البداية والنهاية/الجزء السادس/قصة الصبي الذي كان يصرع فدعا له عليه السلام فبرأ
قد تقدم ذلك من رواية أسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، ويعلى بن مرة الثقفي، مع قصة الجمل الحديث بطوله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا حماد بن سلمة عن فرقد السنجي، عن سعيد بن جبير بن عباس أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إن به لمما وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا.
قال: فمسح رسول الله ﷺ صدره ودعا له، فثع ثعة فخرج منه مثل الجرو الأسود يسعى.
تفرد به أحمد، وفرقد السنجي رجل صالح ولكنه سيء الحفظ، وقد روى عنه شعبة وغير واحد، واحتمل حديثه، ولما رواه ههنا شاهد مما تقدم، والله أعلم.
وقد تكون هذه القصة هي كما سبق إيرادها، ويحتمل أن تكون أخرى غيرها، والله أعلم.
حديث آخر في ذلك:
قال أبو بكر البزار: ثنا محمد بن مرزوق، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا صدقة - يعني: ابن موسى - ثنا فرقد - يعني: السنجي - عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان النبي ﷺ بمكة فجاءته امرأة من الأنصار فقالت: يا رسول الله إن هذا الخبيث قد غلبني.
فقال لها: « إن تصبري على ما أنت عليه تجيئين يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب ».
قالت: والذي بعثك بالحق لأصبرن حتى ألقى الله.
قالت: إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها، فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتعلق بها وتقول له: إخسأ، فيذهب عنها.
قال البزار: لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، وصدقة ليس به بأس، وفرقد حدث عنه جماعة من أهل العلم منهم شعبة وغيره، واحتمل حديثه على سوء حفظه فيه.
طريق أخرى عن ابن عباس:
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن عمران أبي بكر، ثنا عطاء ابن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟
قلت: بلى.
قال: هذه السوداء أتت رسول الله ﷺ فقالت: إني أصرع وأنكشف، فادع الله لي.
قال: « إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك ».
قالت: لا بل أصبر فادع الله ألا أنكشف ولا ينكشف عني.
قال: فدعا لها.
وهكذا رواه البخاري عن مسدد، عن يحيى - وهو ابن سعيد القطان -.
وأخرجه مسلم عن القواريري، عن يحيى القطان وبشر بن الفضل، كلاهما عن عمران بن مسلم أبي بكر الفقيه البصري، عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عباس فذكر مثله.
ثم قال البخاري: حدثنا محمد، ثنا مخلد عن ابن جريح قال: أخبرني عطاء أنه رأى أم زفر تلك امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة.
وقد ذكر الحافظ ابن الأثير في الغابة: أن أم زفر هذه كانت مشاطة خديجة بنت خويلد قديما، وأنها عمرت حتى أدركها عطاء ابن أبي رباح، فالله أعلم.
حديث آخر:
قال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد، ثنا محمد بن يونس، ثنا قرة بن حبيب الغوي، ثنا إياس ابن أبي تميمة عن عطاء، عن أبي هريرة قال: جاءت الحمى إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إبعثني إلى أحب قومك إليك، أو أحب أصحابك إليك - شك قرة -.
فقال: « إذهبي إلى الأنصار ».
فذهبت إليهم فصرعتهم، فجاؤا إلى رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله قد أتت الحمى علينا فادع الله لنا بالشفاء، فدعا لهم فكشفت عنهم.
قال: فاتبعته امرأة فقالت: يا رسول الله أدع الله لي فإن لمن الأنصار فادع الله لي كما دعوت لهم.
فقال: « أيهما أحب إليك أن أدعو لك فيكشف عنك، أو تصبرين وتجب لك الجنة ».
فقالت: لا والله يا رسول الله بل أصبر ثلاثا ولا أجعل والله لجنته خطرا.
محمد بن يونس الكديمي ضعيف.
وقد قال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي، ثنا هشام ابن لاحق - سنة خمس وثمانين ومائة -، ثنا عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: استأذنت الحمى على رسول الله ﷺ فقال: « من أنت؟ »
قالت: أنا الحمى أبري اللحم وأمص الدم.
قال: « إذهبي إلى أهل قباء ».
فأتتهم فجاءوا إلى رسول الله ﷺ وقد اصفرت وجوههم فشكوا إليه الحمى.
فقال لهم: « ما شئتم؟ إن شئتم دعوت الله فيكشف عنكم، وإن شئتم تركتموها فأسقطت ذنوبكم ».
قالوا: بل ندعها يا رسول الله.
وهذا الحديث ليس هو في مسند الإمام أحمد، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد ذكرنا في أول الهجرة دعاءه عليه السلام لأهل المدينة أن يذهب حماها إلى الجحفة فاستجاب الله له ذلك، فإن المدينة كانت من أوبأ أرض الله فصححها الله ببركة حلوله بها، ودعائه لأهلها - صلوات الله وسلامه عليه -.
حديث آخر في ذلك:
قال الإمام أحمد: ثنا روح، ثنا شعبة عن أبي جعفر المديني سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أدع الله أن يعافيني.
فقال: « إن شئت أخرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت له ».
قال: لا بل أدع الله لي.
قال: فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدعاء: « اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك في حاجتي هذه فتقضي وتشفعني فيه وتشفعه في ».
قال: فكان يقول هذا مرارا ثم قال بعد: أحسب أن فيها أن تشفعني فيه.
قال: ففعل الرجل فبرأ.
وقد رواه أحمد أيضا عن عثمان بن عمرو، عن شعبة به.
وقال: اللهم شفعه في، ولم يقل الأخرى وكأنها غلط من الراوي، والله أعلم.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي عن محمود بن غيلان، وابن ماجه عن أحمد بن منصور بن سيار، كلاهما عن عثمان بن عمرو.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن جعفر الخطمي.
ثم رواه أحمد أيضا عن مؤمل بن حماد بن سلمة ابن أبي جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف فذكر الحديث.
وهكذا رواه النسائي عن محمد بن معمر، عن حبان، عن حماد بن سلمة به.
رواه النسائي عن زكريا بن يحيى، عن محمد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، وهذه الرواية تخالف ما تقدم، ولعله عند أبي جعفر الخطمي من الوجهين، والله أعلم.
وقد روى البيهقي والحاكم من حديث يعقوب بن سفيان عن أحمد بن شبيب، عن سعيد الحنطبي، عن أبيه، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف قال: سمعت رسول الله ﷺ وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال: يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي.
فقال رسول الله ﷺ: « إئت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فينجلي بصري، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي ».
قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال الحديث بنا حتى دخل الرجل كأنه لم يكن به ضر قط.
قال البيهقي: ورواه أيضا هشام الدستوائي عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمه عثمان بن حنيف.
حديث آخر:
قال أبو بكر ابن أبي شيبة: ثنا محمد بن بشر، ثنا عبد العزيز بن عمر، حدثني رجل من بني سلامان وبني سعد عن أبيه، عن خاله، أو أن خاله، أو خالها حبيب بن مريط، حدثها أن أباه خرج إلى رسول الله ﷺ وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا أصلا.
فسأله: « ما أصابك؟ »
فقال: كنت أرعى جملا لي فوقعت رجلي على بطن حية فأصبت ببصري.
قال: فنفث رسول الله ﷺ في عينيه فأبصر، فرأيته وإنه ليدخل الخيط في الإبرة، وإنه لابن ثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضتان.
قال البيهقي: كذا في كتابه، وغيره يقول: حبيب بن مدرك.
قال: وقد مضى في هذا المعنى حديث قتادة بن النعمان أنه أصيبت عينه فسالت حدقته فردها رسول الله إلى موضعها، فكان لا يدري أيهما أصيبت.
قلت: وقد تقدم ذلك في غزوة أحد، وقد ذكرنا في مقتل أبي رافع مسحه بيده الكريمة على رجل جابر بن عتيك - وقد انكسر ساقه - فبرأ من ساعته.
وذكر البيهقي بإسناده: أنه ﷺ مسح يد محمد بن حاطب - وقد احترقت يده بالنار - فبرأ من ساعته.
وأنه عليه السلام نفث في كف شرحبيل الجعفي فذهبت من كفه سلعة كانت به.
قلت: وتقدم في غزوة خيبر تفله في عيني علي وهو أمرد فبرأ.
وروى الترمذي عن علي حديثه في تعليمه عليه السلام ذلك الدعاء لحفظ القرآن فحفظه.
وفي الصحيح أنه قال لأبي هريرة وجماعة: « من يبسط رداءه اليوم فإنه لا ينسى شيئا من مقالتي ».
قال: فبسطته، فلم أنس شيئا من مقالته تلك.
فقيل: كان ذلك حفظا من أبي هريرة لكل ما سمعه منه في ذلك اليوم.
وقيل: وفي غيره، فالله أعلم.
ودعا لسعد ابن أبي وقاص فبرأ.
وروى البيهقي: أنه دعا لعمه أبي طالب في مرضة مرضها وطلب من رسول الله ﷺ أن يدعو له ربه فبرأ من ساعته.
والأحاديث في هذا كثيرة جدا يطول استقصاؤها.
وقد أورد البيهقي من هذا النوع كثيرا طيبا أشرنا إلى أطراف منه، وتركنا أحاديث ضعيفة الإسناد واكتفينا بما أوردنا عما تركنا، وبالله المستعان.
حديث آخر:
ثبت في الصحيحين من حديث زكريا ابن أبي زائدة زاد مسلم والمغيرة، كلاهما عن شراحيل الشعبي، عن جابر بن عبد الله أنه كان يسير على جمل قد أعيا فأراد أن يسيبه.
قال: فلحقني رسول الله ﷺ فضربه ودعا لي، فسار سيرا لم يسر مثله.
وفي رواية: فما زال بين يدي الإبل قدامها حتى كنت أحبس خطامه فلا أقدر عليه.
فقال: « كيف ترى جملك؟ »
فقلت: قد أصابته بركتك يا رسول الله.
ثم ذكر أن رسول الله ﷺ اشتراه منه، واختلف الرواة في مقدار ثمنه على روايات كثيرة، وأنه استثنى حملانه إلى المدينة، ثم لما قدم المدينة جاءه بالجمل فنقده ثمنه وزاده، ثم أطلق له الجمل أيضا، الحديث بطوله.
حديث آخر:
روى البيهقي واللفظ له وهو في صحيح البخاري من حديث حسن بن محمد المروزي عن جرير ابن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: فزع الناس فركب رسول الله ﷺ فرسا لأبي طلحة بطيئا ثم خرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلف رسول الله ﷺ فقال: « لن تراعوا إنه لبحر » فوالله ما سبق بعد ذلك اليوم.
حديث آخر:
قال البيهقي: أنا أبو بكر القاضي، أنا حامد بن محمد الهروي، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، ثنا رافع بن سلمة بن زياد، حدثني عبد الله ابن أبي الجعد عن جعيل الأشجعي قال: غزوت مع رسول الله ﷺ في بعض غزواته وأنا على فرس لي عجفاء ضعيفة.
قال: فكنت في أخريات الناس فلحقني رسول الله ﷺ وقال: « سر يا صاحب الفرس ».
فقلت: يا رسول الله عجفاء ضعيفة.
قال: فرفع رسول الله ﷺ مخفقة معه فضربها بها وقال: « اللهم بارك له ».
قال: فلقد رأيتني أمسك برأسها أن تقدم الناس، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا.
ورواه النسائي عن محمد بن رافع، عن محمد بن عبد الله الرقاشي فذكره.
وهكذا رواه أبو بكر ابن أبي خيثمة عن عبيد بن يعيش، عن زيد بن الخباب، عن رافع بن سلمة الأشجعي فذكره.
وقال البخاري في التاريخ: وقال رافع بن زياد بن الجعد ابن أبي الجعد: حدثني أبي عبد الله ابن أبي الجعد أخي سالم، عن جعيل فذكره.
حديث آخر:
قال البيهقي: أنا أبو الحسين ابن الفضل القطان ببغداد، أنا أبو سهل بن زياد القطان، ثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا زكريا بن عدي، ثنا مروان بن معاوية عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إني تزوجت امرأة.
فقال: « هلا نظرت إليها؟ فإن في أعين الأنصار شيئا »
قال: قد نظرت إليها.
قال: « على كم تزوجتها؟ » فذكر شيئا.
قال: « كأنهم ينحتون الذهب والفضة من عرض هذه الجبال، ما عندنا اليوم شيء نعطيكه ولكن سأبعثك في وجه تصيب فيه، فبعث بعثا إلى بني عبس وبعث الرجل فيهم ».
فأتاه فقال: يا رسول الله أعيتني ناقتي أن تنبعث.
قال: فناوله رسول الله ﷺ يده كالمعتمد عليه للقيام فأتاها فضربها برجله.
قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لقد رأيتها تسبق به القائد.
رواه مسلم في الصحيح عن يحيى بن معين، عن مروان.
حديث آخر:
قال البيهقي: أنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزني، أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أنا أبو جعفر بن عون، أنا الأعمش عن مجاهد أن رجلا اشترى بعيرا فأتى رسول الله ﷺ فقال: إني اشتريت بعيرا فادع الله أن يبارك لي فيه.
فقال: « اللهم بارك له فيه ».
فلم يلبث إلا يسيرا أن نفق، ثم اشترى بعيرا آخر فأتى به رسول الله ﷺ فقال: إني اشتريت بعيرا فادع الله أن يبارك لي فيه.
فقال: « اللهم بارك له فيه ».
فلم يلبث حتى نفق، ثم اشترى بعيرا آخر فأتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله قد اشتريت بعيرين فدعوت الله أن يبارك لي فيهما فادع الله أن يحملني عليه.
فقال: « اللهم احمله عليه » فمكث عنده عشرين سنة.
قال البيهقي: وهذا مرسل ودعاؤه عليه السلام صار إلى أمر الآخرة في المرتين الأوليين.
حديث آخر:
قال الحافظ البيهقي: أنا أبو عبد الرحمن السلمي، أنا إسماعيل بن عبد الله الميكالي، ثنا علي بن سعد العسكري، أنا أبو أمية عبد الله بن محمد بن خلاد الواسطي، ثنا يزيد بن هارون، أنا المستلم بن سعيد، ثنا خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن أساف عن أبيه، عن جده حبيب بن أساف قال: أتيت رسول الله ﷺ أنا ورجل من قومي في بعض مغازيه فقلنا: إنا نشتهي أن نشهد معك مشهدا.
قال: « أسلمتم؟ »
قلنا: لا.
قال: « فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين ».
قال: فأسلمنا، وشهدت مع رسول الله ﷺ فأصابتني ضربة على عاتقي فجافتني فتعلقت يدي، فأتيت رسول الله ﷺ فتفل فيها وألزقها فالتأمت وبرأت، وقتلت الذي ضربني، ثم تزوجت ابنة الذي قتلته وضربني فكانت تقول: لا عدمت رجلا وشحك هذا الوشاح.
فأقول: لا عدمت رجلا أعجل أباك إلى النار.
وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن يزيد بن هارون بإسناده مثله، ولم يذكر: فتفل فيها فبرأت.
حديث آخر:
ثبت في الصحيحين من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم عن ورقاء بن عمر السكري، عن عبد الله بن يزيد، عن ابن عباس قال: أتى رسول الله ﷺ الخلاء فوضعت له وضوءا فلما خرج قال: « من صنع هذا؟ »
قالوا: ابن عباس.
قال: « اللهم فقهه في الدين ».
وروى البيهقي عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن عباس الدورقي، عن الحسن بن موسى الأشيب، عن زهير، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ وضع يده على كتفي - أو قال: منكبي شك سعيد - ثم قال: « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ».
وقد استجاب الله لرسوله ﷺ هذه الدعوة في ابن عمه، فكان إماما يهتدى بهداه ويقتدى بسناه في علوم الشريعة، ولا سيما في علم التأويل وهو التفسير فإنه انتهت إليه علوم الصحابة قبله، وما كان عقله من كلام ابن عمه رسول الله ﷺ.
وقد قال الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود: لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشره أحد منا.
وكان يقول لهم: « نعم ترجمان القرآن ابن عباس ».
هذا وقد تأخرت وفاة ابن عباس عن وفاة عبد الله بن مسعود ببضع وثلاثين سنة فما ظنك بما حصله بعده في هذه المدة؟
وقد روينا عن بعض أصحابه أنه قال: خطب الناس ابن عباس في عشية عرفة ففسر لهم سورة البقرة - أو قال: سورة - ففسرها تفسيرا لو سمعه الروم والترك والديلم لأسلموا - رضي الله عنه وأرضاه -.
حديث آخر:
ثبت في الصحيح أنه عليه السلام دعا لأنس بن مالك بكثرة المال والولد.
فكان كذلك حتى روى الترمذي عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي خلدة قال: قلت لأبي العالية: سمع أنس من النبي - ﷺ -؟
فقال: خدمه عشر سنين، ودعا له، وكان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك.
وقد روينا في الصحيح: أنه ولد له لصلبه قريب من مائة أو ما ينيف عليها.
وفي رواية: أنه ﷺ قال: « اللهم أطل عمره » فعمر مائة.
وقد دعا ﷺ لأم سليم، ولأبي طلحة في غابر ليلتهما فولدت له غلاما سماه رسول الله ﷺ عبد الله، فجاء من صلبه تسعة كلهم قد حفظ القرآن، ثبت ذلك في الصحيح.
وثبت في صحيح مسلم من حديث عكرمة بن عمار عن أبي كثير الغبري، عن أبي هريرة أنه سأل من رسول الله ﷺ أن يدعو لأمه فيهديها الله، فدعا لها، فذهب أبو هريرة فوجد أمه تغتسل خلف الباب فلما فرغت قالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فجعل أبو هريرة يبكي من الفرح، ثم ذهب فأعلم بذلك رسول الله وسأل منه أن يدعو لهما أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين، فدعا لهما فحصل ذلك.
قال أبو هريرة: فليس مؤمن ولا مؤمنة إلا وهو يحبنا، وقد صدق أبو هريرة في ذلك - رضي الله عنه وأرضاه -.
ومن تمام هذه الدعوة أن الله شهر ذكره في أيام الجمع حيث يذكره الناس بين يدي خطبة الجمعة، وهذا من التقييض القدري والتقدير المعنوي.
وثبت في الصحيح أنه عليه السلام دعا لسعد ابن أبي وقاص وهو مريض فعوفي، ودعا له أن يكون مجاب الدعوة فقال: « اللهم أجب دعوته، وسدد رميته » فكان كذلك، فنعم أمير السرايا والجيوش كان.
وقد دعا على أبي سعدة أسامة بن قتادة حين شهد فيه بالزور بطول العمر، وكثرة الفقر، والتعرض للفتن، فكان ذلك، فكان إذا سئل ذلك الرجل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد.
وثبت في صحيح البخاري وغيره: أنه ﷺ دعا للسائب بن يزيد، ومسح بيده على رأسه فطال عمره حتى بلغ أربعا وتسعين سنة، وهو تام القامة معتدل، ولم يشب منه موضع أصابت يد رسول الله ﷺ ومتع بحواسه وقواه.
وقال أحمد: ثنا جرير بن عمير، ثنا عروة بن ثابت، ثنا علي بن أحمد، حدثني أبو زيد الأنصاري قال: قال لي رسول الله ﷺ: « أدن مني » فمسح بيده على رأسي ثم قال: « اللهم جمله وأدم جماله ».
قال: فبلغ بضعا ومائة - يعني: سنة - وما في لحيته بياض إلا نبذة يسيرة، ولقد كان منبسط الوجه لم ينقبض وجهه حتى مات، قال السهيلي: إسناد صحيح موصول.
ولقد أورد البيهقي لهذا نظائر كثيرة في هذا المعنى تشفي القلوب، وتحصل المطلوب.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عارم، ثنا معتمر، وقال: يحيى بن معين، ثنا عبد الأعلى، ثنا معتمر - هو ابن سليمان - قال: سمعت أبي يحدث عن أبي العلاء قال: كنت عند قتادة بن ملحان في موضعه الذي مات فيه.
قال: فمر رجل في مؤخر الدار.
قال: فرأيته في وجه قتادة.
وقال: كان رسول الله ﷺ قد مسح وجهه.
قال: وكنت قبل ما رأيته إلا ورأيت كأن على وجهه الدهان.
وثبت في الصحيحين أنه عليه السلام دعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة حين رأى عليه ذلك الدرع من الزعفران لأجل العرس، فاستجاب الله لرسوله ﷺ ففتح له في المتجر والمغانم حتى حصل له مال جزيل بحيث أنه لما مات صولحت امرأة من نسائه الأربع عن ربع الثمن على ثمانين ألفا.
وثبت في الحديث من طريق شبيب بن غرقد أنه سمع الحي يخبرون عن عروة ابن أبي الجعد المازني أن رسول الله ﷺ أعطاه دينارا ليشتري له به شاة، فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار، وأتاه بشاة ودينار فقال له: « بارك الله لك في صفقة يمينك ».
وفي رواية: فدعا له بالبركة في البيع فكان لو اشترى التراب لربح فيه.
وقال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أنا ابن وهب، ثنا سعيد ابن أبي أيوب عن أبي عقيل أنه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن الزبير وابن عمر فيقولان: أشركنا في بيعك فإن رسول الله ﷺ قد دعا لك بالبركة، فيشركهم فربما أصاب الراحلة كما هي فبعث بها إلى المنزل.
وقال البيهقي: أنا أبو سعد الماليني، أنا ابن عدي، ثنا علي بن محمد بن سليمان الحليمي، ثنا محمد بن يزيد المستملي، ثنا سبابة بن عبد الله، ثنا أيوب بن سيار عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن أبي بكر، عن بلال قال: أذنت في غداة باردة فخرج النبي ﷺ فلم ير في المسجد واحدا فقال: « أين الناس؟ »
فقلت: منعهم البرد.
فقال: « اللهم أذهب عنهم البرد ».
فرأيتهم يتروحون.
ثم قال البيهقي: تفرد به أيوب بن سيار، ونظيره قد مضى في الحديث المشهور عن حذيفة في قصة الخندق.
حديث آخر:
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا عبد العزيز بن عبد الله عن محمد بن عبد الله الأصبهاني إملاء، أنا أبو إسماعيل الترمذي محمد بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، ثنا علي ابن أبي علي اللهبي عن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ خرج وعمر بن الخطاب معه، فعرضت له امرأة فقالت: يا رسول الله إني امرأة مسلمة محرمة ومعي زوج لي في بيتي مثل المرأة.
فقال لها رسول الله: « إدعي لي زوجك ».
فدعته، وكان خرازا فقال له: « ما تقول في امرأتك يا عبد الله؟ »
فقال الرجل: والذي أكرمك ما جف رأسي منها.
فقالت امرأته: جاء مرة واحدة في الشهر.
فقال لها رسول الله ﷺ: « أتبغضينه؟ »
قالت: نعم.
فقال رسول الله ﷺ: « أدنيا رءوسكما » فوضع جبهتها على جبهة زوجها ثم قال: « اللهم ألف بينهما وحبب أحدهما إلى صاحبه » ثم مر رسول الله ﷺ بسوق النمط ومعه عمر بن الخطاب فطلعت المرأة تحمل أدما على رأسها، فلما رأت رسول الله ﷺ طرحته وأقبلت فقبلت رجليه.
فقال: « كيف أنت وزوجك؟ »
فقالت: والذي أكرمك ما طارف ولا تالد أحب إلي منه.
فقال رسول الله ﷺ: « أشهد أني رسول الله »
فقال عمر: وأنا أشهد أنك رسول الله.
قال أبو عبد الله: تفرد به علي بن علي اللهبي، وهو كثير الرواية للمناكير.
قال البيهقي: وقد روى يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه، عن جابر بن عبد الله - يعني: هذه القصة - إلا أنه لم يذكر عمر بن الخطاب.
حديث آخر:
قال أبو القاسم البغوي: ثنا كامل بن طلحة، ثنا حماد بن سلمة، ثنا علي بن زيد بن جدعان عن أبي الطفيل أن رجلا ولد له غلام فأتى به رسول الله ﷺ فدعا له بالبركة، وأخذ بجبهته فنبتت شعرة في جبهته كأنها هلبة فرس، فشب الغلام فلما كان زمن الخوارج أجابهم، فسقطت الشعرة عن جبهته، فأخذه أبوه فحبسه وقيده مخافة أن يلحق بهم.
قال: فدخلنا عليه فوعظناه وقلنا له: ألم تر إلى بركة رسول الله ﷺ وقعت، فلم نزل به حتى رجع عن رأيهم.
قال: فرد الله تلك الشعرة إلى جبهته إذ تاب.
وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أبي أسامة الكلبي، عن سريج بن مسلم، عن أبي يحيى إسماعيل بن إبراهيم التيمي، حدثني سيف بن وهب عن أبي الطفيل أن رجلا من بني ليث يقال له: فراس بن عمرو أصابه صداع شديد فذهب به أبوه إلى رسول الله ﷺ فأجلسه بين يديه وأخذ بجلدة بين عينيه فجذبها حتى تبعصت فنبتت في موضع أصابع رسول الله ﷺ شعرة وذهب عنه الصداع فلم يصدع، وذكر بقية القصة في الشعرة كنحو ما تقدم.
حديث آخر:
قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا هاشم بن القاسم الحراني، ثنا يعلى بن الأشدق سمعت عبد الله بن حراد العقيلي، حدثني النابغة - يعني: الجعدي - قال: أتيت رسول الله ﷺ فأنشدته من قولي:
بلغنا السماء عفة وتكرما * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال: « أين المظهر يا أبا ليلى؟ »
قال: قلت: أي الجنة.
قال: « أجل إن شاء الله ».
قال: « أنشدني ».
فأنشدته من قولي:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له * بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له * حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
قال: « أحسنت لا يفضض الله فاك ».
هكذا رواه البزار إسنادا ومتنا.
وقد رواه الحافظ البيهقي من طريق أخرى فقال: أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن عبدان، أنا أبو بكر بن محمد بن المؤمل، ثنا جعفر بن محمد بن سوار، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد السكري الرقي، حدثني يعلى بن الأشدق قال: سمعت النابغة نابغة - بني جعدة - يقول: أنشدت رسول الله ﷺ هذا الشعر فأعجبه:
بلغنا السما مجدنا وتراثنا * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال لي: « أين المظهر يا أبا ليلى؟ »
قلت: إلى الجنة.
قال: « كذلك إن شاء الله ».
ولا خير في حلم إذا لم يكن له * بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له * حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبي ﷺ: « أجدت لا يفضض الله فاك ».
قال يعلى: فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن.
قال البيهقي وروي عن مجاهد بن سليم، عن عبد الله بن حراد سمعت نابغة يقول: سمعني رسول الله ﷺ وأنا أنشد من قولي:
بلغنا السماء عفة وتكرما * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
ثم ذكر الباقي بمعناه.
قال: فلقد رأيت سنه كأنها البرد المنهل، ما سقط له سن ولا انفلت.
حديث آخر:
قال الحافظ البيهقي: أنا أبو بكر القاضي وأبو سعيد بن يوسف أبي عمرو قالا: ثنا الأصم، ثنا عباس الدوري، ثنا علي بن بحر القطان، ثنا هاشم بن يوسف، ثنا معمر، ثنا ثابت وسليمان التيمي عن أنس أن رسول الله ﷺ نظر قبل العراق والشام واليمن - لا أدري بأيتهن بدأ - ثم قال: « اللهم أقبل بقلوبهم إلى طاعتك، وحط من أوزارهم ».
ثم رواه عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصغاني، عن علي بن بحر بن سري فذكر بمعناه.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا عمران القطان عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت قال: نظر رسول الله ﷺ قبل اليمن فقال: « اللهم أقبل بقلوبهم ».
ثم نظر قبل الشام فقال: « اللهم أقبل بقلوبهم ».
ثم نظر قبل العراق فقال: « اللهم أقبل بقلوبهم، وبارك لنا في صاعنا ومدنا ».
وهكذا وقع الأمر: أسلم أهل اليمن قبل أهل الشام، ثم كان الخير والبركة قبل العراق، ووعد أهل الشام بالدوام على الهداية والقيام بنصرة الدين إلى آخر الأمر.
وروى أحمد في مسنده: « لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق ».