهم في المسلمين.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرني إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز أنه قال:
دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل، فقال أبو سعيد: خرجنا مع رسول الله ﷺ في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيا من سبي العرب فاشتهينا النساء، وأشدت علينا العزوبة وأحببنا العزل، وقلنا نعزل ورسول الله ﷺ بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك فقال: «ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا كائنة».
وهكذا رواه.
قال ابن إسحاق: وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار.
فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت: لما قسم رسول الله ﷺ سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله ﷺ لتستعينه في كتابتها قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت.
فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي.
قال: «فهل لك في خير من ذلك؟».
قالت: وما هو يا رسول الله؟
قال: «أقضي عنك كتابك وأتزوجك».
قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت.
قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله ﷺ قد تزوج جويرية بنت الحارث.
فقال الناس: أصهار رسول الله ﷺ فأرسلوا ما بأيديهم.
قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها.
ثم ذكر ابن إسحاق قصة الإفك بتمامها في هذه الغزوة، وكذلك البخاري، وغير واحد من أهل العلم، وقد حررت طرق ذلك كله في تفسير سورة النور، فليلحق بكماله إلى ها هنا وبالله المستعان.
وقال الواقدي: حدثنا حرام، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قالت جويرية بنت الحارث: رأيت قبل قدوم النبي ﷺ بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر به أحدا من الناس، حتى قدم رسول الله ﷺ، فلما سبينا رجوت الرؤيا.
قالت: فأعتقني رسول الله ﷺ وتزوجني، والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذي أرسلوهم، وما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر، فحمدت الله تعالى.
قال الواقدي: ويقال إن رسول الله ﷺ جعل صداقها عتق أربعين من بني المصطلق.
وذكر موسى بن عقبة، عن بني المصطلق: أن أباها طلبها وافتداها، ثم خطبها منه رسول الله ﷺ فزوجه إياها.
قصة الإفك
وهذا سياق محمد بن إسحاق حديث الإفك: قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن علقمة بن وقاص وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن عبيد الله بن عتبة.
قال الزهري: وكل قد حدثني بهذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد جمعت كل الذي حدثني القوم.
قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، وعبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، عن نفسها حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا، يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه، وكل كان عنها ثقة، فكلهم حدث عنها بما سمع.
قالت: كان رسول الله ﷺ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كان غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهن معه، فخرج بي رسول الله ﷺ.
قالت: وكان النساء إذ ذاك يأكلن العلق، لم يهجهن اللحم فيثقلن، وكنت إذا رحل لي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين كانوا يرحلون لي فيحملونني ويأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير، فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به.
قالت: فلما فرغ رسول الله ﷺ من سفره ذلك، وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات به بعض الليل، ثم أذن مؤذن في الناس بالرحيل، فارتحل الناس وخرجت لبعض حاجتي، وفي عنقي عقد لي فيه جزع ظفار، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته.
وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون لي البعير، وقد كانوا فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه، كما كنت أصنع فاحتملوه فشدوه على البعير، ولم يشكوا أني فيه ثم أخذوا برأس البعير، فانطلقوا به فرجعت إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب، قد انطلق الناس.
قالت: فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو افتقدت لرجع الناس إلي.
قالت: فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجاته، فلم يبت مع الناس فرأى سوادي فأقبل حتى وقف علي، وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ظعينة رسول الله ﷺ؟ وأنا متلففة في ثيابي.
قال: ما خلفك يرحمك الله؟
قالت: فما كلمته.
ثم قرب إلي البعير فقال: اركبي، واستأخر عني.
قالت: فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعا يطلب الناس، فوالله ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي، فقال أهل الإفك ما قالوا، وارتج العسكر، والله ما أعلم بشيء من ذلك.
ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة لا يبلغني من ذلك شيء، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله ﷺ وإلى أبوي لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا، إلا أني قد أنكرت من رسول الله ﷺ بعض لطفه بي، كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي، فلم يفعل ذلك بي في شكواي ذلك، فأنكرت ذلك منه.
كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني قال: «كيف تيكم؟» لا يزيد على ذلك.
قالت: حتى وجدت في نفسي، فقلت: يا رسول الله حين رأيت ما رأيت من جفائه لي لو أذنت لي، فانتقلت إلى أمي فمرضتني؟
قال: «لا عليك».
قالت: فانقلبت إلى أمي، ولا علم لي بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع عشرين ليلة، وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، إنما كنا نخرج في فسح المدينة، وإنما كانت النساء يخرجن في كل ليلة في حوائجهن، فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب.
قالت: فوالله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح - ومسطح لقب واسمه عوف - قالت: فقلت: بئس لعمرو الله ما قلت لرجل من المهاجرين وقد شهد بدرا.
قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟
قالت: قلت: وما الخبر؟
فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك.
قلت: أو قد كان هذا؟
قالت: نعم والله لقد كان.
قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي، ورجعت فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي؛ قالت: وقلت لأمي: يغفر الله لك تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟
قالت: أي بنية خففي عليك الشأن، فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها.
قالت: وقد قام رسول الله ﷺ في الناس فخطبهم ولا أعلم بذلك، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت عليهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي».
قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله ﷺ، ولم تكن امرأة من نسائه تناصيني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارني لأختها فشقيت بذلك.
فلما قال رسول الله ﷺ تلك المقالة، قال أسيد بن حضير: يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا أمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم.
قالت: فقام سعد بن عبادة، وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا فقال: كذبت لعمر الله ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا.
فقال أسيد بن حضير: كذبت لعمر الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين.
قالت: وتساور الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر، ونزل رسول الله ﷺ فدخل علي، فدعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا وقاله.
ثم قال: يا رسول الله أهلك، وما نعلم منهم إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل.
وأما علي فإنه قال: يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية فإنها ستصدقك.
فدعا رسول الله ﷺ بريرة يسألها، قالت: فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا ويقول: أصدقي رسول الله ﷺ.
قالت: فتقول والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أني كنت أعجن عجيني فأمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله.
قالت: ثم دخل علي رسول الله ﷺ وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي، فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله، وإن كنت قد فارقت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده».
قالت: فوالله إن هو إلا أن قال لي ذلك، فقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئا، وانتظرت أبوي أن يجيبا عني رسول الله ﷺ فلم يتكلما.
قالت: وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسي، وأصغر شأنا من أن ينزل الله في قرأنا يقرأ به ويصلى به، ولكني كنت أرجو أن يرى النبي ﷺ في نومه شيئا يكذب الله به عني، لما يعلم من براءتي، ويخبر خبرا، وأما قرآنا ينزل في فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك.
قالت: فلما لم أرَ أبوي يتكلمان، قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله ﷺ؟
فقالا: والله ما ندري بما نجيبه.
قالت: ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل علي آل أبي بكر في تلك الأيام.
قالت: فلما استعجما علي استعبرت فبكيت، ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أني منه بريئة، لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني.
قالت: ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت: ولكن سأقول كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
قالت: فوالله ما برح رسول الله ﷺ مجلسه، حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجي بثوبه، ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فوالله ما فزعت وما باليت قد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي.
وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سري عن رسول الله ﷺ حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس.
قالت: ثم سري عن رسول الله ﷺ فجلس وإنه ليتحدر من وجهه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: «أبشري يا عائشة قد أنزل الله عز وجل براءتك» قالت: قلت الحمد لله.
ثم خرج إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن الزهري، وهذا السياق فيه فوائد جمة، وذكر حد القذف لحسان ومن معه رواه أبو داود في سننه.
قال ابن إسحاق: وقال قائل من المسلمين في ضرب حسان وأصحابه:
لقد ذاق حسان الذي كان أهله * وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم * وسخطة ذي العرش الكريم فأترحوا
وآذوا رسول الله فيها فجللوا * مخازي تبقى عمموها وفضِّحوا
وصبت عليهم محصدات كأنها * شآبيب قطر في ذرا المزن تسفح
وقد ذكر ابن إسحاق أن حسان بن ثابت قال شعرا يهجو فيه صفوان بن المعطل، وجماعة من قريش ممن تخاصم على الماء من أصحاب جهجهاه كما تقدم، أوله هي:
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا * وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
قد ثكلت أمه من كنت صاحبه * أو كان منتشبا في برثن الأسد
ما لقتيلي الذي أعدو فآخذه * من دية فيه يعطاها ولا قود
ما البحر حين تهب الريح شامية * فيغطئل ويرمي العبر بالزبد
يوما بأغلب مني حين تبصرني * مِلْغيظ أفري كفري العارض البرد
أما قريش فإني لا أسالمها * حتى ينيبوا من الغياث للرشد
ويتركوا اللات والعزى بمعزلة * ويسجدوا كلهم للواحد الصمد
ويشهدوا أن ما قال الرسول لهم * حق فيوفوا بحق الله والوكد
قال: فاعترضه صفوان بن المعطل فضربه بالسيف وهو يقول:
تلقَ ذباب السيف عني فإنني * غلام إذا هوجيت لست بشاعر
وذكر أن ثابت بن قيس بن شماس أخذ صفوان حين ضرب حسان فشده وثاقا، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ فقال: ضُرب حسان بالسيف، فقال عبد الله: هل علم رسول الله ﷺ بشيء من ذلك؟
قال: لا، فأطلقه.
ثم أتوا كلهم رسول الله ﷺ فقال ابن المعطل: يا رسول الله آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته، فقال رسول الله ﷺ: «يا حسان أتشوهت على قومي إذ هداهم الله».
ثم قال: «أحسن يا حسان فيما أصابك» فقال: هي لك يا رسول الله، فعوضه منها بيرحاء التي تصدق بها أبو طلحة وجارية قبطية يقال لها: سيرين، جاءه منها ابنه عبد الرحمن.
قال: وكانت عائشة تقول: سُئل عن ابن المعطل فوجد رجلا حصورا ما يأتي النساء، ثم قتل بعد ذلك شهيدا رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: ثم قال حسان بن ثابت يعتذر من الذي كان قال في شأن عائشة:
حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
عقيلة حي من لؤي بن غالب * كرام المساعي مجدهم غير زائل
وإن الذي قد قيل ليس بلائط * بك الدهر بل قيل امرئ بي ما حل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم * فلا رفعت سوطي إلى أناملي
فكيف وودي ما حييت ونصرتي * لآل رسول الله زين المحافل
وإن لهم عزا ترى الناس دونه * قصارا وطال العز كل التطاول
ولتكتب ها هنا الآيات من سورة النور، وهي من قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ... } إلى { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [43].
وما أوردناه هنالك من الأحاديث والطرق والآثار عن السلف والخلف، وبالله التوفيق.
غزوة الحديبية
وقد كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف، وممن نصَّ على ذلك الزهري، ونافع مولى ابن عمر، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق بن يسار وغيرهم.
وهو الذي رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة أنها كانت في ذي القعدة سنة ست.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا إسماعيل بن الخليل عن علي بن مسهر، أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال: خرج رسول الله ﷺ إلى الحديبية في رمضان، وكانت الحديبية في شوال، وهذا غريب جدا عن عروة.
وقد روى البخاري ومسلم جميعا: عن هدبة، عن همام، عن قتادة أن أنس بن مالك أخبره أن رسول الله ﷺ اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا العمرة التي مع حجته عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، ومن الجعرانة في ذي القعدة، حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته.
وهذا لفظ البخاري.
وقال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة رمضان وشوال، وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي.
قال ابن إسحاق: واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول الله ﷺ بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا: خرج رسول الله ﷺ عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا، وساق معه الهدي سبعين بدنة.
وكان الناس سبعمائة رجل، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر، وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.
قال الزهري: وخرج رسول الله ﷺ حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش فوالله، لا أزال أجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة».
ثم قال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟».
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين فأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله للناس: «قولوا نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك.
فقال: «والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها».
قال ابن شهاب: فأمر رسول الله ﷺ الناس فقال: «اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض في طريق يخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة».
قال: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش، وخرج رسول الله ﷺ حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس: خلأت.
فقال: «ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطه يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها».
ثم قال للناس: «انزلوا».
قيل له: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه، فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم: أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله ﷺ ناجية بن جندب سائق بدن رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: وقد زعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذي نزلت بسهم رسول الله ﷺ، فالله أعلم أي ذلك كان.
ثم استدل ابن إسحاق للأول أن جارية من الأنصار جاءت البئر وناجية أسفله يميح فقالت:
يا أيها المائح دلوي دونكا * إني رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيرا ويمجدونكا
فأجابها فقال:
قد علمت جارية يمانيه * أني أنا المائح واسمي ناجية
وطعنة ذات رشاش واهيه * طعنتها عند صدور العادية
قال الزهري في حديثه: فلما اطمأن رسول الله ﷺ أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته.
ثم قال لهم نحو ما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، وإن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم وقالوا: وإن جاء ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة، ولا تحدث بذلك عنا العرب.
قال الزهري: وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله ﷺ مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكة، قال: ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله ﷺ مقبلا قال: «هذا رجل غادر».
فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ وكلمه، قال له رسول الله ﷺ نحوا مما قال لبديل وأصحابه.
فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله ﷺ، ثم بعثوا بحليس بن علقمة أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة.
فلما رآه رسول الله ﷺ قال: «إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله ﷺ إعظاما لما رأى، فقال لهم ذلك.
قال: فقالوا له اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن الحليس غضب عند ذلك وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاهدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد.
قالوا: مه كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
قال الزهري في حديثه: ثم بعثوا إلى رسول الله ﷺ عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي.
قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.
فخرج حتى أتى رسول الله ﷺ فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.
قال: وأبو بكر الصديق رضي الله عنه خلف رسول الله ﷺ فقال: امصص بظر اللات أنحن ننكشف عنه.
قال: من هذا يا محمد؟
قال: «هذا ابن أبي قحافة».
قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ولكن هذه بهذه.
قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله ﷺ وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله ﷺ في الحديد.
قال: فجعل يقرع يده إذ يتناول لحية رسول الله ﷺ ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله ﷺ قبل أن لا تصل إليك.
قال: فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك.
قال: فتبسم رسول الله ﷺ فقال له عروة: من هذا يا محمد؟
قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة».
قال: أي غدر وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس؟
قال الزهري: فكلمه رسول الله ﷺ بنحو ما كلم به أصحابه وأخبره أنه لم يأت يريد حربا، فقام من عند رسول الله ﷺ وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه.
فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله ﷺ وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، أمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ﷺ ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا.
فأخذوا فأتى بهم رسول الله ﷺ فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله ﷺ بالحجارة والنبل.
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال يا رسول الله: إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان.
فدعا رسول الله ﷺ عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته.
فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله ﷺ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله ﷺ ما أرسله به.
فقالوا لعثمان حين بلغ رسالة رسول الله ﷺ: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف.
قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ﷺ، واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله ﷺ والمسلمين أن عثمان قد قتل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله ﷺ قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا رسول الله ﷺ إلى البيعة، وكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله ﷺ على الموت.
وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله ﷺ لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر، فبايع رسول الله ﷺ الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين إلا حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، وكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بأبط ناقته قد ضبأ إليها يستر من الناس.
ثم أتى رسول الله ﷺ أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.
قال ابن هشام: وذكر وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: أن أول من بايع رسول الله ﷺ بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ بايع لعثمان فضرب بإحدى يديه على الأخرى.
وهذا الحديث الذي ذكره ابن هشام بهذا الإسناد ضعيف لكنه ثابت في الصحيحين.
قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله ﷺ وقالوا: آت محمدا وصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوة أبدا.
فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله ﷺ مقبلا قال: «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل».
فلما انتهى سهيل إلى رسول الله ﷺ تكلم فأطال الكلام، تراجعا ثم جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله ﷺ؟
قال: بلى.
قال: أولسنا بالمسلمين؟
قال: بلى.
قال: أوليسوا بالمشركين؟
قال: بلى.
قال: فعلام نعطي الدينة في ديننا؟
قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله.
قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله ألست برسول الله؟
قال: «بلى».
قال: أولسنا بالمسلمين؟
قال: «بلى».
قال: أوليسوا بالمشركين؟
قال: «بلى».
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا قال أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني، وكان عمر رضي الله عنه يقول ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرا.
قال: ثم دعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم».
قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا ولكن أكتب باسمك اللهم.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «اكتب باسمك اللهم» فكتبها.
ثم قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو».
قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا أسلال ولا أغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه».
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت فيها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.
قال: فبينا رسول الله ﷺ يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله ﷺ، وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ قد خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ.
فلما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله ﷺ في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم، حتى كادوا يهلكون، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا.
قال: «صدقت» فجعل ينتره بتلبيبه ويجره يعني يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني! فزاد ذلك الناس إلى ما بهم.
فقال رسول الله ﷺ: «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، أنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وأنا لا نغدر بهم».
قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب، قال: ويدني قائم السيف منه.
قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه.
قال: فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية.
فلما فرغ رسول الله ﷺ من الكتاب أشهد على الصلح رجالا من المسلمين، ورجالا من المشركين أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص، وهو يومئذ مشرك، وعلي بن أبي طالب، وكتب وكان هو كاتب الصحيفة.
وكان رسول الله ﷺ مضطربا في الحل وكان يصلي في الحرم، فلما فرغ من الصلح قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فلما رأى الناس أن رسول الله ﷺ قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله ﷺ: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟
قال: «يرحم الله المحلقين».
قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟
قال: «يرحم الله المحلقين».
قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟
قال: «والمقصرين».
قالوا يا رسول الله: فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟
قال: «لم يشكو».
وقال عبد الله بن أبي نجيح: حدثني مجاهد، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين.
هذا سياق محمد بن إسحاق رحمه الله لهذه القصة، وفي سياق البخاري كما سيأتي مخالفة في بعض الأماكن لهذا السياق كما ستراها إن شاء الله وبه الثقة، ولنوردها بتمامها ونذكر في الأحاديث الصحاح والحسان ما فيه.... إن شاء الله تعالى، وعليه التكلان وهو المستعان.
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله، عن زيد بن خالد قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة، فصلى بنا رسول الله ﷺ الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: «أتدرون ماذا قال ربكم؟».
فقلنا: الله ورسوله أعلم.
فقال: «قال الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنجم كذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي».
وهكذا رواه في غير موضع من صحيحه، ومسلم من طرق عن الزهري.
وقد روي عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة.
وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: تعدون الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية.
كنا مع النبي ﷺ أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي ﷺ فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا.
انفرد به البخاري.
وقال ابن إسحاق في قوله تعالى: { فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحا قَرِيبا } [44] صلح الحديبية.
قال الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس كلم بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
قال ابن هشام: والدليل على ما قاله الزهري: أن رسول الله ﷺ خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة رجل في قول جابر، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.
وقال البخاري: حدثنا يوسف بن عيسى، حدثنا ابن فضيل، حدثنا حصين، عن سالم، عن جابر قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله ﷺ بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، فقال رسول الله ﷺ: «ما لكم؟»
قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشرب إلا ما في ركوتك، فوضع النبي ﷺ يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون.
