البداية والنهاية/الجزء الرابع/فصل مبايعة رسول الله الناس يوم الفتح على الإسلام والشهادة
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، أنبا عبد الله بن عثمان بن خثيم: أن محمد بن الأسود بن خلف أخبره: أن أباه الأسود رأى رسول الله ﷺ يبايع الناس يوم الفتح، قال: جلس عند قرن مستقبله فبايع الناس على الإسلام والشهادة.
قلت: وما الشهادة؟
قال: أخبرني محمد بن الأسود بن خلف أنه بايعهم على الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
تفرد به أحمد.
وعند البيهقي: فجاءه الناس الكبار والصغار، والرجال والنساء فبايعهم على الإسلام والشهادة.
وقال ابن جرير: ثم اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله ﷺ على الإسلام، فجلس لهم - فيما بلغني - على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل من مجلسه، فأخذ على الناس السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا.
قال: فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء، وفيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لحدثها، لما كان من صنيعها بحمزة فهي تخاف أن يأخذها رسول الله ﷺ بحدثها ذلك، فلما دنين من رسول الله ﷺ ليبايعهن قال: «بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا».
فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال؟
«ولا تسرقن» فقالت: والله إني كنت أصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة، وما كنت أدري أكان ذلك علينا حلالا أم لا؟
فقال أبو سفيان - وكان شاهدا لما تقول -: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل.
فقال رسول الله ﷺ: «وإنك لهند بنت عتبة؟».
قالت: نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك.
ثم قال: «ولا يزنين».
فقالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة؟
ثم قال: «ولا تقتلن أولادكن».
قالت: قد ربيناهم صغارا حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كبارا، فضحك عمر بن الخطاب حتى استغرق.
ثم قال: «ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن»
فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل.
ثم قال: «ولا يعصينني».
فقالت: في معروف.
فقال رسول الله ﷺ لعمر: «بايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم».
فبايعهن عمر، وكان رسول الله ﷺ لا يصافح النساء، ولا يمس إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه.
وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا والله ما مست يد رسول الله ﷺ يد امرأة قط.
وفي رواية: ما كان يبايعهن إلا كلاما ويقول: «إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة».
وفي الصحيحين عن عائشة: أن هندا بنت عتبة امرأة أبي سفيان أتت رسول الله ﷺ، فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟
قال: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك».
وروى البيهقي من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أن هند بنت عتبة قالت:
يا رسول الله ما كان مما على وجه الأرض أخباء أو خباء - الشك من أبي بكر - أحب إلي من أن يذلوا من أهل أخبائك أو خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل أخباء - أو خباء - أحب إلى من أن يعزوا من أهل أخبائك، أو خبائك.
فقال رسول الله ﷺ: «وأيضا والذي نفس محمد بيده».
قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي حرج أن أطعم من الذي له؟
قال: «لا، بالمعروف».
ورواه البخاري: عن يحيى بن بكير بنحوه.
وتقدم ما يتعلق بإسلام أبي سفيان.
وقال أبو داود: ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ يوم فتح مكة: «لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم ألا فانفروا».
ورواه البخاري: عن عثمان بن أبي شيبة، ومسلم عن يحيى بن يحيى، عن جرير.
وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا وهب، ثنا ابن طاووس، عن أبيه، عن صفوان بن أمية أنه قيل له: إنه لا يدخل الجنة إلا من هاجر.
فقلت له: لا أدخل منزلي حتى أسأل رسول الله ما سأله، فأتيته فذكرت له فقال: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا».
تفرد به أحمد.
وقال البخاري: ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا الفضيل بن سليمان، ثنا عاصم، عن أبي عثمان النهدي، عن مجاشع بن مسعود قال: انطلقت بأبي معبد إلى النبي ﷺ ليبايعه على الهجرة، فقال: «مضت الهجرة لأهلها أبايعه على الإسلام والجهاد»، فلقيت أبا معبد فسألته، فقال: صدق مجاشع.
وقال خالد: عن أبي عثمان، عن مجاشع أنه جاء بأخيه مجالد.
وقال البخاري: ثنا عمرو بن خالد، ثنا زهير، ثنا عاصم، عن أبي عثمان قال: حدثني مجاشع قال: أتيت رسول الله ﷺ بأخي بعد يوم الفتح فقلت: يا رسول الله جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة.
قال: «ذهب أهل الهجرة بما فيها».
فقلت: على أي شيء تبايعه؟
قال: «أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد».
فلقيت أبا معبد بعد، وكان أكبرهما سنا فسألته، فقال: صدق مجاشع.
وقال البخاري: ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد قال: قلت لابن عمر أريد أن أهاجر إلى الشام.
فقال: لا هجرة، ولكن انطلق فاعرض نفسك فإن وجدت شيئا وإلا رجعت.
وقال أبو النضر: أنا شعبة، أنا أبو بشر، سمعت مجاهدا قال: قلت لابن عمر فقال: لا هجرة اليوم - أو بعد رسول الله ﷺ - مثله.
حدثنا إسحاق بن يزيد، ثنا يحيى بن حمزة، حدثني أبو عمرو الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد بن جبير، أن عبد الله بن عمر قال: لا هجرة بعد الفتح.
وقال البخاري: ثنا إسحاق بن يزيد، أنا يحيى بن حمزة، أنا الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير فسألها عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، وكان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله عز وجل وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، فالمؤمن يعبد ربه حيث يشاء، ولكن جهاد ونية.
وهذه الأحاديث والآثار دالة على أن الهجرة إما الكاملة، أو مطلقا قد انقطعت بعد فتح مكة؛ لأن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وظهر الإسلام، وثبتت أركانه ودعائمه، فلم تبق هجرة، اللهم إلا أن يعرض حال يقتضي الهجرة بسبب مجاورة أهل الحرب، وعدم القدرة على إظهار الدين عندهم، فتجب الهجرة إلى دار الإسلام.
وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، ولكن هذه الهجرة ليست كالهجرة قبل الفتح، كما أن كلا من الجهاد والإنفاق في سبيل الله مشروع، ورغب فيه إلى يوم القيامة، وليس كالإنفاق ولا الجهاد قبل الفتح - فتح مكة -
قال الله تعالى: { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى. } الآية [الحديد: 10] .
وقد قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري الطائي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ أنه قال لما نزلت هذه السورة: { إذا جاء نصر الله والفتح.. } قرأها رسول الله حتى ختمها، وقال: «الناس خير وأنا وأصحابي خير» وقال: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية».
فقال له مروان: كذبت وعنده رافع بن خديج، وزيد بن ثابت قاعدان معه على السرير.
فقال أبو سعيد: لو شاء هذان لحدثاك، ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، فرفع مروان عليه الدرة ليضربه، فلما رأيا ذلك قالا: صدق. تفرد به أحمد.
وقال البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟
فقال عمر: إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معه - فما رأيت أنه أدخلني فيهم يومئذ إلا ليريهم - فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: { إذا جاء نصر الله والفتح } ؟
فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا.
فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟
فقلت: لا.
فقال: ما تقول؟
فقلت: هو أجل رسول الله ﷺ أعلمه له، قال: { إذا جاء نصر الله والفتح } فذلك علام أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا.
قال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما يقول.
تفرد به البخاري.
وهكذا روي من غير وجه عن ابن عباس أنه فسر ذلك بنعي رسول الله ﷺ في أجله.
وبه قال مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وغير واحد كما قال ابن عباس، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن فضيل، ثنا عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: { إذا جاء نصر الله والفتح } قال رسول الله ﷺ: «نعيت إلى نفسي» بأنه مقبوض في تلك السنة.
تفرد به الإمام أحمد، وفي إسناده عطاء بن أبي مسلم الخراساني، وفيه ضعف تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وفي لفظه نكارة شديدة، وهو قوله: بأنه مقبوض في تلك السنة، وهذا باطل فإن الفتح كان في سنة ثمان في رمضان منها كما تقدم بيانه، وهذا ما لا خلاف فيه، وقد توفي رسول الله ﷺ في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة بلا خلاف أيضا.
وهكذا الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني رحمه الله: ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي، ثنا أبي، ثنا جعفر بن عون، عن أبي العميس، عن أبي بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال:
آخر سورة نزلت من القرآن جميعا: { إذا جاء نصر الله والفتح } فيه نكارة أيضا، وفي إسناده نظر أيضا، ويحتمل أن يكون أنها آخر سورة نزلت جميعها كما قال، والله أعلم.
وقد تكلمنا على تفسير هذه السورة الكريمة بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة.
وقال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمرو بن سلمة قال لي أبو قلابة: ألا تلقاه فنسأله؟
فلقيته فسألته قال: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس ما للناس، ما هذا الرجل؟
فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه، كذا فكنت أحفظ ذاك الكلام فكأنما يغري في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا.
قال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني.
فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا أست قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص.
تفرد به البخاري دون مسلم.