البداية والنهاية/الجزء الرابع/فصل في أول من عرف رسول الله بعد الهزيمة كعب بن مالك
قال ابن إسحاق: وكان أول من عرف رسول الله ﷺ بعد الهزيمة، وقول الناس قتل رسول الله ﷺ - كما ذكر لي الزهري -كعب بن مالك.
قال: رأيت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله ﷺ، فأشار رسول الله ﷺ إلي أن أنصت.
قال ابن إسحاق: فلما عرف المسلمون رسول الله ﷺ نهضوا به، ونهض معهم نحو الشعب، معه أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، ورهط من المسلمين.
فلما أسند رسول الله ﷺ في الشعب أدركه أبي بن خلف، فذكر قتله عليه السلام أبيا كما تقدم.
قال ابن إسحاق: وكان أبي بن خلف، كما حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، يلقى رسول الله ﷺ بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العودَ - فرسا - أعلفه كل يوم فَرَقا من ذرة، أقتلك عليه.
فيقول رسول الله ﷺ: «بل أنا أقتلك إن شاء الله».
فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدم فقال: قتلني والله محمد.
فقالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إنْ بك بأس.
قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليَّ لقتلني، فمات عدو الله بسرَف وهم قافلون به إلى مكة.
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك:
لقد ورِثَ الضلالة عن أبيه * أبي يوم بارزه الرسولُ
أتيتَ إليه تحملُ رِمَّ عَظْمٍ * وتُوعِده وأنت به جَهول
وقد قَتلتْ بنو النجّار منكم * أميةَ إذ يغوث: يا عقيل
وتَبَّ ابنا ربيعةَ إذ أطاعا * أبا جهلٍ لأمهما الهبول
وأفلتَ حارثٌ لما شُغلنا * بأسْرِ القوم، أُسرتِهِ قليل
وقال حسان بن ثابت أيضا:
ألا مَن مبلغٌ عني أبيا * فقد ألقيت في سحق السعير
تمُني بالضلالة من بعيد * وتقُسِمُ إنّ قَدرتَ مع النُذور
تمنِّيكَ الأماني من بعيد * وقولُ الكفرِ يرجعُ في غرور
فقد لاقتك طعنةُ ذي حفاظٍ * كريمِ البيتِ ليس بذي فجور
له فضلٌ على الأحياء طُرا * إذا نابتْ مُلمّاتُ الأمور
قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله ﷺ إلى فم الشعب، خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته ماءً من المهراس، فجاء بها إلى رسول الله ﷺ ليشرب، منه فوجد له ريحا فعافه ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: «اشتد غضب الله على من دمى نبيه».
وقد تقدم شواهد ذلك من الأحاديث الصحيحة بما فيه الكفاية.
قال ابن إسحاق: فبينا رسول الله ﷺ في الشعب معه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل.
قال ابن هشام: فيهم خالد بن الوليد.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله ﷺ: «اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا» فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل، ونهض النبي ﷺ إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وقد كان بدَّن رسول الله ﷺ ظاهر بين درعين.
فلما ذهب لينهض لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوى عليها، فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول يومئذ: «أوجب طلحة» حين صنع برسول الله ﷺ يومئذ ما صنع.
قال ابن هشام: وذكر عمر مولى عفرة: أن رسول الله ﷺ صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التي أصابته وصلى المسلمون خلفه قعودا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أتيُّ لا يدرى من هو، يقال له: قزمان، فكان رسول الله ﷺ يقول إذا ذكر: «إنه لمن أهل النار».
قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا فقتل هو وحده ثمانية أو سبعة من المشركين، وكان ذا بأس فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر.
قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر.
قال: بماذا أبشر؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت.
قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته، فقتل به نفسه.
وقد ورد مثل قصة هذا في غزوة خيبر كما سيأتي، إن شاء الله.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن المسيب، عن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله ﷺ خيبر، فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: «هذا من أهل النار».
فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله الرجل الذي قلت إنه من أهل النار قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات.
فقال النبي ﷺ: «إلى النار» فكاد بعض القوم يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل فإنه لم يمت ولكن به جراح شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبي ﷺ بذلك، فقال: «الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله».
ثم أمر بلالا فنادى في الناس: «إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
وأخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به.
قال ابن إسحاق: و كان ممن قتل يوم أحد مخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن الغيطون، فلما كان يوم أحد قال: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق.
قالوا: إن اليوم يوم السبت.
قال: لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء.
ثم غدا إلى رسول الله ﷺ فقاتل معه حتى قتل، فقال رسول الله ﷺ فيما بلغنا: «مخيريق خير يهود».
قال السهيلي: فجعل رسول الله ﷺ أموال مخيريق - وكانت سبع حوائط - أوقافا بالمدينة لله.
قال محمد بن كعب القرظي: وكانت أول وقف بالمدينة.
وقال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن أبي هريرة أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلِ قط، فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ فيقول: أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش.
قال الحصين: فقلت لمحمود بن أسد كيف كان شأن الأصيرم؟
قال: كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم أحد بدا له فأسلم، ثم أخذ سيفه فغدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة.
قال: فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم ما جاء به، لقد تركناه، وإنه لمنكر لهذا الحديث، فسألوه فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟
فقال: بل رغبة في الإسلام أمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي وغدوت مع رسول الله ﷺ فقاتلت حتى أصابني ما أصابني، فلم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله ﷺ فقال: «إنه من أهل الجنة».
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي عن أشياخ من بني سلمة قالوا: كان عمرو بن الجموح رجلا أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد، يشهدون مع رسول الله ﷺ المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا: إن الله قد عذرك.
فأتى رسول الله ﷺ وقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة.
فقال رسول الله ﷺ: «أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك» وقال لبنيه: «ما عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة» فخرج معه فقتل يوم أحد رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة -كما حدثني صالح بن كيسان - والنسوة اللائي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله ﷺ، يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهن خدما وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
وذكر موسى بن عقبة أن الذي بقر كبد حمزة وحشي، فحملها إلى هند فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها فقالت:
نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان لي عن عتبةِ من صبر * ولا أخي وعمه وبكر
شفيت نفسي وقضيت نذري * شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشيٍ علي عمري * حتى ترم أعظمي في قبري
قال: فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت:
خزيت في بدر وبعد بدر * يا بنت وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر * م الهاشميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري * حمزة ليثيٌ وعلي صقري
إذ رأم شيب وأبوك غدري * فخضبا منه ضواحي النحر
ونذرك السوء فشر نذر *
قال ابن إسحاق: وكان الحليس بن زيان أخو بني الحارث بن عبد مناة - وهو يومئذ سيد الأحابيش - مر بأبي سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح، ويقول: ذق عقق.
فقال الحليس: يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما.
فقال: ويحك اكتمها عني فإنها كانت زلة.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف، أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل، أي: ظهر دينك.
فقال رسول الله ﷺ لعمر: «قم يا عمر فأجبه فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار».
فقال له أبو سفيان: هلم إلي يا عمر.
فقال رسول الله ﷺ لعمر: «ائته فانظر ما شأنه».
فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟
فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن.
قال: أنت عندي أصدق من ابن قمئة وأبر.
قال ابن إسحاق: ثم نادى أبو سفيان إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت ولا أمرت.
قال: ولما انصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله ﷺ لرجل من أصحابه: «قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد»
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب، فقال: «اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم».
قال علي: فخرجت في أثرهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكة.