البداية والنهاية/الجزء الرابع/فصل عدد الذين شهدوا فتح مكة
قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، من بني سليم سبعمائة، ويقول بعضهم ألف، ومن بني غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم، وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد.
وقال عروة والزهري وموسى بن عقبة: كان المسلمون يوم الفتح الذين مع رسول الله ﷺ اثنا عشر ألفا، فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: وكان مما قيل من الشعر في يوم الفتح قول حسان بن ثابت:
عفت ذات الأصابع فالجواء * إلى عذراء منزلها خلاء
ديار من بني الحسحاس قفر * تعفيها الروامس والسماء
وكانت لا يزال بها أنيس * خلال مروجها نعم وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف * يؤرقني إذا ذهب العشاء
لشعثاء التي قد تيمته * فليس لقلبه منها شفاء
كأن خبيئة من بيت رأس * يكون مزاجها عسل وماء
إذا ما الأشربات ذكرن يوما * فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إن المنا * إذا ما كان مغت أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكا * وأسدا ما ينهنها اللقاء
عدمنا خيلنا أن لم تروها * تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مصغيات * على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات * يلطمهن بالخمر النساء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا * وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم * يعز الله فيه من يشاء
وجبريل رسول الله فينا * وروح القدس ليس له كفاء
وقال الله قد أرسلت عبدا * يقول الحق إن نفع البلاء
شهدت به فقوموا صدقوه * فقلتم لا نقوم ولا نشاء
وقال الله قد سيرت جندا * هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد * سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا * ونضرب حين تختلط الدماء
ألا أبلغ أبا سفيان عني * مغلغلة فقد برح الخفاء
بأن سيوفنا تركتك عبدا * وعبد الدار سادتها الإماء
هجوت محمدا فأجبت عنه * وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء
هجوت مباركا برا حنيفا * أمين الله شيمته الوفاء
أمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصر سواء
فإن أبي ووالده وعرضي * لعرض محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه * وبحري لا تكدره الدلاء
قال ابن هشام: قالها حسان قبل الفتح.
قلت: والذي قاله متوجه لما في أثناء هذه القصيدة مما يدل على ذلك، وأبو سفيان المذكور في البيت هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.
قال ابن هشام: وبلغني عن الزهري أنه قال: لما رأى رسول الله ﷺ النساء يلطمن الخيل بالخمر تبسم إلى أبي بكر رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: وقال أنس بن زنيم الدئلي يعتذر إلى رسول الله ﷺ مما كان قال فيهم عمرو بن سالم الخزاعي - يعني لما جاء يستنصر عليهم - كما تقدم:
أأنت الذي تهدى معد بأمره * بل الله يهديهم وقال لك أشهد
وما حملت من ناقة فوق رحلها * أبر وأوفى ذمة من محمد
أحث على الخير وأسبغ نائلا * إذا راح كالسيف الصقيل المهند
وأكسى لبرد الخال قبل ابتذاله * وأعطى لرأس السابق المتجرد
تعلم رسول الله أنك مذركي * وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
تعلم رسول الله أنك قادر * على كل صرم متهمين ومنجد
تعلم أن الركب ركب عويمر * هموا الكاذبون المخلفوا كل موعد
ونبوا رسول الله أني هجوته * فلا حملت سوطي إلي إذن يدي
سوى أنني قد قلت ويل أم فتية * أصيبوا بنحس لا بطلق وأسعد
أصابهموا من لم يكن لدمائهم * كفاء فعزت عبرتي وتبلدي
وإنك قد أخبرت أنك ساعيا * بعبد بن عبد الله وابنة مهود
ذؤيب وكلثوم وسلمى تتابعوا * جميعا فإن لا تدمع العين أكمد
وسلمى وسلمى ليس حي كمثله * وإخوته وهل ملوك كأعبد
فإني لا ذنبا فتقت ولا دما * هرقت تبين عالم الحق واقصد
قال ابن إسحاق: وقال بجير بن زهير بن أبي سلمى في يوم الفتح:
نفى أهل الحبلق كل فج * مزينة غدوة وبنو خفاف
ضربناهم بمكة يوم فتح النـ* ـبي الخير بالبيض الخفاف
صبحناهم بسبع من سليم * وألف من بني عثمان واف
نطأ أكتافهم ضربا وطعنا * ورشقا بالمريشة اللطاف
ترى بين الصفوف لها حفيفا * كما انصاع الفواق من الرصاف
فرحنا والجياد تجول فيهم * بأرماح مقومة الثقاف
فأبنا غانمين بما اشتهينا * وأبوا نادمين على الخلاف
وأعطينا رسول الله منا * مواثقنا على حسن التصافي
وقد سمعوا مقالتنا فهموا * غداة الروع منا بانصراف
وقال ابن هشام: وقال عباس بن مرداس السلمي في فتح مكة:
منا بمكة يوم فتح محمد * ألف تسيل به البطاح مسوم
نصروا الرسول وشاهدوا آياته * وشعارهم يوم اللقاء مقدم
في منزل ثبتت به أقدامهم * ضنك كأن الهام فيه الحنتم
جرت سنابكها بنجد قبلها * حتى استقام لها الحجاز الأدهم
الله مكنه له وأذله * حكم السيوف لنا وجد مزحم
عود الرياسة شامخ عرنينه * متطلع ثغر المكارم خضرم
وذكر ابن هشام في سبب إسلام عباس بن مرداس: أن أباه كان يعبد صنما من حجارة يقال له ضمار، فلما حضرته الوفاة أوصاه به، فبينما هو يوما يخدمه إذ سمع صوتا من جوفه وهو يقول:
قل للقبائل من سليم كلها * أودى ضمار وعاش أهل المسجد
إن الذي ورث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتدي
أودى ضمار وكان يعبد مدة * قبل الكتاب إلى النبي محمد
قال: فحرق عباس ضمار، ثم لحق برسول الله ﷺ فأسلم، وقد تقدمت هذه القصة بكمالها في باب هواتف الجان مع أمثالها وأشكالها، ولله الحمد والمنة.