البداية والنهاية/الجزء الرابع/غزوة بدر الآخرة
وهي بدر الموعد التي توعدوا إليها من أحد كما تقدم.
قال ابن إسحاق: ولما رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبا، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول.
قال ابن إسحاق: فنزل رسول الله ﷺ بدرا، وأقام عليه ثمانية ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران، وبعض الناس يقول: قد بلغ عسفان.
ثم بدا له في الرجوع فقال: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
قال: وأتى مخشي بن عمرو الضمري، وقد كان وادع النبي ﷺ في غزوة ودان على بني ضمرة، فقال: يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟
قال: «نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك».
قال: لا والله يا محمد ما لنا بذلك من حاجة، ثم رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة ولم يلق كيدا.
قال ابن إسحاق: وقد قال عبد الله بن رواحة يعني في انتظارهم أبا سفيان ورجوعه بقريش عامه ذلك، قال ابن هشام: وقد أنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك:
وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد * لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسمُ لو لاقيتنا فلقِيتَنا * لأبت ذميما وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه * وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أف لدينكم * وأمركم السيء الذي كان غاويا
فإني وإن عنفتموني لقائل * فدى لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره * شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في ذلك:
دعوا فلجات الشام قد حال دونها *جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك
أقمنا على الرس النزوع ثمانيا * بأرعن جرار عريض المبارك
بكل كميت جَوزُه نصف خَلْقه * وقُبٍّ طوال مشرفات الحوارك
ترى العرفج العامي تذري أصوله * مناسم أخفاف المطي الرواتك
فإن تلق في تطوافنا والتماسنا * فرات بن حيان يكن رهن هالك
وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده * يزد في سواد لونه لون حالك
فأبلغ أبا سفيان عني رسالة * فإنك من غر الرجال الصعالك
قال: فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وقد أسلم فيما بعد ذلك:
أحسان إنا يا ابن آكلة الفغا * وجدَّك نغتال الخروق كذلك
خرجنا وما تنجو اليعافير بيننا * ولو وألت منا بشد مدارك
إذا ما انبعثنا من مُناخ حسبته * مد من أهل الموسم المتعارك
أقمت على الرس النزوع تريدنا * وتتركنا في النخل عند المدارك
على الزرع تمشي خيلنا وركابنا * فما وطئت ألصقنه بالدكادك
أقمنا ثلاثا بين سَلع وفارع * بجُرد الجياد والمطي الرواتك
حسبتم جلاد القوم عند فنائكم * كمأخذكم بالعين أرطال آنك
فلاتبعث الخيل الجياد وقل لها * على نحو قول المعصم المتماسك
سعدتم بها وغيركم كان أهلها * فوارس من أبناء فهر بن مالك
فإنك لا في هجرة إن ذكرتها * ولا حرمات دينها أنت ناسك
قال ابن هشام: تركنا منها أبياتا لاختلاف قوافيها، وقد ذكر موسى بن عقبة، عن الزهري وابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير:
أن رسول الله ﷺ استنفر الناس لموعد أبي سفيان، وانبعث المنافقون في الناس يثبطونهم، فسلم الله أولياءه، وخرج المسلمون صحبة رسول الله ﷺ إلى بدر، وأخذوا معهم بضائع وقالوا: إن وجدنا أبا سفيان وإلا اشترينا من بضائع موسم بدر.
ثم ذكر نحو سياق ابن إسحاق في خروج أبي سفيان إلى مجنة ورجوعه، وفي مقاولة الضمري، وعرض النبي ﷺ المنابذة فأبى ذلك.
قال الواقدي: خرج رسول الله ﷺ إليها في ألف وخمسمائة من أصحابه، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وكان خرجوه إليها في مستهل ذي القعدة يعني سنة أربع، والصحيح قول ابن إسحاق: أن ذلك في شعبان من هذه السنة الرابعة، ووافق قول موسى بن عقبة أنها في شعبان، لكن قال في سنة ثلاث وهذا وهم.
فإن هذه تواعدوا إليها من أحد، وكان أحد في شوال سنة ثلاث كما تقدم، والله أعلم.
قال الواقدي: فأقاموا ببدر مدة الموسم الذي كان يعقد فيها ثمانية أيام، فرجعوا وقد ربحوا من الدرهم درهمين، وقال غيره: فانقلبوا كما قال الله عز وجل: { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [آل عمران: 174] .