قال: فشربنا وتوضأنا.
فقلنا لجابر: كم كنتم يومئذ؟
قال: لو كنا مائة ألف لكفأنا، كنا خمس عشرة مائة.
وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم من طرق: عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد عن جابر به.
وقال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة.
فقال لي سعيد: حدثني جابر كانوا خمس عشرة مائة، الذين بايعوا النبي ﷺ يوم الحديبية.
تابعه أبو داود: حدثنا قرة، عن قتادة، تفرد به البخاري.
ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابرا قال: قال لنا رسول الله ﷺ يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض» وكنا ألفا وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة.
وقد روى البخاري أيضا، ومسلم من طرق: عن سفيان بن عيينة به.
وهكذا رواه الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: إن عبدا لحاطب جاء يشكوه فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار.
فقال رسول الله ﷺ: «كذبت لا يدخلها شهد بدرا والحديبية» رواه مسلم.
وعند مسلم أيضا من طرق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: أخبرتني أم ميسر أنها سمعت الله رسول الله صلى عليه وسلم يقول عند حفصة: «لا يدخل أحد النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها».
فقالت حفصة: بلى يا رسول الله، فانتهرها فقالت حفصة: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } [45]
فقال رسول الله ﷺ: قد قال تعالى: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّا } [46].
قال البخاري: وقال عبيد الله بن معاذ: حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، حدثني عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين.
تابعه محمد بن بشار: حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، هكذا رواه البخاري معلقا عن عبد الله.
وقد رواه مسلم عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة به.
وعن محمد بن المثنى، عن أبي داود، عن إسحاق بن إبراهيم، عن النضر بن شميل كلاهما عن شعبة به.
ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن مروان والمسور بن مخرمة قالا: خرج النبي ﷺ عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم منها.
تفرد به البخاري، وسيأتي هذا السياق بتمامه، والمقصود أن هذه الروايات كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن إسحاق من أن أصحاب الحديبية كانوا سبع مائة، وهو والله أعلم إنما قال ذلك تفقها من تلقاء نفسه، من حيث أن البدن كن سبعين بدنة، وكل منها عن عشرة على اختياره، فيكون المهلون سبع مائة، ولا يلزم أن يهدي كلهم، ولا أن يحرم كلهم أيضا.
فقد ثبت أن رسول الله ﷺ بعث طائفة منهم فيهم أبو قتادة ولم يحرم أبو قتادة حتى قتل ذلك الحمار الوحشي فأكل منه هو وأصحابه، وحملوا منه إلى رسول الله ﷺ في أثناء الطريق فقال: «هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها».
قالوا: لا.
قال: «فكلوا ما بقي من الحمار».
وقد قال البخاري: حدثنا شعبة بن الربيع، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة: أن أباه حدثه قال: انطلقنا مع النبي ﷺ عام الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا شبابة بن سوار الفزاري، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد، فلم أعرفها.
حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، حدثنا طارق، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه: أنه كان فيمن بايع تحت الشجرة فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا.
وقال البخاري أيضا: حدثنا محمود، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون فقلت: ما هذا المسجد؟
قالوا: هذه الشجرة حيث بايع النبي ﷺ بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله ﷺ تحت الشجرة قال: فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها.
ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد لم يعلموها وعلمتموها أنتم! فأنتم أعلم.
ورواه البخاري، ومسلم من حديث الثوري، وأبي عوانة، وشبابة عن طارق.
وقال البخاري: حدثنا سعيد، حدثني أخي، عن سليمان، عن عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم قال: لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال ابن زيد: على ما يبايع ابن حنظلة الناس؟
قيل له: على الموت.
فقال: لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله ﷺ، وكان شهد معه الحديبية.
وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم من طرق، عن عمرو بن يحيى به.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله ﷺ يوم الحديبية؟
قال: على الموت.
ورواه مسلم من حديث يزيد بن أبي عبيد. وفي صحيح مسلم عن سلمة أنه بايع ثلاث مرات: في أوائل الناس، ووسطهم، وأواخرهم.
وفي الصحيح عن معقل بن يسار أنه كان آخذا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله ﷺ وهو يبايع الناس، وكان أول من بايع رسول الله ﷺ يومئذ: أبو سنان، وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن، وقيل: سنان بن أبي سنان.
وقال البخاري: حدثني شُجاع بن الوليد، سمع النضر بن محمد، حدثنا صخر بن الربيع، عن نافع قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر وليس كذلك.
ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ورسول الله ﷺ يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله فانطلق، فذهب معه حتى بايع رسول الله ﷺ، وهي التي تحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر.
وقال هشام بن عمار: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عمر بن محمد العمري، أخبرني نافع عن ابن عمر أن الناس كانوا مع النبي ﷺ يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجرة، فإذا الناس محدِّقون بالنبي ﷺ.
فقال: يا عبد الله أنظر ما شأن الناس، قد أحدقوا برسول الله ﷺ، فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع.
تفرد به البخاري من هذين الوجهين.
سياق البخاري لعمرة الحديبية
قال في كتاب (المغازي): حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه، وثبتني معمر، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه، قالا:
خرج النبي ﷺ عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي، وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عينا له من خزاعة، وسار النبي ﷺ حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه قال: إن قريشا قد جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ومانعوك.
فقال: أشيروا أيها الناس عليَّ أترون أن أميل إلى عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله قد قطع عينا من المشركين، وإلا تركنا لهم محروبين.
قال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: «امضوا على اسم الله» هكذا رواه ها هنا، ووقف ولم يزد شيئا على هذا.
وقال في كتاب (الشهادات): حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، أخبرني الزهري، أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا:
خرج رسول الله ﷺ زمن الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي ﷺ: «إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين».
فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي ﷺ حتى إذا كان بالثنية التي هبط عليهم منها، بركت به راحلته فقال الناس: حل حل، فألحت.
فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء.
فقال رسول الله ﷺ: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل».
ثم قال: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها».
ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله ﷺ العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة - وكانوا عيبة نصح رسول الله ﷺ من أهل تهامة - فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.
فقال النبي ﷺ: «إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن أمر الله».
قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا.
فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء.
وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول.
قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول الله ﷺ، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم ألست بالوالد؟
قالوا: بلى.
قال: أولستم بالولد؟
قالوا: بلى.
قال: فهل تتهموني؟
قالوا: لا.
قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟
قالوا: بلى.
قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه.
فقالوا: ائته.
فأتاه فجعل يكلم النبي ﷺ.
فقال النبي ﷺ نحوا من قوله لبديل.
فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوها، وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك.
فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟
قال: من ذا؟
قالوا: أبو بكر.
قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
قال: وجعل يكلم النبي ﷺ، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله ﷺ ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله ﷺ، ضرب يده بنعل السيف وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله ﷺ.
فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟
قالوا: المغيرة بن شعبة.
فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟
وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم.
فقال النبي ﷺ: «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء».
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله ﷺ بعينيه.
قال: فوالله ما تنخم رسول الله ﷺ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا.
والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه.
فقالوا: ائته.
فلما أشرف على النبي ﷺ وأصحابه قال رسول الله ﷺ: «هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له».
فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعونى آتيه.
قالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، فلما أشرف عليهم قال رسول الله ﷺ: «هذا مكرز وهو رجل فاجر».
فجعل يكلم النبي ﷺ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة: أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال رسول الله ﷺ: «لقد سهل لكم من أمركم»
قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل فقال: هات فاكتب بيننا وبينكم كتابا.
فدعا النبي ﷺ الكاتب، فقال النبي ﷺ: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم».
فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب.
فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم.
فقال النبي ﷺ: «اكتب باسمك اللهم» ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله».
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله.
فقال رسول الله ﷺ: «والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله».
قال الزهري: وذلك لقوله: «لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها».
فقال له النبي ﷺ: «على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به».
قال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل. فكتب.
فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا.
قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين.
فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي.
فقال النبي ﷺ: «إنا لم نقض الكتاب بعد».
قال: فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبدا.
قال النبي ﷺ: «فأجزه لي».
قال: ما أنا بمجيزه لك.
قال: «بلى فافعل».
قال: ما أنا بفاعل.
قال مكرز: بلى قد أجزناه لك.
قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد لقيت - وكان قد عذب عذابا شديدا في الله -
فقال عمر رضي الله عنه: فأتيت رسول الله ﷺ فقلت: ألست نبي الله حقا؟
قال: «بلى».
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
قال: «بلى».
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟
قال: «إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري».
قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟
قال: «بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟».
قال: قلت: لا.
قال: «فإنك آتيه ومطوف به».
قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟
قال: بلى.
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
قال: بلى.
قال: قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟
قال: أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق.
قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟
قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟
فقلت: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.
قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله ﷺ لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا».
قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس.
فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.
ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } حتى بلغ { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [47].
فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية.
ثم رجع النبي ﷺ إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم.
فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت.
فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله ﷺ حين رآه: «لقد رأى هذا ذعرا» فلما انتهى إلى النبي ﷺ قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول.
فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم.
فقال النبي ﷺ: «ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد».
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.
قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم.
فأرسلت قريش إلى النبي ﷺ تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو أمن، فأرسل النبي ﷺ إليهم، فأنزل الله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } حتى بلغ { الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } [48].
وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.
فهذا سياق فيه زيادات وفوائد حسنة ليست في رواية ابن إسحاق عن الزهري.
فقد رواه عن الزهري عن جماعة منهم: سفيان بن عيينة، ومعمر، ومحمد بن إسحاق، كلهم عن الزهري، عن عروة، عن مروان ومسور، فذكر القصة.
وقد رواه البخاري في أول كتاب الشروط عن يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة عن أصحاب رسول الله ﷺ فذكر القصة.
وهذا هو الأشبه فإن مروان ومسورا كانا صغيرين يوم الحديبية، والظاهر أنهما أخذاه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وقال البخاري: حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا مالك بن مغول، سمعت أبا حصين قال: قال أبو وائل: لما قدم سهيل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره فقال:
اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله ﷺ أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا لأمر يقطعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسد منها خصما إلا انفجر علينا خصم، ما ندري كيف نأتي له.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن رسول الله ﷺ كان يسير في بعض أسفاره، وكان عمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله ﷺ، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه.
فقال عمر بن الخطاب: ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله ﷺ ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك.
قال عمر: فحركت بعيري، ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل فيَّ قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي.
قال: فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله ﷺ فسلمت عليه، فقال: «لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس».
ثم قرأ: { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } .
قلت: وقد تكلمنا على سورة الفتح بكمالها في كتابنا التفسير بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة، ومن أحب أن يكتب ذلك هنا فليفعل.
فصل في السرايا التي كانت في سنة ست من الهجرة
وتلخيص ذلك ما أورده الحافظ البيهقي، عن الواقدي:
في ربيع الأول منها أو الآخر بعث رسول الله ﷺ عكاشة بن محصن في أربعين رجلا إلى الغمر، وفيهم ثابت بن أقرن وسباع بن وهب، فأغذا السير ونذر القوم بهم، فهربوا منه ونزل على مياههم، وبعث في آثارهم وأخذ منهم مائتي بعير فاستاقها إلى المدينة.
وفيها كان بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة بأربعين رجلا أيضا، فساروا إليهم مشاة، حتى أتوها في عماية الصبح، فهربوا منه في رؤوس الجبال، فأسر منهم رجلا فقدم به على رسول الله ﷺ، وبعثه محمد بن مسلمة في عشرة نفر، وكمن القوم لهم حتى باتوا، فما شعروا إلا بالقوم فقتل أصحاب محمد بن مسلمة كلهم، وأفلت هو جريحا.
وفيها كان بعث زيد بن حارثة بالحموم، فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من محال بني سليم، فأصابوا منها نعما وشاءً وأسروا من المشركين، وكان فيهم زوج حليمة هذه، فوهبه رسول الله ﷺ لزوجها وأطلقهما.
وفيها كان بعث زيد بن حارثة أيضا في جمادى الأولى إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا، فهربت منه الأعراب فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا، ثم رجع بعد أربع ليال.
وفيها خرج زيد بن حارثة في جمادى الأولى إلى العيص.
قال: وفيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع فاستجار بزينب بنت رسول الله ﷺ فأجارته.
وقد ذكر ابن إسحاق قصته حين أخذت العير التي كانت معه، وقتل أصحابه وفر هو من بينهم حتى قدم المدينة، وكانت امرأته زينب بنت رسول الله ﷺ قد هاجرت بعد بدر، فلما جاء المدينة استجار بها فأجارته بعد صلاة الصبح، فأجاره لها رسول الله ﷺ، وأمر الناس برد ما أخذوا من عيره فردوا كل شيء كانوا أخذوه منه حتى لم يفقد منه شيئا.
فلما رجع بها إلى مكة وأدى إلى أهلها ما كان لهم معه من الودائع أسلم، وخرج من مكة راجعا إلى المدينة، فرد عليه رسول الله ﷺ زوجته بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحا ولا عقدا كما تقدم بيان ذلك.
وكان بين إسلامه وهجرتها ست سنين، وقد بينا أنه لا منافاة بين الروايتين، وأن إسلامه تأخر عن وقت تحريم المؤمنات على الكفار بسنتين، وكان إسلامه في سنة ثمان في سنة الفتح، لا كما تقدم في كلام الواقدي من أنه سنة ست، فالله أعلم.
وذكر الواقدي في هذه السنة أن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من عند قيصر قد أجازه بأموال وخلع، فلما كان بحسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق فلم يتركوا معه شيئا، فبعث إليهم رسول الله ﷺ زيد بن حارثة أيضا رضي الله عنه.
قال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة قال: خرج علي رضي الله عنه في مائة رجل إلى أن نزل إلى حي من بني أسد بن بكر، وذلك أنه بلغ رسول الله ﷺ أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار إليهم بالليل وكمن بالنهار، وأصاب عينا لهم فأقر له أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: وفي سنة ست في شعبان كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، وقال له رسول الله ﷺ: «إن هم أطاعوا فتزوج بنت ملكهم» فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن بنت ملكهم تماضر بنت الأصبع الكلبية، وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
قال الواقدي: في شوال سنة ست كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله ﷺ، واستاقوا النعم، فبعث رسول الله ﷺ في آثارهم كرز بن جابر في عشرين فارسا، فردوهم وكان من أمرهم ما أخرجه البخاري ومسلم: من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك:
أن رهطا من عكل وعرينة - وفي رواية: من عكل أو عرينة - أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله أنا أناس أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، فاستوخمنا المدينة، فأمر لهم رسول الله ﷺ بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة، قتلوا راعي رسول الله ﷺ واستاقوا الذود، وكفرو بعد إسلامهم.
فبعث النبي ﷺ في طلبهم فأمر بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَّر أعينهم، وتركهم في الحَّرة حتى ماتوا وهم كذلك.
قال قتادة: فبلغنا أن رسول الله ﷺ كان إذا خطب بعد ذلك حض على الصدقة، ونهى عن المثلة.
وهذا الحديث قد رواه جماعة عن قتادة.
ورواه جماعة عن أنس بن مالك.
وفي رواية مسلم: عن معاوية بن قرة، عن أنس: أن نفرا من عرينة أتوا رسول الله ﷺ فأسلموا وبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم - وهو البرسام - فقالوا: هذا الموم قد وقع يا رسول الله، لو أذنت لنا فرجعنا إلى الإبل.
قال: «نعم فاخرجوا فكونوا فيها» فخرجوا فقتلوا الراعيين، وذهبوا بالإبل، وعنده سار من الأنصار قريب عشرين، فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفا يقتص أثرهم، فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَّر أعينهم.
وفي صحيح البخاري: من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس أنه قال: قدم رهط من عكل فأسلموا واجتووا المدينة، فأتوا رسول الله ﷺ فذكروا ذلك له فقال: «الحقوا بالإبل واشربوا من أبوالها وألبانها».
فذهبوا وكانوا فيها ما شاء الله، فقتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فجاء الصريخ إلى رسول الله ﷺ، فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت فكواهم بها، وقطع أيديهم وأرجلهم، وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ولم يحمهم.
وفي رواية عن أنس قال: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من العطش.
قال أبو قلابة: فهؤلاء قتلوا، وسرقوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله ﷺ.
وقد روى البيهقي: من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن سليمان، عن محمد بن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله ﷺ لما بعث في آثارهم قال: «اللهم عمِ عليهم الطريق واجعلها عليهم أضيق من مسك جمل».
قال: فعمَّى الله عليهم السبيل فأدركوا، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمَّل أعينهم.
وفي صحيح مسلم: إنما سملهم لأنهم سملوا أعين الرعاء.
فصل فيما وقع من الحوادث في هذه السنة
أعني سنة ست من الهجرة، فيها نزل فرض الحج كما قرره الشافعي رحمه الله، زمن الحديبية في قوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [49] ولهذا ذهب إلى أن الحج على التراخي لا على الفور، لأنه ﷺ لم يحج إلا في سنة عشر.
وخالفه الثلاثة: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، فعندهم أن الحج يجب على كل من استطاعه على الفور، ومنعوا أن يكون الوجوب مستفادا من قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } وإنما في هذه الآية الأمر بالإتمام بعد الشروع فقط، واستدلوا بأدلة قد أوردنا كثيرا منها عند تفسير هذه الآية من كتابنا التفسير، ولله الحمد والمنة، بما فيه الكفاية.
وفي هذه السنة حُرِّمت المسلمات على المشركين تخصيصا لعموم ما وقع به الصلح عام الحديبية، على أنه لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك إلا رددته علينا، فنزل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ... } الآية [50].
وفي هذه السنة كانت غزوة المريسيع، التي كان فيها قصة الإفك ونزول براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما تقدم.
وفيها كانت عمرة الحجيبية، وما كان من صد المشركين رسول الله ﷺ، وكيف وقع الصلح بينهم على وضع الحرب بينهم عشر سنين، فأمن الناس فيهن بعضهم بعضا، وعلى أنه لا إغلال ولا إسلال، وقد تقدم كل ذلك مبسوطا في أماكنه، ولله الحمد والمنة.
وولي الحج في هذه السنة المشركون.
قال الواقدي: وفيها في ذي الحجة منها: بعث رسول الله ﷺ ستة نفر، مصطحبين حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، وشجاع بن وهب بن أسد بن جذيمة، شهد بدرا، إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يعني: ملك عرب النصارى.
ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، وهو هرقل ملك الروم، وعبد الله بن حذافة السهمي، إلى كسرى ملك الفرس، وسليط بن عمرو العامري، إلى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري، إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة وهو أصحمة بن الحر.
سنة سبع من الهجرة غزوة خيبر في أولها
قال شعبة: عن الحاكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله: { وأثابهم فتحا قريبا } قال: خيبر.
وقال موسى بن عقبة: لما رجع رسول الله ﷺ من الحديبية مكث عشرين يوما أو قريبا من ذلك، ثم خرج إلى خيبر، وهي التي وعده الله إياها.
وحكى موسى عن الزهري أن افتتاح خيبر في سنة ست، والصحيح أن ذلك في أول سنة سبع كما قدمنا.
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة حين رجع من الحديبية، ذا الحجة، وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر.
وقال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن مروان والمسور قالا: انصرف رسول الله ﷺ عام الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة، فقدم المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر.
فنزل بالرجيع - واد بين خيبر وغطفان - فتخوف أن تمدهم غطفان فبات به حتى أصبح، فغدا عليهم.
قال البيهقي: وبمعناه رواه الواقدي عن شيوخه في خروجه أول سنة سبع من الهجرة.
وقال عبد الله بن إدريس عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر قال: لما كان افتتاح خيبر في عقيب المحرم، وقدم النبي ﷺ في آخر صفر.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا حسيم يعني: ابن عراك، عن أبيه، أن أبا هريرة قدم المدينة في رهط من قومه، والنبي ﷺ في خيبر، وقد استخلف سباع بن عرفطة، يعني: الغطفاني، على المدينة.
قال: فانتهيت إليه، وهو يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى: { كهيعص } وفي الثانية: { ويل للمطففين } فقلت في نفسي: ويل لفلان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص.
قال: فلما صلى رددنا شيئا حتى أتينا خيبر، وقد افتتح النبي ﷺ خيبر.
قال: فكلم المسلمين، فأشركونا في سهامهم.
وقد رواه البيهقي من حديث سليمان بن حرب، عن وهيب، عن خيثم بن عراك، عن أبيه، عن نفر من بني غفار، قال: إن أبا هريرة قدم المدينة، فذكره.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر، وبنى له فيها مسجدا، ثم على الصهباء.
ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له: الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله ﷺ.
فبلغني أن غطفان لما سمعوا بذلك جمعوا، ثم خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة، خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أموالهم وأهليهم، وخلوا بين رسول الله ﷺ وبين خيبر.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير أن سويد بن النعمان أخبره أنه خرج مع رسول الله ﷺ عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء - وهي من أدنى خيبر - صلى العصر ثم دعا بالأزواد، فلم يؤتَ إلا بالسويق، فأمر به فثرى، فأكل وأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ثم صلى ولم يتوضأ.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى خيبر، فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر لا تسمعنا من هنيهاتك - وكان عامر رجلا شاعرا - فنزل يحدو بالقوم يقول:
لا هُم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما أبقينا * وألقين سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا * إنا إذا صيح بنا أبينا
وبالصياح عولوا علينا
فقال رسول الله ﷺ: «من هذا السائق؟» قالوا: عامر بن الأكوع.
قال: «يرحمه الله» فقال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به.
فأتينا خيبر فناصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم إن الله فتحها عليهم، فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم، أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول الله ﷺ: «ما هذه النيران على أي شيء توقدون؟»
قالوا: على لحم.
قال: «على أي لحم؟».
قالوا: لحم الحمر الأنسية.
قال النبي ﷺ: «اهريقوها واكسروها» فقال رجل: يا رسول الله أونهريقها ونغسلها؟
فقال: «أو ذاك».
فلما تصاف الناس كان سيف عامر قصيرا، فتناول به ساق يهودي ليضربه، فيرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه.
فلما قفلوا قال سلمة: رآني رسول الله ﷺ وهو آخذ بيدي، قال: «ما لك؟».
قلت: فداك أبي وأمي، زعموا أن عامرا حبط عمله.
قال النبي ﷺ: «كذب من قاله، إن له لأجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه لجاهد مجاهد، قل عربي مشى بها مثله».
ورواه مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل، وغيره، عن يزيد بن أبي عبيد مثله.
ويكون منصوبا على الحالية من نكرة، وهو سائغ، إذا دلت على تصحيح معنى، كما جاء في الحديث: «فصلى وراءه رجل قياما».
وقد روى ابن إسحاق قصة عامر بن الأكوع من وجه آخر فقال: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي الهيثم بن نصر بن دهر الأسلمي، أن أباه حدثه، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع، وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع: «انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك».
فقال: فنزل يرتجز لرسول الله ﷺ:
والله لو الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
إنا إذا قوم بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا
فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا
فقال رسول الله ﷺ: «يرحمك ربك» فقال عمر بن الخطاب: وجبت يا رسول الله لو أمتعتنا به. فقتل يوم خيبر شهيدا.
ثم ذكر صفة قتله كنحو ما ذكره البخاري.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن أبي معتب بن عمرو أن رسول الله ﷺ لما أشرف على خيبر قال لأصحابه وأنا فيهم: «قفوا».
ثم قال: «اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها اقدموا بسم الله».
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.
وقد رواه الحافظ البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن العطاردي، عن يونس بن بكير، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن صالح بن كيسان، عن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن جده قال:
خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى خيبر، حتى إذا كنا قريبا وأشرفنا عليها، قال رسول الله ﷺ للناس: «قفوا» فوقف الناس.
فقال: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، اقدموا بسم الله الرحمن الرحيم».
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله ﷺ إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإن لم يسمع أذانا أغار، فنزلنا خيبر ليلا فبات رسول الله ﷺ حتى أصبح لم يسمع أذانا.
فركب وركبنا معه، وركبت خلف أبي طلحة، وإن قدمي لتمس قدم رسول الله ﷺ، واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله ﷺ والجيش، قالوا: محمد والخميس معه، فأدبروا هرابا.
فقال رسول الله ﷺ: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».
قال ابن إسحاق: حدثنا هارون عن حميد عن أنس بمثله.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، أن رسول الله أتى خيبر ليلا، وكان إذا أتى قوما بليل لم يغر بهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله محمد والخميس.
فقال رسول الله ﷺ: «خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».
تفرد به دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا أبو عيينة، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: صبحنا خيبر بكرة، فخرج أهلها بالمساحي، فلما أبصروا بالنبي ﷺ قالوا: محمد والله، محمد والخميس!
فقال رسول الله ﷺ: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».
قال: فأصبنا من لحوم الحمر، فنادى منادي النبي ﷺ: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس. تفرد به البخاري دون مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: لما أتى النبي ﷺ خيبر، فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومساحيهم، فلما رأوه ومعه الجيش نكصوا فرجعوا إلى حصنهم.
فقال النبي ﷺ: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».
تفرد به أحمد، وهو على شرط الصحيحين.
وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: صلى النبي ﷺ الصبح قريب من خيبر بغلس، ثم قال: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».
فخرجوا يسعون بالسكك، فقتل النبي ﷺ المقاتلة، وسبى الذرية، وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي ﷺ، فجعل عتقها صداقها.
قال عبد العزيز بن صهيب لثابت: يا أبا محمد أأنت قلت لأنس ما أصدقها، فحرك ثابت رأسه تصديقا له.
تفرد به دون مسلم.
وقد أورد البخاري ومسلم النهي عن لحوم الحمر الأهلية من طرق تذكر في كتاب (الأحكام).
وقد قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو طاهر الفقيه، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي، حدثنا محمد بن حميد الأبيوردي، حدثنا محمد بن الفضل، عن مسلم الأعور الملائي، عن أنس بن مالك قال:
كان رسول الله ﷺ يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويجيب دعوة الملوك، ويركب الحمار، وكان يوم بني قريظة والنضير على حمار، ويوم خيبر على حمار مخطوم برسن ليف، وتحته أكاف من ليف.
وقد روى هذا الحديث بتمامه الترمذي، عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، وابن ماجه، عن محمد بن الصباح، عن سفيان، وعن عمر بن رافع، عن جرير، كلهم عن مسلم وهو ابن كيسان الملائي الأعور الكوفي، عن أنس به.
وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديثه، وهو يضعف.
قلت: والذي ثبت في الصحيح عند البخاري عن أنس أن رسول الله ﷺ أجرى في رفاق خيبر، حتى انحسر الإزار عن فخذه، فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس لا على حمار.
ولعل هذا الحديث إن كان صحيحا محمول على أنه ركبه في بعض الأيام وهو محاصرها، والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي، حدثنا زياد بن الربيع، عن أبي عمران الجوني قال: نظر أنس إلى الناس يوم الجمعة، فرأى طيالسة فقال كأنهم الساعة يهود خيبر.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: كان علي بن أبي طالب تخلف عن رسول الله ﷺ في خيبر، وكان رمدا، فقال: أنا أتخلف عن النبي ﷺ؟ فلحق به.
فلما بتنا الليلة التي فتحت خيبر، قال: لأعطين الراية غدا، أو ليأخذن الراية غدا رجل يحبه الله ورسوله، يفتح عليه، فنحن نرجوها.
فقيل: هذا علي فأعطاه، ففتح عليه.
وروى البخاري أيضا، ومسلم، عن قتيبة، عن حاتم به.
ثم قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد: أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: «لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله».
قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على النبي ﷺ كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟».
فقالوا: هو يا رسول الله، يشتكي عينيه.
قال: «فأرسل إليه» فأتى، فبصق رسول الله ﷺ في عينيه، ودعا له فبرأ، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.
فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟
فقال ﷺ: «انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم».
وقد رواه مسلم، والنسائي جميعا، عن قتيبة به.
وفي صحيح مسلم، والبيهقي من حديث سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه».
قال عمر: فما أحببت الإمارة إلا يومئذ، فدعا عليا، فبعثه، ثم قال: «اذهب فقاتل حتى يفتح الله عليك، ولا تلتفت».
قال علي: على ما أقاتل الناس؟
قال: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» لفظ البخاري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن المقدام، وجحش بن المثنى، قالا: حدثنا إسرائيل، حدثنا عبد الله بن عصمة العجلي، سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: إن رسول الله ﷺ أخذ الراية فهزها، ثم قال: «من يأخذها بحقها؟»
فجاء فلان فقال: أنا، قال: «امض».
ثم جاء رجل آخر فقال: «امض».
ثم قال النبي ﷺ: «والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلا لا يفر».
فقال: «هاك يا علي» فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر، وفدك، وجاء بعجوتها وقديدها.
تفرد به أحمد، وإسناده لا بأس به، وفيه غرابة، وعبد الله بن عصمة، ويقال ابن أعصم، وهكذا يكنى بأبي علوان العجلي، وأصله من اليمامة سكن الكوفة، وقد وثقه ابن معين.
وقال أبو زرعة: لا بأس به.
وقال أبو حاتم: شيخ.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ كثيرا، وذكره في الضعفاء، وقال: يحدث عن الإثبات مما لا يشبه حديث الثقات، حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة.
وقال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن أبيه، عن سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه قال: بعث النبي ﷺ أبا بكر رضي الله عنه إلى بعض حصون خيبر فقاتل، ثم رجع ولم يكن فتح، وقد جهد.
ثم بعث عمر رضي الله عنه فقاتل، ثم رجع ولم يكن فتح، فقال رسول الله ﷺ: «لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، وليس بفرَّار».
قال سلمة: فدعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو يومئذ أرمد، فتفل في عينيه، ثم قال: «خذ الراية وامض بها حتى يفتح الله عليك».
فخرج بها، والله يصول، يهرول هرولة، وأنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟
قال: أنا علي بن أبي طالب.
فقال اليهودي: غلبتم، وما أُنزل على موسى، فما رجع حتى فتح الله على يديه.
وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا العطاردي، عن يونس بن بكير، عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، أخبرني أبي قال: لما كان يوم خيبر أخذ اللواء أبو بكر، فرجع ولم يفتح له، و لما كان الغد أخذه عمر فرجع و لم يفتح له، وقتل محمود بن مسلمة، ورجع الناس.
فقال رسول الله ﷺ: «لأدفعن لوائي غدا إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، لن يرجع حتى يفتح الله له» فبتنا طيبة نفوسنا أن الفتح غدا، فصلى رسول الله ﷺ صلاة الغداة.
ثم دعا باللواء وقام قائما، فما منا من رجل له منزلة من رسول الله ﷺ إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها، ورفعت رأسي لمنزلة كانت لي منه.
فدعا علي بن أبي طالب وهو يشتكي عينيه، قال: فمسحها، ثم دفع إليه اللواء، ففتح له، فسمعت عبد الله بن بريدة يقول: حدثني أبي أنه كان صاحب مرحب.
قال يونس: قال ابن إسحاق: كان أول حصون خيبر فتحا حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته.
ثم روى البيهقي عن يونس بن بكير، عن المسيببن مسلمة الأزدي، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ ربما أخذته الشقيقة، فلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما نزل خيبر أخذته الشقيقة، فلم يخرج إلى الناس، وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله ﷺ، ثم نهض فقاتل قتالا شديدا، ثم رجع.
فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الأول.
ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله ﷺ، فقال: «لأعطينها غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يأخذها عنوة» وليس ثم علي.
فتطاولت لها قريش، ورجا كل رجل منهم أن يكون صاحب ذلك، فأصبح.
وجاء علي بن أبي طالب على بعير له، حتى أناخ قريبا وهو أرمد، قد عصب عينه بشقة برد قطري، فقال رسول الله ﷺ: «ما لك؟»
قال: رمدت بعدك.
قال: «ادن مني» فتفل في عينه، فما وجعها حتى مضى لسبيله.
ثم أعطاه الراية فنهض بها وعليه جبة أرجوان حمراء، قد أخرج خملها فأتى مدينة خيبر، وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكٍ سلاحي بطلٌ مجرب
إذا الليوثُ أقبلت تلهب * وأحجمت عن صولة المغلب
فقال علي رضي الله عنه:
أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليثِ غاباتٍ شديد القسوره
أكيلكم بالصاع كيل السندره
قال: فاختلفا ضربتين، فبدره علي بضربه فقدَّ الحجر والمغفر ورأسه، ووقع في الأضراس، وأخذ المدينة.
وقد روى الحافظ البزار: عن عباد بن يعقوب، عن عبد الله بن بكر، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قصة بعث أبي بكر، ثم عمر يوم خيبر، ثم بعث علي، فكان الفتح على يديه، وفي سياقه غرابة ونكارة، وفي إسناده من هو متهم بالتشيع، والله أعلم.
وقد روى مسلم، والبيهقي، واللفظ له من طريق عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، فذكر حديثا طويلا وذكر فيه رجوعهم من غزوة بني فزارة قال: فلم نمكث إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر.
قال: وخرج عامر فجعل يقول:
والله لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
ونحن من فضلك ما استغنينا * فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
قال: فقال رسول الله ﷺ: «من هذا القائل؟».
فقالوا: عامر، فقال: «غفر لك ربك».
قال: وما خصَّ رسول الله ﷺ قط أحدا به إلا استشهد.
فقال عمر وهو على جمل: لولا متعتنا بعامر.
قال: فقدمنا خيبر فخرج مرحب وهو يخطر بسيفه، ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
قال: فبرز له عامر رضي الله عنه وهو يقول:
قد علمت خيبر أني عامر * شاكي السلاح بطل مغامر
قال: فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر فذهب يسعل له، فرجع على نفسه، فقطع أكحله فكانت فيها نفسه.
قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه.
قال: فأتيت رسول الله ﷺ وأنا أبكي، فقال: «ما لك؟».
فقلت: قالوا إن عامرا بطل عمله.
فقال: «من قال ذلك؟».
فقلت: نفر من أصحابك، فقال: «كذب أولئك بل له الأجر مرتين».
قال: وأرسل رسول الله ﷺ إلى علي رضي الله عنه يدعوه وهو أرمد، وقال: «لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله» قال فجئت به أقوده، قال: فبصق رسول الله ﷺ في عينه فبرأ، فأعطاه الراية فبرز مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
قال: فبرز له علي وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غاباتٍ كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
قال: فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله. وكان الفتح.
هكذا وقع في هذا السياق أن عليا هو الذي قتل مرحبا اليهودي، لعنه الله.
وقال أحمد: حدثنا حسين بن حسن الأشقر، حدثني قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: لما قتلت مرحبا، جئت برأسه إلى رسول الله ﷺ.
وقد روى موسى عن عقبة، عن الزهري أن الذي قتل مرحبا هو محمد بن مسلمة.
وكذلك قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن سهل أحد بني حارثة، عن جابر بن عبد الله قال: خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر، وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب * إذا الليوث أقبلت تلهب
إن حماي للحمى لا يقرب
قال: فأجابه كعب بن مالك:
قد علمت خيبر أني كعب * مفرج الغماء جريء صلب
إذ شبت الحرب وثار الحرب * معي حسام كالعقيق عضب
يطأكمو حتى يذل الصعب * بكف ماضٍ ليس فيه عيب
قال: وجعل مرحب يرتجز ويقول: هل من مبارز؟
فقال رسول الله ﷺ: «من لهذا؟».
فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور والثائر، قتلوا أخي بالأمس.
فقال: «قم إليه، اللهم أعنه عليه».
قال: فلما دنا أحدهما من صاحبه، دخلت بينهما شجرة عمرية من الشجر العشر المسد، فجعل كل واحد منهما يلوذ من صاحبه بها، كلما لاذ بها أحدهما اقتطع بسيفه ما دونه، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن.
ثم حمل على محمد بن مسلمة فضربه فأتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها، فعضت فاستله، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله.
وقد رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق بنحوه.
قال ابن إسحاق: وزعم بعض الناس أن محمدا ارتجز حين ضربه وقال:
قد علمت خيبر أني ماض * حلو إذا شئت وسمُّ قاض
وهكذا رواه الواقدي: عن جابر وغيره من السلف: أن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحبا.
ثم ذكر الواقدي أن محمدا قطع رجلي مرحب، فقال له: أجهز علي.
فقال: لا ذق الموت كما ذاقه محمود بن مسلمة، فمر به علي وقطع رأسه، فاختصما في سلبه إلى رسول الله ﷺ، فأعطى رسول الله ﷺ محمد بن مسلمة سيفه، ورمحه، ومغفره، وبيضته.
قال: وكان مكتوبا على سيفه:
هذا سيف مرحب * من يذقه يعطب
ثم ذكر ابن إسحاق أن أخا مرحب وهو ياسر، خرج بعده وهو يقول: هل من مبارز؟
فزعم هشام ابن عروة أن الزبير خرج له، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: يقتل ابني يا رسول الله!
فقال: «بل ابنك يقتله إن شاء الله».
فالتقيا فقتله الزبير.
قال: فكان الزبير إذا قيل له: والله إن كان سيفك يومئذ صارما.
يقول: والله ما كان بصارم، ولكني أكرهته.
وقال يونس عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن الحسن عن بعض أهله، عن أبي رافع مولى رسول الله ﷺ، قال: خرجنا مع علي إلى خيبر، بعثه رسول الله ﷺ برايته.
فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل منهم من يهود، فطرح ترسه من يده، فتناول علي باب الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.
وفي هذا الخبر جهالة وانقطاع ظاهر.
ولكن روى الحافظ البيهقي، والحاكم، من طريق مطلب بن زياد، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر الباقر، عن جابر: أن عليا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فافتتحوها وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا.
وفيه ضعف أيضا.
وفي رواية ضعيفة عن جابر: ثم اجتمع عليه سبعون رجلا، وكان جهدهم أن أعادوا الباب.
وقال البخاري: حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضربة؟
قال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيت النبي ﷺ فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل قال: التقى النبي ﷺ والمشركون في بعض مغازيه فاقتتلوا، فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه، فقيل: يا رسول الله ما أجزأ منا أحد، ما أجزأ فلان.
قال: إنه من أهل النار.
فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟
فقال رجل من القوم: لأتبعنه فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح فاستعجل الموت فوضع نصاب سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه.
فجاء الرجل إلى النبي ﷺ فقال: أشهد أنك رسول الله.
وقال: «وما ذاك؟».
فأخبره فقال: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وأنه من أهل الجنة».
رواه أيضا عن قتيبة، عن يعقوب عن أبي حازم، عن سهل، فذكره مثله أو نحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري،: أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: شهدنا خيبر فقال رسول الله ﷺ لرجل ممن معه يدعي الإسلام: «هذا من أهل النار».
فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة حتى كاد بعض الناس يرتاب.
فوجد الرجل ألم جراحه فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهما فنحر بها نفسه فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا: يا رسول الله صدَّق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه. فقال: «قم يا فلان فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر».
وقد روى موسى بن عقبة، عن الزهري قصة العبد الأسود الذي رزقه الله الإيمان والشهادة في ساعة واحدة.
وكذلك رواها ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة قالا: وجاء عبد حبشي أسود من أهل خيبر، كان في غنم لسيده فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم، قال: ما تريدون؟
قالوا: نقاتل هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي.
فوقع في نفسه ذكر النبي، فأقبل بغنمه حتى عمد لرسول الله ﷺ فقال: إلى ما تدعو؟
قال: «أدعوك إلى الإسلام إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ﷺ وأن لا تعبدوا إلا الله»
قال: فقال العبد: فماذا يكون لي إن شهدت بذلك وآمنت بالله؟
قال رسول الله ﷺ: «الجنة إن مت على ذلك».
فأسلم العبد، فقال: يا نبي الله إن هذه الغنم عندي أمانة.
فقال رسول الله ﷺ: «أخرجها من عسكرنا وارمها بالحصا فإن الله سيؤدي عنك أمانتك». ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها، فعرف اليهودي أن غلامه قد أسلم.
فقام رسول الله ﷺ فوعظ الناس فذكر الحديث في إعطائه الراية عليا، ودنوه من حصن اليهود، وقتله مرحبا، وقتل مع علي ذلك العبد الأسود، فاحتمله المسلمون إلى عسكرهم، فأدخل في الفسطاط، فزعموا أن رسول الله ﷺ اطلع في الفسطاط، ثم اطلع على أصحابه، فقال: «لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير، قد كان الإسلام في قلبه حقا، وقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين».
وقد روى الحافظ البيهقي: من طريق ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع رسول الله ﷺ في غزوة خيبر، فخرجت سرية فأخذوا إنسانا معه غنم يرعاها، فذكر نحو قصة هذا العبد الأسود، وقال فيه: قتل شهيدا وما سجد لله سجدة.
ثم قال البيهقي: حدثنا محمد بن محمد بن محمد الفقيه، حدثنا أبو بكر القطان، حدثنا أبو الأزهر، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس: أن رجلا أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إني رجل أسود اللون، قبيح الوجه، لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة؟
قال: «نعم».
فتقدم فقاتل حتى قتل، فأتى عليه رسول الله ﷺ وهو مقتول، فقال: «لقد حسن الله وجهك وطيب روحك، وكثر مالك».
وقال: «لقد رأيت زوجتيه من الحور العين يتنازعان جبته عليه، يدخلان فيما بين جلده وجبته».
ثم روى البيهقي من طريق ابن جريج: أخبرني عكرمة بن خالد عن ابن أبي عمار، عن شداد بن الهاد: أن رجلا من الأعراب جاء رسول الله ﷺ فآمن به واتبعه، فقال: أُهاجر معك، فأوصى به النبي ﷺ بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله ﷺ فقسمه، وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه؛ فقال: ما هذا؟
قالوا: قسم قسمه لك رسول الله ﷺ.
فأخذه فجاء به النبي ﷺ، فقال: ما هذا يا محمد؟
قال: «قسم قسمته لك».
فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمي ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة.
فقال: «إن تصدق الله يصدقك».
ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتى به رسول الله ﷺ يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي ﷺ: «هو هو؟».
قالوا: نعم.
قال: «صدق الله فصدقه».
وكفنه النبي ﷺ في جبة النبي ﷺ، ثم قدمه فصلى عليه، وكان مما ظهر من صلاته: «اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك، قتل شهيدا وأنا عليه شهيد».
وقد رواه النسائي عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج به نحوه.
فصل فتح رسول الله عليه السلام للحصون
قال ابن إسحاق: وتدَّنى رسول الله ﷺ الأموال يأخذها مالا مالا، ويفتتحها حصنا حصنا، وكان أول حصونهم فتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فقتلته، ثم القموص حصن بني أبي الحقيق.
وأصاب رسول الله ﷺ منهم سبايا منهن صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وبنتي عم لها، فاصطفى رسول الله ﷺ صفية لنفسه، وكان دحية بن خليفة قد سأل رسول الله ﷺ صفية، فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها.
قال: وفشت السبايا من خيبر في المسلمين، وأكل الناس لحوم الحمر، فذكر نهي رسول الله ﷺ إياهم عن أكلها.
وقد اعتنى البخاري بهذا الفصل، فأورد النهي عنها من طرق جيدة وتحريمها مذهب جمهور العلماء سلفا وخلفا، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
وقد ذهب بعض السلف منهم: ابن عباس إلى إباحتها، وتنوعت أجوبتهم عن الأحاديث الواردة في النهي عنها؛ فقيل: لأنها كانت ظهرا يستعينون بها في الحمولة، وقيل: لأنها لم تكن خمست بعد، وقيل: لأنها كانت تأكل العذرة يعني: جلالة.
والصحيح أنه نهى عنها لذاتها، فإنه في الأثر الصحيح أنه نادى منادي رسول الله ﷺ أن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس، فأكفئوها والقدور تفور بها، وموضع تقرير ذلك في كتاب (الأحكام).
قال ابن إسحاق: حدثني سلام بن كركرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله - ولم يشهد جابر خيبر - أن رسول الله ﷺ حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر، أذن لهم في لحوم الخيل.
وهذا الحديث أصله ثابت في الصحيحين، من حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله ﷺ يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخَّص في الخيل».
لفظ البخاري.
قال ابن إسحاق: وحدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مكحول، أن النبي ﷺ نهاهم يومئذ عن أربع: عن إتيان الحبالى من النساء، وعن أكل الحمار الأهلي، وعن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم. وهذا مرسل.
وقال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق مولى نجيب، عن حسن الصنعاني، قال: غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري المغرب، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال له: جربة، فقام فيها خطيبا فقال: أيها الناس، إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله ﷺ يقول فينا يوم خيبر، قام فينا رسول الله ﷺ فقال:
«لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماء زرع غيره يعني: إتيان الحبالى من السبي، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس يوما من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه».
وهكذا روى هذا الحديث أبو داود من طريق محمد بن إسحاق.
ورواه الترمذي عن حفص بن عمرو الشيباني، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن ربيعة بن سليم، عن بشر بن عبيد الله، عن رويفع بن ثابت مختصرا، وقال: حسن.
وفي صحيح البخاري: عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن أكل الثوم.
وقد حكى ابن حزم عن علي وشريك بن حنبل، أنهما ذهبا إلى تحريم البصل والثوم النيء، والذي نقله الترمذي عنهما الكراهة، فالله أعلم.
وقد تكلم الناس في الحديث الوارد في الصحيحين من طريق الزهري، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية، عن أبيهما، عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية.
هذا لفظ الصحيحين من طريق مالك وغيره، عن الزهري، وهو يقتضي تقييد تحريم نكاح المتعة بيوم خيبر، وهو مشكل من وجهين:
أحدهما: أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يتمتعون بهن، إذ قد حصل لهم الاستغناء بالسباء عن نكاح المتعة.
الثاني: أنه قد ثبت في صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة، عن معبد، عن أبيه أن رسول الله ﷺ أذن لهم في المتعة زمن الفتح، ثم لم يخرج من مكة حتى نها عنها وقال: «إن الله قد حرمها إلى يوم القيامة».
فعلى هذا يكون قد نهى عنها ثم أذن فيها، ثم حرمت، فيلزم النسخ مرتين، وهو بعيد.
ومع هذا فقد نصَّ الشافعي على أنه لا يعلم شيئا أبيح ثم حرم، ثم أبيح ثم حرم، غير نكاح المتعة، وما حداه على هذا رحمه الله إلا اعتماده على هذين الحديثين كما قدمناه.
وقد حكى السهيلي وغيره عن بعضهم: أنه ادعى أنها أبيحت ثلاث مرات، وحرمت ثلاث مرات.
وقال آخرون: أربع مرات، وهذا بعيد جدا، والله أعلم.
واختلفوا أي وقت أول ما حرمت، فقيل: في خيبر، وقيل: في عمرة القضاء، وقيل: في عام الفتح، وهذا يظهر، وقيل: في أوطاس، وهو قريب من الذي قبله، وقيل: في تبوك، وقيل: في حجة الوداع.
رواه أبو داود.
وقد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث علي رضي الله عنه بأنه وقع فيه تقديم وتأخير، وإنما المحفوظ فيه ما رواه الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن الحسن وعبد الله ابني محمد، عن أبيهما - وكان حسن أرضاهما في أنفسهما - أن عليا قال لابن عباس:
إن رسول الله ﷺ نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر.
قالوا: فاعتقدنا الراوي أن قوله خيبر ظرف للمنهي عنهما، وليس كذلك، إنما هو ظرف للنهي عن لحوم الحمر؛ فأما نكاح المتعة فلم يذكر له ظرفا، وإنما جمعه معه لأن عليا رضي الله عنه بلغه أن ابن عباس أباح نكاح المتعة، ولحوم الحمر الأهلية، كما هو المشهور عنه.
فقال له أمير المؤمنين علي: إنك امرؤ تائه أن رسول الله ﷺ نهى عن نكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فجمع له النهي ليرجع عما كان يعتقده في ذلك من الإباحة.
وإلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي تغمده الله برحمته أمين.
ومع هذا ما رجع ابن عباس عما كان يذهب إليه من إباحة الحمر والمتعة، أما النهي عن الحمر فتأوله بأنها كانت حمولتهم، وأما المتعة فإنما كان يبيحها عند الضرورة في الأسفار، وحمل النهي على ذلك في حال الرفاهية والوجدان.
وقد تبعه على ذلك طائفة من أصحابه وأتباعهم، ولم يزل ذلك مشهورا عن علماء الحجاز إلى زمن ابن جريج وبعده.
وقد حكي عن الإمام أحمد بن حنبل رواية كمذهب ابن عباس وهي ضعيفة، وحاول بعض من صنف في الحلال نقل رواية عن الإمام بمثل ذلك، ولا يصح أيضا، والله أعلم. وموضع تحرير ذلك في كتاب (الأحكام) وبالله المستعان.
قال ابن إسحاق: ثم جعل رسول الله ﷺ يتدنى الحصون والأموال، فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدثه بعض من أسلم أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله ﷺ شيئا يعطيهم إياه.
فقال: «اللهم إنك قد عرفت حالهم، وإن ليست لهم قوة، وإن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غنى، وأكثرها طعاما وودكا».
فغدا الناس ففتح عليهم حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه.
قال ابن إسحاق: ولما افتتح رسول الله ﷺ من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنهم الوطيح والسلالم، وكان آخر حصون خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول الله ﷺ بضع عشر ليلة.
قال ابن هشام: وكان شعارهم يوم خيبر: يا منصور أمت أمت.
قال ابن إسحاق: وحدثني بريدة بن سفيان الأسدي الأسلمي، عن بعض رجال بني سلمة، عن أبي اليسر بن كعب بن عمرو، قال: إني لمع رسول الله ﷺ بخيبر ذات عشية، إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم، ونحن محاصروهم.
فقال رسول الله ﷺ: «من رجل يطعمنا من هذه الغنم؟».
قال أبو اليسر: فقلت أنا يا رسول الله.
قال: «فافعل».
قال: فخرجت أشتد مثل الظليم، فلما نظر إلي رسول الله ﷺ موليا قال: «اللهم أمتعنا به».
قال: فأدركت الغنم وقد دخلت أولها الحصن، فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم جئت بهما أشتد كأنه ليس معي شيء حتى ألقيتهما عند رسول الله ﷺ فذبحوهما فأكلوهما.
فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله ﷺ موتا، وكان إذا حدث هذا الحديث بكى، ثم قال: أمتعوا بي لعمري حتى كنت من آخرهم.
وقال الحافظ البيهقي في (الدلائل): أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، أو عن أبي قلابة قال: لما قدم النبي ﷺ خيبر، قدم والثمرة خضرة.
قال: فأسرع الناس إليها فحموا، فشكوا ذلك إليه، فأمرهم أن يقرسوا الماء في الشنان ثم يجرونه عليهم إذا أتى الفجر، ويذكرون اسم الله عليه، ففعلوا ذلك فكأنما نشطوا من عقل.
قال البيهقي: ورويناه عن عبد الرحمن بن رافع موصولا، وعنه بين صلاتي المغرب والعشاء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى وبهز، قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، حدثنا عبد الله بن مغفل، قال: دلى جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت: لا أعطى أحدا منه شيئا.
قال: فالتفتُّ فإذا رسول الله ﷺ يبتسم.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل، قال: كنا نحاصر قصر خيبر، فأُلقي إلينا جراب في شحم، فذهبت فأخذته فرأيت النبي ﷺ فاستحيت.
وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة.
ورواه مسلم أيضا عن شيبان بن فروخ، عن عثمان بن المغيرة.
وقال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن مغفل المزني قال: أصبت من فيء خيبر جراب شحم، قال: فاحتملته على عنقي إلى رحلي وأصحابي، قال: فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها فأخذ بناحيته، وقال: هلم حتى تقسمه بين المسلمين، قال: وقلت: لا والله لا أعطيكه، قال: وجعل يجاذبني الجراب.
قال: فرآنا رسول الله ﷺ ونحن نصنع ذلك، فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم خلِّ بينه وبينه، قال: فأرسله فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه.
وقد استدل الجمهور بهذا الحديث على الإمام مالك في تحريمه شحوم ذبائح اليهود، وما كان غلبهم عليه غيرهم من المسلمين، لأن الله تعالى قال: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } قال لكم.
قال: وليس هذا من طعامهم، فاستدلوا عليه بهذا الحديث، وفيه نظر، وقد يكون هذا الشحم مما كان حلالا لهم، والله أعلم.
وقد استدلوا بهذا الحديث على أن الطعام لا يخمس ويعضد، ذلك ما رواه الإمام أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو معاوية، حدثنا إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال:
قلت: كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله ﷺ، فقال: أصبنا طعاما يوم خيبر، وكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه ثم ينصرف.
تفرد به أبو داود، وهو حسن.
ذكر قصة صفية بنت حيي النضرية
كان من شأنها أنه لما أجلى رسول الله ﷺ يهود بني النضير من المدينة كما تقدم، فذهب عامتهم إلى خيبر، وفيهم حيي بن أخطب، وبنو أبي الحقيق، وكانوا ذوي أموال وشرف في قومهم، وكانت صفية إذ ذاك طفلة دون البلوغ.
ثم لما تأهلت للتزويج تزوجها بعض بني عمها، فلما زفت إليه وأدخلت إليه بنى بها، ومضى على ذلك ليالي، رأت في منامها كأن قمر السماء قد سقط في حجرها، فقصت رؤياها على ابن عمها فلطم وجهها وقال: أتتمنين ملك يثرب أن يصير بعلك، فما كان إلا مجيء رسول الله ﷺ وحصاره إياهم، فكانت صفية في جملة السبي، وكان زوجها في جملة القتلى.
ولما اصطفاها رسول الله ﷺ، وصارت في حوزه وملكه كما سيأتي، وبنى بها بعد استبرائها وحلها، وجد أثر تلك اللطمة في خدها، فسألها ما شأنها، فذكرت له ما كانت رأت من تلك الرؤيا الصالحة رضي الله عنها وأرضاها.
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: صلى النبي ﷺ الصبح قريبا من خيبر بغلس، ثم قال: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».
فخرجوا يسعون في السكك، فقتل النبي ﷺ المقاتلة، وسبى الذرية، وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي ﷺ، فجعل عتقها صداقها.
ورواه مسلم أيضا من حديث حماد بن زيد، وله طرق عن أنس.
وقال البخاري: حدثنا آدم، عن شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سبى النبي ﷺ صفية فأعتقها وتزوجها.
قال ثابت لأنس: ما أصدقها؟
قال: أصدقها نفسها فأعتقها.
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال البخاري: حدثنا عبد الغفار بن داود، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ح، وحدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا ابن وهب، أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن عمرو مولى المطلب، عن أنس بن مالك قال:
قدمنا خيبر فلما فتح ﷺ الحصن، ذُكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب، وقد قتل زوجها وكانت عروسا، فاصطفاها النبي ﷺ لنفسه، فخرج بها حتى بلغ بها سُدَّ الصهباء حلت، فبنى بها رسول الله ﷺ، ثم صنع حيسا في نطع صغير، ثم قال لي: «آذن من حولك» فكانت تلك وليمته على صفية.
ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي ﷺ يحوي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب.
تفرد به دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، أخبرني حميد أنه سمع أنسا يقول: أقام رسول الله ﷺ بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يُبنى عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالأنطاع فبسطت، فألقي عليها التمر والأقط والسمن، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أوما ملكت يمينه؟
فقالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه. فلما ارتحل وطأ لها خلفه، ومد الحجاب.
انفرد به البخاري.
وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: صارت صفية لدحية الكلبي، ثم صارت لرسول الله ﷺ.
وقال أبو داود: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: جمع السبي - يعني: بخيبر - فجاء دحية فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي، قال: «اذهب فخذ جارية» فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا نبي الله أعطيت دحية، قال يعقوب: صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير ما تصلح إلا لك.
قال: «ادعوا بها» فلما نظر إليها النبي ﷺ قال: «خذ جارية من السبي غيرها» وإن رسول الله ﷺ أعتقها وتزوجها.
وأخرجاه من حديث ابن علية.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن خلاد الباهلي، حدثنا بهز بن أسد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، عن أنس قال: وقع في سهم دحية جارية جميلة، فاشتراها رسول الله ﷺ بسبعة أرؤس، ثم دفعها إلى أم سلمة تصنعها وتهيئها.
قال حماد: وأحسبه قال: «وتعتد في بيتها صفية بنت حيي».
تفرد به أبو داود.
قال ابن إسحاق: فلما افتتح رسول الله ﷺ القموص حصن بني أبي الحقيق، أُتي بصفية بنت حيي ابن أخطب، وأخرى معها، فمر بهما بلال - وهو الذي جاء بهما - على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت، وصكت وجهها، وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله ﷺ قال:
«أعزبوا عني هذه الشيطانة» وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أن رسول الله ﷺ قد اصطفاها لنفسه.
وقال رسول الله ﷺ لبلال - فيما بلغني - حين رأى بتلك اليهودية ما رأى: «أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟»
وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، أن قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك