البداية والنهاية/الجزء الرابع/ذكر خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة بعد قضاء عمرته
قد تقدم ما ذكره موسى بن عقبة أن قريشا بعثوا إليه حويطب بن عبد العزى بعد مضي أربعة أيام ليرحل عنهم كما وقع به الشرط، فعرض عليهم أن يعمل وليمة عرسه بميمونة عندهم، وإنما أراد تأليفهم بذلك فأبوا عليه، وقالوا: بل اخرج عنا، فخرج.
وكذلك ذكره ابن إسحاق.
وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: اعتمر النبي ﷺ في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله.
قالوا: لا نقر بهذا لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا، ولكن أنت محمد بن عبد الله.
قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال لعلي بن أبي طالب: «امح رسول الله».
قال: لا والله لا أمحوك أبدا، فأخذ رسول الله ﷺ الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحدا أراد أن يقيم بها.
فلما دخل ومضى الأجل أتوا عليا فقالوا: قل لصاحبك فليخرج عنا فقد مضى الأجل.
فخرج النبي ﷺ فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر.
فقال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي.
وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي.
وقال زيد: ابنة أخي.
فقضى بها النبي ﷺ لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم» وقال لعلي: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا».
قال علي: ألا تتزوج ابنة حمزة؟
قال: «إنها ابنة أخي من الرضاعة».
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقد روى الواقدي قصة ابنة حمزة فقال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عمارة ابنة حمزة بن عبد المطلب وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة، فلما قدم رسول الله ﷺ كلم علي بن أبي طالب رسول الله ﷺ، فقال: علام نترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين؟
فلم ينه النبي ﷺ عن إخراجها، فخرج بها فتكلم زيد بن حارثة وكان وصي حمزة، وكان النبي ﷺ قد آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين، فقال: أنا أحق بها ابنة أخي.
فلما سمع بذلك جعفر قال: الخالة والدة وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي أسماء بنت عميس.
وقال علي: ألا أراكم تختصمون هي ابنة عمي وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين، وليس لكم إليها سبب دوني، وأنا أحق بها منكم.
فقال النبي ﷺ: «أنا أحكم بينكم، أما أنت يا زيد فمولى الله ومولى رسول الله، وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي، وأما أنت يا جعفر فتشبه خَلْقي وخُلُقي، وأنت يا جعفر أولى بها تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها» فقضى بها لجعفر.
قال الواقدي: فلما قضى بها لجعفر، قام جعفر فحجل حول رسول الله ﷺ، فقال: «ما هذا يا جعفر؟»
فقال: يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحدا قام فحجل حوله.
فقال للنبي ﷺ: تزوجها.
فقال: «ابنة أخي من الرضاعة» فزوجها رسول الله ﷺ سلمة بن أبي سلمة، فكان النبي ﷺ يقول: «هل جزيت سلمة».
قلت: لأنه ذكر الواقدي وغيره أنه هو الذي زوج رسول الله ﷺ بأم سلمة، لأنه كان أكبر من أخيه عمر بن أبي سلمة، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ورجع رسول الله ﷺ إلى المدينة في ذي الحجة، وتولى المشركون تلك الحجة.
قال ابن هشام: وأنزل الله في هذه العمرة فيما حدثني أبو عبيدة قوله تعالى: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله أمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } يعني خيبر.