البداية والنهاية/الجزء الرابع/الصلاة على حمزة وقتلى أحد
وقال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: أمر رسول الله ﷺ بحمزة، فسجي ببردة، ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات، ثم أتي بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فصلى عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة.
وهذا غريب وسنده ضعيف.
قال السهيلي: ولم يقل به أحد من علماء الأمصار.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا عطاء بن السائب، عن الشعبي، عن ابن مسعود قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أنه ليس أحد منا يريد الدنيا، حتى أنزل الله: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم }
فلما خلف أصحاب رسول الله ﷺ وعصوا ما أمروا به، أفرد رسول الله ﷺ في تسعة - سبعة من الأنصار واثنين من قريش وهو عاشرهم - فلما رهقوه قال: «رحم الله رجلا ردهم عنا...» فلم يزل يقول ذا حتى قتل السبعة، فقال رسول الله ﷺ لصاحبيه: «ما أنصفنا أصحابنا» فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل؟
فقال رسول الله ﷺ: «قولوا الله أعلى وأجل» فقالوا: الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال رسول الله ﷺ: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم»
ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، يوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسر، حنظلة بحنظلة، وفلان بفلان.
فقال رسول الله ﷺ: «لا سواء أما قتلانا فأحياء يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون»
قال أبو سفيان: قد كانت في القوم مثلة، وإن كانت لعن غير ملأ منا ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت ولا ساءني ولا سرني.
قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها.
فقال رسول الله ﷺ: «أأكلت شيئا؟»
قالوا: لا.
قال: «ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار».
قال: فوضع رسول الله ﷺ حمزة فصلى عليه، وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه، فرفع الأنصاري وترك حمزة، وجيء بآخر فوضعه إلى جنب حمزة فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة.
تفرد به أحمد وهذا إسناد فيه ضعف أيضا من جهة عطاء بن السائب، فالله أعلم.
والذي رواه البخاري أثبت حيث قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن جابر بن عبد الله أخبره: أن رسول الله ﷺ كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: «أيهم أكثر أخذا للقرآن؟».
فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا.
تفرد به البخاري دون مسلم، ورواه أهل السنن من حديث الليث بن سعد به.
وقال أحمد: حدثنا محمد - يعني ابن جعفر - حدثنا شعبة، سمعت عبد ربه يحدث عن الزهري، عن ابن جابر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي ﷺ أنه قال في قتلى أحد: «فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة» ولم يصل عليهم.
وثبت أنه صلى عليهم بعد ذلك بسنين عديدة قبل وفاته بيسير، كما قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا زكريا بن عدي، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله ﷺ على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات.
ثم طلع المنبر فقال: «إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها».
قال: فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله ﷺ.
ورواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، من حديث يزيد بن أبي حبيب به نحوه.
وقال الأموي: حدثني أبي، حدثنا الحسن بن عمارة، عن حبيب بن أبي ثابت قال: قالت عائشة: خرجنا من السحر مخرج رسول الله ﷺ إلى أحد، نستطلع الخبر، حتى إذا طلع الفجر إذا رجل محتجر يشتد ويقول:
لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل
قال: فنظرنا فإذا أسيد بن حضير، ثم مكثنا بعد ذلك، فإذا بعير قد أقبل عليه امرأة بين وسقين قالت: فدنونا منها فإذا هي امرأة عمرو بن الجموح، فقلنا لها: ما الخبر؟
قالت: دفع الله عن رسول الله ﷺ، واتخذ من المؤمنين شهداء، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا.
ثم قالت لبعيرها: حل، ثم نزلت فقلنا لها: ما هذا؟
قالت: أخي وزوجي.
وقال ابن إسحاق: وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه، وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله ﷺ لابنها الزبير بن العوام: ألقها فأرجعها لا ترى ما بأخيها.
فقال لها: يا أمه إن رسول الله ﷺ يأمرك أن ترجعي.
قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله، فما أرضانا ما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فلما جاء الزبير إلى رسول الله ﷺ وأخبره بذلك، قال: «خلِّ سبيلها» فأتته فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت.
قال ابن إسحاق: ثم أمر به رسول الله ﷺ فدفن، ودفن معه ابن أخته عبد الله بن جحش، وأمه أميمة بنت عبد المطلب، وكان قد مثل به غير أنه لم ينقر عن كبده رضي الله عنهما.
قال السهيلي: وكان يقال له المجدع في الله.
قال: وذكر سعد أنه هو وعبد الله بن جحش دعيا بدعوة فاستجيبت لهما، فدعا سعد أن يلقى فارسا من المشركين فيقتله ويستلبه فكان ذلك، ودعا عبد الله بن جحش أن يلقاه فارس فيقتله ويجدع أنفه في الله فكان ذلك.
وذكر الزبير بن بكار: أن سيفه يومئذ انقطع فأعطاه رسول الله ﷺ عرجونا، فصار في يد عبد الله بن حجش سيفا يقاتل به، ثم بيع في تركة بعض ولده بمائتي دينار، وهذا كما تقدم لعكاشة في يوم بدر.
وقد تقدم في صحيح البخاري أيضا: أن رسول الله ﷺ كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، بل في الكفن الواحد، وإنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التي يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد، ويقدم في اللحد أكثرهما أخذا للقرآن.
وكان يجمع بين الرجلين المتصاحبين في اللحد الواحد، كما جمع بين عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، وبين عمرو بن الجموح لأنهما كانا متصاحبين ولم يغسلوا، بل تركهم بجراحهم ودمائهم.
كما روى ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: أن رسول الله ﷺ لما انصرف عن القتلى يوم أحد قال: «أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم، والريح ريح مسك»
قال: وحدثني عمي موسى بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم ﷺ: «ما من جريح يجرح في الله، إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى اللون لون الدم، والريح ريح المسك».
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أمر رسول الله ﷺ يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وقال: «ادفنوهم بدمائهم وثيابهم»
رواه أبو داود، وابن ماجه من حديث علي بن عاصم به.
وقال الإمام أبو داود في (سننه): حدثنا القعنبي أن سليمان بن المغيرة حدثهم، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر أنه قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله ﷺ يوم أحد فقالوا: قد أصابنا قرح وجهد فكيف تأمر؟
فقال: «احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد» قيل: يا رسول الله فأيهم يقدم؟
قال: «أكثرهم قرأنا».
ثم رواه من حديث الثوري عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر فذكره، وزاد: «وأعمقوا»
قال ابن إسحاق: وقد احتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله ﷺ عن ذلك وقال: «ادفنوهم حيث صرعوا»
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا عبد الله، وعتاب، حدثنا عبد الله، حدثنا عمر بن سلمة بن أبي يزيد المديني، حدثني أبي، سمعت جابر بن عبد الله يقول: استشهد أبي بأحد فأرسلني إخواني إليه بناضح لهن فقلن: اذهب فاحتمل أباك على هذا الجمل فادفنه في مقبرة بني سلمة.
فقال: فجئته وأعوان لي فبلغ ذلك نبي الله، وهو جالس بأحد فدعاني فقال: «والذي نفسي بيده لا يدفن إلا مع إخوته» فدفن مع أصحابه بأحد، تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح، عن جابر بن عبد الله: أن قتلى أحد حملوا من مكانهم، فنادى منادي النبي ﷺ: «أن ردوا القتلى إلى مضاجعهم».
وقد رواه أبو داود، والنسائي، من حديث الثوري، والترمذي، من حديث شعبة والنسائي أيضا، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينه، كلهم عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر بن عبد الله قال:
خرج رسول الله ﷺ من المدينة إلى المشركين يقاتلهم، وقال لي أبي عبد الله: يا جابر لا عليك أن تكون في نظاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما مصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي.
قال: فبينا أنا في النظارين، إذ جاءت عمتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، إذ لحق رجل ينادي: ألا إن النبي ﷺ يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت، فرجعناها بهما فدفناهما حيث قتلا.
فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال: يا جابر بن عبد الله، والله لقد أثار أباك عمال معاوية فبدأ فخرج طائفة منه، فأتيته فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتيل.
ثم ساق الإمام قصة وفائه دين أبيه كما هو ثابت في الصحيحين.
وروى البيهقي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: لما أجرى معاوية العين عند قتلى أحد بعد أربعين سنة استصرخناهم إليهم، فأتيناهم فأخرجناهم فأصابت المسحاة قدم حمزة فانبعث دما.
وفي رواية ابن إسحاق، عن جابر قال: فأخرجناهم كأنما دفنوا بالأمس.
وذكر الواقدي: أن معاوية لما أراد أن يجري العين نادى مناديه: من كان له قتيل بأحد فليشهد.
قال جابر: فحفرنا عنهم، فوجدت أبي في قبره كأنما هو نائم على هيئته وما تغير من حاله قليل ولا كثير، ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح ويده على جرحه، فأزيلت عنه فانبعث جرحه دما.
ويقال: إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك رضي الله عنهم أجمعين، وذلك بعد ست وأربعين سنة من يوم دفنوا.
وقد قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا حسين المعلم، عن عطاء، عن جابر قال: لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال لي: ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي ﷺ، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله ﷺ، وأن علي دينا فاقض، واستوص بأخواتك خيرا.
فأصبحنا وكان أول قتيل، فدفنت معه آخر في قبره، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته هيئته غير أذنه.
وثبت في الصحيحين: من حديث شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر أنه لما قتل أبوه جعل يكشف عن الثوب ويبكي، فنهاه الناس فقال رسول الله: «تبكيه أو لا تبكيه لم تزل الملائكة تظله حتى رفعتموه» وفي رواية أن عمته هي الباكية.
وقال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا فيض بن وثيق البصري، حدثنا أبو عبادة الأنصاري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ لجابر: «يا جابر ألا أبشرك؟»
قال: بلى بشرك الله بالخير.
فقال: «أشعرت أن الله أحيا أباك فقال: تمن عليّ عبدي ما شئت أعطكه. قال: يا رب عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقتل مع نبيك، وأقتل فيك مرة أخرى، قال: إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع».
وقال البيهقي: حدثنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف الإسفرايني، حدثنا أبو سهل بشر بن أحمد، حدثنا أحمد بن الحسين بن نصر، حدثنا علي بن المديني، حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري قال:
سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري ثم السلمي قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: نظر إلى رسول الله ﷺ فقال: «مالي أراك مهتما؟»
قال: قلت: يا رسول الله قتل أبي وترك دينا وعيالا، فقال: «ألا أخبرك ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا وقال له: يا عبدي سلني أعطك. فقال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال: إنه قد سبق مني القول إنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب فأبلغ من ورائي»
فأنزل الله: { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } الآية [آل عمران: 169]
وقال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا، عن عبد الله بن محمد بن عقيل سمعت جابرا يقول: قال رسول الله ﷺ: «ألا أبشرك يا جابر؟».
قلت: بلى.
قال: «إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله، ثم قال له: ما تحب يا عبد الله ما تحب أن أفعل بك؟ قال: أي رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى».
وقد رواه أحمد، عن علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي، عن ابن عقيل، عن جابر، وزاد فقال الله: «إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون».
وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن عبد الله، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول إذا ذكر أصحاب أحد: «أما والله لوددت أني غودرت مع أصحابه بحضن الجبل» يعني سفح الجبل. تفرد به أحمد.
وقد روى البيهقي من حديث عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير، وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه فدعا له، ثم قرأ: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } الآية [الأحزاب: 23]
قال: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه».
وهذا حديث غريب. وروي عن عبيد بن عمير مرسلا.
وروى البيهقي من حديث موسى بن يعقوب، عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كان النبي ﷺ يأتي قبور الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب قال: «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار».
ثم كان أبو بكر بعد النبي ﷺ يفعله، وكان عمر بعد أبي بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله.
قال الواقدي: كان النبي ﷺ يزورهم كل حول، فإذا بلغ نقرة الشعب يقول: «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» ثم كان أبو بكر يفعل ذلك كل حول، ثم عمر، ثم عثمان، وكانت فاطمة بنت رسول الله ﷺ تأتيهم فتبكي عندهم وتدعو لهم.
وكان سعد يسلم ثم يقبل على أصحابه فيقول: ألا تسلمون على قوم يردون عليكم.
ثم حكى زيارتهم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وأم سلمة رضي الله عنهم.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم، حدثني الحكم بن نافع، حدثنا العطاف بن خالد، حدثتني خالتي قالت: ركبت يوما إلى قبور الشهداء - وكانت لا تزال تأتيهم - فنزلت عند حمزة فصليت ما شاء الله أن أصلي، وما في الوادي داع ولا مجيب إلا غلاما قائما آخذا برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي قلت هكذا بيدي: السلام عليكم.
قالت: فسمعت رد السلام علي يخرج من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله عز وجل خلقني، وكما أعرف الليل والنهار، فاقشعرت كل شعرة مني.
وقال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال النبي ﷺ:
«لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب، ولا يزهدوا في الجهاد؟ فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله في الكتاب قوله تعالى: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } ».
وروى مسلم والبيهقي من حديث أبي معاوية، عن الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله ﷺ فقال:
«أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في أيها شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، قال فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك إطلاعة فقال: اسألوني ما شئتم، فقالوا: يا ربنا وما نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أن لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك مرة أخرى، قال: فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا».