البداية والنهاية/الجزء الرابع/فصل نعي رسول الله لحمنة بنت جحش أخيها وخالها وزوجها يوم أحد
قال ابن إسحاق: ثم انصرف رسول الله ﷺ إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش كما ذكر لي، فلما لقيت الناس نعي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت.
فقال رسول الله ﷺ: «إن زوج المرأة منها لبمكان» لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها.
وقد قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا إسحاق بن محمد الفروي، حدثنا عبد الله بن عمر، عن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جحش، عن أبيه، عن حمنة بنت جحش: أنه قيل لها قتل أخوك، فقالت: رحمه الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فقالوا: قتل زوجك.
قالت: واحزناه.
فقال رسول الله ﷺ: «إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشيء».
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل، عن محمد عن سعد بن أبي وقاص قال: مر رسول الله ﷺ بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها، وأخوها، وأبوها مع رسول الله ﷺ بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله ﷺ؟
قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.
قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
قال ابن هشام: الجلل يكون من القليل والكثير، وهو ههنا القليل.
قال امرؤ القيس:
لقتل بني أسد ربهم * ألا كل شيء خلاه جلل
أي: صغير وقليل.
قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله ﷺ إلى أهله، ناول سيفه ابنته فاطمة فقال: «اغسلي عن هذا دمه يا بنيه، فوالله لقد صدقني في هذا اليوم» وناولها علي بن أبي طالب سيفه فقال: وهذا فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم.
فقال رسول الله ﷺ: «لئن كنت صدقت القتال، لقد صدقه معك سهل بن حنيف وأبو دجانة».
وقال موسى بن عقبة في موضع آخر: ولما رأى رسول الله ﷺ سيف علي مخضبا بالدماء قال: «لئن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف»
وروى البيهقي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء علي بن أبي طالب بسيفه يوم أحد قد انحنى فقال لفاطمة: هاك السيف حميدا فإنها قد شفتني.
فقال رسول الله ﷺ: «لئن كنت أجدت الضرب بسيفك، لقد أجاده سهل بن حنيف، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة».
قال ابن هشام: وسيف رسول الله ﷺ هذا هو ذو الفقار.
قال: وحدثني بعض أهل العلم، عن ابن أبي نجيح قال: نادى مناد يوم أحد: لا سيف إلا ذو الفقار.
قال: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ قال لعلي: لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح علينا.
قال ابن إسحاق: ومر رسول الله ﷺ بدار بني عبد الأشهل، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله ﷺ ثم قال: «لكن حمزة لا بواكي له».
فلما رجع سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير إلى دار بني عبد الأشهل أمرا نساءهن أن يتحزمن، ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله ﷺ.
فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن بعض رجال بني عبد الأشهل قال: لما سمع رسول الله ﷺ بكاءهن على حمزة، خرج عليهن وهن في باب المسجد يبكين فقال: «ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتن بأنفسكن».
قال: ونهى رسول الله ﷺ يومئذ عن النوح فيما قال ابن هشام.
وهذا الذي ذكره منقطع ومنه مرسل، وقد أسنده الإمام أحمد فقال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أسامة بن زيد، حدثني نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ لما رجع من أحد، فجعل نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن قال: فقال رسول الله ﷺ: «ولكن حمزة لا بواكي له».
قال: ثم نام فاستنبه وهن يبكين، قال: «فهن اليوم إذا يبكين يندبن حمزة». وهذا على شرط مسلم.
وقد رواه ابن ماجه، عن هارون بن سعيد، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ مر بنساء بني عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد، فقال رسول الله ﷺ: «لكن حمزة لا بواكي له».
فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة، فاستيقظ رسول الله ﷺ فقال: «ويحهن ما انقلبن بعد مرورهن، فلينقلبن ولا يبكين على هالك بعد اليوم».
وقال موسى بن عقبة: ولما دخل رسول الله ﷺ أزقة المدينة، إذا النوح والبكاء في الدور، قال: «ما هذا؟» قالوا: هذه نساء الأنصار يبكين قتلاهم.
فقال: «لكن حمزة لا بواكي له» واستغفر له فسمع ذلك سعد بن معاذ بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن رواحة، فمشوا إلى دورهم فجمعوا كل نائحة باكية كانت بالمدينة فقالوا: والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عم النبي ﷺ، فإنه قد ذكر أنه لا بواكي له بالمدينة، وزعموا أن الذي جاء بالنوائح عبد الله بن رواحة.
فلما سمع رسول الله ﷺ قال: «ما هذا؟» فأخبر بما فعلت الأنصار بنسائهم فاستغفر لهم، وقال لهم خيرا، وقال: «ما هذا أردت وما أحب البكاء» ونهى عنه.
وهكذا ذكر ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير سواء قال موسى بن عقبة: وأخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر والتفريق عن رسول الله ﷺ، وتحزين المسلمين، وظهر غش اليهود، وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل وقالت اليهود: لو كان نبيا ما ظهروا عليه، ولا أصيب منه ما أصيب، ولكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه.
وقال المنافقون مثل قولهم، وقالوا للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذين أصابوا منكم، فأنزل الله القرآن في طاعة من أطاع، ونفاق من نافق، وتعزية المسلمين يعني فيمن قتل منهم، فقال: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم.. } الآيات كلها كما تكلمنا على ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة.