البداية والنهاية/الجزء السادس/فصل فيما يذكر من صفاته عليه السلام في الكتب المأثورة عن الأنبياء الأقدمين
قد أسلفنا طرفا صالحا من ذلك في البشارات قبل مولده، ونحن نذكر هنا غررا من ذلك.
فقد روى البخاري والبيهقي واللفظ له من حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة؟
فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في الفرقان: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا، ومبشرا، ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
قال عطاء بن يسار: ثم لقيت كعبا الحبر فسألته فما اختلف في حرف، إلا أن كعبا قال: أعينا عمويا، وآذانا صمومي، وقلوبا غلوفا.
ورواه البخاري أيضا عن عبد الله غير منسوب، قيل: هو ابن رجاء، وقيل: عبد الله بن صالح، وهو الأرجح، عن عبد العزيز ابن أبي سلمة الماجشون، عن هلال بن علي به.
قال البخاري: وقال سعيد عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام: كذا علقه البخاري.
وقد روى البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح - هو عبد الله بن صالح كاتب الليث - حدثني خالد بن يزيد عن سعيد ابن أبي هلال، عن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن ابن سلام أنه كان يقول: إنا لنجد صفة رسول الله ﷺ: « إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا » أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويغفر ويتجاوز، وليس أقبضه حتى يقيم الملة العوجاء، بأن تشهد « أن لا إله إلا الله » يفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
قال عطاء بن يسار: وأخبرني الليثي أنه سمع كعب الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلام.
وقد روي عن عبد الله بن سلام من وجه آخر: فقال الترمذي: حدثنا زيد بن أخرم الطائي البصري، ثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة، حدثني أبو مودود المدني، ثنا عثمان الضحاك عن محمد بن يوسف، عن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال: مكتوب في التوراة: محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه.
فقال أبو مودود: قد بقي في البيت موضع قبر.
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن، هكذا قال الضحاك، والمعروف الضحاك بن عثمان المدني، وهكذا حكى شيخنا الحافظ المزي في كتابه الأطراف، عن ابن عساكر أنه قال مثل قول الترمذي ثم قال: وهو شيخ آخر أقدم من الضحاك بن عثمان، ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه فيمن اسمه عثمان، فقد روى هذا عن عبد الله بن سلام - وهو من أئمة أهل الكتاب ممن آمن -، وعبد الله بن عمرو بن العاص وقد كان له اطلاع على ذلك من جهة زاملتين كان أصابهما يوم اليرموك، فكان يحدث منهما عن أهل الكتاب وعن كعب الأحبار، وكان بصيرا بأقوال المتقدمين على ما فيها من خلط وغلط وتحريف وتبديل، فكان يقولها بما فيها من غير نقد.
وربما أحسن بعض السلف بها الظن فنقلها عنه مسلمة، وفي ذلك من المخالفة لبعض ما بأيدينا من الحق جملة كثيرة، لكن لا يتفطن لها كثير من الناس.
ثم ليعلم أن كثيرا من السلف يطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب المتلوة عندهم، أو أعم من ذلك، كما أن لفظ القرآن يطلق على كتابنا خصوصا ويراد به غيره، كما في الصحيح خفف على داود القرآن فكان يأمر بداوبه فتسرح فيقرأ القرآن مقدار ما يفرغ، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقال البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل عن أم الدرداء قالت: قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة رسول الله ﷺ في التوراة؟
قال: نجده محمد رسول الله اسمه المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينا عميا، ويسمع به آذانا وقرا، ويقيم به ألسنا معوجة، حتى تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه.
وبه عن يونس بن بكير، عن يونس ابن عمرو، عن العيزار بن حريث، عن عائشة أن رسول الله ﷺ مكتوب في الإنجيل: لا فظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها بل يعفو ويصفح.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا قيس البجلي، حدثنا سلام بن مسكين عن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم: « جد في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع، يا ابن الطاهر البتول، إني خلقتك من غير فحل، وجعلتك آية للعالمين، فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، فبين لأهل سوران أني أنا الحق القائم الذي لا أزول، صدقوا بالنبي العربي، صاحب الجمل والمدرعة، والعمامة، والنعلين، والهراوة، الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، ريحه المسك ينفخ منه، كأن عنقه إبريق فضة، وكأن الذهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب، ليس على صدره ولا بطنه شعر غيره، شثن الكفين والقدم، إذا جاء مع الناس غمرهم، وإذا مشى كأنما ينقلع من الصخر، وينحدر في صبب، ذو النسل القليل.
وروى الحافظ البيهقي بسنده عن وهب بن منبه اليمامي قال: إن الله - عز وجل - لما قرب موسى نجيا.
قال: رب إني أجد في التوراة أمة خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، فاجعلهم أمتي؟
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: رب إني أجد في التوراة أمة هم خير الأمم الآخرون من الأمم، السابقون يوم القيامة فاجعلهم أمتي.
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: يا رب إني أجد في التوراة أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، وكان من قبلهم يقرءون كتبهم نظرا ولا يحفظونها، فاجعلهم أمتي.
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: رب إني أجد في التوراة أمة يؤمنون بالكتاب الأول والآخر، ويقاتلون رؤوس الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي.
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: رب إني أجد في التوراة أمة يأكلون صدقاتهم في بطونهم، وكان من قبلهم إذا أخرج صدقته بعث الله عليها نارا فأكلتها، فإن لم تقبل لا تقربها النار، فاجعلهم أمتي.
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: رب إني أجد في التوراة أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، وإذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها بها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فاجعلهم أمتي.
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: رب إني أجد في التوراة أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، فاجعلهم أمتي.
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: وذكر وهب بن منبه في قصة داود عليه السلام وما أوحي إليه في الزبور: « يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، صادقا سيدا، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أمته مرحومة أعطيهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم، يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا آخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إن استغفروني منه غفرته لهم، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم جعلته لهم أضعاف مضاعفة، ولهم في المدخر عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم، فإما أن يروه عاجلا، وإما أن أصرف عنهم سوءا، وإما أن أدخره لهم في الآخرة.
يا داود! من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذب محمدا، أو كذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صبا، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار ».
وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا الشريف أبو الفتح العمري، ثنا عبد الرحمن ابن أبي شريح الهروي، ثنا يحيى بن محمد بن صاعد، ثنا عبد الله بن شبيب أبو سعيد الربعي، حدثني محمد بن عمر بن سعيد - يعني: ابن محمد بن جبير بن مطعم - قال: حدثتني أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيها، عن أبيه قال: سمعت أبي جبير ابن مطعم يقول: لما بعث الله نبيه ﷺ وظهر أمره بمكة، خرجت إلى الشام فلما كنت ببصرى أتتنى جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن الحرام أنت؟
قلت: نعم!
قالوا: فتعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟
قلت: نعم.
قال: فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل وصور.
فقالوا لي: أنظر هل ترى صورة هذا النبي الذي بعث فيكم؟
فنظرت، فلم أر صورته.
قلت: لا أرى صورته، فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير فإذا فيه تماثيل وصور أكثر مما في ذلك الدير.
فقالوا لي: انظر هل ترى صورته.
فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله ﷺ وصورته، وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته، وهو آخذ بعقب رسول الله ﷺ.
فقالوا لي: هل ترى صفته؟
قلت: نعم!
قالوا: هو هذا، وأشاروا إلى صفة رسول الله ﷺ.
قلت: اللهم نعم، أشهد أنه هو.
قالوا: أتعرف هذا الذي آخذ بعقبه؟
قلت: نعم!
قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده.
ورواه البخاري في التاريخ: عن محمد - غير منسوب -، عن محمد بن عمر هذا، بإسناده فذكره مختصرا، وعنده فقالوا: إنه لم يكن نبي إلا بعده نبي، إلا هذا النبي.
وقد ذكرنا في كتابنا التفسير عند قوله تعالى في سورة الأعراف: « الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر » الآية.
ذكرنا ما أورده البيهقي وغيره من طريق أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فذكر اجتماعهم به، وأن عرفته تنغصت حين ذكروا الله - عز وجل - فأنزلهم في دار ضيافته، ثم استدعاهم بعد ثلاث، فدعا بشيء نحو الربعة العظيمة فيها بيوت صغار عليها أبواب وإذا فيها صور الأنبياء ممثلة في قطع من حرير من آدم إلى محمد - صلوات الله عليهم أجمعين -، فجعل يخرج لهم واحدا واحدا، ويخبرهم عنه، وأخرج لهم صورة آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم تعجل إخراج صورة رسول الله ﷺ.
قال: ثم فتح بابا آخر فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا والله رسول الله ﷺ.
قال: أتعرفون هذا؟
قلنا: نعم، محمد رسول الله.
قال: وبكينا.
قال: والله يعلم أنه قام قائما، ثم جلس وقال: والله إنه لهو؟
قلنا: نعم إنه لهو كما تنظر إليه.
فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عجلته لكم لأنظر ما عندكم، ثم ذكر تمام الحديث في إخراجه بقية صور الأنبياء، وتعريفه إياهما بهم.
وقال في آخره: قلنا له: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها ما على صورت عليه الأنبياء - عليهم السلام -، لأنا رأينا صورة نبينا - عليه السلام - مثله.
فقال: إن آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكانت في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال.
ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وأني كنت عبدا لأشركم ملكة حتى أموت.
قال: ثم أجازنا، فأحسن جائزتنا وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثناه بما رأينا، وما قال لنا، وما أجازنا.
قال: فبكى أبو بكر فقال: مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل ثم قال: أخبرنا رسول الله ﷺ أنهم واليهود يجدون نعت محمد ﷺ عندهم.
وقال الواقدي: حدثني علي بن عيسى الحكيمي عن أبيه، عن عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه، وأشهد برسالته، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك.
قلت: هلم.
قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قوم منها ويكرهون ما جاء به، حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من سأل من اليهود، والنصارى، والمجوس يقولون: هذا الدين وذاك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبق نبي غيره.
قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت النبي ﷺ قول زيد بن عمرو بن نفيل، وإقرائه منه السلام، فرد عليه السلام، وترحم عليه وقال: « قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا ».