البداية والنهاية/الجزء الرابع/مقتل حمزة رضي الله عنه
قال ابن إسحاق: وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، وكذلك قتل عثمان بن أبي طلحة وهو حامل اللواء، وهو يقول:
إن على أهل اللواء حقا * أن يخضبوا الصعدة أو تندقا
فحمل عليه حمزة فقتله، ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني، وكان يكنى بأبي نيار، فقال حمزة: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكانت ختَّانة بمكة، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله فقال وحشي - غلام جبير بن مطعم -:
والله إني لأنظر لحمزة يهد الناس بسيفه، ما يليق شيئا يمر به مثل الجمل الأورق، إذ قد تقدمني إليه سباع فقال حمزة: هلم يا ابن مقطعة البظور، فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي، فغلب فوقع وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي بشيء حاجة غيره.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن الفضل بن عياش بن ربيعة بن الحارث، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت أنا وعبيد الله بن عدي بن الخيار أحد بني نوفل بن عبد مناف، في زمان معاوية، فأدربنا مع الناس، فلما مررنا بحمص، وكان وحشي مولى جبير قد سكنها، وأقام بها، فلما قدمناها قال عبيد الله بن عدي: هل لك في أن نأتي وحشيا فنسأله عن قتل حمزة كيف قتله؟
قال: قلت له: إن شئت، فخرجنا نسأل عنه بحمص، فقال لنا رجل ونحن نسأل عنه إنكما ستجدانه بفناء داره، وهو رجل قد غلبت عليه الخمر، فإن تجداه صاحيا تجدا رجلا عربيا، وتجدا عنده بعض ما تريدان، وتصيبا عنده ما شئتما من حديث تسألانه عنه، وإن تجداه وبه بعض ما به فانصرفا عنه ودعاه.
قال: فخرجنا نمشي حتى جئناه فإذا هو بفناء داره على طنفسة له، وإذا شيخ كبير مثل البغاث، وإذا هو صاح لا بأس به، فلما انتهينا إليه سلمنا عليه، فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدي فقال: ابن لعدي بن الخيار أنت؟
قال: نعم.
قال: أما والله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التي أرضعتك بذي طوى، فإني ناولتكها وهي على بعيرها فأخذتك بعرضيك، فلمعت لي قدماك حتى رفعتك إليها، فوالله ما هو إلا أن وقفت علي فعرفتهما.
قال: فجلسنا إليه، فقلنا: جئناك لتحدثنا عن قتل حمزة كيف قتلته؟
فقال: أما إني سأحدثكما كما حدثت رسول الله ﷺ حين سألني عن ذلك: كنت غلاما لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر فلما سارت قريش إلى أحد، قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق.
قال: فخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلَّ ما أخطئ بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة، وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس كأنه الجمل الأورق، يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة، أو بحجر ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى.
فلما رآه حمزة قال: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه، قال: وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها، دفعتها عليه فوقعت في ثنته، حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر وقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق.
فلما قدمت مكة عتقت، ثم أقمت حتى إذا افتتح رسول الله ﷺ مكة، هربت إلى الطائف فمكثت بها، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله ﷺ ليسلموا تعَّيت علي المذاهب فقلت: ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد، فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك إنه والله لا يقتل أحدا من الناس دخل في دينه وشهد شهادة الحق.
قال: فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله ﷺ المدينة، فلم يرعه إلا بي قائما على رأسه أشهد شهادة الحق، فلما رآني قال لي: «أوحشي أنت؟» قلت: نعم يا رسول الله، قال: «اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة» قال فحدثته كما حدثتكما، فلما فرغت من حديثي قال: «ويحك غيب عني وجهك فلا أرينك»
قال: فكنت أتنكب برسول الله ﷺ حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله عز وجل.
فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس ورأيت مسيلمة قائما وبيده السيف وما أعرفه، فتهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده، فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه.
وشد عليه الأنصاري بالسيف، فربك أعلم أينا قتله فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله ﷺ، وقتلت شر الناس.
قلت: الأنصاري هو أبو دجانة سماك بن حرشة، كما سيأتي في مقتل أهل اليمامة.
وقال الواقدي في الردة: هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني.
وقال سيف بن عمرو: هو عدي بن سهل، وهو القائل:
ألم تر أني ووحشيهم * قتلت مسيلمة المغتبن
ويسألني الناس عن قتله * فقلت ضربت وهذا طعن
والمشهور: أن وحشيا هو الذي بدره بالضربة وذفف عليه أبو دجانة، لما روى ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن ابن عمر قال: سمعت صارخا يوم اليمامة يقول قتله العبد الأسود.
وقد روى البخاري قصة مقتل حمزة من طريق عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت مع عبد الله بن عدي بن الخيار فذكر القصة كما تقدم.
وذكر أن عبيد الله بن عدي كان معتجرا عمامة لا يرى منه وحشي إلا عينيه ورجليه، فذكر من معرفته له ما تقدم. وهذه قيافة عظيمة كما عرف مجزز المدلجي أقدام زيد وابنه أسامة مع اختلاف ألوانهما.
وقال في سباقته: فلما أن صفَّ الناس للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال له: يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله؟ ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب.
قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه. قال: فكان ذلك آخر العهد به، إلى أن قال: فلما قبض رسول الله ﷺ وخرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرج إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة.
قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه، حتى خرجت من كتفيه. قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته.
قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر البيت وا أمير المؤمناه قتله العبد الأسود.
قال ابن هشام: فبلغني أن وحشيا لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان، فكان عمر بن الخطاب يقول: قد قلت بأن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة.
قلت: وتوفي وحشي بن حرب أبو دسمة، ويقال: أبو حرب بحمص، وكان أول من لبس الثياب المدلوكة.
قال ابن إسحاق: وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله ﷺ حتى قتل، وكان الذي قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله ﷺ، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.
قلت: وذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) عن سعيد بن المسيب أن الذي قتل مصعبا هو أبي بن خلف، فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله ﷺ اللواء علي بن أبي طالب.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: كان اللواء أولا مع علي بن أبي طالب، فلما رأى رسول الله ﷺ لواء المشركين مع عبد الدار قال: نحن أحق بالوفاء منهم، أخذ اللواء من علي بن أبي طالب، فدفعه إلى مصعب بن عمير، فلما قتل مصعب أعطى اللواء علي بن أبي طالب.
قال ابن إسحاق: وقاتل علي بن أبي طالب ورجال من المسلمين.
قال ابن هشام: وحدثني مسلمة بن علقمة المازني قال: لما اشتد القتال يوم أحد جلس رسول الله ﷺ تحت راية الأنصار، وأرسل إلى علي أن قدّم الراية، فقدم علي وهو يقول: أنا أبو القصم فناداه أبو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين: هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟
قال: نعم. فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين، فضربه علي فصرعه، ثم انصرف ولم يجهز عليه.
فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله. وقد فعل ذلك علي رضي الله عنه يوم صفين مع بسر ابن أبي أرطأة، لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته فرجع عنه.
كذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه علي في بعض أيام صفين، أبدى عن عورته، فرجع علي أيضا. ففي ذلك يقول الحارث بن النضر:
أفي كلِّ يومٍ فارس غير منتهِ * وعورته وسط العجاجة باديه
يكف لها عنه عليٌّ سنانه * ويضحك منها في الخلاء معاويه
وذكر يونس عن ابن إسحاق: أن طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء المشركين يومئذ، دعا إلى البراز فأحجم عنه الناس فبرز إليه الزبير بن العوام، فوثب حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه، فأثنى عليه رسول الله ﷺ قال: «إن لكل نبي حواريا وحواريّ الزبير».
وقال: لو لم يبرز إليه لبرزت أنا إليه، لما رأيت من إحجام الناس عنه.
وقال ابن إسحاق: قتل أبا سعد بن أبي طلحة سعد بن أبي وقاص، وقاتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقتل نافع بن أبي طلحة وأخاه الجلاس كلاهما يشعره سهما، فيأتي أمه سلافة فيضع رأسه في حجرها فتقول: يا بني من أصابك؟
فيقول: سمعت رجلا حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبي الأقلح، فنذرت أن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وكان عاصم قد عاهد الله لا يمس مشركا أبدا، ولا يمسه، ولهذا حماه الله منه يوم الرجيع كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: والتقى حنظلة بن أبي عامر، واسمه عمرو، ويقال: عبد عمرو بن صيفي، وكان يقال لأبي عامر في الجاهلية: الراهب، لكثرة عبادته، فسماه رسول الله ﷺ الفاسق، لما خلف الحق وأهله، وهرب من المدينة هربا من الإسلام ومخالفة للرسول عليه السلام.
وحنظلة الذي يعرف بحنطلة الغسيل - لأنه غسلته الملائكة كما سيأتي - هو وأبو سفيان صخر بن حرب، فلما علاه حنظلة رآه شدَّاد بن الأوس، وهو الذي يقال له ابن شعوب، فضربه شدَّاد فقتله، فقال رسول الله ﷺ: «إن صاحبكم لتغسله الملائكة فاسألوا أهله ما شأنه» فسُئلت صاحبته.
قال الواقدي: هي جميلة بنت أبي ابن سلول، وكانت عروسا عليه تلك الليلة. فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله ﷺ: «كذلك غسلته الملائكة».
وقد ذكر موسى بن عقبة أن أباه ضرب برجله في صدره، وقال: ذنبان أصبتهما ولقد نهيتك عن مصرعك هذا، ولقد والله كنتَ وصولا للرحم، برا بالوالد.
قال ابن إسحاق: وقال ابن شعوب في ذلك:
لأحمينَّ صاحبي ونفسي * بطعنةٍ مثل شعاع الشمس
وقال ابن شعوب:
ولولا دفاعي يا ابن حرب ومشهدي * لألفيتَ يوم النعفِ غيرَ مجيب
ولولا مكري المهر بالنعف فرفرت * عليه ضباع أو ضراء كليب
وقال أبو سفيان:
ولو شئتُ نجتّني كُمَيتَ طمرة * ولم أحملِ النعماء لابن شعوب
وما زال مهري مزجَرَ الكلب منهم * لدن غدوةٍ حتى دنت لغروب
أقاتلهم وأدعي يا لغالب * وأدفعهم عني بركن صليب
فبكِّي ولا ترعي مقالة عاذل * ولا تسأمي من عَبرة ونحيب
أباكِ وإخوانا له قد تتابعوا * وحقا لهم من عَبرة بنصيب
وسَلي الذي قد كان في النفس أنني * قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرما كريما ومصعبا * وكان لدى الهيجاء غير هيوب
فلو أنني لم أشفِ نفسي منهم * لكانت شجى في القلب ذات ندوب
فأبوا وقد أوْدى الجلابيب منهمُ * بهم خدبٌ من مُغبطٍ وكئيب
أصابهمُ من لم يكن لدِمائهم * كفاء ولا في خطةٍ بضريب
فأجابه حسان بن ثابت:
ذكرت القروم الصِّيدَ من آل هاشم * ولست لزورٍ قلته بمصيبِ
أتعجبُ أن أقصدت حمزةَ منهم * نجيبا وقد سمَّيته بنجيب
ألم يقتلوا عَمرا وعتبة وابنه * وشيبة والحجاج وابن حبيب
غداة دعا العاصي عليا فراعَه * بضربةِ عَضْبٍ بَلّهُ بخضيب