الفتاوى الكبرى/مسائل منثورة/8

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

فصل

إذا تبين ذلك: فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلا عظيما وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان وهم ينقسمون فيه إلى: عام وخاص ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل وفي الصحيح عن النبي أنه قال: [ تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتفش إن أعطى رضي وإن منع سخط ] فسماه النبي عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة

وذكر ما فيه دعاء وخير وهو قوله: [ تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتفش ] والنفش: إخراج الشوكة من الرجل والمنقاش: ما يخرج به الشوكة وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه وهذه حال من عبد المال وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطى رضي وإذا منع سخط كما قال تعالى: { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله وهكذا حال من كان متعلقا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته فما استرق القلب واستعبده فهو عبده ولهذا يقال:

( العبد حر ما قنع... والحر عبد ما طمع )

وقال القائل:

( أطعت مطامعي فاستعبدتني... ولو أني قنعت لكنت حرا )

ويقال: الطمع غل في العنق قيد في الرجل فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الطمع فقر واليأس غنى وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه ولا يطمع به ولا يبقى قلبه فقيرا إليه ولا إلى من يفعله وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه تعلق قلبه به فصار فقيرا إلى حصوله وإلى من يظن أنه سبب في حصوله وهذا في المال والجاه والصور وغير ذلك قال الخليل : { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون }

فالعبد لا بد له من رزق محتاج إلى ذلك فإذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله فقيرا إليه وإن طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا إليه

ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل وإنما أبيحت للضرورة وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد: كقوله : [ لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم ] وقوله: [ من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو كدوحا في وجهه ] وقوله: [ لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع أو دمع موجع أو فقر مدقع ] هذا المعنى في الصحيح وفيه أيضا: [ لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ] وقال: [ ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك ] فكره أخذه من سؤال اللسان واستشراف القلب وقال في الحديث الصحيح: [ من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ]

وأوصى خواص أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا وفي المسند: أن أبا بكر كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه ويقول: إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئا

وفي صحيح مسلم وغيره: عن عوف بن مالك [ أن النبي بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية: أن لا تسألوا الناس شيئا فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم ولا يقول لأحد ناولني إياه ]

وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق والنهي عن مسألة المخلوق في غير موضع كقوله تعالى: { فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب } وقول النبي لابن عباس: [ إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ] ومنه قول الخليل: { فابتغوا عند الله الرزق } ولم يقل فابتغوا الرزق عند الله لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر كأنه قال لا تبتغوا الرزق إلا عند الله وقد قال تعالى: { واسألوا الله من فضله } والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه ودفع ما يضره وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله فله أن يسأل وإليه يشتكي كما قال يعقوب عليه السلام: { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله }

والله تعالى ذكر في القرآن الهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل

وقد قيل: إن الهجر الجميل هو هجر بلا أذى والصفح الجميل صفح بلا معاتبة والصبر الجميل صبر بغير شكوى إلى المخلوق ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه أن طاوسا كان يكره أنين المريض ويقول: إنه شكوى فما أن أحمد حتى مات

وأما الشكوى إلى الخالق فلا تنافي الصبر الجميل فإ يعقوب قال: { فصبر جميل } وقال: { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في الفجر بسورة ( يونس ) و( والنحل ) فمر بهذه الآية في قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف

ومن دعاء موسى: اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك

وفي الدعاء الذي دعا به النبي لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا: [ اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي اللهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك لك العتبى حتى ترضى فلا حول ولا حول ولا قوة إلا بك - وفي بعض الروايات - ولا حول ولا قوة إلا بك ]

وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره وأفضل على من شئت تكن أميره واحتج إلى من شئت تكن أسيره

فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له: وإعراض قلبه عن الطلب من غير الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق بحيث يكون قلبه معتمدا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه وإما على أهله وأصدقائه وإما على أمواله وذخائره وإما على ساداته وكبرئه كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم ممن هو قد مات أو يموت قال تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا }

وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك وإن كان في الظاهر أميرا لهم مدبرا لهم متصرفا بهم فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولوكانت مباحة له يبقى قلبه أسيرا لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها وعشقه لها وأنه لا يعتاض عنها بغيرها فإنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه بل أعظم فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن واستعباد القلب مستريحا من ذلك مطمئنا بل يمكنه الاحتيال في الخلاص وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقا مستعبدا متيما لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب

وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائما بما يقدر عليه من الواجبات ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه له أجران ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك وأما من استعبد قلبه فصار عبدا لغير الله فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس

فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب كما أن الغنى عنى النفس قال النبي : [ ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى عنى النفس ]

وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه وهؤلاء من أعظم الناس عذابا وأقلهم ثوابا فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقا بها مستعبدا لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصه إلا رب العباد ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضررا عليه ممن يفعل ذنبا ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين كما قيل:

( سكران: سكر هوى وسكر مدامة... ومتى أفاقة من به سكران )

وقيل:

( قالوا: جننت بمن تهوى فقلت لهم... العشق أعظم مما بالمجانين )

( العشق لا يستفيق الدهر صاحبه... وإنما يصرع المجنون في الحين )

ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أطيب والإنسان لا يترك محبوبا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه أو خوفا من مكروه فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح أو بالخوف من الضرر قال تعالى في حق يوسف: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصور والتعلق بها ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله

ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها فإذا طعم الإخلاص وقوي في قلبه انقهر له هواه بلا علاج قال تعالى: { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر } فإن الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه فإن ذكر الله عبادة لله وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها وأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع

والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك فإنه يفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل ولهذا قال تعالى: { قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها } وقال تعالى: { قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى } وقال: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم } وقال تعالى { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا } فجعل سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو أزكى للنفس وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك

وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عنهم ليطيعوه ويعينوه فهو في الظاهر رئيس مطاع وفي الحقيقة عبد مطيع لهم والتحقيق أن كلاهما فيه عبودية للآخر وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الآخر

وهكذا أيضا طالب المال فإن ذلك يستعبده ويسترقه وهذه الأمور نوعان:

منها: ما يحتاج العبد إليه كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ونحو ذلك فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده فيكون هلوعا إن مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا

ومنها: ما لا يحتاج العبد إليه فهذه لا ينبغي له أن يتعلق قلبه بها فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها وربما صار معتمدا على غير الله فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله ولا حقيقة التوكل عليه بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله وهذا من أحق الناس بقوله : [ تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة ] وهذا هو عبد هذه الأمور فلو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي وإذا منعه إياها سخط وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ويوالي الله ويعادي أعداء الله تعالى وهذا هو الذي استكمل الإيمان كما في الحديث: [ من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله: فقد استكمل الإيمان ] وقال: [ أوثق عرى الإيمان: الحب في الله البغض في الله ]

وفي الصحيح: عنه : [ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ] فهذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه فكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأحب المخلوق لله لا لغرض آخر فكان هذا من تمام حبه لله فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب فإذا أحب أنبياء الله وأولياء الله لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر فقد أحبهم لله لا لغيره وقد قال تعالى: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين }

ولهذا قال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فإن الرسول يأمر بما يحب الله وينهى عما يبغضه الله ويفعل ما يحبه الله ويخبر بما يحب الله التصديق به فمن كان محبا لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر ويطيعه فيما أمر ويتأسى به فيما فعل ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله فيحبه الله فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول والجهاد في سبيله

وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان وقد قال تعالى: { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم } إلى قوله: { حتى يأتي الله بأمره } فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد

بل قد ثبت عنه في الصحيح: أنه قال: [ والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجميعن ]

وفي الصحيح: [ أن عمر بن الخطاب قال له: يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي: فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال: فوالله ! لأنت أحب إلي من نفسي فقال: الآن يا عمر ]

فحقيقة المحبة لا تتم بموالاة المحبوب وهو موافقته في حب ما يحب وبغض ما يبغض والله يحب الإيمان والتقوى ويبغض الكفر والفسوق والعصيان ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب فعل المحبوبات فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات فإذا كان العبد قادرا عليها حصلها وإن كان عاجزا عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل كما قال النبي : [ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من ابتعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ]

وقال: [ إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر ]

والجهاد هو بذل الوسع وهو القدرة في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلا على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبا إلا باحتمال المكروهات سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة فالمحب لله ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير الله مما يحتملون في حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم لله إذا مايسلكه أولئك هو الطريق الذي يشير به العقل

ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبا لله كما قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله }

نعم ! قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقا لا يحصل بها المطلوب فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة فكيف إذا كانت المحبة فاسدة والطريق غير موصل ! كما يفعله المتهورون في طلب المال والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضررا ولا تحصل لهم مطلوبا وإنما المقصود الطرق التي يسلها العقل لحصول مطلوبه

وإذا تبين هذا فكلما ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية وكلما ازداد له عبودية إزداد له حبا وحرية عما سواه والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائبة ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلية فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة

وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله فهو دائما مفتقر إلى حقيقة { إياك نعبد وإياك نستعين } فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده ولم يحصل له عبادته لله بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئا لذاته إلا الله فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة لا إله إلا الله ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة وكان فيه من النقص والعيب بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك

ولو سعى في هذا المطلوب ولم يكن مستعينا بالله متوكلا عليه مفتقرا إليه في حصوله لم يحصل له فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود ومن حيث هو المسؤول المستعان به المتوكل عليه فهو إلهه لا إله له غيره وهو ربه لا رب له سواه

ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين فمتى كان يحب غير الله لذاته أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه كان عبدا لما أحبه وعبدا لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه وإذا لم يحب لذاته إلا الله وكلما أحب سواه فإنما أحبه له ولم يرج قط شيئا إلا الله وإذا فعل ما فعل من الأسباب أو حصل ما حصل منها كان مشاهدا أن الله هو الذي خلقها وقدرها وأن كل ما في السماوات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه وهو مفتقر إليه كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك

والناس في هذا على درجات متفاوتة لا يحصي طرفيها إلا الله فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم: أتمهم عبودية لله من هذا الوجه

وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره فالمستسلم له ولغيره مشرك والممتنع عن الاستسلام له مستكبر وقد ثبت في الصحيح: عن النبي : [ إن الجنة لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر كما أن النار لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ] فجعل الكبر مقابلا للإيمان فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية كما ثبت في الصحيح: [ عن النبي أنه قال: يقول الله: العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته ] فالعظمة والكبرياء من خصائص الربوبية والكبرياء أعلى من العظمة ولهذا جعلها بمنزلة الرداء كما جعل العظمة بمنزلة الازار

ولهذا كان شعار الصلوات والأذان والأعياد هو: التكبير وكان مستحبا في الأمكنة العالية كالصفا والمروة وإذا علا الإنسان شرفا أو ركب دابة ونحو ذلك وبه يطفأ الحريق وإن عظم وعند الأذان يهرب الشيطان قال تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }

وكل من استكبر من عبادة الله لا بد أن يعبد غيره فإن الإنسان حساس يتحرك بالارادة وقد ثبت في الصحيح: عن النبي أنه قال: [ أصدق الأسماء حارث وهمام ] فالحارث الكاسب الفاعل والهمام فعال من الهم والهم أول الإرادة فالإنسان له إرادة دائما وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب: إما المال وإما الجاه وإما الصور وإما ما يتخذه إلها من دون الله: كالشمس والقمر والكواكب والأوثان وقبور الأنبياء والصالحين أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أربابا أو غير ذلك مما عبد من دون الله

وإذا كان عبدا لغير الله يكون مشركا وكل مستكبر فهو مشرك ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارا عن عبادة الله وكان مشركا قال تعالى: { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب } إلى قوله: { وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } إلى قوله: { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار }

وقال تعالى: { وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين } وقال تعالى: { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم } وقال: { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين }

ومثل هذا في القرآن كثير

وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: { وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك }

بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارا عن عبادة الله كان أعظم إشراكا بالله لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود: مقصود القلب بالقصد الأول فيكون مشركا بما استعبده من ذلك

ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به ولا يتوكل إلا عليه ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه ولا يوالي إلا من والاه الله ولا يعادي إلا من عاداه الله ولا يحب إلا لله ولا يبغض شيئا إلا لله ولا يعطي إلا لله ولا يمنع إلا لله فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات وبكمال عبوديته لله يبرئه من الكبر والشرك

والشرك غالب على النصارى والكبر غالب على اليهود قال تعالى في النصارى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وقال في اليهود: { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون } وقال تعالى: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا }

ولما كان الكبر مستلزما للشرك والشرك ضد الإسلام وهو الذنب الذي لا يغفره الله - قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما } وقال: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } - كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام فهو الدين الذي لا يقبل الله غيره لا من الأولين ولا من الآخرين قال نوح: { فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين } وقال في حق إبراهيم: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } إلى قوله: { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال يوسف: { توفني مسلما وألحقني بالصالحين } وقال موسى: { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا } وقال تعالى: { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } وقالت بلقيس { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وقال: { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } وقال: { إن الدين عند الله الإسلام } وقال: { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه }

وقال تعالى: { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } فذكر إسلام الكائنات طوعا وكرها لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام سواء أقر المقر بذلك أو أنكره وهم مدينون مدبرون فهم مسلمون له طوعا وكرها ليس للأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه ولا حول ولا قوة إلا به وهو رب العالمين ومليكهم يصرفهم كيف يشاء وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم وكل ما سواه فهو مربوب مصنوع مفطور فقير محتاج معبد مقهور وهو الواحد القهار الخالق البارئ المصور

وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب فهو خالق السبب والمقدر له وهو مفتقر إليه كافتقار هذا وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل ولا دفع ضرر بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه ويمانعه

وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه قال تعالى: { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير } وقال تعالى عن الخليل: { يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا } إلى قوله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }

وفي الصحيحن: عن ابن مسعود رضي الله عنه [ إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي وقالوا: يا رسول الله أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال: إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: { إن الشرك لظلم عظيم } ]

وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين حيث بعث وقد طبق الأرض دين المشركين قال الله تعالى: { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } فبين أن عهده بالإمامة لا يتناول الظالم فلم يأمر الله سبحانه أن يكون الظالم إماما وأعظم الظلم الشرك

وقال تعالى: { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين } والأمة هو معلم الخير الذي يؤتم به كما أن القدوة الذي يقتدي به

والله تعالى جعل في ذريته النبوة والكتابة وإنما بعث الأنبياء بعده بملته قال تعالى: { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } وقال تعالى: { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } وقال تعالى: { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين } وقال تعالى: { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } - إلى قوله - { ونحن له مسلمون }

وقد ثبت في الصحيح: عن النبي [ إن إبراهيم خير البرية ] فهو أفضل الأنبياء بعد النبي وهو خليل الله تعالى وقد ثبت في الصحيح: عن النبي من غير وجه أنه قال: [ إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ] وقال: [ لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خيل الله ] - يعني نفسه - وقال: [ لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر ] وقال: [ إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإن أنهاكم عن ذلك ] وكل هذا في الصحيح وفيه أنه قال: لك قبل موته بأيام وذلك من تمام رسالته

فإن في ذلك تحقيق تمام مخالتة لله التي أصلها محبة الله تعالى للعبد ومحبة العبد لله خلافا للجهمية

وفي ذلك تحقيق توحيد الله وأن لا يعبدوا إلا إياه ورد على أشباه المشركين

وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكا بالبشر

والخلة هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل وكمال الحب فإنهم يقولون: قلب متيم إذا كان متعبدا للمحبوب والمتيم المتعبد وتيم الله عبده وهذا على الكمال حصل لإبراهيم ومحمد ولهذا لم يكن له من أهل الأرض خليل إذ الخلة لا تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنى

( قد تخللت مسلك الروح مني... وبذا سمي الخليل خليلا )

بخلاف أصل الحب فإنه [ قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة: اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها وقال لعلي رضي الله عنه: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ] وأمثال ذلك كثير

وقد أخبر تعالى أنه يحب المتقين ويحب المحسنين ويحب المقسطين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وقال: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } فقد أخبر بمحبته لعباده المؤمنين ومحبة المؤمنين له حتى قال: { والذين آمنوا أشد حبا لله }

وأما الخلة فخاصة وقول بعض الناس: إن محمدا حبيب الله وإبراهيم خليل الله وظنه أن المحبة فوق الخلة قول ضعيف فإن محمدا أيضا خليل كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة وما يروى أن العباس يحشر بين حبيب وخليل وأمثال ذلك فأحاديث موضوعة لا تصلح أن يعتمد عليها

وقد قدمنا أن من محبة الله تعالى محبة ما أحب كما في الصحيحين: عن النبي أنه قال: [ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ] أخبر النبي أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان لأن وجد الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له فمن أحب شيئا أو اشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى

ومن قال إن اللذة إدراك الملائم كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والأطباء فقد غلط في ذلك غلطا بينا فإن الإدراك يتوسط بين المحبة واللذة فإن الإنسان مثلا يشتهي الطعام فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة فاللذة تتبع النظر إلى الشيء فإذا نظر إليه التذ فاللذة تتبع النظر ليس نفس النظر وليست هي رؤية الشيء بل تحصل عقيب رؤيته وقال تعالى: { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات والآلام من فرح وحزن ونحو ذلك يحصل بالشعور بالمحبوب أو الشعور بالمكروه وليس نفس الشعور هو الفرح ولا الحزن فحلاوة الإيمان المتضمنة من اللذة به والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان تتبع كمال محبة العبد لله وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريعها ودفع ضدها

فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما تقدم

وتفريعها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله

ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة الله وكان رسول الله حب المؤمنين الذين يحبهم الله لأنه أكمل الناس محبة لله وأحقهم بأن يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه الله والخلة ليس لغير الله فيها نصيب بل قال: [ لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ] علم مزيد مرتية الخلة على مطلق المحبة

والمقصود هو أن الخلة والمحبة لله تحقيق عبوديته وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذل وخضوع فقط لا محبة معه أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء أو إدلال لا تحتمله الربوبية ولهذا يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة فقال: أمسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها وكره من كره من أهل المعرفة والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية وقال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالحب والخوف الرجاء فهو مؤمن موحد ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوى التي تنافي العبودية وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا لله ويدعي أحدهم دعوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين أو يطلبون من الله ما لا يصلح - بكل وجه - إلا لله لا يصلح للأنبياء والمرسلين

وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل وحررها الأمر والنهي الذي جاؤوا به بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة انبسطت النفس بحمقها في ذلك كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله ويقول: أنا محب فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عذران وجهل فهذا عين الضلال وهو شبيه بقول اليهود والنصارى: { نحن أبناء الله وأحباؤه } قال الله تعالى: { قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين ولا منسوبين إليه بنسبة النبوة بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون

فمن كان الله يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه لا يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان ومن فعل الكبائر وأصر عليها ولم يتب منها فإن الله يبغض منه ذلك كما يحب منه ما يفعله من الخير إذ حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه ومن ظن أن الذنوب لا تضره لكون الله يحبه مع إصراره عليها كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره مع مداومته عليه وعدم تداويه منه بصحة مزاجه

ولو تدبر الأحمق ما قص الله في كتابه من قصص أنبيائه وماجرى لهم من التوبة والاستغفار وما أصيبوا به من أنواع البلاء الذي فيه تمحيص لهم وتطهير بحسب أحوالهم علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها ولو كان أرفع الناس مقاما فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفا بمصلحته ولا مريدا لها بل يعمل بمقتضى الحب - وإن كان جهلا وظلما - كان ذلك سببا لبغض المحبوب له ونفوره عنه بل لعقوبته

وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعا من أمور الجهل بالدين إما من تعدي حدود الله وإما من تضييع حقوق الله وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها كقول بعضهم: أي مريد لي ترك في النار أحدا فأنا منه بريء فقال الآخر: أي مريد لي ترك أحدا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه بريء فالأول جعل مريده يخرج كل من في النار والثاني جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين وهي إما كذب عليهم وإما غلط منهم ومثل هذا قد يصدر في حال سكر وغلية وفناء يسقط فيها تمييز الإنسان أو يضعف حتى لا يدري ما قال والسكر هو لذة عدم تمييز ولهذا كان بين هؤلاء من إذا استغفر من ذلك الكلام

والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم ولهذا أنزل الله للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقال: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فلا يكون محبا لله إلا من يتبع رسوله وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية

وكثير ممن دعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته ويدعي من الخيالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته وطاعته بل قد جعل محبة الله ومحبة رسوله الجهاد في سبيله والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به وكمال بغض ما نهى الله عنه ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله }

ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها وعبوديتهم لله أكمل من عبوديية من قبلهم وأكمل هذه الأمة في ذلك أصحاب محمد ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل فأين هذا من قوم يدعون المحبة؟ !

و[ في ] كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق في القلب ماسوى مراد المحبوب وأرادوا أن الكون كله قد أراد الله وجوده فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء حتى الكفر والفسوق والعصيان ولا يمكن أحدا أن يحب كل موجود بل يحب ما يلائمه وينفعه ما ينافيه ويضره ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع أهوائهم فهم يحبون ما يهوونه كالصور والرئاسة وفضول المال والبدع المضلة زاعمين أن هذا من محبة الله ومن محبة الله بغض ما يبغضه الله ورسوله وجهاد أهله بالنفس والمال

وأصل ضلالهم أن هذا القائل الذي قال: إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب قصد بمراد الله تعالى الإرادة الدينية الشرعية التي هو بمعنى محبته ورضاه فكأنه قال: تحرق من القلب ماسوى المحبوب لله وهذا معنى صحيح فإن من تمام الحب أن لا يحب إلا ما يحبه الله فإذا أحببت مالا يحب كانت المحبة ناقصة وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهى عنه فإن لم أوافقه في بغضه وكراهته وسخطه لم أكن محبا له بل محبا لما يبغضه فاتباع الشريعة والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين من يدعي محبة الله ناظرا إلى عموم ربوبيته أو متبعا لبعض البدع المخالفة لشريعته فإن دعوى هذه المحبة لله من جنس دعوى اليهود والنصارى لما فيهم من النفاق الذين هم به في الدرك الأسفل من النار كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شر من دعواهم إذا لم يصلوا إلى مثل كفرهم وفي التوراة والإنجيل من محبة الله ما هم متفقون عليه حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس

ففي الإنجيل أن المسيح قال: أعظم وصايا المسيح أن تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك. والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة وإن ما هم فيه من الزهد والعبادة هو من ذلك وهم برآء من محبة الله إذ لم يتبعوا ما أحبه بل اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم والله يبغض الكافرين ويمقتهم ويلعنهم وهو سبحانه يحب من يحبه لا يمكن أن يكون العبد محبا لله والله تعالى غير محب له بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله له ن وإن كان جزاء الله لعبده أعظم كما في الحديث الصحيح الإلهي عن الله تعالى أنه قال: [ من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ]

وقد أخبر سبحانه أنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ويحب التوابين ويحب المتطهرين بل هو يحب من فعل ما أمر به من واجب ومستحب كما في الحديث الصحيح: [ لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به الحديث ]

وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشياخا في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى: من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى الله بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها ولو صدق لم يكن قائلها معصوما فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم دينا ثم إنهم ينتقصون العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعي النصارى في المسيح ويثبتون للخاصة من المشاركة في الله من جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع

وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده ويقدر نقص هذا يكون نقص هذا وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة وكل عمل لا يراد به وجه لله فهو باطل فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين: أن يكون لله وأن يكون موافقا لمحبة الله ورسوله وهو الواجب والمستحب كما قال: { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }

فلا بد من العمل الصالح وهو الواجب والمستحب ولا بد أن يكون خالصا لوجه الله تعالى كما قال تعالى: { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وقال النبي : [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] وقال النبي : [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ]

وهذا الأصل هو أصل الدين وبحسب تحقيقه يكون الدين وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وإليه دعا الرسول وعليه جاهد وبه أمر وفيه رغب وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه

والشرك غالب على النفوس وهو كما جاء في الحديث [ وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ] وفي حديث آخر [ قال أبو بكر: يا رسول الله كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل؟ فقال النبي لأبي بكر: ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم واستغفرك لما لا أعلم ] وكان عمر يقول في دعائه: الله اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا

وكثيرا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له وإخلاص دينها له كما قال شداد بن أوس: يا بقايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية قيل لأبي داود السجستاني: وما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة وعن كعب بن مالك عن النبي أنه قال [ ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ] قال الترمذي حديث حسن صحيح

فبين أن الحرص على المال والشرف في فساد الدين لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم وذلك بين فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته له لم يكن شيء أحب غليه من ذلك حتى يقدمه عليه وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء كما قال تعالى: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }

فإن المخلصين لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره إذ ليس عند القلب لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له وإخلاصه الدين له وكذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه راغبا راهبا كما قال تعالى: { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرغوبه فلا يكون عبد الله ومحبه إلا بين خوف ورجاء قال تعالى: { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }

وإذا كان العبد مخلصا له اجتباه ربه فيحيي قلبه واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء ويخاف من حصول ضد ذلك بخلاف القلب الذي لم يخلص لله فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه كالغصن أي نسيم مر بعطفه أماله فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة فيبقى أسيرا عبدا لمن لو اتخذه هو عبدا له لكان ذلك عيبا ونقصا وذما وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة ويستعبده من يثنى عليه ولو بالباطل ويعادي من يذمه ولو بالحق وتارة يستعبده الدرهم والدينار وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من الله

ومن لم يكن خالصا لله عبدا له قد صار قلبه معبدا لربه وحده لا شريك له بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه ويكون ذليلا له خاضعا وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين وكان من الغاوين أخوان الشياطين وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه فالقلب إن لم يكن حنيفا مقبلا على الله معرضا عما سواه وإلا كان مشركا قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } إلى قوله: { كل حزب بما لديهم فرحون }

وقد جعل الله سبحانه إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين أهل محبة الله وعبادته وإخلاص الدين له كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم قال تعالى في إبراهيم: { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } وقال في فرعون وقومه: { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين }

ولهذا يصير اتباع فرعون أولا إلى أن لا يميزوا بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما قدر الله وقضاه بل ينظرون إلى المشيئة المطلقة الشاملة ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق بل يجعلون وجود هذا وجود هذا ويقول محققوهم الشريعة فيها طاعة ومعصية والحقيقة فيها معصية بلا طاعة والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية وهذا تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق وأنكروا تكليمه لعبده موسى وما أرسله به من الأمر والنهي

وأما إبراهيم وآل إبراهيم الحنفاء والأنبياء فهم يعلمون أنه لا بد من الفرق بين الخالق والمخلوق ولا بد من الفرق بين الطاعة والمعصية وأن العبد كلما ازداد تحقيقا ازدادت محبته لله وعبوديته له وطاعته له واعراضه عن عبادة غيره ومحبة غيره وطاعة غيره وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين الله وبين خلقه والخليل يقول: { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشائخ كما فعلت النصارى

مثال ذلك اسم الفناء فإن الفناء ثلاثة أنواع: نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء ونوع للقاصدين من الأولياء والصالحين ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين

فأما الأول: فهو الفناء عن إرادة ما سوى الله بحيث لا يحب إلا الله ولا يعبد إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه ولا يطلب غيره وهو المعنى الذي يجب أن يقصده بقول الشيخ أبي يزيد حيث قال: أريد أن لا أريد إلا ما يريد أي المراد المحبوب المرضي وهو المراد بالإرادة الدينية وكمال العبد أن لا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده الله ورضيه وأحبه وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب ولا يحب إلا ما يحبه الله كالملائكة والأنبياء والصالحين وهذا معنى قولهم في قوله: { إلا من أتى الله بقلب سليم } قالوا: هو السليم مما سوى الله أو مما سوى عبادة الله أو مما سوى إرادة الله أو مما سوى محبة الله فالمعنى واحد وهذا المعنى إن سمي فناء أو لم يسم هو أول الإسلام وآخره وباطن الدين وظاهره

وأما النوع الثاني: فهو الفناء عن شهود السوى وهذا يحصل لكثير من السالكين فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد لا يخطر بقلوبهم غير الله بل ولا يشعرون كما قيل في قوله: { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } قالوا: فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من الأمور إما حب وإما خوف وإما رجاء يبقى قلبه منصرفا عن كل شيء إلا عما قد أحبه أو خافه أو طلبه بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره

فإذا قوي على صاحب الفناء هذا فإنه يغيب بموجوده عن وجود وبمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته حتى يفنى من لم يكن وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره وفناؤه عن أن يدركهما أو يشهدها وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه كما يذكر: أن رجلا ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي قال: غبت بك عني فطننت أنك أني

وهذا الوضع يزل فيه اقوام وظنوا أنه اتحاد وإن الحب يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودهما وهذا غلط فإن الخالق لا يتحد به شيء أصلا بل لا يتحد شيء بشيء إلا إذا استحالا وفسدا وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو هذا ولا هذا كما إذا اتحد الماء واللبن والماء والخمر ونحو ذلك ولكن يتحد المراد والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الإرادة والكراهة فيحب هذا مايحب هذا ويبغض هذا مايبغض هذا ويرضى مايرضى ويسخط ما يسخط ويكره ما يكره ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي وهذا الفناء كله فيه نقص

وأكابر الأولياء كأبي بكر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: لم يقعوا في هذا الفناء فضلا عمن هو فوقهم من الأنبياء وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة العقل والتمييز لما يرد على القلب من أحوال الإيمان فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الإيمانية من أن تغيب عقولهم أو يحصل لهم غشى أو صعق أوسكر أو فناء أو وله أو جنون وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عباد البصرة فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن ومنهم من يموت: كأبي جهير الضرير وزرارة بن أبي أوفى قاضي البصرة

وكذلك صار في شيوخ الصوفية من يعرض له من الفناء والسكر ما يضعف معه تمييزه حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه كما يحكى نحو ذلك عنمثل أبي يزيد وأبي الحسن الثوري وأبي بكر الشبلي وأمثالهم

بخلاف أبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والفضيل بن عياض بل وبخلاف الجنيد وأمثالهم ممن كانت عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فلا يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيها سوى محبة الله وإرادته وعبادته وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون الأمور على ما هي عليه بل يشهدون المخلوقات قائمة بأمر الله مدبرة بمشيئته بل مستجيبة له قانتة له فيكون لهم فيها تبصرة وذكرى ويكون مايشهدونه من ذلك مؤيدا وممدا لما في قلوبهم من إخلاص الدين وتجريد التوحيد له والعبادة له وحده لا شريك له

وهذه الحقيقة التي دعا القرآن وقام بها أهل تحقيق الإيمان والكمل من أهل العرفان ونبينا أمام هؤلاء وأكملهم ولهذا لما عرج به إلى السماوات وعاين ما هنالك من الآيات وأوحي إليه ما أوحي من أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله ولا ظهر عليه ذلك بخلاف ما كان يظهر على موسى من التغشي - أجمعين

وأما النوع الثالث: مما قد يسمى فناء: فهو أن يشهد أن لا موجود إلا الله وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق فلا فرق بين الرب والعبد فهذا فناء أهل الضلال والإلحاد الواقعين في الحلول والاتحاد

والمشائخ المستقيمون إذا قال أحدهم: ما أرى غير الله أولا أنظر إلى غير الله ونحو ذلك فمرادهم بذلك ما أرى ربا غيره ولا خالقا غيره ولا مدبرا غيره ولا إلها غيره ولا أنظر إلى غيره محبة له أو خوفا منه أو رجاء له فإن العين تنظر إلى مايتعلق به القلب فمن أحب شيئا أو رجاه أو خافه التفت إليه وإذا لم يكن في القلب محبة له ولا رجاء له ولا خوف منه ولا بغض له ولا غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه ولا أن ينظر إليه ولا أن يراه وأن رآه اتفاقا رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطا ونحوه مما ليس في قلبه تعلق به

والمشائخ الصالحون - رضي الله عنهم - يذكرون شيئا من تجريد التوحيد وتحقيق إخلاص الدين كله بحيث لا يكون العبد ملتفتا إلى غير الله ولا ناظرا إلى ما سواه: لا حبا له ولا خوفا منه ولا رجاء له بل يكون القلب فارغا من المخلوقات خالقا منها لا ينظر إليها إلا بنور الله فبالحق يسمع وبالحق يبصر وبالحق يبطش وبالحق يمشي فيحب منها ما يحبه الله ويبغض منها ما يبغضه الله ويوالي منها ما والاه الله ويعادي منها ما عاداه الله ويخاف الله فيها ولا يخافها في الله ويرجو الله فيها ولا يرجوها في الله فهذا هو القلب السليم الحنيف الموحد المسلم المؤمن العارف المحقق الموحد بمعرفة الأنبياء والمرسلين وبحقيقتهم وتوحيدهم

وأما النوع الثالث: وهو الفناء في الموجود: فهو تحقيق آل فرعون ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم

وهذا النوع الذي عليه اتباع الأنبياء هو الفناء المحمود الذي يكون صاحبه به ممن أثنى الله عليهم من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين

وليس مراد المشائخ والصالحين بهذا القول أن الذي أراه بعيني من المخلوقات هو رب الأرض والسماوات فإن هذا لا يقوله إلا من هو في غاية الضلال والفساد؟ إما فساد العقل وإما فساد الاعتقاد فهو متردد بين الجنون والإلحاد

وكل المشائخ الذين يقتدى بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات وليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث وتمييز الخالق عن المخلوق وهذا في كلامهم أكثر من أن يمكن ذكره هنا وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب من الأمراض والشبهات وأن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات فيظنه خالق الأرض والسماوات لعدم التمييز والفرقان في قلبه: بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء

وهم قد يتكلمون في الفرق والجمع ويدخل في ذلك من العبارات المتلفة نظير ما دخل في الفناء فإن العبد إذا شهد التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلقا بها متشتتا ناظرا إليها متعلقا بها: إما محبة وإما خوفا وإما رجاء فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له فالتفت قلبه إلى الله بعد التفاته إلى المخلوقين فصارت محبته لربه وخوفه من ربه ورجاؤه لربه واستعانته بربه وهو في هذا الحال قد لا يسع قلبه النظر إلى المخلوق ليفرق بين الخالق والمخلوق فقد يكون مجتمعا على الحق معرضا عن الخلق نظرا وقصدا وهو نظير النوع الثاني من الفناء

ولكن بعد ذلك الفرق الثاني وهو: أن يشهد أن المخلوقات قائمة بالله مدبرة بأمره ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية الله سبحانه وتعالى وأنه سبحانه رب المصنوعات وإلهها وخالقها ومالكها فيكون مع اجتماع قلبه على الله - إخلاصا له ومحبة وخوفا ورجاء واستعانة وتوكلا على الله وموالاة فيه ومعاداة فيه وأمثال ذلك - ناظرا إلى الفرق بين الخالق والمخلوق مميزا بين هذا وهذا يشهد تفرق المخلوقات وكثرتها مع شهادته أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه وأنه هو الله لا إله إلا هو وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم وذلك واجب في علم القلب وشهادته وذكره ومعرفته: في حال القلب وعبادته وقصده وإرادته ومحبته وموالاته وطاعته

وذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق ويثبت في قلبه ألوهية الحق فيكون نافيا لألوهية كل شيء من المخلوقات مثبتا لألوهية رب العالمين رب الأرض والسماوات وذلك يتضمن اجتماع القلب على الله وعلى مفارقة ما سواه فيكون مفرقا: في علمه وقصده في شهادته وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق بحيث يكون عالما بالله تعالى ذاكرا له عافا به وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه وانفراده عنهم وتوحده دونهم ويكون محبا لله معظما له عابدا له راجيا له خائفا منه مواليا فيه معاديا فيه مستعينا به متوكلا عليه ممتنعا عن عبادة غيره والتوكل عليه والاستعانة به والخوف منه والرجاء له والموالاة فيه والمعاداة فيه والطاعة لأمره وأمثال ذلك مما هو من خصائص إلهية الله سبحانه وتعالى

وإقراره بألوهية الله تعالى دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته وهو أنه رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره فحينئذ يكون موحدا لله

ويبين ذلك أن أفضل الذكر لا إله إلا الله كما رواه الترمذي وابن أبي الدنيا وغيرهما مرفوعا إلى النبي أنه قال: [ أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله ] وفي الموطأ وغيره عن طلحة بن عبد الله بن كثير أن النبي قال: [ أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ]

ومن زعم أن هذا ذكر العامة وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد وذكر خاصة الخاصة هو الاسم المضمر فهم ضالون غالطون واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله: { قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } من أبين غلط هؤلاء فإن الاسم هو مذكور في الأمر بجواب الاستفهام وهو قوله: { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } إلى قوله: { قل الله } أي الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فالاسم مبتدأ وخبره قد دل عليه الاستفهام كما في نظائر ذلك تقول: من جاره فيقول زيد

وأما الاسم المفرد مظهرا أو مضمرا فليس بكلام تام ولا جملة مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا شرع ذلك رسول الله ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة ولا حالا نافعا وإنما يعطيه تصورا مطلقا لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه وإلا لم يكن فيه فائدة والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره

وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد وأنواع من الاتحاد كما قد بسط في غير هذا الوضع

وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات حال لا يقتدى فيها بصاحبها فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه إذ الأعمال بالنيات وقد ثبت أن النبي أمر بتلقين الميت لا إله إلا الله وقال: [ من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ] ولو كان ما ذكره محذورا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتا غير محمود بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد

والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنة وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان فإن من قال: يا هو يا هو أو: هو هو ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدا إلا إلى ما يصوره قلبه والقلب قد يهتدي وقد يضل وقد صنف صاحب الفصوص كتابا سماه كتاب الهو وزعم بعضهم أن قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } معناه وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو الهو وقيل هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء حتى قلت مرة لبعض من قال شيئا من ذلك لو كان لو كان هذا كما قلته لكتبت ( وما يعلم تأويل هو ) منفصلة

ثم كثيرا ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل: الله بقوله: { قل الله ثم ذرهم } ويظن أن الله نبيه بأن يقول الاسم المفرد وهذا غلط باتفاق أهل العلم فإن قوله: { قل الله } معناه الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وهو جواب لقوله: { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله } أي الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى رد بذلك قول من قال: ما أنزل الله على بشر من شيء فقال: { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } ثم قال: { قل الله } أنزله { ثم ذرهم } هؤلاء المكذبين { في خوضهم يلعبون }

ومما يبين ما تقدم: ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلاما لا يحكون به ما كان قولا فالقول لا يحكى به إلا كلام تام أو جملة اسمية أو فعلية ولهذا يكسرون إن إذا جاءت بعد القول فالقول لا يحكى به اسم والله تعالى لا يأمر أحدا بذكر اسم مفرد ولا شرع للمسلمين اسما مفردا مجردا والاسم المجرد لا يفيد الإيمان باتفاق أهل الإسلام ولا يؤمر به في شيء من العبادات ولا في شيء من المخاطبات

ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر أن بعض الأعراب مر بمؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله بالنصب فقال: ماذا يقول هذا؟ هذا الاسم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟

وما في القرآن من قوله: { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } وقوله: { سبح اسم ربك الأعلى } وقوله: { قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى } وقوله: { فسبح باسم ربك العظيم } ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفردا بل في السنن أنه لما نزل قوله: { فسبح باسم ربك العظيم } قال اجعلوه في ركوعكم ولما نزل قوله: { سبح اسم ربك الأعلى } قال اجعلوه في سجودكم فشرع لهم أن يقولوا في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى وفي الصحيح: [ أنه كان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى ] وهذا هو معنى قوله: اجعلوها في ركوعكم وسجودكم باتفاق المسلمين

فتسبيح اسم ربه الأعلى وذكر اسم ربه ونحو ذلك هو بالكلام التام المفيد كما في الصحيح عنه أنه قال: [ أفضل الكلام بعد القرآن أربع - وهن من القرآن - سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ] وفي الصحيح: عنه أنه قال: [ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ]

وفي الصحيحين: عنه أنه قال: [ من قال في يومه مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب الله له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه ومن قال في يومه مائة مرة: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر ]

وفي الموطأ وغيره: عن النبي أنه قال: [ أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ]

وفي سنن ابن ماجه وغيره عنه أنه قال: [ أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله ]

ومثل هذه الأحاديث كثيرة في أنواع ما يقال من الذكر والدعاء

وكذلك ما في القرآن من قوله تعالى: { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وقوله: { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } إنما هو قوله: بسم الله وهذا جملة تامة إما اسمية على أظهر قولي النحاة أو فعلية والتقدير ذبحي باسم الله أو اذبح باسم الله وكذلك قول القارئ { بسم الله الرحمن الرحيم } فتقديره: قراءتي بسم الله أو اقرأ بسم الله

ومن الناس من يضمر في مثل هذا ابتدائي بسم الله أو ابتدأت بسم الله والأول أحسن لأن الفعل كله مفعول بسم الله ليس مجرد ابتدائه كما أظهر المضمر في قوله: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وفي قوله: { بسم الله مجريها ومرساها }

وفي قول النبي : [ من كان ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى ومن لم يكن ذبح فليذبح بسم الله ]

ومن هذا الباب قول النبي في الحديث الصحيح لربيبه عمر بن أبي سلمة: [ سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ] فالمراد أن يقول بسم الله ليس المراد أن يذكر الاسم مجردا وكذلك قوله في الحديث الصحيح لعدي بن حاتم [ إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ] وكذلك قوله [ إذا دخل الرجل منزله فذكر اسم الله عند دخوله وعند خروجه وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء ] وأمثال ذلك كثير

وكذلك ما شرع للمسلمين في صلاتهم وآذانهم وحجهم وأعيادهم من ذكر الله تعالى إنما هو بالمجملة التامة كقول المؤذن: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله وقول المصلي: الله أكبر سبحان ربي العظيم سبحان ربي الأعلى سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد التحيات لله وقول الملبي: لبيك اللهم لبيك وأمثال ذلك فجميع ما شرعه الله من الذكر إنما هو كلام تام لا اسم مفرد ولا مظهر ولا مضمر وهذا هو الذي يسمى في اللغة كلمة كقوله: [ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقليلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ] وقوله: [ أفضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ] ومنه قوله تعالى: { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } الآية وقوله: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } وأمثال ذلك مما استعمل فيه لفظ الكلمة في الكتاب والسنة بل وسائر كلام العرب فإنما يراد به الجملة التامة كما كانوا يستعملون الحرف في الاسم فيقولون: هذا حرف غريب أي لفظ الاسم غريب

وقسم سيبويه الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم وفعل وكل من هذه الأقسام يسمى حرفا لكن خاصة الثالث أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل وسمى حروف الهجاء باسم الحرف وهي أسماء ولفظ الحرف يتناول هذه الأسماء وغيرها كما قال النبي : [ من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات: أما إني لا أقول: { ألم } حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ] وقد سأل الخليل أصحابه عن النطق بحرف الزاي من زيد فقالوا: زاي فقال: جئتم بالاسم وإنما الحرف ز

ثم إن النحاة اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف يسمى كلمة وأن لفظ الحرف يخص لما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل كحروف الجر ونحوها وأما ألفاظ حروف الهجاء فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من اللفظ وتارة باسم ذلك الحرف ولما غلب هذا الاصطلاح صار يتوهم من اعتاده أنه هكذا في لغة العرب ومنهم من يجعل لفظ الكلمة في اللغة لفظا مشتركا بين الاسم مثلا وبين الجملة ولا يعرف في صريح اللغة من لفظ الكلمة إلا الجملة التامة

والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الله سبحانه هو ذكره بجملة تامة وهو المسمى بالكلام والواحد منه بالكلمة وهو الذي ينفع القلوب ويحصل به الثواب والأجر والقرب إلى الله ومعرفته ومحبته وخشيته وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرا أو مضمرا فلا أصل له فضلا عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع

وجماع الدين أصلان أن لا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بالبدع كما قال تعالى: { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ففي الأولى أن لا نعبد إلا إياه وفي الثانية أن محمدا هو رسوله المبلغ عنه فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره وقد بين لنا ما نعبد الله به ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة قال تعالى: { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }

كما أنا مأمورون أن لا نخاف إلا الله ولا نتوكل إلا على الله ولا نرغب إلا إلى الله ولا نستعين إلا بالله: وأن لا تكون عبادتنا إلا لله فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه وتنأسى به فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه قال تعالى: { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } فجعل الإيتاء لله والرسول كما قال: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وجعل التوكل على الله وحده بقوله: { وقالوا حسبنا الله } ولم يقل ورسوله كما قال في الآية الأخرى: { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } ومثله قوله: { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أي حسبك وحسب المؤمنين كما قال: { أليس الله بكاف عبده }

ثم قال: { سيؤتينا الله من فضله ورسوله } فجعل الإيتاء لله والرسول وقدم ذكر الفضل لأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين وقال: { إنا إلى الله راغبون } فجعل الرغبة إلى الله وحده كما في قوله: { فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب } وقال النبي لابن عباس: [ إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ] والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع

فجعل العبادة والخشية والتقوى لله وجعل الطاعة والمحبة لله ورسوله كما في قول نوح عليه السلام: { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } وقوله: { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } وأمثال ذلك

فالرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه والطاعة لهم فأضل الشيطان النصارى وأشباههم فأشركوا بالله وعصوا الرسول فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم فجعلوا يرغبون إليهم ويتوكلون عليهم ويسألونهم مع معصيتهم لأمرهم ومخالفتهم لسنتهم وهدى الله المؤمنين المخلصين لله أهل الصراط المستقيم الذين عرفوا الحق واتبعوه فلم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين فأخلصوا دينهم لله وأسلموا وجوههم لله وأنابوا إلى ربهم وأحبوه ورجوه وخافوه وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم

وذلك هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينا إلا إياه وهو حقيقة العبادة لرب العالمين

فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليه ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين

والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

الفتاوى الكبرى لابن تيمية
كتاب السنة والبدعة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطهارة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | كتاب الصلاة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | كتاب الذكر والدعاء | 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب الصيام: 1 | 2 | 3 | كتاب الجنائز: 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب النكاح: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطلاق: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | كتاب النفقات | كتاب الحدود: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الجهاد: 1 | 2 | كتاب البيوع: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الشهادة والأقضية والأموال: 1 | 2 | كتاب الوقف: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | كتاب الوصايا | كتاب الفرائض | كتاب الفضائل: 1 | 2 | كتاب الملاهي | مسائل منثورة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | كتاب الطهارة2 | كتاب الصلاة2: 1 | 2 | كتاب الجنائز2 | كتاب الزكاة2 | كتاب الصوم2 | كتاب الحج | كتاب البيع: 1 | 2 | كتاب الوصية | كتاب الفرائض | كتاب العتق | كتاب النكاح2: 1 | 2 | كتاب الخلع | كتاب الطلاق2 | كتاب الرجعة | كتاب الظهار | كتاب الجنايات | كتاب الأطعمة | كتاب الأيمان | باب القضاء | كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل | كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة: 1 |2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16