البداية والنهاية/الجزء السادس/فصل عبادته عليه السلام واجتهاده في ذلك
قالت عائشة: كان رسول الله ﷺ يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وكان لا تشاء تراه من الليل قائما إلا رأيته، ولا تشاء أن تراه نائما إلا رأيته.
قالت: وما زاد على رسول الله ﷺ في رمضان، وفي غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث.
قالت: وكان رسول الله ﷺ يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها.
قالت: ولقد كان يقوم حتى أرثي له من شدة قيامه.
وذكر ابن مسعود أنه صلى معه ليلة فقرأ في الركعة الأولى بالبقرة، والنساء، وآل عمران، ثم ركع قريبا من ذلك، ورفع نحوه، وسجد نحوه.
وعن أبي ذر أن رسول الله ﷺ قام ليلة حتى أصبح، يقرأ هذه الآية: « إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم » رواه أحمد.
وكل هذا في الصحيحين، وغيرهما من الصحاح، وموضع بسط هذه الأشياء في كتاب الأحكام الكبير.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله ﷺ قام حتى تفطرت قدماه.
فقيل له: أليس قد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
قال: « أفلا أكون عبدا شكورا ».
وتقدم في حديث سلام بن سليمان عن ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: « حبب إلي الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة ».
رواه أحمد والنسائي.
وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أخبرني علي بن زيد عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس أن جبريل قال لرسول الله ﷺ: قد حبب إليك الصلاة فخذ منها ما شئت.
وثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في شهر رمضان في حر شديد، وما فينا صائم إلا رسول الله ﷺ وعبد الله بن رواحة.
وفي الصحيحين من حديث منصور عن إبراهيم، عن علقمة قال: سألت عائشة هل كان رسول الله ﷺ يخص شيئا من الأيام؟
قالت: لا، كان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان رسول الله - ﷺ - يستطيع.
وثبت في الصحيحين من حديث أنس، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وعائشة أن رسول الله ﷺ كان يواصل، ونهى أصحابه عن الوصال وقال: « إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ».
والصحيح أن هذا الإطعام والسقيا معنويان، كما ورد في الحديث الذي رواه ابن عاصم عنه أن رسول الله -ﷺ - قال: « لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم ».
وما أحسن ما قال بعضهم:
لها أحاديث من ذكراك يشغلها * عن الشراب ويلهيها عن الزاد
وقال النضر بن شميل عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ».
وروى البخاري عن الفريابي، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: « إقرأ علي ».
فقلت: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟.
فقال: « إني أحب أن أسمعه من غيري ».
قال: فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا }. [النساء: 41] .
قال: « حسبك ».
فالتفت فإذا عيناه تذرفان.
وثبت في الصحيح أنه عليه السلام كان يجد التمرة على فراشه فيقول: « لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله ﷺ وجد تحت جنبه تمرة من الليل فأكلها، فلم ينم تلك الليلة.
فقال بعض نسائه: يا رسول الله أرقت الليلة؟
قال: « إني وجدت تحت جنبي تمرة فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر الصدقة فخشيت أن تكون منه »
تفرد به أحمد، وأسامة بن زيد - هو الليثي من رجال مسلم - والذي نعتقد أن هذه التمرة لم تكن من تمر الصدقة لعصمته عليه السلام، ولكن من كمال ورعه عليه السلام أرق تلك الليلة.
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: « والله إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بما أتقي ».
وفي الحديث الآخر أنه قال: « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ».
وقال حماد بن سلمة عن ثابت، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل.
وفي رواية: وفي صدره أزيز كأزيز الرحا من البكاء.
وروى البيهقي من طريق أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني: ثنا معاوية بن هشام عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله أراك شبت؟
فقال: « شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت ».
وفي رواية له عن أبي كريب، عن معاوية، عن هشام، عن شيبان، عن فراس، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أسرع إليك الشيب.
فقال: « شيبتني هود، وأخواتها: الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت ».