البداية والنهاية/الجزء السادس/فصل البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم
فالذي يقطع به من كتاب الله وسنة رسوله ومن حيث المعنى أن رسول الله ﷺ قد بشرت به الأنبياء قبله، وأتباع الأنبياء يعلمون ذلك ولكن أكثرهم يكتمون ذلك ويخفونه.
قال الله تعالى: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون * قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } [الأعراف: 157- 158] .
وقال تعالى: { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } [الأنعام: 114] .
وقال تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } [البقرة: 146] .
وقال تعالى: { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } [آل عمران: 20] .
وقال تعالى: { هذا بلاغ للناس ولينذروا به } [إبراهيم: 52] .
وقال تعالى: { لأنذركم به ومن بلغ } [الأنعام: 19] .
وقال تعالى: { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } [هود: 17] .
وقال تعالى: { لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين } [يس: 70] .
فذكر تعالى: بعثته إلى الأميين، وأهل الكتاب، وسائر الخلق من عربهم وعجمهم، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له.
قال ﷺ: « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بي إلا دخل النار ».
رواه مسلم وفي الصحيحين: « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت السماحة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة ».
وفيهما « بعثت إلى الأسود والأحمر ».
قيل: إلى العرب والعجم، وقيل: إلى الإنس والجن.
والصحيح أعم من ذلك.
والمقصود أن البشارات به ﷺ موجودة في الكتب الموروثة عن الأنبياء قبله حتى تناهت النبوة إلى آخر أنبياء بني إسرائيل - هو عيسى بن مريم - وقد قام بهذه البشارة في بني إسرائيل وقص الله خبره في ذلك.
فقال تعالى: { وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } [الصف: 6] .
فأخبار محمد - صلوات الله وسلامه عليه - بأن ذكره موجود في الكتب المتقدمة فيما جاء به من القرآن، وفيما ورد عنه من الأحاديث الصحيحة كما تقدم، وهو مع ذلك من أعقل الخلق باتفاق الموافق والمفارق، يدل على صدقه في ذلك قطعا لأنه لو لم يكن واثقا بما أخبر به من ذلك لكان ذلك من أشد المنفرات عنه، ولا يقدم على ذلك عاقل، والغرض أنه من أعقل الخلق حتى عند من يخالفه بل هو أعقلهم في نفس الأمر، ثم إنه قد انتشرت دعوته في المشارق والمغارب، وعمت دولة أمته في أقطار الآفاق عموما لم يحصل لأمة من الأمم قبلها، فلو لم يكن محمد ﷺ نبيا لكان ضرره أعظم من كل أحد، ولو كان كذلك لحذر عنه الأنبياء أشد التحذير، ولنفروا أممهم منه أشد التنفير فإنهم جميعهم قد حذروا من دعاة الضلالة في كتبهم، ونهوا أممهم عن اتباعهم والإقتداء بهم، ونصوا على المسيح الدجال الأعور الكذاب، حتى قد أنذر نوح - وهو أول الرسل قومه - ومعلوم أنه لم ينص نبي من الأنبياء على التحذير من محمد ولا التنفير عنه ولا الإخبار عنه بشيء خلاف مدحه والثناء عليه، والبشارة بوجوده، والأمر باتباعه، والنهي عن مخالفته والخروج من طاعته قال الله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } [آل عمران: 81] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتبعنه.
رواه البخاري.
وقد وجدت البشارات به ﷺ في الكتب المتقدمة وهي أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، وقد قدمنا قبل مولده عليه السلام طرفا صالحا من ذلك، وقررنا في كتاب التفسير عند الآيات المقتضية لذلك آثارا كثيرة، ونحن نورد ههنا شيئا مما وجد في كتبهم التي يعترفون بصحتها، ويتدينون بتلاوتها مما جمعه العلماء قديما وحديثا ممن آمن منهم واطلع على ذلك من كتبهم التي بأيديهم:
ففي السفر الأول من التوراة التي بأيديهم في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام ما مضمونه وتعريبه: إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام بعد ما سلمه من نار النمرود أن قم فاسلك الأرض مشارقها ومغاربها لولدك، فلما قص ذلك على سارة طمعت أن يكون ذلك لولدها منه، وحرصت على إبعاد هاجر وولدها حتى ذهب بهما الخليل إلى برية الحجاز وجبال فاران، وظن إبراهيم عليه السلام أن هذه البشارة تكون لولده إسحاق، حتى أوحى الله إليه ما مضمونه: أما ولدك إسحاق فإنه يرزق ذرية عظيمة، وأما ولدك إسماعيل فإني باركته وعظمته وكثرت ذريته، وجعلت من ذريته ماذ ماذ - يعني: محمدا ﷺ وجعلت في ذريته اثنا عشر إماما، وتكون له أمة عظيمة.
وكذلك بشرت هاجر حين وضعها الخليل عند البيت فعطشت وحزنت على ولدها، وجاء الملك فأنبع زمزم وأمرها بالاحتفاظ بهذا الولد فإنه سيولد له منه عظيم له ذرية عدد نجوم السماء، ومعلوم أنه لم يولد من ذرية إسماعيل بل من ذرية آدم أعظم قدرا ولا أوسع جاها، ولا أعلى منزلة ولا أجل منصبا من محمد ﷺ وهو الذي استولت دولة أمته على المشارق والمغارب، وحكموا على سائر الأمم.
وهكذا في قصة إسماعيل من السفر الأول: أن ولد إسماعيل تكون يده على كل الأمم وكل الأمم تحت يده، وبجميع مساكن إخوته يسكن، وهذا لم يكن لأحد يصدق على الطائفة إلا لمحمد ﷺ.
وأيضا في السفر الرابع في قصة موسى أن: الله أوحى إلى موسى عليه السلام أن قل لبني إسرائيل سأقيم لهم نبيا من أقاربهم مثلك يا موسى، وأجعل وحيي بفيه وإياه تسمعون.
وفي السفر الخامس - وهو سفر الميعاد -: أن موسى عليه السلام خطب بني إسرائيل في آخر عمره - وذلك في السنة التاسعة والثلاثين من سني التيه - وذكرهم بأيام الله وأياديه عليهم وإحسانه إليهم وقال لهم فيما قال: واعلموا أن الله سيبعث لكم نبيا من أقاربكم مثل ما أرسلني إليكم يأمركم بالمعروف، وينهاكم عن المنكر، ويحل لكم الطيبات، ويحرم عليكم الخبائث، فمن عصاه فله الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
وأيضا في آخر السفر الخامس - وهو آخر التوراة التي بأيديهم -: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران، وظهر من ربوات قدسه عن يمينه نور، وعن شماله نار، عليه تجتمع الشعوب أي: جاء أمر الله وشرعه من طور سيناء - وهو الجبل الذي كلم الله موسى عليه السلام عنده - وأشرق من ساعير وهي جبال بيت المقدس - المحلة التي كان بها عيسى بن مريم عليه السلام - واستعلن أي ظهر وعلا أمره من جبال فاران - وهي جبال الحجاز بلا خلاف - ولم يكن ذلك إلا على لسان محمد ﷺ فذكر تعالى هذه الأماكن الثلاثة على الترتيب الوقوعي، ذكر محلة موسى، ثم عيسى، ثم بلد محمد ﷺ ولما أقسم تعالى بهذه الأماكن الثلاثة ذكر الفاضل أولا ثم الأفضل منه، ثم الأفضل منه على قاعدة القسم.
فقال تعالى: { والتين والزيتون } [التين: 1] .
والمراد بها محلة بيت المقدس حيث كان عيسى عليه السلام.
{ وطور سينين } [التين: 2] . وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى.
{ وهذا البلد الأمين } [التين: 3] . وهو البلد الذي ابتعث منه محمدا ﷺ قاله غير واحد من المفسرين في تفسير هذه الآيات الكريمات.
وفي زبور داود عليه السلام صفة هذه الأمة بالجهاد والعبادة، وفيه مثل ضربه لمحمد ﷺ بأنه ختام القبة المبنية.
كما ورد به الحديث في الصحيحين: « مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يطيفون بها ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ »
ومصداق ذلك أيضا في قوله تعالى: { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } [الأحزاب: 40] .
وفي الزبور صفة محمد ﷺ بأنه ستنبسط نبوته ودعوته وتنفذ كلمته من البحر إلى البحر، وتأتيه الملوك من سائر الأقطار طائعين بالقرابين والهدايا، وأنه يخلص المضطر ويكشف الضر عن الأمم، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويصلى عليه في كل وقت، ويبارك الله عليه في كل يوم، ويدوم ذكره إلى الأبد، وهذا إنما ينطبق على محمد ﷺ.
وفي صحف شعيا في كلام طويل فيه معاتبة لبني إسرائيل وفيه: فإني أبعث إليكم وإلى الأمم نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ القلب، ولا سخاب في الأسواق، أسدده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى في ضميره، والحكمة معقوله، والوفاء طبيعته، والعدل سيرته، والحقع شريعته، والهدى ملته، والإسلام دينه، والقرآن كتابه، أحمد اسمه، أهدي به من الضلالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين القلوب المختلفة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، قرابينهم دماؤهم، أناجليهم في صدورهم، رهبانا بالليل، ليوثا بالنهار { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } [الحديد: 21] .
وفي الفصل الخامس من كلام شعيا: يدوس الأمم كدوس البيادر، وينزل البلاء بمشركي العرب وينهزمون قدامه.
وفي الفصل السادس والعشرين منه: ليفرح أرض البادية العطشى، ويعطي أحمد محاسن لبنان، ويرون جلال الله بمهجته.
وفي صحف إلياس عليه السلام أنه خرج مع جماعة من أصحابه سائحا فلما رأى العرب بأرض الحجاز قال: لمن معه انظروا إلى هؤلاء فإنهم هم الذين يملكون حصونكم العظيمة.
فقالوا: يا نبي الله فما الذي يكون معبودهم؟
فقال: يعظمون رب العزة فوق كل رابية عالية.
ومن صحف حزقيل: إن عبدي خيرتي أنزل عليه وحيي، يظهر في الأمم عدلي، اخترته واصطفيته لنفسي، وأرسلته إلى الأمم بأحكام صادقة.
ومن كتاب النبوات: أن نبيا من الأنبياء مر بالمدينة فأضافه بنو قريظة والنضير، فلما رآهم بكى.
فقالوا له: ما الذي يبكيك يا نبي الله؟
فقال: نبي يبعثه الله من الحرة يخرب دياركم، ويسبي حريمكم.
قال: فأراد اليهود قتله فهرب منهم.
ومن كلام حزقيل عليه السلام يقول الله: من قبل أن صورتك في الأحشاء قدستك، وجعلتك نبيا، وأرسلتك إلى سائر الأمم.
في صحف شعيا أيضا مثل مضروب لمكة - شرفها الله -: إفرحي يا عاقر بهذا الولد الذي يهبه لك ربك، فإن ببركته تتسع لك الأماكن، وتثبت أوتادك في الأرض، وتعلو أبواب مساكنك، ويأتيك ملوك الأرض عن يمينك وشمالك بالهدايا والتقادم، وولدك هذا يرث جميع الأمم، ويملك سائر المدن والأقاليم، ولا تخافي ولا تحرني فما بقي يلحقك ضيم من عدو أبدا، وجميع أيام ترملك تنسيها.
وهذا كله إنما حصل على يدي محمد ﷺ وإنما المراد بهذه العاقر مكة، ثم صارت كما ذكر في هذا الكلام لا محالة.
ومن أراد من أهل الكتاب أن يصرف هذا ويتأوله على بيت المقدس وهذا لا يناسبه من كل وجه، والله أعلم.
وفي صحف أرميا: كوكب ظهر من الجنوب أشعته صواعق، سهامه خوارق، دكت له الجبال، وهذا المراد به محمد ﷺ.
وفي الإنجيل يقول عيسى عليه السلام: إني مرتق إلى جنات العلى، ومرسل إليكم الفارقليط روح الحق يعلمكم كل شيء، ولم يقل شيئا من تلقاء نفسه، والمراد بالفارقليط: محمد - صلوات الله وسلامه عليه -.
وهذا كما تقدم عن عيسى أنه قال: { ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } [الصف: 6] .
وهذا باب متسع، ولو تقصينا جميع ما ذكره الناس لطال هذا الفصل جدا، وقد أشرنا إلى نبذ من ذلك يهتدي بها من نور الله بصيرته وهداه إلى صراطه المستقيم، وأكثر هذه النصوص يعلمها كثير من علمائهم وأحبارهم، وهم مع ذلك يتكاتمونها ويخفونها.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى بن الفضل ومحمد بن أحمد الصيدلاني قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبيد الله ابن أبي داود المنادي، ثنا يونس بن محمد المؤدب، ثنا صالح بن عمر، ثنا عاصم بن كليب عن أبيه، عن الغليان بن عاصم قال: كنا جلوسا عند النبي ﷺ إذ شخص ببصره إلى رجل فدعاه، فأقبل رجل من اليهود مجتمع عليه قميص وسراويل ونعلان فجعل يقول: يا رسول الله.
فجعل رسول الله ﷺ يقول: « أتشهد إني رسول الله؟ ».
فجعل لا يقول شيئا إلا قال: يا رسول الله.
فيقول: « أتشهد أني رسول الله؟ »
فيأبى.
فقال رسول الله ﷺ: « أتقرأ التوراة؟ »
قال: نعم.
قال: « والإنجيل؟ »
قال: نعم، والفرقان ورب محمد لو شئت لقرأته.
قال: « فأنشدك بالذي أنزل التوراة والإنجيل، وأنشأ خلقه بها تجدني فيهما؟ »
قال: نجد مثل نعتك يخرج من مخرجك، كنا نرجو أن يكون فينا، فلما خرجت رأينا أنك هو، فلما نظرنا إذا أنت لست به.
قال: « من أين؟ »
قال: نجد من أمتك سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب وإنما أنتم قليل.
قال: فهلل رسول الله ﷺ وكبر وهلل وكبر ثم قال: « والذي نفس محمد بيده إنني لأنا هو، وإن من أمتي لأكثر من سبعين ألفا وسبعين وسبعين ».