البداية والنهاية/الجزء الرابع/غزوة الخندق أو الأحزاب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



غزوة الخندق أو الأحزاب


وقد أنزل الله تعالى فيها صدر سورة الأحزاب فقال تعالى

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّا وَلَا نَصِيرا * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرا * يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانا وَتَسْلِيما * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورا رَحِيما * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرا } [الأحزاب: 9-27] .

وقد تكلمنا على كل من هذه الآيات الكريمات في التفسير، ولله الحمد والمنة، ولنذكر ها هنا ما يتعلق بالقصة إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، نص على ذلك ابن إسحاق، وعروة بن الزبير، وقتادة والبيهقي، وغير واحد من العلماء سلفا وخلفا.

وقد روى موسى بن عقبة، عن الزهري أنه قال: ثم كانت وقعة الأحزاب في شوال سنة أربع.

وكذلك قال الإمام مالك بن أنس، فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى بن داود عنه.

قال البيهقي: ولا اختلاف بينهم في الحقيقة لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين، وقبل استكمال خمس، ولا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد، واعدوا المسلمين إلى بدر العام المقابل، فذهب النبي وأصحابه كما تقدم في شعبان سنة أربع، ورجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام، فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتعين أن الخندق في شوال من سنة خمس، والله أعلم.

وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين، ولا خلاف أن أُحدا في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة الثانية لسنة الهجرة، ولم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الأول إلى آخرها، كما حكاه البيهقي.

وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي، وقد صرح بأن بدرا في الأولى، وأحدا في سنة ثنتين، وبدر الموعد في شعبان سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع، وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالك من ربيع الأول سنة الهجرة، فصارت الأقوال ثلاثة، والله أعلم.

والصحيح قول الجمهور أن أحدا في شوال سنة ثلاث، وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، والله أعلم.

فأما الحديث المتفق عليه في الصحيحين من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: عرضت على رسول الله يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني، فقد أجاب عنها جماعة من العلماء منهم البيهقي بأنه عرض يوم أحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الأحزاب في أواخر الخامسة عشرة.

قلت: ويحتمل أنه أراد أنه لما عرض عليه يوم الأحزاب كان قد استكمل خمس عشرة سنة التي يجاز لمثلها الغلمان، فلا يبقى على هذا زيادة عليها، ولهذا لما بلَّغ نافع عمر بن عبد العزيز هذا الحديث قال:

إن هذا الفرق بين الصغير والكبير، ثم كتب به إلى الآفاق، واعتمد على ذلك جمهور العلماء، والله أعلم.

وهذا سياق القصة مما ذكره ابن إسحاق وغيره.

قال ابن إسحاق: ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس، فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة ومن لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا، وبعضهم يحدث ما لا يحدث بعض قالوا:

إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم: سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.

فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه.

قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين أنزل الله فيهم: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا } [النساء: 51 -52]

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله ، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاؤوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب النبي ، وأخبروهم أنهم يكونون معهم عليه، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك واجتمعوا معهم فيه.

فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع.

فلما سمع بهم رسول الله وما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة.

قال ابن هشام: يقال إن الذي أشار به سلمان.

قال الطبري، والسهيلي: أول من حفر الخنادق منوشهر بن أيرج بن أفريدون، وكان في زمن موسى عليه السلام.

قال ابن إسحاق: فعمل فيه رسول الله ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون، وتخلف طائفة من المنافقين يعتذرون بالضعف، ومنهم من ينسل خفية بغير إذنه ولا علمه عليه الصلاة والسلام.

وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى:

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [النور: 62-64] .

قال ابن إسحاق: فعمل المسلمون فيه حتى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جُعيل سماه رسول الله عمرا، فقالوا فيما يقولون:

سماه من بعد جُعَيلِ عمرا * وكان للبائس يوما ظهرا

وكانوا إذا قالوا عمرا، قال معهم رسول الله عمرا، وإذا قالوا ظهرا قال لهم ظهرا.

وقد قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن حميد سمعت أنسا قال: خرج رسول الله إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: «اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر الأنصار والمهاجره» فقالوا مجيبين له:

نحن الذين بايعوا محمدا * على الجهاد ما بقينا أبدا

وفي الصحيحين من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس نحوه.

وقد رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد، عن أنس بنحوه.

وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم ويقولون:

نحن الذين بايعوا محمدا * على الإسلام ما بقينا أبدا

قال: يقول النبي مجيبا لهم: «اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة»

قال: يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن.

وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: كنا مع رسول الله في الخندق وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله : «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار».

ورواه مسلم، عن القعنبي، عن عبد العزيز به.

وقال البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه، أو أغبر بطنه يقول:

والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا

ورفع بها صوته: أبينا أبينا.

ورواه مسلم من حديث شعبة به.

ثم قال البخاري: حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، حدثني إبراهيم بن يوسف، حدثني أبي، عن أبي إسحاق، عن البراء يحدث قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبد الله بن رواحة، وهو ينقل من التراب يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا

ثم يمد صوته بآخرها.

وقال البيهقي في (الدلائل): أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل بن الفضل البجلي، حدثنا إبراهيم بن يوسف البلخي، حدثنا المسيب بن شريك، عن زياد بن أبي زياد، عن أبي عثمان، عن سلمان: أن رسول الله ضرب في الخندق وقال:

بسم الله وبه هُدينا * ولو عبدنا غيره شقينا

يا حبذا ربا وحبَّ دينا

وهذا حديث غريب من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان، حدثنا شعبة، عن معاوية ابن قرة، عن أنس أن رسول الله قال وهم يحفرون الخندق: «اللهم لا خير إلا خير الآخرة فأصلح الأنصار والمهاجرة».

وأخرجاه في الصحيحين من حديث غندر، عن شعبة.

قال ابن إسحاق: وقد كان في حفر الخندق أحاديث بلغتني من الله فيها عبرة في تصديق رسول الله وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون.

فمن ذلك أن جابر بن عبد الله كان يحدث: أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كُدْيَة، فشكوها إلى رسول الله ، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح الماء على تلك الكدية.

فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق نبيا، لانهالت حتى عادت كالكثيب، ما ترد فأسا ولا مسحاة. هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

وقد قال البخاري - رحمه الله -: حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه قال: أتيت جابرا فقال: أنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْيًة شديدة، فجاؤوا النبي فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: «أنا نازل».

ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فأخذ النبي المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل، أو أهيم. فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت النبي شيئا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟

قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: «كم هو؟» فذكرت له، فقال: «كثير طيب، قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي».

فقال: «قوموا» فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك، جاء النبي بالمهاجرين والأنصار ومن معهم.

قالت: هل سألك؟ قلت: نعم.

فقال: «ادخلوا ولا تضاغطوا» فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز، ويغرف حتى شبعوا، وبقي بقية. قال: كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة. تفرد به البخاري.

وقد رواه الإمام أحمد عن وكيع، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه أيمن الحبشي مولى بني مخزوم، عن جابر بقصة الكدية، وربط الحجر على بطنه الكريم.

ورواه البيهقي في (الدلائل) عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر قصة الكدية والطعام، وطوله أتم من رواية البخاري قال فيه:

لما علم النبي بمقدار الطعام، قال للمسلمين جميعا: «قوموا إلى جابر» فقاموا، قال: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وقلت: جاءنا بخلق على صاع من شعير وعناق، ودخلت على امرأتي أقول: افتضحت جاءك رسول الله بالخندق أجمعين.

فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟

قلت: نعم.

فقالت: الله ورسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا.

قال: فكشفت عني غما شديدا.

قال: فدخل رسول الله فقال: «خدمي ودعيني من اللحم» وجعل رسول الله يثرد، ويغرف اللحم، ويخمر هذا، ويخمر هذا، فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين، ويعود التنور والقدر أملأ ما كانا.

ثم قال رسول الله : «كلي وأهدي» فلم تزل تأكل وتهدي يومها.

وقد رواه كذلك أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر به، وأبسط أيضا.

وقال في آخره: وأخبرني أنهم كانوا ثمانمائة، أو قال ثلثمائة.

وقال يونس بن بكير: عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر فذكر القصة بطولها في الطعام فقط، وقال: وكانوا ثلثمائة.

ثم قال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن أبي الزبير، حدثنا ابن ميناء، سمعت جابر بن عبد الله قال: لما حفر الخندق رأيت من النبي خمصا، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله خمصا شديدا.

فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها فطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله فقالت: لا تفضحني برسول الله وبمن معه.

فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحت بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاح رسول الله فقال: «يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع سؤرا فحيهلا بكم».

فقال رسول الله : «لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء» فجئت، وجاء رسول الله يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت، فأخرجت لنا عجينا فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق وبارك.

ثم قال: «ادع خبازة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك، ولا تنزلوها» وهم ألف، فأُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا كما هو.

ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن أبي عاصم به نحوه.

وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث، وفي سياقه غرابة من بعض الوجوه فقال:

حدثني سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال: عملنا مع رسول الله في الخندق، وكانت عندي شويهة غير جد سمينة قال: فقلت والله لو صنعناها لرسول الله قال: وأمرت امرأتي، فطحنت لنا شيئا من شعير، فصنعت لنا منه خبزا، وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله .

فلما أمسينا وأراد رسول الله الانصراف عن الخندق، قال وكنا نعمل فيه نهارا، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا فقلت: يا رسول الله إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير، فأنا أحب أن تنصرف معي إلى منزلي.

قال: وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله وحده.

قال: فلما أن قلت ذلك، قال: «نعم» ثم أمر صارخا فصرخ، أن انصرفوا مع رسول الله إلى بيت جابر بن عبد الله.

قال: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.

قال: فأقبل رسول الله ، وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، قال: فبرك وسمى الله تعالى، ثم أكل، وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا، وجاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها.

والعجب أن الإمام أحمد إنما رواه من طريق سعيد بن ميناء، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق عنه، عن جابر مثله سواء.

قال محمد بن إسحاق: وحدثني سعيد بن ميناء أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما.

قالت: فأخذتها وانطلقت بها فمررت برسول الله ، وأنا ألتمس أبي وخالي فقال: «تعالي يا بنية ما هذا معك؟»

قالت: قلت يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه.

فقال: «هاتيه».

قالت: فصببته في كفي رسول الله ، فما ملأتهما. ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب.

ثم قال لإنسان عنده: «اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء» فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.

هكذا رواه ابن إسحاق وفيه انقطاع.

وهكذا رواه الحافظ البيهقي من طريقه، ولم يزد.

قال ابن إسحاق: وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى.

قال: ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت، لمع تحت المعول وأنت تضرب؟

قال: «أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟» قال: قلت: نعم.

قال: «أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق».

قال البيهقي: وهذا الذي ذكره ابن إسحاق قد ذكره موسى بن عقبة في (مغازيه).

وذكره أبو الأسود عن عروة.

ثم روى البيهقي من طريق محمد بن يونس الكديمي، وفي حديثه نظر.

لكن رواه ابن جرير في (تاريخه) عن محمد بن بشار وبندار، كلاهما عن محمد بن خالد بن عثمة، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، فذكر حديثا فيه أن رسول الله خطَّ الخندق بين كل عشرة أربعين ذراعا.

قال: واحتق المهاجرون والأنصار في سلمان، فقال رسول الله : «سلمان منا أهل البيت».

قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان، وحذيفة، والنعمان بن مقرن، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا بلغنا الندى، ظهرت لنا صخرة بيضاء مروة، فكسرت حديدنا، وشقت علينا.

فذهب سلمان إلى رسول الله وهو في قبة تركية، فأخبره عنها، فجاء فأخذ المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربة فصدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعني المدينة - حتى كأنها مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله تكبير فتح، وكبر المسلمون.

ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، وذكر ذلك سلمان والمسلمون لرسول الله ، وسألوه عن ذلك النور، فقال:

«لقد أضاء لي من الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثالثة أضاءت قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا» واستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعود صادق.

قال: ولما طلعت الأحزاب قال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما، وقال المنافقون: يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل فيهم: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورا } [الأحزاب: 12] وهذا حديث غريب.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هارون بن ملول، حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو قال: لما أمر رسول الله بالخندق، فخندق على المدينة قالوا: يا رسول الله إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها.

فقام النبي وقمنا معه، فلما أتاها أخذ المعول فضرب أخرى فكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال: «فتحت فارس» ثم ضرب أخرى فكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال «فتحت الروم» ثم ضرب أخرى فكبر.

فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال: «جاء الله بحمير أعوانا وأنصارا» وهذا أيضا غريب من هذا الوجه، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي فيه ضعف، فالله أعلم.

وقال الطبراني أيضا: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا أبو نميلة، حدثنا نعيم بن سعيد الغري أن عكرمة حدث عن ابن عباس قال: احتفر رسول الله الخندق، وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع.

فلما رأى ذلك رسول الله قال: «هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة؟»

قال رجل: نعم.

قال: «أما لا، فتقدم فدلنا عليه» فانطلقوا إلى بيت الرجل فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه منه، فأرسلت امرأته أن جئ، فإن رسول الله قد أتانا.

فجاء الرجل يسعى وقال: بأبي وأمي، وله معزة ومعها جديها، فوثب إليها فقال النبي : «الجدي من ورائها» فذبح الجدي، وعمدت المرأة إلى طحينة لها فعجنتها وخبزت، فأدركت القدر، فثردت قصعتها فقربتها إلى رسول الله وأصحابه.

فوضع رسول الله إصبعه فيها وقال: «بسم الله اللهم بارك فيها أطعموا» فأكلوا منها حتى صدروا، ولم يأكلوا منها إلا ثلثها وبقي ثلثاها، فسرح أولئك العشرة الذين كانوا معه أن اذهبوا وسرحوا إلينا بعدتكم، فذهبوا فجاء أولئك العشرة، فأكلوا منها حتى شبعوا، ثم قام ودعا لربة البيت، وسمت عليها، وعلى أهل بيتها.

ثم مشوا إلى الخندق فقال: «اذهبوا بنا إلى سلمان» وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال رسول الله : «دعوني فأكون أول من ضربها» فقال: «بسم الله» فضربها، فوقعت فلقة ثلثها، فقال: «الله أكبر قصور الشام ورب الكعبة».

ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال: «الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة» فقال عندها المنافقون: نحن نخندق على أنفسنا، وهو يعدنا قصور فارس والروم.

ثم قال الحافظ البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا محمد بن غالب بن حرب، حدثنا هوذة، حدثنا عوف، عن ميمون بن أستاذ الزهري، حدثني البراء بن عازب الأنصاري قال:

لما كان حين أمرنا رسول الله بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة، لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إلى رسول الله ، فلما رآها أخذ المعول وقال: «بسم الله» وضرب ضربة فكسر ثلثها.

وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله» ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض».

ثم ضرب الثالثة فقال: «بسم الله» فقطع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة» وهذا حديث غريب أيضا، تفرد به ميمون بن أستاذ هذا، وهو بصري روى عن البراء، وعبد الله بن عمرو وعنه حميد الطويل، والجريري، وعوف الأعرابي.

قال أبو حاتم، عن إسحاق بن منصور، عن ابن معين: كان ثقة.

وقال علي بن المديني: كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه.

وقال النسائي: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ضمرة، عن أبي زرعة السيباني، عن أبي سكينة - رجل من البحرين - عن رجل من أصحاب النبي قال: لما أمر رسول الله بحفر الخندق، عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر.

فقام النبي وأخذ المعول، ووضع رداءه ناحية الخندق، وقال: { وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله برقة.

ثم ضرب الثانية وقال: { وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلمات الله وهو السميع العليم } فندر الثلث الآخر وبرقت برقة، فرآها سلمان.

ثم ضرب الثالثة وقال: { وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } فندر الثلث الباقي.

وخرج رسول الله فأخذ رداءه وجلس، فقال سلمان: يا رسول الله رأيتك حين ضربت لا تضرب إلا كانت معها برقة، قال رسول الله : «يا سلمان رأيت ذلك؟» قال: أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله.

قال: «فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها، ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني».

فقال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله ادع أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم. فدعا بذلك.

قال: «ثم ضربت الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها، حتى رأيتها بعيني» قالوا: يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم، فدعا.

ثم قال: «ثم ضربت الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى، حتى رأيتها بعيني».

ثم قال رسول الله : «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك وما تركوكم هكذا» رواه النسائي مطولا وإنما روى منه أبو داود «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم» عن عيسى بن محمد الرملي، عن ضمرة بن ربيعة، عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني به.

ثم قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر، وزمان عثمان، وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة، ولا تفتحونها إلى يوم القيامة، إلا وقد أعطى الله محمدا مفاتيحها قبل ذلك.

وهذا من هذا الوجه منقطع أيضا، وقد وصل من غير وجه ولله الحمد.

فقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: «بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي».

وقد رواه البخاري منفردا به عن يحيى بن بكير، وسعد بن عفير، كلاهما عن الليث به. وعنده قال أبو هريرة: فذهب رسول الله وأنتم تنتثلونها.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي» وهذا إسناد جيد قوي على شرط مسلم، ولم يخرجوه.

وفي الصحيحين: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله».

وفي الحديث الصحيح: «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها».

البداية والنهاية - الجزء الرابع
سنة ثلاث من الهجرة غزوة نجد | غزوة الفرع من بحران | خبر يهود بني قينقاع في المدينة | سرية زيد بن حارثة إلى ذي القردة | مقتل كعب بن الأشرف | غزوة أحد في شوال سنة ثلاث | مقتل حمزة رضي الله عنه | فصل نصر الله للمسلمين يوم بدر | فصل فيما لقي النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ من المشركين قبحهم الله | فصل رد رسول الله عين قتادة بن النعمان عندما سقطت يوم أحد | فصل مشاركة أم عمارة في القتال يوم أحد | فصل في أول من عرف رسول الله بعد الهزيمة كعب بن مالك | دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد | فصل سؤال النبي عليه السلام عن سعد بن الربيع أهو حي أم ميت | الصلاة على حمزة وقتلى أحد | فصل في عدد الشهداء | فصل نعي رسول الله لحمنة بنت جحش أخيها وخالها وزوجها يوم أحد | خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما بهم من القرح والجراح في أثر أبي سفيان | فصل فيما تقاول به المؤمنون والكفار في وقعة أحد من الأشعار | آخر الكلام على وقعة أحد | سنة أربع من الهجرة النبوية | غزوة الرجيع | سرية عمرو بن أمية الضمري | سرية بئر معونة | غزوة بني النضير وفيها سورة الحشر | قصة عمرو بن سعدي القرظي | غزوة بني لحيان | غزوة ذات الرقاع | قصة غورث بن الحارث | قصة الذي أصيبت امرأته يومذاك | قصة جمل جابر | غزوة بدر الآخرة | فصل في جملة من الحوادث الواقعة سنة أربع من الهجرة | سنة خمس من الهجرة النبوية غزوة دومة الجندل | غزوة الخندق أو الأحزاب | فصل نزول قريش بمجتمع الأسيال يوم الخندق | فصل في دعائه عليه السلام على الأحزاب | فصل في غزوة بني قريظة | وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه | فصل الأشعار في الخندق وبني قريظة | مقتل أبي رافع اليهودي | مقتل خالد بن سفيان الهذلي | قصة عمرو بن العاص مع النجاشي | فصل في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة | تزويجه بزينب بنت جحش | نزول الحجاب صبيحة عرس زينب | سنة ست من الهجرة | غزوة ذي قرد | غزوة بني المصطلق من خزاعة | قصة الإفك | غزوة الحديبية | سياق البخاري لعمرة الحديبية | فصل في السرايا التي كانت في سنة ست من الهجرة | فصل فيما وقع من الحوادث في هذه السنة | سنة سبع من الهجرة غزوة خيبر في أولها | فصل فتح رسول الله عليه السلام للحصون | ذكر قصة صفية بنت حيي النضرية | فصل محاصرة النبي عليه السلام أهل خيبر في حُصنيهم | فصل فتح حصونها وقسيمة أرضها | فصل تخصيص شيء من الغنيمة للعبيد والنساء ممن شهدوا خيبر | ذكر قدوم جعفر بن أبي طالب ومسلمو الحبشة المهاجرون | قصة الشاة المسمومة والبرهان الذي ظهر | فصل انصراف رسول الله إلى وادي القرى ومحاصرة أهله | فصل من استشهد بخيبر من الصحابة | خبر الحجاج بن علاط البهزي | فصل مروره صلى الله عليه وسلم بوادي القرى ومحاصرة اليهود ومصالحتهم | فصل تقسيم الثمار و الزروع في خيبر بين المسلمين و اليهود بالعدل | سرية أبي بكر الصديق إلى بني فزارة | سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة وراء مكة بأربعة أميال | سرية عبد الله بن رواحة إلى يسير بن رزام اليهودي | سرية أخرى مع بشير بن سعد | سرية بني حدرد إلى الغابة | السرية التي قتل فيها محلم بن جثامة عامر بن الأضبط | سرية عبد الله بن حذافة السهمي | عمرة القضاء | قصة تزويجه عليه السلام بميمونة | ذكر خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة بعد قضاء عمرته | فصل إرسال سرية ابن أبي العوجاء إلى بني سليم | فصل رد رسول الله عليه السلام ابنته زينب على زوجها أبي العاص | سنة ثمان من الهجرة النبوية | طريق إسلام خالد بن الوليد | سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى هوازن | سرية كعب بن عمير إلى بني قضاعة | غزوة مؤتة | فصل إصابة جعفر وأصحابه | فصل عطف رسول الله عليه السلام على ابن جعفر عند إصابة أبيه | فصل في فضل زيد وجعفر وعبد الله رضي الله عنهم | فصل في من استشهد يوم مؤتة | ما قيل من الأشعار في غزوة مؤتة | كتاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الآفاق وكتبه إليهم | إرساله صلى الله عليه وسلم إلى ملك العرب من النصارى بالشام | بعثه إلى كسرى ملك الفرس | بعثه صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب مدينة الإسكندرية واسمه جريج بن مينا القبطي | غزوة ذات السلاسل | سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر | غزوة الفتح الأعظم وكانت في رمضان سنة ثمان | قصة حاطب بن أبي بلتعة | فصل استخلاف كلثوم بن حصين الغفاري على المدينة | فصل إسلام العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم | فصل نزول النبي عليه السلام إلى مر الظهران | صفة دخوله صلى الله عليه وسلم مكة | فصل عدد الذين شهدوا فتح مكة | بعثه عليه السلام خالد بن الوليد بعد الفتح إلى بني جذيمة من كنانة | بعث خالد بن الوليد لهدم العزى | فصل في مدة إقامته عليه السلام بمكة | فصل فيما حكم عليه السلام بمكة من الأحكام | فصل مبايعة رسول الله الناس يوم الفتح على الإسلام والشهادة | غزوة هوازن يوم حنين | الوقعة وما كان أول الأمر من الفرار ثم العاقبة للمتقين | فصل هزيمة هوازن | فصل في الغنائم | فصل أمره صلى الله عليه وسلم أن لا يقتل وليدا | غزوة أوطاس | من استشهد يوم حنين وأوطاس | ما قيل من الأشعار في غزوة هوازن | غزوة الطائف | مرجعه عليه السلام من الطائف | قدوم مالك بن عوف النصري على الرسول | اعتراض بعض أهل الشقاق على الرسول | مجيء أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة عليه بالجعرانة | عمرة الجعرانة في ذي القعدة | إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى وذكر قصيدته بانت سعاد | الحوادث المشهورة في سنة ثمان والوفيات