البداية والنهاية/الجزء السادس/فصل في مسيرة الأمراء من ذي القصة على ما عوهدوا عليه
وكان سيد الأمراء ورأس الشجعان الصناديد أبو سليمان خالد بن الوليد.
روى الإمام أحمد من طريق وحشي بن حرب أن أبا بكر الصديق لما عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين ».
ولما توجه خالد من ذي القصة وفارقه الصديق واعده أنه سيلقاه من ناحية خيبر بمن معه من الأمراء - وأظهروا ذلك ليرعبوا الأعراب - وأمره أن يذهب أولا إلى طليحة الأسدي، ثم يذهب بعده إلى بني تميم، وكان طليحة بن خويلد في قومه بني أسد وفي غطفان، وانضم إليهم بنو عبس وذيبان، وبعث إلى بني جديلة، والغوث، وطيء يستدعيهم إليه، فبعثوا أقواما منهم بين أيديهم ليلحقوا على أثرهم سريعا، وكان الصديق قد بعث عدي بن حاتم قبل خالد بن الوليد، وقال له: أدرك قومك لا يلحقوا بطليحة فيكون دمارهم.
فذهب عدي إلى قومه بني طيء فأمرهم أن يبايعوا الصديق وأن يراجعوا أمر الله، فقالوا: لا نبايع أبا الفضل أبدا - يعنون أبا بكر رضي الله عنه -.
فقال: والله ليأتينكم جيش فلا يزالون يقاتلونكم حتى تعلموا أنه أبو الفحل الأكبر، ولم يزل عدي يفتل لهم في الذروة والغارب حتى لانوا، وجاء خالد في الجنود وعلى مقدمة الأنصار الذين معه ثابت بن قيس بن شماس، وبعث بين يديه ثابت بن أقرم، وعكاشة بن محصن، طليعة فتلقاهما طليحة وأخوه سلمة فيمن معهما، فلما وجدا ثابتا وعكاشة تبارزوا فقتل عكاشة جبال بن طليحة، وقيل: بل كان قتل جبالا قبل ذلك، وأخذ ما معه، وحمل عليه طليحة فقتله، وقتل هو وأخوه سلمة ثابت بن أقرم، وجاء خالد بمن معه فوجدوهما صريعين فشق ذلك على المسلمين، وقد قال طليحة في ذلك:
عشية غادرت ابن أقرم ثاويا * وعكاشة العمي تحت مجال
أقمت له صدر الحمالة إنها * معودة قبل الكماة نزال
فيوم تراها في الجلال مصونة * ويوم تراها في ظلال عوالي
وإن يك أولاد أصبن ونسوة * فلم يذهبوا فرغا بقتل حبال
ومال خالد إلى بني طيء، فخرج إليه عدي بن حاتم فقال: أنظرني ثلاثة أيام فإنهم قد استنظروني حتى يبعثوا إلى من تعجل منهم إلى طليحة حتى يرجعوا إليهم، فإنهم يخشون إن تابعوك أن يقتل طليحة من سار إليه منهم، وهذا أحب إليك من أن يعجلهم إلى النار، فلما كان بعد ثلاث، جاءه عدي في خمسمائة مقاتل ممن راجع الحق فانضافو إلى جيش خالد، وقصد خالد بني جديلة فقال له: يا خالد أجلني أياما حتى آتيهم فلعل الله أن ينقذهم كما أنقذ طيئا، فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى تابعوه، فجاء خالدا بإسلامهم ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب، فكان عدي خير مولود وأعظمه بركة على قومه - رضي الله عنهم -.
قالوا: ثم سار خالد حتى نزل بأجأ وسلمى، وعبى جيشه هنالك والتقى مع طليحة الأسدي بمكان يقال له: بزاخة، ووقفت أحياء كثيرة من الأعراب ينظرون على من تكون الدائرة، وجاء طليحة فيمن معه من قومه ومن التف معهم وانضاف إليهم وقد حضر معه عيينة بن حصن في سبعمائة من قومه بني فزارة، واصطف الناس وجلس طليحة ملتفا في كساء له يتنبأ لهم، ينظر ما يوحى إليه فيما يزعم، وجعل عيينة يقاتل ما يقاتل حتى إذا ضجر من القتال يجيء إلى طليحة وهو ملتف في كسائه فيقول: أجاءك جبريل؟
فيقول: لا، فيرجع فيقاتل، ثم يرجع فيقول له مثل ذلك، ويرد عليه مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قال له: هل جاءك جبريل؟
قال: نعم.
قال: فما قال لك؟
قال: قال لي: إن لك رحاء كرحاه، وحديثا لا تنساه.
قال: يقول عيينة: أظن أن قد علم الله سيكون لك حديث لا تنساه.
ثم قال: يا بني فزارة انصرفوا، وانهزم وانهزم الناس عن طليحة، فلما جاءه المسلمون ركب على فرس كان قد أعدها له، وأركب امرأته النوار على بعير له، ثم انهزم بها إلى الشام، وتفرق جمعه، وقد قتل الله طائفة ممن كان معه، فلما أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع، قالت بنو عامر وسليم وهوازن: ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله ورسوله ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا.
قلت: وقد كان طليحة الأسدي ارتد في حياة النبي ﷺ فلما مات رسول الله ﷺ قام بمؤازرته عيينة بن حصن من بدر وارتد عن الإسلام، وقال لقومه: والله لنبي من بني أسد، أحب إلي من نبي من بني هاشم، وقد مات محمد وهذا طليحة فاتبعوه، فوافق قومه بنو فزارة على ذلك، فلما كسرهما خالد هرب طليحة بامرأته إلى الشام فنزل على بني كلب، وأسر خالد عيينة بن حصن وبعث به إلى المدينة مجموعة يداه إلى عنقه فدخل المدينة وهو كذلك، فجعل الولدان والغلمان يطعنونه بأيديهم ويقولون: أي عدو الله ارتددت عن الإسلام؟
فيقول: والله ما كنت آمنت قط، فلما وقف بين يدي الصديق استتابه وحقن دمه، ثم حسن إسلامه بعد ذلك، وكذلك من علي قرة بن هبيرة وكان أحد الأمراء مع طليحة فأسره مع عيينة، وأما طليحة فإنه راجع الإسلام بعد ذلك أيضا، وذهب إلى مكة معتمرا أيام الصديق، واستحيى أن يواجهه مدة حياته، وقد رجع فشهد القتال مع خالد، وكتب الصديق إلى خالد أن استشره في الحرب ولا تؤمره - يعني: معاملته له بنقيض ما كان قصده من الرياسة في الباطن - وهذا من فقه الصديق - رضي الله عنه وأرضاه -.
وقد قال خالد بن الوليد لبعض أصحاب طليحة ممن أسلم وحسن إسلامه: أخبرنا عما كان يقول لكم طليحة من الوحي؟
فقال: إنه كان يقول: الحمام واليمام، والصرد والصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات السمجة.
وقد كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنه كسر طليحة ومن كان في صفه وقام بنصره، فكتب إليه ليزدك ما أنعم الله به خيرا، واتق الله في أمرك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جد في أمرك ولا تلن، ولا تظفر بأحد من المشركين قتل من المسلمين إلا نكلت به، ومن أخذت ممن حاد الله أو ضاده ممن بري أن في ذلك صلاحا فاقتله، فأقام خالد ببزاخة شهرا يصعد فيها ويصوب ويرجع إليها في طلب الذين وصاه بسبيهم الصديق فجعل يتردد في طلب هؤلاء شهرا يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدوا، فمنهم من حرقه بالنار، ومنهم من رضخه بالحجارة، ومنهم من رمى به من شواهق الجبال، كل هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من مرتدة العرب رضي الله عنه.
وقال الثوري عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: لما قدم وفد بزاخة أسد وغطفان على أبي بكر يسألونه الصلح، خيرهم أبو بكر بين حرب مجلية أو حطة مخزية.
فقالوا: يا خليفة رسول الله أما الحرب المجلية فقد عرفناها، فما الحطة المخزية؟
قال: تؤخذ منكم الحلقة والكراع، وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة نبيه والمؤمنين أمرا يعذرونكم به، وتؤدون ما أصبتم منا، ولا نؤدي ما أصبنا منكم، وتشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، وتدون قتلانا ولا ندي قتلاكم.
فقال عمر: أما قولك تدون قتلانا فإن قتلانا قتلوا على أمر الله لا ديات لهم، فامتنع عمر وقال عمر في الثاني: نعم ما رأيت.
ورواه البخاري من حديث الثوري بسنده مختصرا.
وقعة أخرى:
كان قد اجتمع طائفة كثيرة من الفلال يوم بزاخة من أصحاب طليحة من بني غطفان، فاجتمعوا إلى امرأة يقال لها: أم زمل سلمة بنت ملك بن حذيفة - وكانت من سيدات العرب - كأمها أم قرفة، وكان يضرب بأمها المثل في الشرف لكثرة أولادها وعزة قبيلتها وبيتها، فلما اجتمعوا إليها ذمرتهم لقتال خالد، فهاجوا لذلك، وناشب إليهم آخرون من بني سليم وطيء وهوازن وأسد، فصاروا جيشا كثيفا، وتفحل أمر هذه المرأة، فلما سمع بهم خالد بن الوليد سار إليهم، واقتتلوا قتالا شديدا وهي راكبة على جمل أمها الذي كان يقال له: من يمس جملها فله مائة من الإبل وذلك لعزها، فهزمهم خالد وعقرجملها وقتلها، وبعث بالفتح إلى الصديق رضي الله عنه.