البداية والنهاية/الجزء الرابع/قصة جمل جابر
قال محمد بن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله ﷺ إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله ﷺ، جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله ﷺ فقال: «مالك يا جابر؟»
قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا.
قال: «أنخه».
قال: فأنخته، وأناخ رسول الله ﷺ ثم قال: «أعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع عصا من الشجرة» ففعلت، فأخذها رسول الله ﷺ فنخسه بها نخسات، ثم قال: «اركب» فركبت فخرج، والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة.
قال: وتحدثت مع رسول الله ﷺ فقال: «أتبيعني جملك هذا يا جابر؟»
قال: قلت بل أهبه لك.
قال: «لا ولكن بعنيه».
قال: قلت: فسُمْنيه.
قال: «قد أخذته بدرهم».
قال: قلت: لا، إذا تغبنني يا رسول الله.
قال: «فبدرهمين».
قال: قلت: لا.
قال: فلم يزل يرفع لي رسول الله ﷺ حتى بلغ الأوقية.
قال: فقلت: أفقد رضيت؟
قال: نعم، قلت: فهو لك.
قال: «قد أخذته» ثم قال: «يا جابر هل تزوجت بعد».
قال: قلت: نعم يا رسول الله.
قال: «أثيبا أم بكرا؟» قال: قلت: بل ثيبا.
قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك».
قال قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن فتقوم عليهن.
قال: «أصبت إن شاء الله، أما إنا لو جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت، فأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها».
قال: فقلت: والله يا رسول الله مالنا نمارق.
قال: «إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا».
قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله ﷺ بجزور ونحرت، فأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله ﷺ دخل ودخلنا.
قال: فحدثت المرأة الحديث، وما قال لي رسول الله ﷺ، قالت: فدونك فسمع وطاعة، فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله ﷺ، ثم جلست في المسجد قريبا منه، قال: وخرج رسول الله ﷺ فرأى الجمل فقال: «ما هذا؟».
قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر.
قال: «فأين جابر؟» فدعيت له.
قال: فقال: «يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك».
قال: ودعا بلالا فقال: «اذهب بجابر فأعطه أوقية».
قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية، وزادني شيئا يسيرا.
قال: فوالله ما زال ينمي عندي، ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا. يعني يوم الحرة.
وقد أخرجه صاحب الصحيح من حديث عبيد الله بن عمر العمري، عن وهب بن كيسان، عن جابر بنحوه.
قال السهيلي: في هذا الحديث إشارة إلى ما كان أخبر به رسول الله ﷺ جابر بن عبد الله: أن الله أحيا والده وكلمه فقال له: تمن علي، وذلك أنه شهيد، وقد قال الله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } وزادهم على ذلك في قوله: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } .
ثم جمع لهم بين العوض والمعوض، فرد عليهم أرواحهم التي اشتراها منهم فقال: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون } والروح للإنسان بمنزلة المطية كما قال عمر بن عبد العزيز.
قال: فلذلك اشترى رسول الله ﷺ من جابر جمله وهو مطيته، فأعطاه ثمنه، ثم رده عليه وزاده مع ذلك.
قال: ففيه تحقيق لما كان أخبره به عن أبيه، وهذا الذي سلكه السهيلي ها هنا إشارة غريبة وتخيل بديع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ترجم الحافظ البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) على هذا الحديث في هذه الغزوة فقال: باب ما كان ظهر في غزاته هذه من بركاته وآياته في جمل جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وهذا الحديث له طرق عن جابر، وألفاظ كثيرة، وفيه اختلاف كثير في كمية ثمن الجمل، وكيفية ما اشترط في البيع، وتحرير ذلك واستقصاؤه لائق بكتاب البيع من الأحكام والله أعلم.
وقد جاء تقييده بهذه الغزوة، وجاء تقييده بغيرها كما سيأتي، ومستبعد تعداد ذلك، والله أعلم.