البداية والنهاية/الجزء الرابع/قصة عمرو بن العاص مع النجاشي
قال محمد بن إسحاق بعد مقتل أبي رافع: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب بن أوس أبي الثقفي، عن حبيب بن أبي أوس، حدثني عمرو بن العاص من فيه قال: لما انصرفنا يوم الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإني لقد رأيت أمرا فما ترون فيه؟
قالوا: وما رأيت؟
قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا إن نكن تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير.
قالوا: إن هذا لرأي.
قلت: فاجمعوا لنا ما نهدي له، فكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله ﷺ قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه.
قال: فدخل عليه، ثم خرج من عنده.
قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع.
فقال: مرحبا بصديقي هل أهديت لي من بلادك شيئا؟
قال: قلت: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا.
قال: ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
قال: فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت الأرض لدخلت فيها فرقا، ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه.
قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله؟
قال: قلت: أيها الملك أكذاك هو؟
قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى بن عمران على فرعون وجنوده.
قال: قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟
قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامدا إلى رسول الله ﷺ لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة.
فقلت: أين أبا سليمان؟
فقال: والله لقد استقام الميسم، وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم فحتى متى؟
قال: قلت: والله ما جئت إلا لأسلم.
قال: فقدمنا المدينة على النبي ﷺ فتقدم خال بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «يا عمرو بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها».
قال: فبايعته ثم انصرفت.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة كان معهما أسلم حين أسلما، فقال عبد الله بن أبي الزبعري السهمي:
أنشد عثمان بن طلحة خلفنا * وملقى نعال القوم عند المقبل
وما عقد الإباء من كل حلقة * وما خالد من مثلها بمحلل
أمفتاح بيت غير بيتك تبتغي * وما تبتغي من بيت مجد مؤثل
فلا تأمنن خالدا بعد هذه * وعثمان جاءا بالدهيم المعضل
قلت: كان إسلامهم بعد الحديبية، وذلك أن خالد بن الوليد كان يومئذ في خيل المشركين كما سيأتي بيانه، فكان ذكر هذا الفصل في إسلامهم بعد ذلك أنسب.
ولكن ذكرنا ذلك تبعا للإمام محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى، لأن أول ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان بعد وقعة الخندق، الظاهر أنه ذهب بقية سنة خمس، والله أعلم.