البداية والنهاية/الجزء السادس/باب المسائل التي سئل عنها رسول الله فأجاب عنها بما يطابق الحق الموافق لها في الكتب الموروثة عن الأنبياء
قد ذكرنا في أول البعثة ما تعنتت به قريش وبعثت إلى يهود المدينة يسألونهم عن أشياء يسألون عنها رسول الله ﷺ.
فقالوا: سلوه عن الروح، وعن أقوام ذهبوا في الدهر فلا يدرى ما صنعوا، وعن رجل طواف في الأرض بلغ المشارق والمغارب.
فلما رجعوا سألوا عن ذلك رسول الله ﷺ فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } [الإسراء: 85] .
وأنزل سورة الكهف يشرح فيها خبر الفتية الذين فارقوا دين قومهم وآمنوا بالله العزيز الحميد، وأفردوه بالعبادة واعتزلوا قومهم، ونزلوا غارا وهو الكهف فناموا فيه ثم أيقظهم الله بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين،
وكان من أمرهم ما قص الله علينا في كتابه العزيز، ثم قص خبر الرجلين المؤمن والكافر وما كان من أمرهما، ثم ذكر خبر موسى والخضر وما جرى لهما من الحكم والمواعظ ثم قال: { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا } [الكهف: 83] .
ثم شرح ثم ذكر خبره وما وصل إليه من المشارق والمغارب وما عمل من المصالح في العالم، وهذا الإخبار هو الواقع في الواقع، وإنما يوافقه من الكتب التي بأيدي أهل الكتاب ما كان منها حقا وأما ما كان محرفا مبدلا فذاك مردود، فإن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب ليبين للناس ما اختلفوا فيه من الأخبار والأحكام.
قال الله تعالى بعد ذكر التوراة والإنجيل: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } [المائدة: 48] .
وذكرنا في أول الهجرة قصة إسلام عبد الله بن سلام وأنه قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن انجفل، فلما رأيت وجهه قلت: إن وجهه ليس بوجه كذاب فكان أول ما سمعته يقول:
« أيها الناس أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ».
وثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث إسماعيل بن عطية وغيره عن حميد، عن أنس قصة سؤاله رسول الله ﷺ ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه وإلى أمه؟
فقال رسول الله ﷺ: « أخبرني بهن جبريل آنفا ».
ثم قال: « أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه ».
وقد رواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن أبي معشر، عن سعيد المقبري فذكر مسألة عبد الله بن سلام إلا أنه قال: فسأله عن السواد الذي في القمر بدل أشراط الساعة فذكر الحديث إلى أن قال: « وأما السواد الذي في القمر فإنهما كانا شمسين، فقال الله عز وجل: « وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل » فالسواد الذي رأيت هو المحو ».
فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
حديث آخر في معناه:
قال الحافظ البيهقي: أنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم المزكي، أنا أبو الحسن - أحمد بن محمد بن عيدروس -، ثنا عثمان بن سعيد، أنا الربيع بن نافع أبو توبة، ثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: أخبرني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان حدثه قال: كنت قائما عند رسول الله ﷺ فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها.
قال: لم تدفعني؟
قال: قلت: ألا تقول: يا رسول الله؟
قال: إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله.
فقال رسول الله ﷺ: « إن اسمي الذي سماني به أهلي محمد ».
فقال اليهودي: جئت أسألك.
فقال رسول الله ﷺ: « ينفعك شيء إن حدثتك؟ »
قال: أسمع بأذني، فنكت بعود معه.
فقال له: « سل ».
فقال له اليهودي: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟
فقال رسول الله - ﷺ -: « في الظلمة دون الجسر ».
قال: فمن أول الناس إجازة؟
فقال: « فقراء المهاجرين ».
قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟
قال: « زيادة كبد الحوت ».
قال: وما غذاؤهم على إثره؟
قال: « ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ».
قال: فما شرابهم عليه؟
قال: « من عين فيها تسمى سلسبيلا ».
قال: صدقت.
قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان.
قال: « ينفعك إن حدثتك؟ »
قال: أسمع بأذني.
قال: « جئت أسألك عن الولد؟
قال: « ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله ».
فقال اليهودي: صدقت، وإنك لنبي ثم انصرف.
فقال النبي ﷺ: « إنه سألني عنه وما أعلم شيئا منه حتى أتاني الله به ».
وهكذا رواه مسلم عن الحسن بن علي الحلواني، عن أبي توبة الربيع بن نافع به.
وهذا الرجل يحتمل أن يكون هو عبد الله بن سلام، ويحتمل أن يكون غيره، والله أعلم.
حديث آخر:
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، حدثني ابن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود يوما عند رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي؟
قال: « سلوني ما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على نبيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا لتتابعني على الإسلام ».
قالوا: لك ذلك.
قال: « سلوا عما شئتم ».
قالوا: أخبرنا عن أربع خلال ثم نسألك: أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا؟ وكيف تكون الأنثى حتى تكون الأنثى؟ وأخبرنا عن هذا النبي في النوم ومن وليك من الملائكة؟
قال: « فعليكم عهد الله لئن أنا حدثتكم لتتابعني ».
فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق.
قال: « أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل - يعقوب - مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه،
وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل وأحب الطعام إليه لحمان الإبل؟ ».
قالوا: اللهم نعم.
فقال رسول الله: « اللهم اشهد عليهم ».
قال: « فأنشدكم الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، وإن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله؟ »
قالوا: اللهم نعم.
قال رسول الله: « اللهم اشهد عليهم ».
قال: « وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ »
قالوا: اللهم نعم.
قال: « اللهم اشهد عليهم ».
قالوا: أنت الآن حدثنا عن وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك.
قال: « وليي جبريل عليه السلام ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه » فقالوا: فعندها نفارقك لو كان وليك غيره من الملائكة لبايعناك وصدقناك.
قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟
قالوا: إنه عدونا من الملائكة.
فأنزل الله عز وجل: { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله } [البقرة: 97] .
ونزلت: { فباءوا بغضب على غضب } [البقرة: 90] الآية.
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: ثنا يزيد، ثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآية: { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات }. [الإسراء: 101] .
فقال: لا تقل له شيئا، فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين فسألاه.
فقال النبي ﷺ: « لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة - أو
قال: - لا تفروا من الزحف - شعبة الشاك - وأنتم يا معشر يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت ».
قال: فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي.
قال: فما يمنعكما أن تتبعاني؟
قالا: إن داود - عليه السلام - دعا أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود.
وقد رواه الترمذي والنسائي، وابن ماجه وابن جرير، والحاكم والبيهقي من طرق عن شعبة به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
قلت: وفي رجاله من تكلم فيه وكأنه اشتبه على الراوي التسع الآيات بالعشر الكلمات، وذلك أن الوصايا التي أوصاها الله إلى موسى وكلمه بها ليلة القدر بعد ما خرجوا من ديار مصر وشعب بني إسرائيل حول الطور حضور، وهارون ومن معه وقوف على الطور أيضا، وحينئذ كلم الله موسى تكليما آمرا له بهذه العشر كلمات، وقد فسرت في هذا الحديث، وأما التسع الآيات فتلك دلائل وخوارق عادات أيد بها موسى عليه السلام وأظهرها الله على يديه بديار مصر وهي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والجدب، ونقص الثمرات، وقد بسطت القول على ذلك في التفسير بما فيه الكفاية، والله أعلم.