البداية والنهاية/الجزء الرابع/صفة دخوله صلى الله عليه وسلم مكة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



صفة دخوله صلى الله عليه وسلم مكة


ثبت في الصحيحين من حديث مالك، عن الزهري، عن أنس: أن رسول الله دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة.

فقال: «اقتلوه».

قال مالك: ولم يكن رسول الله فيما نرى - والله أعلم - محرما.

وقال أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد، أنبا أبو الزبير عن جابر أن رسول الله دخل يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء.

ورواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن سلمة، وقال الترمذي: حسن صحيح.

ورواه مسلم: عن قتيبة، ويحيى بن يحيى، عن معاوية بن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله دخل مكة وعليه عمامة سوداء من غير إحرام.

وروى مسلم من حديث أبي أسامة، عن مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه قال: كأني أنظر إلى رسول الله يوم فتح مكة، وعليه عمامة حرقانية سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه.

وروى مسلم في صحيحه، والترمذي، والنسائي من حديث عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله دخل مكة وعليه عمامة سوداء.

وروى أهل السنن الأربعة: من حديث يحيى بن آدم، عن شريك القاضي، عن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كان لواء رسول الله يوم دخل مكة أبيض.

وقال ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عائشة: كان لواء رسول الله يوم الفتح أبيض، ورايته سوداء تسمى العقاب، وكانت قطعة من مرط مرجل.

وقال البخاري: ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن عبد الله بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: رأيت رسول الله يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يرجّع، وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجّع.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، وأن رسول الله ليضع رأسه تواضعا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.

وقال الحافظ البيهقي: أنبا أبو عبد الله الحافظ، أنبا دعلج بن أحمد، ثنا أحمد بن علي الأبار، ثنا عبد الله بن أبي بكر المقدسي، ثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس قال: دخل رسول الله مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعا.

وقال: أنبا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا أحمد بن محمد بن صاعد، ثنا إسماعيل بن أبي الحارث، ثنا جعفر بن عون، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن ابن مسعود: أن رجلا كلم رسول الله يوم الفتح فأخذته الرعدة.

فقال النبي : «هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد».

قال: وهكذا رواه محمد بن سليمان بن فارس، وأحمد بن يحيى بن زهير، عن إسماعيل بن أبي الحارث موصولا.

ثم رواه عن أبي زكريا المزكي، عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب، عن محمد بن عبد الوهاب، عن جعفر بن عون، عن إسماعيل، عن قيس مرسلا.

وهو المحفوظ، وهذا التواضع في هذا الموطن عند دخوله مكة في مثل هذا الجيش الكثيف العرمرم بخلاف ما اعتمده سفهاء بني إسرائيل، حين أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس وهم سجود - أي ركع - يقولون حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعرة.

وقال البخاري: ثنا القاسم بن خارجة، ثنا حفص بن ميسرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن عائشة أخبرته: أن رسول الله دخل عام الفتح من كداء التي بأعلى مكة، تابعه أبو أسامة ووهب في كداء.

حدثنا عبيد بن إسماعيل، ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه: دخل رسول الله عام الفتح من أعلى مكة من كداء، وهو أصح إن أراد أن المرسل أصح من المسند المتقدم انتظم الكلام، وإلا فكداء بالمد هي المذكورة في الروايتين، وهي في أعلى مكة، وكُدَى مقصور في أسفل مكة، وهذا هو المشهور والأنسب.

وقد تقدم أنه عليه السلام بعث خالد بن الوليد من أعلى مكة، ودخل هو عليه السلام من أسفلها من كدى، وهو في صحيح البخاري والله أعلم.

وقد قال البيهقي: أنبا أبو الحسين بن عبدان، أنبا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبد الله بن إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا معن، ثنا عبد الله بن عمر بن حفص، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما دخل رسول الله عام الفتح وأتى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر وقال: «يا أبا بكر كيف قال حسان؟».

فأنشده أبو بكر رضي الله عنه:

عدمت بنيتي إن لم تروها * تثير النقع من كنفي كداء

ينازعن الأعنة مسرجات * يلطمهن بالخمر النساء

فقال رسول الله : «ادخلوها من حيث قال حسان».

وقال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: لما وقف رسول الله بذي طوى، قال أبو قحافة لابنة له من أصغر ولده: أي بنية اظهري بي على أبي قبيس.

قالت: وقد كف بصره، قالت: فأشرفت به عليه.

فقال: أي بنية ماذا ترين؟

قالت: أرى سوادا مجتمعا.

قال: تلك الخيل.

قالت: وأرى رجلا يسعى بين يدي ذلك السواد مقبلا ومدبرا.

قال: أي بنية ذلك الوزاع - يعني الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها -

ثم قالت: قد والله انتشر السواد.

فقال: قد والله إذن دفعت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل بيته.

قالت: وفي عنق الجارية طوق من ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها.

قالت: فلما دخل رسول الله مكة ودخل المسجد، أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله قال: «هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟».

قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال: «أسلم فأسلم».

قالت: ودخل به أبو بكر وكان رأسه كالثغامة بياضا فقال رسول الله : «غيروا هذا من شعره»

ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته وقال: أنشد الله والإسلام طوق أختي، فلم يجبه أحد.

قالت: فقال: أي أخية احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل. يعني به الصديق ذلك اليوم على التعيين لأن الجيش فيه كثرة، ولا يكاد أحد يلوي على أحد مع انتشار الناس، ولعل الذي أخذه تأول أنه من حربي، والله أعلم.

وقال الحافظ البيهقي: أنبا أبو عبد الله الحافظ، أنبا أبو العباس الأصم، أنبا بحر بن نصر، أنبا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر: أن عمر بن الخطاب أخذ بيد أبي قحافة فأتى به النبي ، فلما وقف به على رسول الله قال: «غيروه ولا تقربوه سوادا».

قال ابن وهب: وأخبرني عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم أن رسول الله هنأ أبا بكر بإسلام أبيه.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبى نجيح: أن رسول الله حين فرق جيشه من ذي طوى أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كداء، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدى.

قال ابن إسحاق: فزعم بعض أهل العلم أن سعدا حين وجه داخلا قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة. فسمعها رجل من المهاجرين.

قال ابن هشام: يقال إنه عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله أتسمع ما يقول سعد بن عبادة؟ ما نأمن أن يكون له في قريش صولة.

فقال رسول الله لعلي: «أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها».

قلت: وذكر غير محمد بن إسحاق أن رسول الله لما شكى إليه أبو سفيان قول سعد بن عبادة حين مر به، وقال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة - يعني الكعبة - فقال النبي : «بل هذا يوم تعظم فيه الكعبة» وأمر بالراية - راية الأنصار - أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له، ويقال إنها دفعت إلى ابنه قيس بن سعد.

وقال موسى بن عقبة، عن الزهري: دفعها إلى الزبير بن العوام، فالله أعلم.

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة يعقوب بن إسحاق بن دينار، ثنا عبد الله بن السري الأنطاكي، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، وحدثني موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: دفع رسول الله الراية يوم فتح مكة إلى سعد بن عبادة فجعل يهزها ويقول: اليوم يوم الملحمة، يوم تستحل الحرمة.

قال: فشق ذلك على قريش وكبر في نفوسهم، قال: فعارضت امرأة رسول الله في مسيره وأنشأت تقول:

يا نبي الهدى إليك لجاحي * قريش ولات حين لجاء

حين ضاقت عليهم سعة الأر * ض وعاداهم إله السماء

والتقت حلقتا البطان على القو * م ونودوا بالصليم الصلعاء

إن سعدا يريد قاصمة الطهر * ر بأهل الحجون والبطحاء

خزرجي لو يستطيع من الغي * ظ رمانا بالنشر والعواء

فانهينه فإنه الأسد الأس * ود والليث والغ في الدماء

فلئن أقحم اللواء ونادى * يا حماة اللواء أهل اللواء

لنكوننَّ بالبطاح قريش * بقعة القاع في أكف الإماء

إنه مصلت يريد لها الرأ * ي صموت كالحية الصماء

قال: فلما سمع رسول الله هذا الشعر دخله رحمة لهم ورأفة بهم، وأمر بالراية فأخذت من سعد بن عبادة ودفعت إلى ابنه قيس بن سعد.

قال: فيروى أنه عليه الصلاة والسلام أحب أن لا يخيبها إذ رغبت إليه واستغاثت به، وأحب أن لا يغضب سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه.

قال ابن إسحاق: وذكر ابن أبي نجيح في حديثه: أن رسول الله أمر خالد بن الوليد فدخل من الليط أسفل مكة في بعض الناس، وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم وسُليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب.

وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله ، ودخل رسول الله من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة، فضربت له هنالك قبته.

وروى البخاري: من حديث الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله أين تنزل غدا؟

فقال: «وهل ترك لنا عُقيل من رباع» ثم قال: «لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر».

ثم قال البخاري: ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب، ثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي قال: «منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر».

وقال الإمام أحمد: ثنا يونس، ثنا إبراهيم - يعني ابن سعد - عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر».

ورواه البخاري، من حديث إبراهيم بن سعد به نحوه.

وقال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، وعبد الله بن أبي بكر: أن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا، وكان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحا قبل قدوم رسول الله ويصلح منه.

فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟

قال: لمحمد وأصحابه.

فقالت: والله ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء.

قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال:

إن يقبلوا اليوم فمالي عله * هذا سلاح كامل والَّه

وذو غرارين سريع السله

قال: ثم شهد الخندمة مع صفوان وعكرمة وسهيل، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهر، وحنيش بن خالد بن ربيعة بن أصرم حليف بني منقذ، وكانا في جيش خالد، فشذا عنه فسلكا غير طريقه فقتلا جميعا.

وكان قتل كرز قبل حنيش، قالا: وقتل من خيل خالد أيضا سلمة بن الميلاء الجهني، وأصيب من المشركين قريب من اثني عشر أو ثلاثة عشر، ثم انهزموا فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته ثم قال لامرأته: أغلقي علي بابي.

قالت: فأين ما كنت تقول؟

فقال:

إنك لو شهدت يوم الخندمة * إذ فر صفوان وفر عكرمة

وأبو يزيد قائم كالمؤتمة * واستقبلتهم بالسيوف المسلمة

يقطعن كل ساعد وجمجمه * ضربا فلا يسمع إلا غمغمه

لهم نهيت خلفنا وهمهمه * لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

قال ابن هشام: وتروى هذه الأبيات للرعاش الهذلي.

قال: وكان شعار المهاجرين يوم الفتح وحنين والطائف: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله.

وقال الطبراني: ثنا علي بن سعيد الرازي، ثنا أبو حسان الزيادي، ثنا شعيب بن صفوان، عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس، عن رسول الله قال: «إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض، وصاغه يوم صاغ الشمس والقمر، وما حياله من السماء حرام، وإنه لا يحل لأحد قبلي، وإنما حل لي ساعة من نهار ثم عاد كما كان».

فقيل له: هذا خالد بن الوليد يقتل؟

فقال: «قم يا فلان فأت خالد بن الوليد فقل له فليرفع يديه من القتل» فأتاه الرجل فقال: إن النبي يقول: اقتل من قدرت عليه، فقتل سبعين إنسانا، فأتى النبي فذكر ذلك له، فأرسل إلى خالد فقال: «ألم أنهك عن القتل؟».

فقال: جاءني فلان يأمرني أن أقتل من قدرت عليه، فأرسل إليه: «ألم آمرك؟».

قال: أردت أمرا، وأراد الله أمرا فكان أمر الله فوق أمرك، وما استطعت إلا الذي كان، فسكت عنه النبي فما رد عليه شيئا.

قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله عهد إلى أمرائه أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، غير أنه أهدر دم نفر سماهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم وكتب الوحي ثم ارتد.

فلما دخل رسول الله مكة وقد أهدر دمه، فر إلى عثمان وكان أخاه من الرضاعة، فلما جاء به ليستأمن له، صمت عنه رسول الله طويلا، ثم قال: «نعم».

فلما انصرف مع عثمان قال رسول الله لمن حوله: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني قد صمت فيقتله؟».

فقالوا: يا رسول الله هلا أومأت إلينا؟

فقال: «إن النبي لا يقتل بالإشارة» وفي رواية: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين».

قال ابن هشام: وقد حسن إسلامه بعد ذلك، وولاه عمر بعض أعماله، ثم ولاه عثمان.

قلت: ومات وهو ساجد في صلاة الصبح، أو بعد انقضاء صلاتها في بيته كما سيأتي بيانه.

قال ابن إسحاق: وعبد الله بن خطل رجل من بني تيم بن غالب.

قلت: ويقال: إن اسمه عبد العزى بن خطل، ويحتمل أنه كان كذلك، ثم لما أسلم سمى عبد الله، ولما أسلم بعثه رسول الله مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى له، فغضب عليه غضبة فقتله، ثم ارتد مشركا.

وكان له قينتان فرتني وصاحبتها، فكانتا تغنيان بهجاء رسول الله والمسلمين، فلهذا أهدر دمه ودم قينتيه، فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة، اشترك في قتله أبو برزة الأسلمي، وسعيد بن حريث المخزومي، وقتلت إحدى قينتيه، واستؤمن للأخرى.

قال: والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد قصي، وكان ممن يؤذي رسول الله بمكة، ولما تحمل العباس بفاطمة وأم كلثوم ليذهب بهما إلى المدينة يلحقهما برسول الله أول الهجرة، نخس بهما الحويرث هذا الجمل الذي هما عليه فسقطتا إلى الأرض، فلما أهدر دمه قتله علي بن أبي طالب.

قال: ومقيس بن صبابة، لأنه قتل قاتل أخيه خطأ بعد ما أخذ الدية، ثم ارتد مشركا، قتله رجل من قومه يقال له: نميلة بن عبد الله.

قال: وسارة مولاة لبني عبد المطلب ولعكرمة بن أبي جهل، لأنها كانت تؤذي رسول الله وهي بمكة.

قلت: وقد تقدم عن بعضهم أنها التي تحملت الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة، وكأنها عفى عنها أو هربت، ثم أهدر دمها، والله أعلم، فهربت حتى استؤمن لها من رسول الله فأمنها، فعاشت إلى زمن عمر فأوطأها رجل فرسا فماتت.

وذكر السهيلي أن فرتني أسلمت أيضا.

قال ابن إسحاق: وأما عكرمة بن أبي جهل فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، واستأمنت له من رسول الله فأمنه، فذهبت في طلبه حتى أتت به رسول الله فأسلم.

وقال البيهقي: أنبا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمس الفقيه، أنبا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنبا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا أحمد بن المفضل، ثنا أسباط بن نصر الهمداني قال: زعم السدي عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة».

وهم: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح؛ فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله.

وأما مقيس فأدركه الناس في السوق فقتلوه.

وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم قاصف، فقال أهل السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ها هنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينج في البحر إلا الإخلاص فإنه لا ينجي في البر غيره، اللهم إن لك علي عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه، أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما، فجاء فأسلم.

وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح؛ فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على النبي فقال:

يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟».

فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك؟

فقال: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين».

ورواه أبو داود، والنسائي، من حديث أحمد بن المفضل به نحوه.

وقال البيهقي: أنبا أبو عبد الله الحافظ، أنبا أبو العباس الأصم، أنبا أبو زرعة الدمشقي، ثنا الحسن بن بشر الكوفي، ثنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: أمَّن رسول الله الناس يوم فتح مكة إلا أربعة: عبد العزى بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأم سارة.

فأما عبد العزى بن خطل فإنه قتل وهو متعلق بأستار الكعبة.

قال: ونذر رجل من الأنصار أن يقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح إذا رآه، وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، فأتى به رسول الله ليشفع له، فلما أبصر به الأنصاري اشتمل على السيف ثم أتاه، فوجده في حلقة رسول الله ، فجعل يتردد ويكره أن يقدم عليه، فبسط النبي فبايعه.

ثم قال للأنصاري: «قد انتظرتك أن توفي بنذرك».

قال: يا رسول الله هبتك أفلا أومضت إلي؟

قال: «إنه ليس للنبي أن يومض».

وأما مقيس بن صبابة فذكر قصته في قتله رجلا مسلما بعد إسلامه، ثم ارتداده بعد ذلك.

قال: وأما أم سارة فكانت مولاة لقريش، فأتت النبي فشكت إليه الحاجة فأعطاها شيئا، ثم بعث معها رجل كتاب إلى أهل مكة فذكر قصة حاطب بن أبي بلتعة.

وروى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن مقيس بن صبابة قتل أخوه هشام يوم بني المصطلق، قتله رجل من المسلمين وهو يظنه مشركا، فقدم مقيس مظهرا للإسلام ليطلب دية أخيه، فلما أخذها عدا على قاتل أخيه فقتله، ورجع إلى مكة مشركا، فلما أهدر رسول الله دمه قتل وهو بين الصفا والمروة.

وقد ذكر ابن إسحاق والبيهقي شعره حين قتل قاتل أخيه وهو قوله:

شفى النفس من قد بات بالقاع مسندا * يضرج ثوبيه دماء الأخادع

وكانت هموم النفس من قبل قتله * تلم وتنسيني وطاء المضاجع

قتلت به فهرا وغرمت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع

حللت به نذري وأدركت ثورتي * وكنت إلى الأوثان أول راجع

قلت: وقيل إن القينتين التين أهدر دمهما كانتا لمقيس بن صبابة هذا، وأن ابن عمه قتله بين الصفا والمروة.

وقال بعضهم: قتل ابن خطل الزبير بن العوام رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق: حدثني سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب، أن أم هانئ ابنة أبي طالب قالت: لما نزل رسول الله بأعلى مكة فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم.

قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة.

قال ابن إسحاق: وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت: فدخل علي أخي علي بن أبي طالب فقال: والله لأقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتي.

ثم جئت رسول الله وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف إلي فقال: «مرحبا وأهلا بأم هانئ ما جاء بك؟».

فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي.

فقال: «قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت فلا يقتلهما».

وقال البخاري: ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى قال: ما أخبرنا أحد أنه رأى النبي يصلي الضحى غير أم هانئ، فإنها ذكرت يوم فتح مكة أن النبي اغتسل في بيتها، ثم صلى ثمان ركعات.

قالت: ولم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود.

وفي صحيح مسلم من حديث الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن أبي هند، أن أبا مرة مولى عقيل حدثه أن أم هانئ بنت أبي طالب حدثته أنه لما كان عام الفتح فر إليها رجلان من بني مخزوم فأجارتهما.

قالت: فدخل عليَّ علي فقال: اقتلهما، فلما سمعته أتيت رسول الله وهو بأعلى مكة، فلما رآني رحب وقال: «ما جاء بك؟».

قلت: يا نبي الله كنت أمنت رجلين من أحمائي، فأراد علي قتلهما.

فقال رسول الله : «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ».

ثم قام رسول الله إلى غسله، فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوبا فالتحف به، ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى.

وفي رواية أنها دخلت عليه وهو يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب، فقال: «من هذه؟».

قالت: أم هانئ.

قال: «مرحبا بأم هانئ».

قالت: يا رسول الله زعم ابن أم علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلين قد أجرتهما.

فقال: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ».

قالت: ثم صلى ثماني ركعات، وذلك ضحى، فظن كثير من العلماء أن هذه كانت صلاة الضحى.

وقال آخرون: بل كانت هذه صلاة الفتح، وجاء التصريح بأنه كان يسلم من كل ركعتين، وهو يرد على السهيلي وغيره ممن يزعم أن صلاة الفتح تكون ثمانيا بتسليمة واحدة.

وقد صلى سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن في إيوان كسرى ثماني ركعات، يسلم من كل ركعتين، ولله الحمد.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعا على راحلته يستلم، الركن بمحجن في يده.

فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد.

وقال موسى بن عقبة: ثم سجد سجدتين ثم انصرف إلى زمزم، فاطلع فيها ودعا بماء فشرب منها، وتوضأ والناس يبتدرون وضوءه، والمشركون يتعجبون من ذلك ويقولون: ما رأينا ملكا قط ولا سمعنا به - يعني مثل هذا - وأخر المقام إلى مقامه اليوم، وكان ملصقا بالبيت.

قال محمد بن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال:

«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو موضوع تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب».

ثم تلا هذه الآية: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى... } الآية كلها.

ثم قال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟».

قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم.

قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

ثم جلس رسول الله في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك.

فقال رسول الله : «أين عثمان بن طلحة؟».

فدعي له فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء».

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر قال: قال رسول الله يوم فتح مكة، وهو على درج الكعبة: «الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، إلا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا فيه مائة من الإبل».

وقال مرة أخرى: «مغلظة فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية ودم ودعوى»

وقال مرة: «ومال تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت، فإنهما أمضيتهما لأهلهما على ما كانت».

وهكذا رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم بن ربيعة بن جوشن الغطفاني، عن ابن عمر به.

قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله دخل البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، ورأى إبراهيم مصورا في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: «قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ما شأن إبراهيم والأزلام { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين } » ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان، أنبا عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كان في الكعبة صور فأمر رسول الله أن يمحوها، فبل عمر ثوبا ومحاها به، فدخلها رسول الله وما فيها منها شيء.

وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: دخل رسول الله مكة يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد».

وقد رواه مسلم من حديث ابن عيينة.

وروى البيهقي عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: دخل رسول الله يوم الفتح مكة، وعلى الكعبة ثلثمائة صنم، فأخذ قضيبه فجعل يهوي به إلى الصنم، وهو يهوي حتى مر عليها كلها.

ثم يروى من طريق سويد بن سعيد، عن القاسم بن عبد الله، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله لما دخل مكة وجد بها ثلثمائة وستين صنما فأشار إلى كل صنم بعصا، وقال: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقا } [الإسراء: 81] .

فكان لا يشير إلى صنم إلا ويسقط من غير أن يمسه بعصاه، ثم قال: وهذا الإسناد وإن كان ضعيفا فالذي قبله يؤكده.

وقال حنبل بن إسحاق: أنبا أبو الربيع، عن يعقوب القمي، ثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال: لما افتتح رسول الله مكة جاءت عجوز شمطاء حبشية تخمش وجهها، وتدعو بالويل، فقال رسول الله : «تلك نائلة أيست أن تعبد ببلدكم هذا أبدا».

وقال ابن هشام: حدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أنه قال: دخل رسول الله مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول الكعبة أصنام مشدودة بالرصاص.

فجعل النبي يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول: { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } فما أشار إلى صنم في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع.

فقال تميم بن أسد الخزاعي:

وفي الأصنام معتبر وعلم * لمن يرجو الثواب أو العقابا

وفي صحيح مسلم: عن سنان بن فروخ، عن سليمان، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي هريرة في حديث فتح مكة قال: وأقبل رسول الله حتى أقبل على الحجر فاستلمه وطاف بالبيت، وأتى إلى صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، وفي يد رسول الله قوس وهو آخذ بسيتها.

فلما أتى على الصنم فجعل يطعن في عينه، ويقول: { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } .

فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه، حتى نظر إلى البيت فرفع يديه وجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو.

وقال البخاري: ثنا إسحاق بن منصور، ثنا عبد الصمد، ثنا أبي، ثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله لما قدم مكة، أبى أن يدخل البيت وفيه، الإلهة فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وفي أيديهما الأزلام فقال: «قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط».

ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت وخرج ولم يصل.

تفرد به البخاري دون مسلم.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد، ثنا همام، ثنا عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله دخل الكعبة وفيها ست سواري، فقام إلى كل سارية ودعا ولم يصل فيه.

ورواه مسلم، عن شيبان بن فروخ، عن همام بن يحيى العوذي، عن عطاء به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكيرا حدثه، عن كريب، عن ابن عباس أن رسول الله حين دخل البيت، وجد فيه صورة إبراهيم، وصورة مريم.

فقال: «أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة هذا إبراهيم مصورا، فما باله يستقسم».

وقد رواه البخاري، والنسائي، من حديث ابن وهب به.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنبا معمر، أخبرني عثمان الخزرجي، أنه سمع مقسما يحدث عن ابن عباس قال: دخل رسول الله البيت، فدعا في نواحيه ثم خرج فصلى ركعتين، تفرد به أحمد.

وقال الإمام أحمد: ثنا إسماعيل، أنبا ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى في البيت ركعتين.

قال البخاري: وقال الليث، ثنا يونس، أخبرني نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد، ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة، حتى أناخ في المسجد فأمر أن يؤتى بمفتاح الكعبة، فدخل ومعه أسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة فمكث فيه نهارا طويلا.

ثم خرج فاستبق الناس، فكان عبد الله بن عمر أول من دخل فوجد بلالا وراء الباب قائما فسأله أين صلى رسول الله ؟ فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه، قال عبد الله: ونسيت أن أسأله كم صلى من سجدة.

ورواه الإمام أحمد عن هشيم، ثنا غير واحد وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال: دخل رسول الله ومعه الفضل بن عباس، وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة، وبلال، فأمر بلالا فأجاف عليهم الباب، فمكث فيه ما شاء الله، ثم خرج.

قال ابن عمر: فكان أول من لقيت منهم بلالا، فقلت: أين صلى رسول الله ؟

قال: ها هنا بين الأسطوانتين.

قلت: وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أنه عليه السلام صلى في الكعبة تلقاء وجهة بابها من وراء ظهره، فجعل عمودين عن يمينه، وعمودا عن يساره، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، وكان بينه وبين الحائط الغربي مقدار ثلاثة أذرع.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، أنبا ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى في البيت ركعتين.

قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة.

فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا، فسمع منه ما يغيظه.

فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته.

فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا.

فخرج عليهم رسول الله فقال: «قد علمت الذي قلتم» ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك.

وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني والدي، حدثني بعض آل جبير بن مطعم، أن رسول الله لما دخل مكة أمر بلالا فعلا على الكعبة على ظهرها، فأذن عليها بالصلاة، فقال بعض بني سعيد بن العاص: لقد أكرم الله سعيدا إذ قبضه قبل أن يسمع هذا الأسود على ظهر الكعبة.

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب قال: قال: ابن أبي مليكة: أمر رسول الله بلالا فأذن يوم الفتح فوق الكعبة، فقال رجل من قريش للحارث بن هشام: ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد؟

فقال: دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.

وقال يونس بن بكير وغيره، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله أمر بلالا عام الفتح فأذن على الكعبة ليغيظ به المشركين.

وقال محمد بن سعد: عن الواقدي، عن محمد بن حرب، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، أن أبا سفيان بن حرب بعد فتح مكة كان جالسا فقال في نفسه: لو جمعت لمحمد جمعا؟ فإنه ليحدث نفسه بذلك، إذ ضرب رسول الله بين كتفيه وقال: «إذا يخزيك الله».

قال: فرفع رأسه فإذا رسول الله قائم على رأسه فقال: ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة.

قال البيهقي: وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ - إجازة - أنبا أبو حامد أحمد علي بن الحسن المقري، أنبا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن ابن عباس قال: رأى أبو سفيان رسول الله يمشي والناس يطئون عقبه، فقال بينه وبين نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال؟

فجاء رسول الله حتى ضرب بيده في صدره فقال: «إذا يخزيك الله».

فقال: أتوب إلى الله وأستغفر الله مما تفوهت به.

ثم روى البيهقي: من طريق ابن خزيمة وغيره، عن أبي حامد بن الشرقي، عن محمد بن يحيى الذهلي، ثنا محمد موسى بن أعين الجزري، ثنا أبي، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لما كان ليلة دخل الناس مكة ليلة الفتح، لم يزالوا في تكبير، وتهليل، وطواف بالبيت حتى أصبحوا.

فقال أبو سفيان لهند: أتري هذا من الله؟

قالت: نعم، هذا من الله.

قال: ثم أصبح أبو سفيان فغدا إلى رسول الله ، فقال رسول الله : «قلت لهند أتري هذا من الله؟ قالت: نعم هذا من الله».

فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد الله ورسوله، والذي يحلف به ما سمع قولي هذا أحد من الناس غير هند.

وقال البخاري: ثنا إسحاق، ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، أخبرني حسن بن مسلم، عن مجاهد أن رسول الله قال: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحلل لي إلا ساعة من الدهر، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاؤها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد».

فقال العباس بن عبد المطلب: إلا الأذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للدفن والبيوت؟

فسكت ثم قال: «إلا الأذخر فإنه حلال».

وعن ابن جريج: أخبرني عبد الكريم - هو ابن مالك الجزري - عن عكرمة، عن ابن عباس بمثل هذا، أو نحو هذا.

ورواه أبو هريرة عن النبي .

تفرد به البخاري من هذا الوجه الأول وهو مرسل، ومن هذا الوجه الثاني أيضا.

وبهذا وأمثاله استدل من ذهب إلى أن مكة فتحت عنوة، وللوقعة التي كانت في الخندمة كما تقدم.

وقد قتل فيها قريب من عشرين نفسا من المسلمين والمشركين، وهي ظاهرة في ذلك، وهو مذهب جمهور العلماء.

والمشهور عن الشافعي أنها فتحت صلحا لأنها لم تقسم، ولقوله ليلة الفتح: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الحرم فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن».

وموضع تقرير هذه المسألة في كتاب (الأحكام الكبير) إن شاء الله تعالى.

وقال البخاري: ثنا سعيد بن شرحبيل، ثنا الليث، عن المقبري، عن أبي شريح الخزاعي، أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه.

ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرا، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب».

فقيل لأبي شريح: ماذا قال لك عمرو؟

قال: قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا، ولا فارا بدم، ولا فارا بجزية.

وروى البخاري أيضا ومسلم، عن قتيبة، عن الليث بن سعد به نحوه.

وذكر ابن إسحاق أن رجلا يقال له ابن الأثوغ قتل رجلا في الجاهلية من خزاعة يقال له أحمر بأسا، فلما كان يوم الفتح قتلت خزاعة ابن الأثوغ وهو بمكة، قتله خراش بن أمية، فقال رسول الله : «يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم رجلا لأدينه».

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، عن سعيد بن المسيب قال: لما بلغ رسول الله ما صنع خراش بن أمية قال: «إن خراشا لقتَّال».

وقال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي قال: لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير، جئته فقلت له: يا هذا أنا كنا مع رسول الله حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل، فقتلوه وهو مشرك.

فقام رسول الله فينا خطيبا فقال: «يا أيها الناس إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما، ولا يعضد فيها شجرا لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها.

ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلا لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا فدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله».

ثم ودى رسول الله بذلك الرجل الذي قتلته خزاعة، فقال عمرو لأبي شريح: انصرف أيها الشيخ فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا خالع طاعة، ولا مانع جزية.

فقال أبو شريح: إني كنت شاهدا، وكنت غائبا، وقد أمرنا رسول الله أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك فأنت وشأنك.

قال ابن هشام: وبلغني أن أول قتيل وداه رسول الله يوم الفتح جنيدب بن الأكوع قتله بنو كعب، فوداه رسول الله بمائة ناقة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لما فتحت مكة على رسول الله قال: «كفوا السلاح إلا خزاعة من بني بكر» فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: «كفوا السلاح».

فلقي رجل من خزاعة رجلا من بني بكر من غد بالمزدلفة فقتله، فبلغ ذلك رسول الله فقام خطيبا فقال - فرأيته وهو مسند ظهره إلى الكعبة - قال: «إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول الجاهلية» وذكر تمام الحديث، وهذا غريب جدا.

وقد روى أهل السنن بعض هذا الحديث؛ فأما ما فيه من أنه رخص لخزاعة أن تأخذ بثأرها من بني بكر إلى العصر من يوم الفتح، فلم أره إلا في هذا الحديث، وكأنه إن صح من باب الاختصاص لهم مما كانوا أصابوا منهم ليلة الوتير، والله أعلم.

وروى الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد، وسفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، ومحمد بن عبيد كلهم، عن زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي، عن الحارث بن مالك بن البرصا الخزاعي، سمعت رسول الله يقول يوم فتح مكة: «لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة».

ورواه الترمذي عن بندار، عن يحيى بن سعيد القطان به. وقال: حسن صحيح.

قلت: فإن كان نهيا فلا إشكال، وإن كان نفيا فقال البيهقي: معناه على كفر أهلها.

وفي صحيح مسلم من حديث زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن مطيع، عن أبيه مطيع بن الأسود العدوي قال: قال رسول الله يوم فتح مكة: «لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم إلى يوم القيامة».

والكلام عليه كالأول سواء.

قال ابن هشام: وبلغني عن يحيى بن سعيد أن رسول الله حين افتتح مكة ودخلها، قام على الصفا يدعو الله وقد أحدقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟

فلما فرغ من دعائه قال: «ماذا قلتم؟».

قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه.

فقال رسول الله : «معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم».

وهذا الذي علقه ابن هشام قد أسنده الإمام أحمد بن حنبل في (مسنده) فقال: ثنا بهز وهاشم قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت.

وقال هاشم: حدثني ثابت البناني، ثنا عبد الله بن رباح قال: وفدت وفود إلى معاوية أنا فيهم، وأبو هريرة، وذلك في رمضان، فجعل بعضنا يصنع لبعض الطعام، قال: وكان أبو هريرة يكثر ما يدعونا.

قال هاشم: يكثر أن يدعونا إلى رحله.

قال: فقلت ألا أصنع طعاما فأدعوهم إلى رحلي؟

قال: فأمرت بطعام يصنع، فلقيت أبا هريرة من العشاء قال: قلت: يا أبا هريرة الدعوة عندي الليلة.

قال: استبقتني.

قال هاشم: قلت: نعم، فدعوتهم فهم عندي، فقال أبو هريرة ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار، قال: فذكر فتح مكة.

قال: أقبل رسول الله فدخل مكة، قال: فبعث الزبير على أحد المجنبتين، وبعث خالدا على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الجسر، وأخذوا بطن الوادي، ورسول الله في كتيبته، وقد وبشت قريش أوباشها.

قال: قالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذي سألنا.

قال أبو هريرة: فنظر فرآني فقال: «يا أبا هريرة».

فقلت: لبيك رسول الله.

فقال: «اهتف لي بالأنصار، ولا يأتيني إلا أنصاري».

فهتفت بهم فجاؤوا فأطافوا برسول الله .

قال: فقال رسول الله : «أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم».

ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى: «أحصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا».

قال: فقال أبو هريرة فانطلقنا فما يشاء واحد منا أن يقتل منهم ما شاء، وما أحد منهم يوجه إلينا منهم شيئا.

قال: فقال أبو سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم.

قال: فقال رسول الله : «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

قال: فغلق الناس أبوابهم.

قال: وأقبل رسول الله إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت، قال: وفي يده قوس آخذ بسية القوس.

قال: فأتى في طوافه على صنم إلى جنب البيت يعبدونه، قال: فجعل يطعن بها في عينه، ويقول: { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } .

قال: ثم أتى الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره ويدعوه، قال: والأنصار تحت، قال: يقول بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته.

قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء لم يخف علينا، فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله حتى يقضي.

قال هاشم: فلما قضي الوحي رفع رأسه ثم قال: «يا معشر الأنصار أقلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته؟».

قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله.

قال: «فما أسمي إذا، كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم».

قال: فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله.

قال: فقال رسول الله : «إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم».

وقد رواه مسلم، والنسائي، من حديث سليمان بن المغيرة، زاد النسائي، وسلام بن مسكين.

ورواه مسلم أيضا من حديث حماد بن سلمة ثلاثتهم عن ثابت، عن عبد الله بن رباح الأنصاري نزيل البصرة، عن أبي هريرة به نحوه.

وقال ابن هشام: وحدثني - يعني بعض أهل العلم - أن فضالة بن عمير بن الملوح - يعني الليثي - أراد قتل النبي وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله : «أفضالة؟».

قال: نعم فضالة يا رسول الله.

قال: «ماذا كنت تحدث به نفسك؟».

قال: لا شيء كنت أذكر الله.

قال: فضحك النبي ، ثم قال: «استغفر الله» ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.

قال فضالة: فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث.

فقال: لا.

وانبعث فضالة يقول:

قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والإسلام

أو ما رأيت محمدا وقبيله * بالفتح يوم تكسر الأصنام

لرأيت دين الله أضحى بينا * والشرك يغشى وجهه الإظلام

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر، فأمنه يا رسول الله صلى الله عليك.

فقال: «هو آمن».

فقال: يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك؟

فأعطاه رسول الله عمامته التي دخل فيها مكة فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب في البحر، فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله وقد جئتك به.

قال: ويلك أعزب عني فلا تكلمني.

قال: أي صفوان فداك أبي وأمي، أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس، ابن عمك عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك.

قال: إني أخافه على نفسي.

قال: هو أحلم من ذلك وأكرم.

فرجع معه حتى وقف على رسول الله فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني؟

قال: «صدق».

قال: فاجعلني بالخيار فيه شهرين.

قال: «أنت بالخيار أربعة أشهر».

ثم حكى ابن إسحاق عن الزهري أن فاختة بنت الوليد امرأة صفوان، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، وقد ذهبت وراءه إلى اليمن فاسترجعته، فأسلم، فلما أسلما أقرهما رسول الله تحتهما بالنكاح الأول.

قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، قال: رمى حسان بن الزبعري وهو بنجران ببيت واحد ما زاد عليه:

لا تَعْدَ مَنْ رجلا أحلك بغضه * نجران في عيش أحذَّ لئيم

فلما بلغ ذلك ابن الزبعري خرج إلى رسول الله فأسلم، وقال حين أسلم:

يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور

إذ أباري الشيطان في سنن الغي * ومن مال ميله مثبور

آمن اللحم والعظام لربي * ثم قلبي الشهيد أنت النذير

إنني عنك زاجرٌ ثم حيا * من لؤي وكلهم مغرور

قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري أيضا حين أسلم:

منع الرقاد بلابل وهموم * والليل معتلج الرواق بهيم

مما أتاني أن أحمد لامني * فيه فبت كأنني محموم

يا خير من حملت على أوصالها * عيرانة سرح اليدين غشوم

إني لمعتذر إليك من الذي * أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

أيام تأمرني بأغوى خطة * سهم وتأمرني بها مخزوم

وأمد أسباب الردى ويقودني * أمر الغواة وأمرهم مشؤوم

فاليوم آمن بالنبي محمد * قلبي ومخطئ هذه محروم

مضت العداوة وانقضت أسبابها * ودعت أواصر بيننا وحلوم

فاغفر فدى لك والدي كلاهما * زللي فإنك راحم مرحوم

وعليك من علم المليك علامة * نور أغر وخاتم مختوم

أعطاك بعد محبة برهانه * شرفا وبرهان الإله عظيم

ولقد شهدت بأن دينك صادق * حق وأنك في المعاد جسيم

والله يشهد أن أحمد مصطفى * مستقبل في الصالحين كريم

قرم علا بنيانه من هاشم * فرع تمكن في الذرى وأروم

قال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له.

قلت: وكان عبد الله بن الزبعري السهمي من أكبر أعداء الإسلام، ومن الشعراء الذين استعملوا قواهم في هجاء المسلمين، ثم من الله عليه بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الإسلام، والقيام بنصره والذب عنه.

البداية والنهاية - الجزء الرابع
سنة ثلاث من الهجرة غزوة نجد | غزوة الفرع من بحران | خبر يهود بني قينقاع في المدينة | سرية زيد بن حارثة إلى ذي القردة | مقتل كعب بن الأشرف | غزوة أحد في شوال سنة ثلاث | مقتل حمزة رضي الله عنه | فصل نصر الله للمسلمين يوم بدر | فصل فيما لقي النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ من المشركين قبحهم الله | فصل رد رسول الله عين قتادة بن النعمان عندما سقطت يوم أحد | فصل مشاركة أم عمارة في القتال يوم أحد | فصل في أول من عرف رسول الله بعد الهزيمة كعب بن مالك | دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد | فصل سؤال النبي عليه السلام عن سعد بن الربيع أهو حي أم ميت | الصلاة على حمزة وقتلى أحد | فصل في عدد الشهداء | فصل نعي رسول الله لحمنة بنت جحش أخيها وخالها وزوجها يوم أحد | خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما بهم من القرح والجراح في أثر أبي سفيان | فصل فيما تقاول به المؤمنون والكفار في وقعة أحد من الأشعار | آخر الكلام على وقعة أحد | سنة أربع من الهجرة النبوية | غزوة الرجيع | سرية عمرو بن أمية الضمري | سرية بئر معونة | غزوة بني النضير وفيها سورة الحشر | قصة عمرو بن سعدي القرظي | غزوة بني لحيان | غزوة ذات الرقاع | قصة غورث بن الحارث | قصة الذي أصيبت امرأته يومذاك | قصة جمل جابر | غزوة بدر الآخرة | فصل في جملة من الحوادث الواقعة سنة أربع من الهجرة | سنة خمس من الهجرة النبوية غزوة دومة الجندل | غزوة الخندق أو الأحزاب | فصل نزول قريش بمجتمع الأسيال يوم الخندق | فصل في دعائه عليه السلام على الأحزاب | فصل في غزوة بني قريظة | وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه | فصل الأشعار في الخندق وبني قريظة | مقتل أبي رافع اليهودي | مقتل خالد بن سفيان الهذلي | قصة عمرو بن العاص مع النجاشي | فصل في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة | تزويجه بزينب بنت جحش | نزول الحجاب صبيحة عرس زينب | سنة ست من الهجرة | غزوة ذي قرد | غزوة بني المصطلق من خزاعة | قصة الإفك | غزوة الحديبية | سياق البخاري لعمرة الحديبية | فصل في السرايا التي كانت في سنة ست من الهجرة | فصل فيما وقع من الحوادث في هذه السنة | سنة سبع من الهجرة غزوة خيبر في أولها | فصل فتح رسول الله عليه السلام للحصون | ذكر قصة صفية بنت حيي النضرية | فصل محاصرة النبي عليه السلام أهل خيبر في حُصنيهم | فصل فتح حصونها وقسيمة أرضها | فصل تخصيص شيء من الغنيمة للعبيد والنساء ممن شهدوا خيبر | ذكر قدوم جعفر بن أبي طالب ومسلمو الحبشة المهاجرون | قصة الشاة المسمومة والبرهان الذي ظهر | فصل انصراف رسول الله إلى وادي القرى ومحاصرة أهله | فصل من استشهد بخيبر من الصحابة | خبر الحجاج بن علاط البهزي | فصل مروره صلى الله عليه وسلم بوادي القرى ومحاصرة اليهود ومصالحتهم | فصل تقسيم الثمار و الزروع في خيبر بين المسلمين و اليهود بالعدل | سرية أبي بكر الصديق إلى بني فزارة | سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة وراء مكة بأربعة أميال | سرية عبد الله بن رواحة إلى يسير بن رزام اليهودي | سرية أخرى مع بشير بن سعد | سرية بني حدرد إلى الغابة | السرية التي قتل فيها محلم بن جثامة عامر بن الأضبط | سرية عبد الله بن حذافة السهمي | عمرة القضاء | قصة تزويجه عليه السلام بميمونة | ذكر خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة بعد قضاء عمرته | فصل إرسال سرية ابن أبي العوجاء إلى بني سليم | فصل رد رسول الله عليه السلام ابنته زينب على زوجها أبي العاص | سنة ثمان من الهجرة النبوية | طريق إسلام خالد بن الوليد | سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى هوازن | سرية كعب بن عمير إلى بني قضاعة | غزوة مؤتة | فصل إصابة جعفر وأصحابه | فصل عطف رسول الله عليه السلام على ابن جعفر عند إصابة أبيه | فصل في فضل زيد وجعفر وعبد الله رضي الله عنهم | فصل في من استشهد يوم مؤتة | ما قيل من الأشعار في غزوة مؤتة | كتاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الآفاق وكتبه إليهم | إرساله صلى الله عليه وسلم إلى ملك العرب من النصارى بالشام | بعثه إلى كسرى ملك الفرس | بعثه صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب مدينة الإسكندرية واسمه جريج بن مينا القبطي | غزوة ذات السلاسل | سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر | غزوة الفتح الأعظم وكانت في رمضان سنة ثمان | قصة حاطب بن أبي بلتعة | فصل استخلاف كلثوم بن حصين الغفاري على المدينة | فصل إسلام العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم | فصل نزول النبي عليه السلام إلى مر الظهران | صفة دخوله صلى الله عليه وسلم مكة | فصل عدد الذين شهدوا فتح مكة | بعثه عليه السلام خالد بن الوليد بعد الفتح إلى بني جذيمة من كنانة | بعث خالد بن الوليد لهدم العزى | فصل في مدة إقامته عليه السلام بمكة | فصل فيما حكم عليه السلام بمكة من الأحكام | فصل مبايعة رسول الله الناس يوم الفتح على الإسلام والشهادة | غزوة هوازن يوم حنين | الوقعة وما كان أول الأمر من الفرار ثم العاقبة للمتقين | فصل هزيمة هوازن | فصل في الغنائم | فصل أمره صلى الله عليه وسلم أن لا يقتل وليدا | غزوة أوطاس | من استشهد يوم حنين وأوطاس | ما قيل من الأشعار في غزوة هوازن | غزوة الطائف | مرجعه عليه السلام من الطائف | قدوم مالك بن عوف النصري على الرسول | اعتراض بعض أهل الشقاق على الرسول | مجيء أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة عليه بالجعرانة | عمرة الجعرانة في ذي القعدة | إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى وذكر قصيدته بانت سعاد | الحوادث المشهورة في سنة ثمان والوفيات