البداية والنهاية/الجزء الرابع/بعثه عليه السلام خالد بن الوليد بعد الفتح إلى بني جذيمة من كنانة
قال ابن إسحاق: فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعيا ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العرب وسليم بن منصور، ومدلج بن مرة، فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال: لما أمرنا خالد أن نضع السلاح، قال رجل منا يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسار، وما بعد الأسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبدا.
قال: فأخذه رجال من قومه فقالوا: يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا، إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب، وأمن الناس، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم سلاحهم لقول خالد.
قال ابن إسحاق: فقال حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر قال: فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله ﷺ رفع يديه إلى السماء ثم قال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد».
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أنه انفلت رجل من القوم فأتى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، فقال رسول الله ﷺ: «هل أنكر عليه أحد؟».
فقال: نعم، قد أنكر عليه رجل أبيض ربعه، فنهمه خالد فسكت عنه، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب فاشتدت مراجعتهما، فقال عمر بن الخطاب: أما الأول يا رسول الله فابني عبد الله، وأما الآخر فسالم مولى أبي حذيفة.
قال ابن إسحاق: فحدثني حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر قال: ثم دعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب فقال: «يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك».
فخرج علي حتى جاءهم، ومعه مال قد بعث به رسول الله ﷺ فودى لهم الدماء، وما أصيب لهم من الأموال، حتى أنه ليدي ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال فقال لهم علي حين فرغ منهم: هل بقي لكم دم أو مال يود لكم؟
قالوا: لا.
قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله ﷺ مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل ثم رجع إلى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، فقال: «أصبت وأحسنت».
ثم قام رسول الله ﷺ فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد» ثلاث مرات.
قال ابن إسحاق: وقد قال بعض من يعذر خالدا أنه قال: ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد الله بن حذافة السهمي، وقال: إن رسول الله ﷺ قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم من الإسلام.
قال ابن هشام: قال أبو عمرو المديني: لما أتاهم خالد بن الوليد قالوا: صبأنا صبأنا. وهذه مرسلات ومنقطعات.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر قال: بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد إلى بني - أحسبه قال - جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، وخالد يأخذ بهم أسرا وقتلا.
قال: ودفع إلى كل رجل منا أسيرا حتى إذا أصبح يوما أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره.
قال ابن عمر: فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره.
قال: فقدموا على النبي ﷺ فذكروا صنيع خالد، فقال النبي ﷺ ورفع يديه: «اللهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد» مرتين.
ورواه البخاري، والنسائي، من حديث عبد الرزاق به نحوه.
قال ابن إسحاق: وقد قال لهم جحدم لما رأى ما يصنع خالد: يا بني جذيمة ضاع الضرب قد كنت حذرتكم مما وقعتم فيه.
قال ابن إسحاق: وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف - فيما بلغني - كلام في ذلك، فقال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام؟
فقال: إنما ثأرت بأبيك.
فقال عبد الرحمن: كذبت قد قتلت قاتل أبي، ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة حتى كان بينهما شر، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: «مهلا يا خالد دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته».
ثم ذكر ابن إسحاق قصة الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم عم خالد بن الوليد في خروجه هو، وعوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة، ومعه ابنه عبد الرحمن وعفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ومعه ابنه عثمان في تجارة إلى اليمن، ورجوعهم ومعهم مال لرجل من بني جذيمة كان هلك باليمن.
فحملوه إلى ورثته فادعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام، ولقيهم بأرض بني جذيمة فطلبه منهم قبل أن يصلوا إلى أهل الميت، فأبوا عليه، فقاتلهم فقاتلوه حتى قتل عوف والفاكه، وأخذت أموالهما وقتل عبد الرحمن قاتل أبيه خالد بن هشام، وفر منهم عفان ومعه ابن عثمان إلى مكة.
فهمت قريش بغزو بني جذيمة، فبعث بنو جذيمة يعتذرون إليهم بأنه لم يكن عن ملأ منهم، وودوا لهم القتيلين وأموالهما، ووضعوا الحرب بينهم.
يعني فلهذا قال خالد لعبد الرحمن: إنما ثأرت بأبيك يعني حين قتلته بنو جذيمة، فأجابه بأنه قد أخذ ثأره وقتل قاتله.
ورد عليه بأنه إنما ثأر بعمه الفاكه بن المغيرة حين قتلوه، وأخذوا أمواله، والمظنون بكل منهما أنه لم يقصد شيئا من ذلك، وإنما يقال هذا في وقت المخاصمة، فإنما أراد خالد بن الوليد نصرة الإسلام وأهله، وإن كان قد أخطأ في أمر واعتقد أنهم ينتقصون الإسلام بقولهم صبأنا صبأنا، ولم يفهم عنهم أنهم أسلموا، فقتل طائفة كثيرة منهم وأسر بقيتهم، وقتل أكثر الأسرى أيضا، ومع هذا لم يعزله رسول الله ﷺ بل استمر به أميرا.
وإن كان قد تبرأ منه في صنيعه ذلك وودى ما كان جناه خطأ في دم أو مال، ففيه دليل لأحد القولين بين العلماء في أن خطأ الإمام يكون في بيت المال لا في ماله، والله أعلم. ولهذا لم يعزله الصديق حين قتل مالك بن نويرة أيام الردة، وتأول عليه ما تأول حين ضرب عنقه، واصطفى امرأته أم تميم.
فقال له عمر بن الخطاب: اعزله فإن في سيفه رهقا.
فقال الصديق: لا أغمد سيفا سله الله على المشركين.
وقال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، عن الزهري، عن ابن أبي حدرد الأسلمي قال: كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد فقال فتى من بني جذيمة وهو في سني، وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة، ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى، قلت: ما تشاء؟
قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هذه النسوة، حتى أقضي إليهن حاجة، ثم تردني بعد فتصنعوا ما بدا لكم.
قال: قلت: والله ليسير ما طلبت فأخذت برمته فقدته بها حتى وقفته عليهن.
فقال: أسلمي حبيش على نفد من العيش:
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم * بحلية أو ألفيتكم بالخوانق
ألم يك أهلا أن ينول عاشق * تكلف إدلاج السرى والودائق
فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معا * أثيبي بود قبل إحدى الصفائق
أثيبي بود قبل أن يشحط النوى * وينأى الأمير بالحبيب المفارق
فإني لا ضيعت سر أمانة * ولا راق عيني عنك بعدك رائق
سوى أن ما نال العشيرة شاغل * عن الود إلا أن يكون التوامق
قالت: وأنت فحييت عشرا وتسعا وترا وثمانية تترى.
قال: ثم انصرفت به فضربت عنقه.
قال ابن إسحاق: فحدثني أبو فراس ابن أبي سنبلة الأسلمي، عن أشياخ منهم، عمن كان حاضرها منهم قالوا: فقامت إليه حين ضربت عنقه فأكبت عليه، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده.
وروى الحافظ البيهقي: من طريق الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، أنه سمع رجلا من مزينة يقال له ابن عصام، عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ إذا بعث سرية قال: «إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحدا».
قال: فبعثنا رسول الله ﷺ في سرية، وأمرنا بذلك، فخرجنا قبل تهامة، فأدركنا رجلا يسوق بظعائن فقلنا له: أسلم.
فقال: وما الإسلام؟
فأخبرناه به فإذا هو لا يعرفه.
قال: أفرأيتم إن لم أفعل ما أنتم صانعون؟
قال: قلنا نقتلك.
فقال: فهل أنتم منظري حتى أدرك الظعائن؟
قال: قلنا: نعم، ونحن مدركوك.
قال: فأدرك الظعائن فقال: أسلمي حبيش قبل نفاد العيش.
فقالت الأخرى: أسلم عشرا وتسعا وترا وثمانيا تترى.
ثم ذكر الشعر المتقدم إلى قوله:
وينأى الأمير بالحبيب المفارق.
ثم رجع إلينا فقال: شأنكم.
قال: فقدمناه فضربنا عنقه.
قال: فانحدرت الأخرى من هودجها فجثت عليه حتى ماتت.
ثم روى البيهقي: من طريق أبي عبد الرحمن النسائي، ثنا محمد بن علي بن حرب المروزي، ثنا علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ بعث سرية فغنموا وفيهم رجل، فقال لهم: إني لست منهم، إني عشقت امرأة فلحقتها فدعوني أنظر إليها ثم اصنعوا بي ما بدا لكم.
قال: فإذا امرأة أدماء طويلة.
فقال لها: أسلمي حبيش قبل نفاد العيش.
ثم ذكر البيتين بمعناهما.
قال: فقالت: نعم فديتك.
قال: فقدموه فضربوا عنقه، فجاءت المرأة فوقعت عليه، فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت، فلما قدموا على رسول الله ﷺ أخبروه الخبر، فقال: «أما كان فيكم رجل رحيم».