البداية والنهاية/الجزء السادس/ذكر من توفي في هذه السنة
أعني سنة إحدى عشرة من الأعيان والمشاهير، وذكرنا معهم من قتل باليمامة لأنها كانت في سنة إحدى عشرة على قول بعضهم، وإن كان المشهور أنها في ربيع سنة اثنتي عشرة.
توفي فيها رسول الله ﷺ محمد بن عبد الله، سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وذلك في ربيعها الأول يوم الإثنين ثاني عشره على المشهور كما قدمنا بيانه.
وبعده بستة أشهر على الأشهر توفيت ابنته فاطمة رضي الله عنها وتكنى بأم أبيها، وقد كان - صلوات الله وسلامه عليه - عهد إليها أنها أول أهله لحوقا به.
وقال لها مع ذلك: « أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة ».
وكانت أصغر بنات النبي ﷺ على المشهور ولم يبق بعده سواها، فلهذا عظم أجرها لأنها أصيبت به عليه السلام ويقال: إنها كانت توأما لعبد الله ابن رسول الله ﷺ وليس له عليه السلام نسل إلا من جهتها.
قال الزبير ابن بكار: وقد روي أنه عليه السلام ليلة زفاف علي على فاطمة توضأ وصب عليه وعلى فاطمة ودعا لهما أن يبارك في نسلهما، وقد تزوجها ابن عمها علي ابن أبي طالب بعد الهجرة، وذلك بعد بدر، وقيل: بعد أحد، وقيل: بعد تزويج رسول الله ﷺ عائشة بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد ذلك بسبعة أشهر ونصف، فأصدقها درعه الحطمية وقيمتها أربعمائة درهم، وكان عمرها إذ ذاك خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، وكان علي أسن منها بست سنين، وقد وردت أحاديث موضوعة في تزويج علي بفاطمة لم نذكرها رغبة عنها، فولدت له حسنا، وحسينا، ومحسنا، وأم كلثوم، التي تزوج بها عمر بن الخطاب بعد ذلك.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، أنا عطاء بن السائب عن أبيه، عن علي أن رسول الله لما زوجه فاطمة بعث معها بخميلة، ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحى، وسقاء، وجرتين.
فقال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت حتى لقد اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه.
فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى محلت يداي، فأتت النبي ﷺ.
فقال: « ما جاء بك أي بنية؟ »
قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت.
فقال: ما فعلت؟
قالت: استحييت أن أسأله، فأتياه جميعا فقال علي: يا رسول الله والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري.
وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى محلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا.
فقال: « والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم ».
فرجعا، فأتاهما رسول الله ﷺ وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطت أقدامهما تكشفت رؤوسهما فثارا.
فقال: « مكانكما » ثم قال: « ألا أخبركم بخير مما سألتماني؟ »
قالا: بلى.
قال: « كلمات علمنيهن جبريل تسبحان الله في دبر كل صلاة عشرا، وتحمدان عشرا، وتكبران عشرا، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين ».
قال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله ﷺ.
قال: فقال له ابن الكوا: ولا ليلة صفين؟
فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق، نعم ولا ليلة صفين.
وآخر هذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه، فقد كانت فاطمة صابرة مع علي على جهد العيش وضيقه، ولم يتزوج عليها حتى ماتت، ولكنه أراد أن يتزوج في وقت بدرة بنت أبي جهل فأنف رسول الله ﷺ من ذلك وخطب الناس فقال: « لا أحرم حلالا ولا أحل حراما، وإن فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، وإني أخشى أن تفتن عن دمها، ولكن إن أحب ابن أبي طالب أن يطلقها ويتزوج بنت أبي جهل فإنه والله لا تجتمع بنت نبي الله وبنت عدو الله تحت رجل واحد أبدا ».
قال: فترك علي الخطبة.
ولما مات رسول الله ﷺ فسألت من أبي بكر الميراث فأخبرها أن رسول الله ﷺ قال: « لا نورث ما تركنا فهو صدقة » فسألت أن يكون زوجها ناظرا على هذه الصدقة فأبى ذلك وقال: إني أعول من كان رسول الله يعول، وإني أخشى إن تركت شيئا مما كان رسول الله ﷺ يفعله أن أضل، ووالله لقرابة رسول الله ﷺ أحب إلي أن أصل من قرابتي، فكأنها وجدت في نفسها من ذلك فلم تزل تبغضه مدة حياتها، فلما مرضت جاءها الصديق فدخل عليها فجعل يترضاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، فرضيت رضي الله عنهما.
رواه البيهقي من طريق إسماعيل ابن أبي خالد عن الشعبي، ثم قال: وهذا مرسل حسن بإسناد صحيح.
ولما حضرتها الوفاة أوصت إلى أسماء بنت عميس - امرأة الصديق - أن تغسلها فغسلتها هي وعلي ابن أبي طالب وسلمى أم رافع، قيل: والعباس بن عبد المطلب، وما روي من أنها اغتسلت قبل وفاتها وأوصت أن لا تغسل بعد ذلك فضعيف لا يعول عليه، والله أعلم.
وكان الذي صلى عليها زوجها علي، وقيل: عمها العباس وقيل: أبو بكر الصديق فالله أعلم.
ودفنت ليلا وذلك ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة.
وقيل: إنها توفيت بعده - عليه السلام بشهرين.
وقيل: بسبعين يوما.
وقيل: بخمسة وسبعين يوما.
وقيل: بثلاثة أشهر.
وقيل: بثمانية أشهر، والصحيح ما ثبت في الصحيح من طريق الزهري عن عروة، عن عائشة أن فاطمة عاشت بعد النبي ﷺ ستة أشهر، ودفنت ليلا.
ويقال: إنها لم تضحك في مدة بقائها بعده عليه السلام وأنها كانت تذوب من حزنها عليه، وشوقها إليه، واختلف في مقدار سنها يومئذ، فقيل: سبع وقيل: ثمان وقيل: تسع وعشرون، وقيل: ثلاثون، وقيل: خمس وثلاثون وهذا بعيد وما قبله أقرب منه، والله أعلم.
ودفنت بالبقيع وهي أول من ستر سريرها، وقد ثبت في الصحيح أن عليا كان له فرجة من الناس حياة فاطمة، فلما ماتت التمس مبايعة الصديق فبايعه كما هو مروي في البخاري، وهذه البيعة لإزالة ما كان وقع من وحشة حصلت بسبب الميراث، ولا ينفي ما ثبت من البيعة المتقدمة عليها كما قررنا، والله أعلم.
وممن توفي هذه السنة أم أيمن:
بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان مولاة رسول الله ﷺ ورثها من أبيه، وقيل: من أمه، وحضنته وهو صغير وكذلك بعد ذلك، وقد أعتقها وزوجها عبيدا فولدت منه ابنها أيمن فعرفت به، ثم تزوجها زيد بن حارثة مولى رسول الله فولدت أسامة بن زيد، وقد هاجرت الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، وكانت من الصالحات، وكان عليه السلام يزورها في بيتها ويقول: « هي أمي بعد أمي ».
وكذلك كان أبو بكر وعمر يزورانها في بيتها كما تقدم ذلك في ذكر الموالي، وقد توفيت بعده عليه السلام بخمسة أشهر، وقيل: بستة أشهر.
ومنهم ثابت بن أقرم بن ثعلبة:
ابن عدي بن العجلان البلوي حليف الأنصار، شهد بدرا وما بعدها، وكان ممن حضر مؤتة، فلما قتل عبد الله بن رواحة دفعت الراية إليه فسلمها لخالد بن الوليد وقال: أنت أعلم بالقتال مني.
وقد تقدم أن طليحة الأسدي قتله، وقتل معه عكاشة بن محصن وذلك حين يقول طليحة:
عشية غادرت ابن أقرم ساويا * وعكاشة الغنمي تحت مجال
وذلك في سنة إحدى عشرة، وقيل: سنة اثنتي عشرة.
وعن عروة أنه قتل في حياة النبي ﷺ وهذا غريب، والصحيح الأول، والله أعلم.
ومنهم ثابت بن قيس بن شماس:
الأنصاري الخزرجي أبو محمد خطيب الأنصار، ويقال له أيضا: خطيب النبي ﷺ وقد ثبت عنه عليه السلام أنه بشره بالشهادة وقد تقدم الحديث في دلائل النبوة، فقتل يوم اليمامة شهيدا وكانت راية الأنصار يومئذ بيده، وروى الترمذي بإسناد على شرط مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: « نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس ».
وقال أبو القاسم الطبراني: ثنا أحمد بن المعلى الدمشقي، ثنا سليمان بن عبد الرحمن، ثنا الوليد بن مسلم، حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عطاء الخراساني قال: قدمت المدينة فسألت عمن يحدثني بحديث ثابت بن قيس بن شماس فأرشدوني إلى ابنته فسألتها، فقالت: سمعت أبي يقول: لما أنزل على رسول الله ﷺ: « إن الله لا يحب كل مختال فخور » اشتدت على ثابت، وغلق عليه بابه وطفق يبكي، فأخبر رسول الله فسأله فأخبره بما كبر عليه منها.
وقال أنا رجل أحب الجمال وأنا أسود قومي.
فقال: « إنك لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير، ويدخلك الله الجنة ».
فلما أنزل على رسول الله: { ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول } [الحجرات: 2] .
فعل مثل ذلك فأخبر النبي ﷺ فأرسل إليه فأخبره بما كبر عليه منها، وأنه جهير الصوت وأنه يتخوف أن يكون ممن حبط عمله، فقال: « إنك لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا ويدخلك الله الجنة ».
فلما استنفر أبو بكر المسلمين إلى أهل الردة واليمامة ومسيلمة الكذاب سار ثابت فيمن سار فلما لقوا مسيلمة وبني حنيفة هزموا المسلمين ثلاث مرات، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله ﷺ فجعلا لأنفسهما حفرة فدخلا فيها فقاتلا حتى قتلا، قالت: ورأى رجل من المسلمين ثابت بن قيس في منامه، فقال: إني لما قتلت بالأمس مر بي رجل من المسلمين فانتزع مني درعا نفيسه ومنزله في أقصى العسكر وعند منزله فرس بتن في طوله، وقد أكفأ على الدرع برمة وجعل فوق البرمة رحلا وائت خالد بن الوليد فليبعث إلي درعي فليأخذها، فإذا قدمت على خليفة رسول الله فأعلمه أن علي من الدين كذا ولي من المال كذا، وفلان من رقيقي عتيق، وإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه.
قال: فأتى خالد فوجه إلى الدرع فوجدها كما ذكر.
وقدم على أبي بكر فأخبره فأنفذ أبو بكر وصيته بعد موته، فلا نعلم أحدا جازت وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس بن شماس، ولهذا الحديث وهذه القصة شواهد أخر، والحديث المتعلق بقوله: « لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي » في صحيح مسلم عن أنس.
وقال حماد بن سلمة: عن ثابت، عن أنس أن ثابت بن قيس بن شماس جاء يوم اليمامة وقد تحنط ونشر أكفانه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، فقتل، وكانت له درع فسرقت فرآه رجل فيما يرى النائم: فقال إن درعي في قدر تحت الكانون في مكان كذا وكذا، وأوصاه بوصايا فطلبوا الدرع فوجدوها وأنفذوا الوصايا.
رواه الطبراني أيضا.
ومنهم حزن ابن أبي وهب:
ابن عمرو بن عامر بن عمران المخزومي له هجرة، ويقال: أسلم عام الفتح، وهو جد سعيد بن المسيب، أراد رسول الله ﷺ أن يسميه سهلا فامتنع، وقال: لا أغير اسما سمانيه أبواي، فلم تزل الحزونة فينا، استشهد يوم اليمامة، وقتل معه أيضا ابناه عبد الرحمن، ووهب، وابن ابنه حكيم بن وهب بن حزن، وممن استشهد في هذه السنة داذويه الفارسي أحد أمراء اليمن الذين قتلوا الأسود العنسي، قتله غيلة قيس بن مكشوح حين ارتد قبل أن يرجع قيس إلى الإسلام، فلما عنفه الصديق على قتله أنكر ذلك، فقبل علانيته وإسلامه.
ومنهم زيد بن الخطاب:
ابن نفيل القرشي العدوي أبو محمد وهو - أخو عمر بن الخطاب لأبيه - وكان زيد أكبر من عمر أسلم قديما وشهد بدرا وما بعدها، وقد آخى رسول الله ﷺ بينه وبين معن بن عدي الأنصاري، وقد قتلا جميعا باليمامة، وقد كانت راية المهاجرين يومئذ بيده فلم يزل يتقدم بها حتى قتل فسقطت، فأخذها سالم مولى أبي حذيفة، وقد قتل زيد يومئذ الرجال بن عنفوة واسمه نهار، وكان الرجال هذا قد أسلم وقرأ البقرة ثم ارتد ورجع فصدق مسيلمة وشهد له بالرسالة فحصل به فتنة عظيمة، فكانت وفاته على يد زيد - رضي الله عن زيد -.
ثم قتل زيدا رجل يقال له: أبو مريم الحنفي وقد أسلم بعد ذلك.
وقال لعمر: يا أمير المؤمنين إن الله أكرم زيدا بيدي ولم يهني على يده.
وقيل: إنما قتله سلمة بن صبيح ابن عم أبي مريم هذا، ورجحه أبو عمر وقال: لأن عمر استقضى أبا مريم وهذا لا يدل على نفي ما تقدم والله أعلم.
وقد قال عمر لما بلغه مقتل زيد بن الخطاب: سبقني إلى الحسنيين أسلم قبلي، واستشهد قبلي.
وقال لمتمم بن نويرة حين جعل يرثي أخاه مالكا بتلك الأبيات المتقدم ذكرها: لو كنت أحسن الشعر لقلت كما قلت.
فقال له متمم: لو أن أخي ذهب على ما ذهب عليه أخوك ما حزنت عليه.
فقال له عمر: ما عزاني أحد بمثل ما عزيتني به.
ومع هذا كان عمر يقول: ما هبت الصبا إلا ذكرتني زيد بن الخطاب رضي الله عنه.
ومنهم سالم بن عبيد:
ويقال: ابن يعمل مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وإنما كان معتقا لزوجته ثبيتة بنت يعاد، وقد تبناه أبو حنيفة وزوجه بابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة، فلما أنزل الله « ادعوهم لآبائهم » جاءت امرأة أبي حذيفة سهلة بنت سهل بن عمرو فقالت: يا رسول الله إن سالما يدخل علي وأنا غفل فأمرها أن ترضعه فأرضعته فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، وكان من سادات المسلمين أسلم قديما، وهاجر إلى المدينة قبل رسول الله ﷺ فكان يصلي بمن بها من المهاجرين، وفيهم عمر بن الخطاب لكثرة حفظه القرآن، وشهد بدرا وما بعدها، وهو أحد الأربعة الذين قال فيهم رسول الله ﷺ: « استقرئوا القرآن من أربعة » فذكر منهم سالما مولى أبي حذيفة.
وروي عن عمر أنه قال لما احتضر: لو كان سالم حيا لما جعلتها شورى.
قال أبو عمر بن عبد البر: معناه: أنه كان يصدر عن رأيه فيمن يوليه الخلافة، ولما أخذ الراية يوم اليمامة بعد مقتل زيد بن الخطاب قال له المهاجرون: أتخشى أن نؤتى من قبلك؟
فقال: بئس حامل القرآن أنا إذا. انقطعت يده اليمنى فأخذها بيساره، فقطعت فاحتضنها وهو يقول: « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل » « وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ».
فلما صرع قال لأصحابه: ما فعل أبو حذيفة؟
قالوا: قتل.
قال: فما فعل فلان؟
قالوا: قتل.
قال: فأضجعوني بينهما، وقد بعث عمر بميراثه إلى مولاته التي أعتقته بثينة فردته وقالت: إنما أعتقته سائبة، فجعله عمر في بيت المال.
ومنهم أبو دجانة سماك بن خرشة:
ويقال: سماك بن أوس بن خرشة بن لوذان بن عبدود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي شهد بدرا وأبلى يوم أحد، وقاتل شديدا وأعطاه رسول الله ﷺ يومئذ سيفا فأعطاه حقه وكان يتبختر عند الحرب.
فقال عليه السلام: « إن هذه لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن ».
وكان يعصب رأسه بعصابة حمراء شعارا له بالشجاعة، وشهد اليمامة، ويقال: إنه ممن اقتحم على بني حنيفة يومئذ الحديقة فانكسرت رجله فلم يزل يقاتل حتى قتل يومئذ، وقد قتل مسيلمة مع وحشي بن حرب، رماه وحشي بالحربة وعلاه أبو دجانة بالسيف.
قال وحشي: فربك أعلم أينا قتله.
وقد قيل: إنه عاش حتى شهد صفين مع علي، والأول أصح، وأما ما يروى عنه من ذكر الحرز المنسوب إلى أبي دجانة فإسناده ضعيف ولا يلتفت إليه، والله أعلم.
ومنهم شجاع بن وهب:
ابن ربيعة الأسدي حليف بني عبد شمس أسلم قديما، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها، وكان رسول رسول الله إلى الحارث ابن أبي شمر الغساني فلم يسلم، وأسلم حاجبه سوى، واستشهد شجاع بن وهب يوم اليمامة عن بضع وأربعين سنة، وكان رجلا طوالا نحيفا أحنى.
ومنهم الطفيل بن عمرو بن طريف:
ابن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهر بن غنم بن دوس الدوسي أسلم قديما قبل الهجرة، وذهب إلى قومه فدعاهم إلى الله فهداهم الله على يديه، فلما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة جاءه بتسعين أهل بيت من دوس مسلمين، وقد خرج عام اليمامة مع المسلمين ومعه ابنه عمرو فرأى الطفيل في المنام كأن رأسه قد حلق، وكأن امرأة أدخلته في فرجها، وكان ابنه يجتهد أن يلحقه فلم يصل، فأولها بأنه سيقتل ويدفن، وأن ابنه يحرص على الشهادة فلا ينالها عامه ذلك، وقد وقع الأمر كما أولها، ثم قتل ابنه شهيدا يوم اليرموك كما سيأتي.
ومنهم عباد بن بشر بن وقش الأنصاري:
أسلم على يدي مصعب بن عمير قبل الهجرة قبل إسلام معاذ وأسيد بن الحضير، وشهد بدرا وما بعدها، وكان ممن قتل كعب بن الأشرف، وكانت عصاه تضيء له إذا خرج من عند رسول الله في ظلمة.
قال موسى بن عقبة: عن الزهري قتل يوم اليمامة شهيدا عن خمس وأربعين سنة، وكان له بلاء وعناء.
وقال محمد بن إسحاق: عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: تهجد رسول الله فسمع صوت عباد فقال: « اللهم اغفر له ».
ومنهم السائب بن عثمان بن مظعون:
بدري من الرماة أصابه يوم اليمامة سهم فقتله وهو شاب رحمه الله.
ومنهم السائب بن العوام:
أخو الزبير بن العوام استشهد يومئذ رحمه الله.
ومنهم عبد الله بن سهيل بن عمرو:
ابن عبد شمس بن عبدود القرشي العامري أسلم قديما وهاجر، ثم استضعف بمكة فلما كان يوم بدر خرج معهم، فلما تواجهوا فر إلى المسلمين فشهدها معهم، وقتل يوم اليمامة، فلما حج أبو بكر عزى أباه فيه، فقال سهيل: بلغني أن رسول الله ﷺ قال: « إن الشهيد ليشفع لسبعين من أهله » فأرجو أن يبدأ بي.
ومنهم عبد الله بن عبد الله ابن أبي بن سلول:
الأنصاري الخزرجي كان من سادات الصحابة وفضلائهم، شهد بدرا وما بعدها، وكان أبوه رأس المنافقين، وكان أشد الناس على أبيه، ولو أذن له رسول الله فيه لضرب عنقه، وكان اسمه الحباب فسماه رسول الله ﷺ عبد الله، وقد استشهد يوم اليمامة رضي الله عنه.
ومنهم عبد الله ابن أبي بكر الصديق:
أسلم قديما، ويقال: إنه الذي كان يأتي بالطعام والشراب والأخبار إلى رسول الله ﷺ وإلى أبي بكر وهما بغار ثور، ويبيت عندهما ويصبح بمكة كبائت فلا يسمع بأمر يكادان به إلا أخبرهما به، وقد شهد الطائف فرماه رجل يقال له: أبا محجن الثقفي بسهم فذوى منها فاندملت، ولكن لم يزل منها حمتا حتى مات في شوال سنة إحدى عشرة.
ومنهم عكاشة بن محصن:
ابن حرثان بن قيس بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي حليف بني عبد شمس، يكنى أبا محصن، وكان من سادات الصحابة وفضلائهم، هاجر وشهد بدرا وأبلى يومئذ بلاء حسنا وانكسر سيفه، فأعطاه رسول الله يومئذ عرجونا فعاد في يده سيفا أمضى من الحديد شديد المتن، وكان ذلك السيف يسمى العون، وشهد أحدا والخندق وما بعدها.
ولما ذكر رسول الله ﷺ السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فقال عكاشة: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم.
فقال: « اللهم اجعله منهم ».
ثم قام رجل آخر فقال: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم.
فقال: « سبقك بها عكاشة ».
والحديث مروي من طرق تفيد القطع، وقد خرج عكاشة مع خالد يوم إمرة الصديق بذي القصة فبعثه وثابت بن أقرم بين يديه طليعة، فتلقاهما طليحة الأسدي وأخوه سلمة فقتلاهما، وقد قتل عكاشة قبل مقتله حبال بن طليحة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك كما ذكرنا، وكان عمر عكاشة يومئذ أربعا وأربعين سنة، وكان من أجمل الناس رضي الله عنه.
ومنهم معن بن عدي:
ابن الجعد بن عجلان بن ضبيعة البلوي حليف بني عمرو بن عوف وهو أخو عاصم بن عدي شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد، وكان قد آخى رسول الله ﷺ بينه وبين زيد ابن الخطاب فقتلا جميعا يوم اليمامة رضي الله عنهما.
وقال مالك: عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: بكى الناس على رسول الله ﷺ حين مات وقالوا: والله وددنا أنا متنا قبله، ونخشى أن نفتتن بعده.
فقال معن بن عدي: لكني والله ما أحب أن أموت قبله لأصدقه ميتا كما صدقناه حيا.
ومنهم الوليد وأبو عبيدة ابنا عمارة بن الوليد بن المغيرة:
قتلا مع عمهما خالد بن الوليد بالبطاح، وأبوهما عمارة بن الوليد وهو صاحب عمرو بن العاص إلى النجاشي، وقضيته مشهورة.
ومنهم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة:
ابن عبد شمس القرشي العبشمي أسلم قديما قبل دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وشهد بدرا وما بعدها، وآخى رسول الله ﷺ بينه وبين عباد بن بشر، وقد قتلا شهيدين يوم اليمامة، وكان عمر أبي حذيفة يومئذ ثلاثا أو أربعا وخمسين سنة، وكان طويلا حسن الوجه أثعل - وهو الذي له سن زائدة - وكان اسمه هشيم، وقيل: هاشم.
ومنهم أبو دجانة واسمه سماك بن خرشة
تقدم قريبا.
وبالجملة فقد قتل من المسلمين يوم اليمامة أربعمائة وخمسون من حملة القرآن ومن الصحابة وغيرهم، وإنما أوردنا هؤلاء لشهرتهم، وبالله المستعان.
قلت: وممن استشهد يومئذ من المهاجرين مالك بن عمرو حليف بني غنم مهاجري بدري، ويزيد بن رقيش بن رباب الأسدي بدري، والحكم بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، وحسن بن مالك بن بحينة أخو عبد الله بن مالك الأزدي حليف بني المطلب بن عبد مناف، وعامر بن البكر الليثي حليف بني عدي بدري، ومالك بن ربيعة حليف بني عبد شمس، وأبو أمية صفوان بن أمية بن عمرو، ويزيد بن أوس حليف بني عبد الدار، وحيي ويقال: معلى بن حارثة الثقفي، وحبيب بن أسيد بن حارثة الثقفي، والوليد بن عبد شمس المخزومي، وعبد الله بن عمرو بن بجرة العدوي، وأبو قيس بن الحارث بن قيس السهمي - وهو من مهاجرة الحبشة - وعبد الله بن الحارث بن قيس، وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزى ابن أبي قيس بن عبدود بن نصر العامري، من المهاجرين الأولين شهد بدرا وما بعدها وقتل يومئذ، وعمرو بن أويس بن سعد ابن أبي سرح العامري، وسليط بن عمرو العامري، وربيعة ابن أبي خرشة العامري، وعبد الله بن الحارث بن رحضة من بني عامر.
ومنهم الأنصار:
غير من ذكرنا تراجمهم: عمارة بن حزم بن زيد بن لوذان النجاري - وهو أخو عمرو بن حزم - كانت معه راية قومه يوم الفتح، وقد شهد بدرا وقتل يومئذ، وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام السلمي شهد العقبة الأولى وشهد بدرا وما بعدها، وثابت بن هزال من بني سالم بن عوف بدري في قول، وأبو عقيل ابن عبد الله بن ثعلبة من بني جحجبي شهد بدرا وما بعدها، فلما كان يوم اليمامة أصابه سهم فنزعه، ثم تحزم وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل، وقد أصابته جراحات كثيرة.
وعبد الله بن عتيك، ورافع بن سهل، وحاجب بن يزيد الأشهلي، وسهل بن عدي، ومالك بن أوس، وعمر بن أوس، وطلحة بن عتبة من بني جحجبي، ورباح مولى الحارث، ومعن بن عدي، وجزء بن مالك بن عامر من بني جحجبي، وورقة بن إياس بن عمرو الخزرجي بدري، ومروان بن العباس، وعامر بن ثابت، وبشر بن عبد الله الخزرجي، وكليب بن تميم، وعبد الله بن عتبان، وإياس بن وديعة، وأسيد بن يربوع، وسعد بن حارثة، وسهل بن حمان، ومحاسن بن حمير، وسلمة بن مسعود، وقيل: مسعود بن سنان، وضمرة بن عياض، وعبد الله بن أنيس، وأبو حبة بن غزية المازني، وخباب ابن زيد، وحبيب بن عمرو بن محصن، وثابت بن خالد، وفروة بن النعمان، وعائذ بن ماعص، ويزيد بن ثابت بن الضحاك أخو زيد بن ثابت.
قال خليفة بن خياط: فجميع من استشهد من المهاجرين والأنصار يوم اليمامة ثمانية وخمسون رجلا - يعني: وبقية الأربعمائة والخمسين من غيرهم، والله أعلم.
وقد قتل من الكفار فيما سقنا من المواطن التي التقى فيها المسلمون المشركون في هذه وأوائل التي قبلها ما ينيف على خمسين ألفا ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة.
فمن مشاهيرهم الأسود العنسي - لعنه الله - واسمه عبهلة بن كعب بن غوث خرج أول مخرجه من بلدة باليمن يقال لها: كهف خبان ومعه سبعمائة مقاتل فما مضى شهر حتى تملك صنعاء، ثم استوثقت به اليمن بحذافيرها في أقصر مدة، وكان معه شيطان يحذق له ولكن خانه أحوج ما كان إليه، ثم لم تمض له ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر حتى قتله الله على يدي إخوان صدق، وأمراء حق كما قدمنا ذكره وهم دازويه الفارسي، وفيروز الديلمي، وقيس بن مكشوح المرادي، وذلك في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة قبل وفاة رسول الله ﷺ بليال، وقيل: بليلة، فالله أعلم.
وقد أطلع الله رسوله ليلة قتله على ذلك كما أسلفناه.
ومنهم مسيلمة بن حبيب اليمامي الكذاب:
قدم المدينة وافدا إلى رسول الله ﷺ مع قومه بني حنيفة، وقد وقف عليه رسول الله ﷺ فسمعه وهو يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته.
فقال له: « لو سألتني هذا العود - لعرجون في يده - ما أعطيتكه، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما رأيت ».
وكان رسول الله ﷺ قد رأى في المنام كأن في يده سوارين من ذهب فأهمه شأنهما، فأوحى الله إليه في المنام انفخهما فنفخهما فطارا، فأولهما بكذابين يخرجان، وهما صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة.
وهكذا وقع فإنهما ذهبا وذهب أمرهما، أما الأسود فذبح في داره، وأما مسيلمة فعقره الله على يدي وحشي بن حرب رماه بالحربة فأنفذه كما تعقر الإبل، وضربه أبو دجانة على رأسه ففلقه، وذلك بعقر داره في الحديقة التي يقال لها: حديقة الموت، وقد وقف عليه خالد بن الوليد وهو طريح أراه إياه من بين القتلى مجاعة بن مرارة.
ويقال: كان أصفر أخينس، وقيل: كان ضخما أسمر اللون كأنه جمل أورق.
ويقال: إنه مات وعمره مائة وأربعون سنة فالله أعلم.
وقد قتل قبله وزيراه ومستشاراه - لعنهما الله - وهما: محكم بن الطفيل الذي يقال له: محكم اليمامة، قتله عبد الرحمن ابن أبي بكر رماه بسهم وهو يخطب قومه يأمرهم بمصالح حربهم فقتله، والآخر نهار بن عنفوة الذي يقال له: الرجال بن عنفوة، وكان ممن أسلم ثم ارتد وصدق مسيلمة - لعنهما الله - في هذه الشهادة.
وقد رزق الله زيد بن الخطاب قتله قبل أن يقتل زيد رضي الله عنه ومما يدل على كذب الرجال في هذه الشهادة الضرورة في دين الإسلام.
وما رواه البخاري وغيره أن مسيلمة كتب إلى رسول الله ﷺ:
بسم الله الرحمن الرحيم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك، أما بعد فإني قد أشركت معك في الأمر فلك المدر ولي الوبر، ويروى فلكم نصف الأرض ولنا نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون.
فكتب إليه رسول الله ﷺ:
« بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين » وقد قدمنا ما كان يتعاطاه مسيلمة ويتعاناه - لعنه الله - من الكلام الذي هو أسخف من الهذيان مما كان يزعم أنه وحي من الرحمن، تعالى الله عما يقوله وأمثاله علوا كبيرا.
ولما مات رسول الله ﷺ زعم أنه استقل بالأمر من بعده واستخف قومه فأطاعوه، وكان يقول:
خذي الدف يا هذه والعبي * وبثي محاسن هذا النبي
تولى نبي بني هاشم * وقام نبي بني يعرب
فلم يمهله الله بعد وفاة رسول الله ﷺ إلا قليلا حتى سلط الله عليه سيفا من سيوفه، وحتفا من حتوفه، فبعج بطنه، وفلق رأسه، وعجل الله بروحه إلى النار، فبئس القرار.
قال الله تعالى: « فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ».
فمسيلمة والأسود وأمثالهما - لعنهم الله - أحق الناس دخولا في هذه الآية الكريمة، وأولاهم بهذه العقوبة العظيمة.