البداية والنهاية/الجزء الرابع/فصل نزول النبي عليه السلام إلى مر الظهران
ولما انتهى رسول الله ﷺ إلى مر الظهران نزل فيه فأقام، كما روى البخاري: عن يحيى بن بكير، عن الليث، ومسلم عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، كلاهما عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر قال:
كنا مع رسول الله ﷺ بمر الظهران نجتني الكباث، وإن رسول الله ﷺ قال: «عليكم بالأسود منه فإنه أطيب».
قالوا: يا رسول الله أكنت ترعى الغنم؟
قال: «نعم وهل من نبي إلا وقد رعاها».
وقال البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن سنان بن إسماعيل، عن أبي الوليد سعيد بن مينا قال: لما فرغ أهل مكة ورجعوا، أمرهم رسول الله ﷺ بالمسير إلى مكة، فلما انتهى إلى مر الظهران نزل بالعقبة، فأرسل الجناة يجتنون الكباث، فقلت لسعيد: وما هو؟
قال: ثمر الآراك.
قال: فانطلق ابن مسعود فيمن يجتني، قال: فجعل أحدهم إذا أصاب حبة طيبة قذفها في فيه، وكانوا ينظرون إلى دقة ساقي ابن مسعود وهو يرقى في الشجرة فيضحكون، فقال رسول الله ﷺ: «تعجبون من دقة ساقيه فوالذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد».
وكان ابن مسعود ما اجتنى من شيء جاء به وخياره إلى رسول الله ﷺ، فقال في ذلك:
هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه
وفي الصحيحين عن أنس قال: أنفجنا أرنبا ونحن بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا فأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله ﷺ بوركها وفخذيها فقبله.
وقال ابن إسحاق: ونزل رسول الله ﷺ مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله ﷺ، ولا يدرون ما رسول الله ﷺ فاعل.
وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به.
وذكره ابن لهيعة: عن أبي الأسود، عن عروة أن رسول الله ﷺ بعث بين يديه عيونا خيلا يقتصون العيون، وخزاعة لا تدع أحدا يمضي وراءها، فلما جاء أبو سفيان وأصحابه أخذتهم خيل المسلمين، وقام إليه عمر يجأ في عنقه، حتى أجاره العباس بن عبد المطلب، وكان صاحبا لأبي سفيان.
قال ابن إسحاق: وقال العباس حين نزل رسول الله ﷺ مر الظهران قلت: واصباح قريش! والله لئن دخل رسول الله ﷺ مكة عنوة قبل أن يأتوه، فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.
قال: فجلست على بغلة رسول الله ﷺ البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الآراك فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله ﷺ يخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخل عليهم عنوة.
قال: فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبي سفيان، وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط، ولا عسكرا.
قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب.
قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة؟
فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟
قال: قلت: نعم.
قال: مالك فدى لك أبي وأمي؟
قال: قلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله ﷺ في الناس.
فقال: واصباح قريش والله، فما الحيلة فداك أبي وأمي؟
قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله ﷺ فأستأمنه لك.
قال: فركب خلفي ورجع صاحباه.
وقال عروة: بل ذهبا إلى النبي ﷺ فأسلما، وجعل يستخبرهما عن أهل مكة.
وقال الزهري وموسى بن عقبة: بل دخلوا مع العباس على رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: قال فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟
فإذا رأوا بغلة رسول الله ﷺ وأنا عليها قالوا: عم رسول الله ﷺ على بغلة رسول الله ﷺ، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلي.
فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد؟
وزعم عروة بن الزبير أن عمر وجأ في رقبة أبي سفيان، وأراد قتله فمنعه منه العباس.
وهكذا ذكر موسى بن عقبة، عن الزهري: أن عيون رسول الله ﷺ أخذوهم بأزمة جمالهم، فقالوا: من أنتم؟
قالوا: وفد رسول الله ﷺ، فلقيهم العباس فدخل بهم على رسول الله ﷺ فحادثهم عامة الليل، ثم دعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فشهدوا، وأن محمدا رسول الله فشهد حكيم وبديل.
وقال أبو سفيان: ما أعلم ذلك، ثم أسلم بعد الصبح، ثم سألوه أن يؤمن قريشا فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن - وكانت بأعلى مكة - ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن - وكانت بأسفل مكة - ومن أغلق بابه فهو آمن»
قال العباس: ثم خرج عمر يشتد نحو رسول الله ﷺ، وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء.
قال: فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله ﷺ، ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه.
قال: قلت: يا رسول إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله ﷺ فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل، فلما أكثر عمر في شأنه قال: قلت: مهلا يا عمر فوالله أن لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف.
فقال: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله ﷺ من إسلام الخطاب لو أسلم.
فقال رسول الله: «اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به».
قال: فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله ﷺ فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟
فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك، أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا.
فقال له العباس: ويحك أسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك.
قال: فشهد شهادة الحق فأسلم.
قال العباس: فقلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئا؟
قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» زاد عروة: «ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن».
وهكذا قال موسى بن عقبة، عن الزهري: «ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن».
فلما ذهب لينصرف قال رسول الله ﷺ: «يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها».
وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري: أن أبا سفيان وبديلا وحكيم بن حزام، كانوا وقوفا مع العباس عند خطم الجبل، وذكر أن سعدا لما قال لأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فشكى أبو سفيان إلى رسول الله ﷺ فعزله عن راية الأنصار، وأعطاها الزبير بن العوام.
فدخل بها من أعلى مكة، وغرزها بالحجون، ودخل خالد من أسفل مكة فلقيه بنو بكر وهذيل، فقتل من بني بكر عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا فقتلوا بالحزورة، حتى بلغ قتلهم باب المسجد.
قال العباس: فخرجت بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله ﷺ أن أحبسه.
قال: ومرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هؤلاء؟
فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟
فأقول: مزينة فيقول مالي ولمزينة، حتى نفذت القبائل ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: مالي ولبني فلان، حتى مر رسول الله ﷺ في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد.
فقال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟
قال: قلت: هذا رسول الله ﷺ في المهاجرين والأنصار.
قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما!
قال: قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة.
قال: فنعم إذن.
قال: قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم.
فقال أبو سفيان: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟
قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
وذكر عروة بن الزبير: أن رسول الله ﷺ لما مر بأبي سفيان قال له: إني لأرى وجوها كثيرة لا أعرفها، لقد كثرت هذه الوجوه علي.
فقال له رسول الله: «أنت فعلت هذا وقومك، إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني، ونصروني إذ أخرجتموني».
ثم شكى إليه قول سعد بن عبادة حين مر عليه فقال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة.
فقال رسول الله: كذب سعد بل هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة.
وذكر عروة: أن أبا سفيان لما أصبح صبيحة تلك الليلة التي كان عند العباس، ورأى الناس يجنحون للصلاة، وينتشرون في استعمال الطهارة خاف، وقال للعباس: ما بالهم؟
قال: إنهم سمعوا النداء فهم ينتشرون للصلاة، فلما حضرت الصلاة، ورآهم يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده.
قال: يا عباس ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه.
قال: نعم، والله لو أمرهم بترك الطعام والشراب لأطاعوه.
وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري: أنه لما توضأ رسول الله ﷺ جعلوا يتكففون، فقال: يا عباس ما رأيت كالليلة ولا ملك كسرى وقيصر.
وقد روى الحافظ البيهقي: عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أحمد بن الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر هذه القصة بتمامها كما أوردها زياد البكائي، عن ابن إسحاق منقطعة، فالله أعلم.
على أنه قد روى البيهقي: من طريق أبي بلال الأشعري، عن زياد البكائي، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس قال: جاء العباس بأبي سفيان إلى رسول الله ﷺ قال: فذكر القصة، إلا أنه ذكر أنه أسلم ليلته قبل أن يصبح بين يدي رسول الله ﷺ، وأنه لما قال له رسول الله ﷺ: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن».
قال أبو سفيان: وما تسع داري؟
فقال: «ومن دخل الكعبة فهو آمن».
قال: وما تسع الكعبة؟
فقال: «ومن دخل المسجد فهو آمن».
قال: وما تسع المسجد؟
فقال: «ومن أغلق عليه بابه فهو آمن».
فقال أبو سفيان: هذه واسعة.
وقال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه قال: لما سار رسول الله ﷺ عام الفتح فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله ﷺ، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة.
فقال أبو سفيان: ما هذه كأنها نيران عرفة؟
فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو.
فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله ﷺ فأدركوهم، فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله ﷺ، فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس: «احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين».
فحبسه العباس فجعلت القبائل تمر مع رسول الله ﷺ تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، فمرت كتيبة فقال: يا عباس من هذه؟
قال: هذه غفار.
قال: مالي ولغفار؟
ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم فقال مثل ذلك، ومرت سليم فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها فقال: من هذه؟
قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية.
فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة.
فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار، ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله ﷺ وأصحابه، وراية رسول الله ﷺ مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله ﷺ بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟
فقال: «ما قال؟».
قال: كذا وكذا.
فقال: «كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة».
وأمر رسول الله ﷺ أن تركز رايته بالحجون.
قال عروة: أخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: ها هنا أمر رسول الله ﷺ أن تركز الراية؟
قال: نعم.
قال: وأمر رسول الله ﷺ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء، ودخل رسول الله ﷺ من كدى فقتل من خيل خالد بن الوليد يومئذ رجلان: حنيش بن الأشعر، وكرز بن جابر الفهري.
وقال أبو داود: ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن آدم، ثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ عام الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان بن حرب فأسلم بمر الظهران.
فقال له العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فلو جعلت له شيئا.
قال: «نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن».