البداية والنهاية/الجزء السادس/حديث أم معبد في ذلك
قد تقدم الحديث بتمامه في الهجرة من مكة إلى المدينة حين ورد عليها رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر، ومولاه عامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن أريقط الديلي، فسألوها هل عندها لبن أو لحم يشترونه منها؟
فلم يجدوا عندها شيئا، وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى.
وكانوا ممحلين، فنظر إلى شاة في كسر خيمتها فقال: « ما هذه الشاة يا أم معبد؟ »
فقالت: خلفها الجهد.
فقال: « أتأذنين أن أحلبها؟ »
فقالت: إن كان بها حلب، فاحلبها، فدعا بالشاة فمسحها، وذكر اسم الله، فذكر الحديث في حلبه منها ما كفاهم أجمعين، ثم حلبها وترك عندها إناءها ملأى، وكان يربض الرهط، فلما جاء بعلها استنكر اللبن.
وقال: من أين لك هذا يا أم معبد، ولا حلوبة في البيت، والشاء عازب؟
فقالت: لا والله إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت.
فقال: صفيه لي، فوالله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب.
فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، مليح الوجه، لم تعبه ثجلة، ولم تزربه صعلة، قسيم وسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور، أكحل، أزج، أقرن، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
فقال بعلها: هذا والله صاحب قريش الذي تطلب، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
قال: وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقوله وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به * فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما زوى الله عنكم * به من فعال لا تجازى وسؤدد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنكموا إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت * له بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادره رهنا لديها لحالب * يدر لها في مصدر ثم مورد
وقد قدمنا جواب حسان بن ثابت لهذا الشعر المبارك بمثله في الحسن.
والمقصود: أن الحافظ البيهقي روى هذا الحديث من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي قال: ثنا الحسن بن الصباح عن أبي معبد الخزاعي - فذكر الحديث بطوله كما قدمناه بألفاظه -.
وقد رواه الحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي، والحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة قال عبد الملك: فبلغني أن أبا معبد أسلم بعد ذلك، وأن أم معبد هاجرت وأسلمت، ثم إن الحافظ البيهقي أتبع هذا الحديث بذكر غريبه، وقد ذكرناه في الحواشي فيما سبق ونحن نذكر ههنا نكتا من ذلك.
فقولها: ظاهر الوضاءة: أي ظاهر الجمال.
أبلج الوجه: أي مشرق الوجه مضيئه.
لم تعبه ثجلة: قال أبو عبيد: هو كبر البطن، وقال غيره: كبر الرأس، ورد أبو عبيدة رواية من روى: لم تعبه نحلة - يعني: من النحول - وهو الضعف.
قلت: وهذا هو الذي فسر به البيهقي الحديث.
والصحيح: قول أبي عبيدة، ولو قيل: إنه كبر الرأس لكان قويا.
وذلك لقولها بعده: لو تزر به صعلة، وهو صغر الرأس بلا خلاف، ومنه يقال لولد النعامة: صعل لصغر رأسه، ويقال له: الظليم.
وأما البيهقي فرواه: لم تعبه نحلة - يعني: من الضعف - كما فسره.
ولم تزر به صعلة: وهو الحاصرة يريد أنه ضرب من الرجال، ليس بمشفح ولا ناحل.
قال: ويروى: لم تعبه ثجلة، وهو كبر البطن.
ولم تزر به صعلة: وهو صغر الرأس.
وأما الوسيم: فهو حسن الخلق، وكذلك القسيم أيضا.
والدعج: شدة سواد الحدقة.
والوطف: طول أشفار العينين.
ورواه القتيبي في أشفاره عطف، وتبعه البيهقي في ذلك.
قال ابن قتيبة: ولا أعرف ما هذا لأنه وقع في روايته غلط فحار في تفسيره، والصواب ما ذكرناه والله أعلم.
وفي صوته صحل: وهو بحة يسيرة، وهي أحلى في الصوت من أن يكون حادا.
قال أبو عبيد: وبالصحل يوصف الظباء، قال: ومن روى: في صوته صهل، فقد غلط فإن ذلك لا يكون إلا في الخيل، ولا يكون في الإنسان.
قلت: وهو الذي أورده البيهقي.
قال: ويروى: صحل.
والصواب قول أبي عبيد، والله أعلم.
وأما قولها: أحور فمستغرب في صفة النبي ﷺ وهو قبل في العين يزينها لا يشينها كالحول.
وقولها: أكحل قد تقدم له شاهد.
وقولها: أزج قال أبو عبيد: هو المتقوس الحاجبين.
قال: وأما قولها: أقرن: فهو التقاء الحاجبين بين العينين.
قال: ولا يعرف هذا في صفة النبي ﷺ إلا في هذا الحديث قال: والمعروف في صفته عليه السلام أنه أبلج الحاجبين.
في عنقه سطع: قال أبو عبيد: أي طول، وقال غيره: نور.
قلت: والجمع ممكن، بل متعين.
وقولها: إذا صمت فعليه الوقار: أي الهيبة عليه في حال صمته وسكوته.
وإذا تكلم سما: أي علا على الناس.
وعلاه البهاء: أي في حال كلامه.
حلو المنطق فصل: أي فصيح بليغ، يفصل الكلام ويبينه.
لا نزر ولا هذر: أي لا قليل ولا كثير.
كأن منطقه خرزات نظم: يعني: الذي من حسنه، وبلاغته، وفصاحته، وبيانه، وحلاوة لسانه.
أبهى الناس وأجمله من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب: أي هو مليح من بعيد ومن قريب.
وذكرت أنه لا طويل ولا قصير، بل هو أحسن من هذا ومن هذا.
وذكرت أن أصحابه يعظمونه ويخدمونه، ويبادرون إلى طاعته، وما ذلك إلا لجلالته عندهم، وعظمته في نفوسهم، ومحبتهم له.
وأنه ليس بعابس: أي ليس يعبس.
ولا يفند أحدا: أي يهجنه ويستقل عقله، بل جميل المعاشرة، حسن الصحبة، صاحبه كريم عليه، وهو حبيب إليه - صلى الله عليه -.