الفتاوى الكبرى/كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة/16

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

وكذلك احتج المعتزلة بقوله تعالى: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } وقالوا إن الله أحدثه في الهواء فاحتج من احتج منكم على أن القرآن المنزل محدث ولكن زاد على الفلاسفة بأن المحدث له إما جبريل وإما محمد

وإن قلتم: إنه محدث في الهواء صرتم كالمعتزلة ونقضتم استدلالكم بقوله: { إنه لقول رسول كريم } وقد استدل من استدل من أئمتكم على قولكم بهاتين الآيتين بقوله: { إنه لقول رسول كريم } وقوله: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } فإن أراد بذلك أن الله أحدثه بطل استدلاله بقوله: { لقول رسول كريم } فإن أراد بذلك أن الرسول أحدثه بطل بإضافته إلى الرسول الآخر وكنتم شرا من المعتزلة الذين قالوا: أحدثه الله وإن قلتم: أراد بذلك إن من تلاه فقد أحدثه فقد جعلتموه قولا لكل من تكلم به من الناس برهم وفاجرهم وكان ما يقرأه المسلمون ويسمعونه كلام الناس عندكم لا كلام الله

ثم إن الله تعالى قال: { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق } فأخبر أن جبريل نزله من الله لا من هواء ولا من لوح وقال: { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } وقال: { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم } وأنتم وافقتم المعتزلة بحيث يمتنع أن يكون عندكم منزلا من الله لأن ليس فوق العالم ولو كان فوق العالم لم يكن القرآن منزلا منه بل من الهواء

وأيضا فأنتم في مسائل الأسماء والأحكام قابلتم المعتزلة تقابل التضاد حتى رددتم بدعتهم ببدع تكاد أن تكون مثلها بل هي من وجه منها ومن وجه دونها فإن المعتزلة جعلوا الإيمان اسما متناولا لجميع الطاعات القول والعمل ومعلوم أن هذا قول السلف والأئمة

وقالوا: إن الفاسق الملي لا يسمى مؤمنا ولا كافرا وقالوا: إن الفساق مخلدون في النار لا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها وهم في هذا القول مخالفون للسلف والأئمة فخلافهم في الحكم للسلف وأنتم وافقتم الجهمية في الإرجاء والجبر فقلتم: الإيمان مجرد تصديق القلب وإن لم يتكلم بلسانه وهذا عند السلف والأئمة شر من قول المعتزلة

ثم إنكم قلتم: إنا لا نعلم هل يدخل أحد منهم النار أو لا يدخلها أحد منهم فوقفتم وشككتم في نفوذ الوعيد في أهل القبلة جملة ومعلوم أن هذا من أعظم البدع عند السلف والأئمة فإنهم لا يتنازعون أنه لا بد أن يدخلها من يدخلها من أهل الكبائر فأولئك قالوا: لا بد أن يدخلها كل فاسق وأنتم قلتم: لا نعلم هل يدخلها فاسق أم لا فتقابلتم في هذه البدعة وقولكم أعظم بدعة من قولهم وأعظم مخالفة للسلف والأئمة

وعلى قولكم: لا نعلم شفاعة النبي في أهل النار لأنه لا يعلم هل يدخلها أم لا وقولكم إلى إفساد الشريعة أقرب من قول المعتزلة

وكذلك في مسائل القدر فإن المعتزلة أنكروا أن يكون الله خالق أفعال العباد أو مريدا لجميع الكائنات بل الإرادة عندهم بمعنى المحبة والرضا وهو لا يحب ويرضى إلا ما أمر به فلا يريد إلا ما أمر به وأنتم وافقتموهم على أصلهم الفاسد وقاسمتموهم بعد ذلك الضلال فصرتم وهم في هذه المسائل كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب وقلتم: إن الإرادة بمعنى المحبة والرضا كما قالت المعتزلة لكن قلتم وهو أراد كل ما يفعله العباد فيجب أن يكون محبا راضيا لكل ما يفعله العباد حتى الكفر والفسوق والعصيان

وتأولتم قوله: { ولا يرضى لعباده الكفر } على المؤمنين من عباده وعلى قولكم لا يرضى لعباده الإيمان يعني الكافرين منهم إذ عندكم كل من فعل فعلا فقد رضيه منه ومن لم يفعله لا يرضاه منه فقد رضي عندكم من إبليس وفرعون ونحوهما كفرهم ولم يرض منهم الإيمان

وكذلك قلتم في قوله: { لا يحب الفساد } أي لا يحبه للمؤمنين وأما من قال منكم لا يحبه دينا أو لا يرضاه دينا فهذا أقرب لكنه بمنزلة قولكم لا يريده دينا ولا يشاءه دينا فيجوز عندكم أن يقال يحب الفساد ويرضاه أي يحبه فسادا ويرضاه فسادا كما أراده فسادا

وأنكرتم على المعتزلة ما أنكره المسلمون عليهم وهو قولهم: إن الله لا يقدر أن يفعل بالكفار غير ما فعل بهم من اللطف

وأنكرتم على من قال منهم خلاف المعلوم غير مقدور ثم قلتم: إن العبد لا يقدر على غير ما علممنه وأنه لا استطاعة له إلا إذا كان فاعلا فقط فأما من لم يفعل فإنه لا استطاعة له أصلا فخالفتم قوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ونحو ذلك من النصوص ولزمكم أن كل من لم يؤمن بالله فإنه لم يكن قادرا على الإيمان وكل من ترك طاعة الله فإنه لم يكن مستطيعا لها فإن ضم ضام هذا إلى قوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم } وقول النبي : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا عنه ما استطعتم ] تركب من هذين أن كل كافر وفاجر فإنه قد اتقى الله ما استطاع وأنه قد أتى فيما أمر به بما استطاع إذ لم بستطع غير ما فعل وأنتم لا تلتزمون ذلك فهو لازم قولكم إذا لم تجعلوا الاستطاعة نوعين

وقول القدرية الذين يجعلون استطاعة العبد صالحة للنوعين ولا يثبتون الاستطاعة التي هي مناط الأمر والنهي أقرب إلى الكتاب والسنة والشريعة من قولكم أنه لا استطاعة إلا للفاعل وإن لم يفعل فعلا فلا استطاعة له عليه وكل من تدبر القولين بغير هوى علم أن كلا منهما وإن كان فيه من خلاف السنة ما فيه فقولكم أكثر خلافا للسنة

وكذلك المعتزلة قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد بل العبد هو الذي يحدث أفعاله فضلوا بقولهم إن الله لم يخلق أفعال العباد وقلتم أنتم إن العبد لا يفعل أفعاله بل هي فعل الله تعالى ولكن هي كسب للعبد ولم تفرقوا بين الكسب والفعل بفرقة معقول وادعيتم العلم الضروري بأن كون العبد فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا أمر محدث ممكن فلا بد له من محدث واجب وهذا حق أصبتم فيه دون المعتزلة

لكن من المعتزلة من ادعى العلم الضروري بأن العبد يحدث أفعاله وهذا أيضا حق أصابوا فيه دونكم ولهذا كان أهل السنة والجماعة على أن العبد فاعل لأفعاله حقيقة والله خلق الفاعل فاعلا كما قال الله تعالى: { إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا } وليس كونه قادرا مريدا فاعلا بألزم له من كونه طويلا قصيرا والله خلقه على هذه الصفة فليس ما ذكره الله في كتابه من أن العباد يفعلون ويصنعون بمناف أن يكون الله خلقهم على هذه الصفة

وكون العبد فاعلا لما جعل الله فيه من القدرة هو كسائر ما خلقه الله بقوة فيه وقدرته سبب في حصول مقدوره كسائر الأسباب والأسباب لا ينكر وجودها ولا ينكر أن الله خلقها وخلق المسبب بها

فمن قال قدرة العبد مؤثرة في المقدور كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها لم ينكر قوله

ومن قال ليست مؤثرة أي ليست مستقلة وليست مبتدعة كما أن سائر الأسباب ليست كذلك لم ينكر قوله فإن السبب ليس علة مستقلة بمسببه بل لا بد من أسباب أخر ولا بد من صرف الموانع والله خالق مجموع الأسباب وصارف جميع الموانع وهذا هو الخلق المطلق الذي ليس إلا الله وحده وكل ما سواه مما يجعل سببا ومؤثرا فإنه جزء سبب فلا ينفي هذا الجزء ولا يعطي ما لا يستحقه من كونه مبدعا خالقا ومن كونه واحد لا شريك له فهو رب كل شيء ومليكه وأنتم قد خالفتم نصوص الكتاب والسنة وسلف الأمة في مسائل الصفات والقرآن والرؤية ومسائل الأسماء والأحكام والقدر ما تأولتموه

فالمعتزلة ونحوهم إذا خالفوا من ذلك ما تأولوه لم يكن لكم عليهم حجة وإذا قدحتم في المعتزلة بما ابتدعوه من المقالات وخالفوه في السنن والآثار قدحوا فيكم بمثل ذلك وإذا نسبتموهم إلى القدح في السلف والأئمة نسبوكم إلى مثل ذلك فيما تذمونهم به من مخالفة الكتاب والسنة والإجماع يذمونكم بنظيره ولا محيص لكم عن ذلك إلا بترك ما ابتدعتموه وما وافقتموه عليه من البدعة وما ابتدعتموه أنتم وحينئذ فيكون الكتاب والسنة إجماع سلف الأمة وأئمتها سليما من التناقض والتعارض محفوظا قال الله تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }

وبالجملة فعامة ما ذمه السلف والأئمة وعابوه على المعتزلة من الكلام المخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم لكم منه أوفر نصيب بل تارة تكونون أشد مخالفة لذلك من المعتزلة وقد شاركتموهم في أصول ضلالهم التي فارقوا بها سلف الأمة وأئمتها ونبذوا بها كتاب الله وراء ظهورهم فإنهم لا يثبتون شيئا من صفات الله تعالى ولا ينزهونه من شيء بالكتاب والسنة والإجماع موقوف على العلم بذلك والعلم بذلك لا يحصل به لئلا يلزم الدور فيرجعون إلى مجرد رأيهم في ذلك

وإذا استدلوا بالقرآن كان ذلك على وجه الاعتقاد والاستشهاد لا على وجه الاعتماد والاعتقاد وما خالف قولهم في القرآن تأولوه على مقتضى آرائهم واستخفوا بالكتاب والسنة وسموهما ظواهر

وإذا استدلوا على قولهم بمثل قوله: { لا تدركه الأبصار } وقوله: { ليس كمثله شيء } أو قوله: { وهو معكم أين ما كنتم } ونحو ذلك لم تكن هذه النصوص هي عمدتهم ولكن يدفعون بها عن أنفسهم عند المسلمين

وأما الأحاديث النبوية فلا حرمة لها عندهم بل تارة يردونها بكل طريق ممكن وتارة يتأولونها ثم يزعمون أن ما وضعوه برأيهم قواطع عقلية وأن هذه القواطع العقلية ترد لأجلها نصوص الكتاب والسنة إما بالتأويل وإما بالتفويض وإما بالتكذيب

وأنتم شركاؤكم في هذه الأصول كلها ومنهم أخذتموها وأنتم فروخهم فيها كما يقال: الأشعرية مخانيث المعتزلة والمعتزلة مخانيث الفلاسفة لكن لما شاع بين الأمة فساد مذهب المعتزلة ونفرت القلوب عنهم صرتم تظهرون الرد عليهم في بعض المواضع مع مقاربتكم أو موافقتكم لهم في الحقيقة

وهم سموا أنفسهم أهل التوحيد لاعتقادهم أن التوحيد هو نفي الصفات وأنتم وافقتموهم على تسمية أنفسكم أهل التوحيد وجعلتم نفي بعض الصفات من التوحيد

وسموا ما ابتدعوه من الكلام الفاسد إما في الحكم وإما في الدليل أصول الدين وأنتم شاركتموهم في ذلك وقد علمتم ذم السلف والأئمة لهذا الكلام بل علم من يعرف دين الإسلام وما بعث الله به نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام ما فيه من المخالفة لكتب الله وأنبيائه ورسله

وقد بسطنا الكلام على فساد هذه الأصول في غير هذا الموضع وبينا أن دلالة الكتاب والسنة التي يسمونها دلالة السمع ليست مجرد الخبر كما تظنونه أنتم وهم حتى جعلتم ما دل عليه السمع إما بطريق الخبر الموقوف على تصديق المخبر ثم جعلتم تصديق المخبر وهو الرسول موقوفا على هذه الأصول التي سميتموها أنتم وهم العقليات وجعلوا منها نفس الصفات والتكذيب بالقدر ووافقتموهم على أن منها نفي كثير من الصفات وأنتم لم تثبتوا القدر حتى أبطلتم ما في أمر الله ونهيه بل ما في خلقه وأمره من الحكم والمصالح والمناسبات

وزعمتم أن الرد على القدرية لا يتم إلا بنفي تحسين العقل وتقبيحه مطلقا وأن تجعل الأفعال كلها سواء في أنفسها لا فرق في نفس الأمر بين الصلاة والزنا إلا من جهة حكم الشارع بإيجاب أحدهما وتحريم الآخر فصار قولكم مدرجة إلى فساد الدين والشريعة وذلك أعظم فسادا من التكذيب بالقدر

وقد بينا في غير هذا الموضع أن القرآن ضرب الله فيه الأمثال وهي المقاييس العقلية التي يثبت بها ما يخبر به من أصول الدين: كالتوحيد وتصديق الرسل وإمكان المعاد وأن ذلك مذكور في القرآن على أكمل وجه وإن عامة ما يثبته النظار من المتكلمين والفلاسفة في هذا الباب يأتي القرآن بخلاصته وبما هو أحسن منه على أتم الوجوه بل لا نسبة بينهما لعظم التفاوت

ومعلوم أن هذا أمر عظيم وخطب جسيم فإنكم والمعتزلة تثبتون كثيرا مما يثبتونه من أصول الدين بطرق ضعيفة أو فاسدة مع ما يتضمنه ذلك من التكذيب بكثير من أصول الدين

وحقيقة قولهم الذي وافقتموه عليه أنه لا يمكن تصديق الرسول في بعض ما أخبر به إلا بتكذيبه في شيء مما أخبر به فلا يمكن الإيمان بالكتاب كله بل يكفر ببعضه ويؤمن ببعضه فيهدم من الدين جانب ويبني منه جانب على غير أساس ثابت ولولا أن هذا الموضع لا يسع ذلك لفصلناه فإنا قد بسطناه في مواضع مثل ما يقال من أنه لا يمكن الإقرار بالصانع إلا بنفي صفاته أو بعضها التي يستلزم نفيها تعطيله في الحقيقة فيبقى الإنسان مثبتا له نافيا له مقرا بوجوده مستلزما لعدمه وإن كان لا يشعر بالتناقض

وأما العقليات فإنكم وافقتم المعتزلة والفلاسفة على أصول يلزم من تسليمها فساد ما بينتموه فإنكم لما سلمتم لهم أن الأعراض وهي صفات تدل على حدوث ما قامت به أو تدل على إمكانية كانوا مستدلين بهذا على نفي الصفات عن الرب سبحانه وتعالى فتنقطعون معهم

ثم أنتم إنما استدللتم على المتفلسفة بأن ما قامت به الحوادث فهو حادث فإنهم يزعمون أن القديم تقوم به الحوادث ولما ادعيتم أن ما قامت به الحوادث فهو حادث ألزموكم أول الحوادث فقالوا ذلك الحادث إما أن يكون لحدوثه سبب فإن كان لحدوثه سبب لزم تسلسل الحوادث وذلك يبطل دليلكم عليهم إذ هو مبني على تسلسل الحوادث وامتناع حوادث لا أول لها وإن لم يكن لحدوثها سبب جاز ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح وهذا يبطل جميع أصولكم وأصول المعتزلة والفلاسفة ويبطل إثباتكم بوجود الصانع

فأنتم مع الفلاسفة بين أمرين:

إما أن تجوزوا حوادث لا أول لها فيبطل دليلكم عليهم الذي أثبتم به حدوث العالم وهو أصل الأصول عندكم

وإما أن لا تجوزوا ذلك فيبطل أيضا دليلكم على حدوث العالم فعلى كلا التقديرين دليلكم الذي هو أصل أصولكم على حدوث العالم باطل

وأما المعتزلة فهم يوافقونكم على هذا الأصل لكن خطاب الفلاسفة لهم كخطاب الفلاسفة لكم وأما خطاب المعتزلة فإنهم يقولون لكم: إذا ما سلمتم أن ما تقوم به الحوادث لا يكون إلا جسما إذ لا فرق في المعقول بين قيام الأعراض والحوادث وإذا كان ما قام به الأعراض لا يكون إلا جسما وأنتم قد قلتم تقوم به الصفات وهي في الحقيقة الأعراض لزم أن يكون جسما والجسم حادث فيلزم أن يكون حادثا

ويقول لكم المعتزلي: إن قيام الكلام والحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك بمحل ليس بجسم ودعوى أن هذه الصفات ليست أعراضا أمر معلوم الفساد بالضرورة

وكان جوابكم للمعتزلة في هذا المقام أن قلتم لهم: كما اتفقنا نحن وأنتم على أن الله حي عالم قادر وليس بجسم فكذلك يجب أن تكون له حياة وعلم وقدرة وليست أعراضا وتقوم به ولا يكون جسما

ومعلوم أن هذا الجواب ليس بعلمي ولا يحمل به انقطاع المعتزلة ولا غيرهم إذ يقال لكم: المعتزلة مخطئون إما في قولكم إن هذه الأسماء تثبت لغير جسم وإما في قولهم إن هذه الصفات لا تقوم إلا بجسم فلم قلتم: إن خطأهم في الثاني دون الأول؟ !

فإن قلتم: قد قام الدليل على نفي الجسم قيل لكم: ذلك الدليل بعينه ينفي قيام الصفات التي هي الأعراض به إذ لا يعقل ما يقوم به الأعراض إلا الجسم ويقال لكم: الدليل الذي نفيتم به الجسم إنما هو الاستدلال على حدوثه بحدوث الأعراض وهذا الدليل آخره بعد تقرير كل مقدمة هو منع حوادث لا أول لها وهذه المقدمة إن صحت لزمكم إثبات حوادث بلا سبب وذلك يبطل أصل دليلكم على إثبات الصانع فإنه متى جوز الحدوث بلا مرجح تام يلزم منه الحدوث لزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح وهذا يسد باب إثبات الصانع بل يستلزم أن لا يكون في الوجود موجود واجب وهو في نفسه من أفسد ما يقال ولهذا لم يقله عاقل

قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتابه ذم الكلام:

باب في ذكر كلام الأشعرية

ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما أودعته من رموز الفلاسفة ولم نقف منهم إلا على التعطيل البحت وأن قطب مذهبهم ومنتهى عقيدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم أن الفلك دوار والسماء خالية وأن قولهم: إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشاه فرارا من الإثبات وذهابا عن التحقيق

وإن قولهم: سميع بلا سمع بصير بلا بصر عليم بلا علم قدير بلا قدرة إله بلا نفس ولا شخص ولا صورة ثم قالوا: لا حياة له ثم قالوا: لا شيء فإنه لو كان شيئا لأشبه الأشياء

حاولوا حول مقال رؤوس الزنادقة القدماء إذ قالوا: الباري لا صفة ولا لا صفة خافوا على قلوب ضعفاء المسلمين وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم إذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن وإن كان اعتصاما به من السيف واجتنابا به وإذ هم يرون التوحيد ويخاوضون المسلمين ويحملون الطيالسة فأفصحوا بمعانيهم وصاحوا بسوء ضمائرهم ونادوا على خبايا نكتهم

فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء وألسن العلماء وهجران الدهماء فقد شحنت كتب تكفير الجهمية من مقالات علماء الإسلام فيهم ودأب الخلفاء فيهم ودق أهل السنة عليهم وإجماع المسلمين على إخراجهم من الملة

ثقلت عليهم الوحشة وطالت عليهم الذلة وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم ويصفوا كلامهم وصفا يكون ألوح للأفهام وأنجع في العوام من أساس أولهم ليجدوا بذلك المساغ ويتخلصوا من خزي الشناعة فجاءت بمخاريق تتراءى للغبي بغير ما في الحشايا

ينظر الناظر الفهم في حذرها فيرى مخ الفلسفة يكسأ لحاء السنة وعقد الجهمية ينحل ألقاب الحكمة !

يردون على اليهود قولهم: { يد الله مغلولة } فينكرون الغل وينكرون اليد فيكونون أسوأ حالا من اليهود لأن الله أثبت الصفة ونفى العيب واليهود أثبتت الصفة وأثبتت العيب وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب

ويردون على النصارى في مقالهم في عيسى وأمه فيقولون: لا يكون في المخلوق غير المخلوق فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أوليهم وكلام آخريهم كخيط السحارة !

فاسمعوا الآن يا أولي الألباب وانظروا ما فضل هؤلاء على أولئك: أولئك قالوا - قبح الله مقالتهم - إن الله موجود بكل مكان وهؤلاء يقولون: ليس هو في مكان ولا يوصف بأين وقد قال المبلغ عن الله لجارية معاوية بن الحكم [ أين الله ]؟

وقالوا: هو من فوق كما هو من تحت لا يدري أين هو ولا يوصف بمكان وليس هو في السماء وليس هو في الأرض وأنكروا الجهة والحد وقال أولئك: ليس له كلام إنما خلق كلاما وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهو متكلم به مذ تكلم لم ينقطع الكلام ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به

ثم تقولون: ليس هو في مكان: ثم قالوا: ليس هو صوت ولا حروف وقالوا هذا زاج وورق وهذا صوف وخشب وهذا إنما قصد به النفس وأريد به النقر وهذا صوت القارئ ما ترى منه حسن ومنه قبيح وهذا لفظه أو ما تراه يجازي به حتى قال رأس من رؤوسهم: أو يكون قرآن من لبد؟ وقال آخر من خشب فراعوا فقالوا هذا حكاية عبر بها عن القرآن والله تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك

ثم قالوا: غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود لفظته الجهمية الذكور بمرة والأشعرية الإناث بعشر مرات

وهؤلاء قالوا: لا صفة وهؤلاء يقولون: وجه كما يقال وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث وعين كعين المتاع وسمع كأذن الجدار وبصر كما يقال جدارهما يتراءان ويد كيد المنة والعطية والأصابع كقولهم خراسان بين أصابع الأمير والقدمان كقولهم جعلت الخصومة تحت قدمي والقبضة كما قيل فلان في قبضتي أي: أملك أمره

وقالوا: الكرسي العلم والعرش الملك والضحك الرضا والاستواء الاستيلاء والنزول القبول والهرولة مثله فشبهوا من وجه وأنكروا من وجه وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر وردوا الأصل ولم يثبتوا شيئا ولم يبقوا موجودا ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسنة فقالوا لا نفسرها بجريها عربية كما وردت

وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة أرادوا بهذه المخرقة أن يكون عوام المسلمين أبعد غيابا عنها وأعيا ذهابا منها ليكونوا أوحش عند ذكرها وأشمس عند سماعها

وكذبوا بل التفسير أن يقال وجه ثم يقال: كيف؟ وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين

فأما العبارة فقد قال الله تعالى: { وقالت اليهود يد الله مغلولة } وإنما قالوا هم بالعبرانية فحكاها عنهم بالعربية وكان يكتب لرسول الله كتابة بالعربية فيها أسماء الله وصفاته فيعبر بالألسنة عنها ويكتب إليه بالسريانية فيعبر له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية والله تعالى يدعى بكل لسان بأسمائه فيجيب ويحلف بها فيلزم وينشد فيجاز فيوصف فيعرف

ثم قالوا ليس ذات الرسول بحجة ! وقالوا: ما هو بعدما مات بمبلغ فيلزم به الحجة فسقط من أقاويلهم ثلاثة أشياء: أنه ليس في السماء رب ولا في الروضة رسول ولا في الأرض كتاب كما سمعت يحيى بن عمار يحكم به عليهم وإن كانوا موهوها ووروا عنها واستوحشوا من تصريحها فإن حقائقها لازمة لهم وأبطلوا التقليد فكفروا آباءهم وأمهاتهم وعوام المسلمين

وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم فكفروا السلف وسموا الإثبات تشبيها فعابوا القرآن وضللوا رسول الله فلا يكاد يرى منهم رجلا ورعا ولا للشريعة معظما ولا للقرآن محترما ولا للحديث موقرا سلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع

واستفضلوا الرسول فانظر أنت إلى أحدهم إذ لا هو طالب أثره ولا متبع أخباره ولا مناضل عن سنته ولا هو راغب في أسوته يتقلب بمرتبة العلم وما عرف حديثا واحدا تراه يهزأ بالدين ويضرب له الأمثال ويتلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلا من العلم

لا تنقر لهم عن بطانة إلا خانتك ولا عن عقيدة إلا أرابتك أليسوا ظلمة الهوى وسلبوا هيبة الهدى فتنبو عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب وقد شاع بين المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي

قال: وقد سمعت محمد بن زيد العمري النسابة أخبرنا المعافى سمعت أبا الفضل الحارثي القاضي بسرخس يقول سمعت زاهر بن أحمد يقول: أشهد لمات أبو الحسن الأشعري متحيرا لمسألة تكافئ الأدلة فلا هدى الله أناط مخاريفه بمذهب الإمام المطلبي رحمه الله وكان من أبر خلق الله قلبا وأصوبهم صمتا وأهداهم هديا وأعمقهم قلبا وأقله تعمقا وأقرهم للدين وأبعدهم من التنطع وأنصحهم لخلق الله جزاء خير

قال: ورأيت منهم قوما يجتهدون في قراءة القرآن وتحفظ حروفه والإكثار من ختمه ثم اعتقادهم فيه ما قد بيناه اجتهاد روغان كالخوارج

وروى بإسناده عن حرشة بن الحر عن حذيفة قال: إنا آمنا ولم نقرأ القرآن وسيجي قوم يقرأون القرآن ولا يؤمنون قال وقال ابن عمر: كنا نؤتى الإيمان قبل القرآن وروى بإسناده عن ابن عمر قال: لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن وفي لفظ: إنا كنا صدور هذه الأمة وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله وصالحيهم ما يقيم إلا سورة من القرآن أو شبه ذلك وكان القرآن ثقيلا عليهم ورزقوا علما به وعملا وإن آخر هذه الأمة يخف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي لا يعلمون منه شيئا أو قال لا يسلمون منه الشيء

قال الحافظ أبو القاسم اللالكائي في كتابه المشهور في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لما ذكر عقوبات الأئمة لأهل البدع قال: واستناب أمير المؤمنين القادر بالله حرس الله مهجته وأمد بالتوفيق أموره ووفقه من القول والعمل لما يرضى مليكته فقهاء المعتزلة الحنفية في سنة ثمان وأربعمائة فأظهروا الرجوع وتبروا من الاعتزال ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرقصة والمقالات المخالفة للإسلام والسنة وأخذ خطوطهم بذلك وأنهم مهما خالفوه حل بها من النكال والعقوبة ما يتعظ به

وامتثل يمين الدولة وأمين الملة أبو القاسم محمود يعني ابن سبكتكين أعز الله نصره أمر أمير المؤمنين القادر بالله واستن بسننه في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم والأمر باللعن عليهم على منابر المسلمين وإبعاد كل طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم وصار ذلك في الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين

وجرى ذلك على يد الحاجب أبي الحسن علي بن عبد الصمد في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة عمم الله ذلك وثبته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين

قلت: وقد ذكر شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب ذم الكلام وأهله في الطبقة الثامنة قال: وفيهما نجحت الأشعرية ثم ذكر الطبقة التاسعة وذكر فيها كلام من ذكره فيهم

ثم قال: قرأت كتاب محمود الأمير بحث فيه على كشف أستار هذه الطائفة والإفصاح بعيبهم ولعنهم حتى كان قد قال فيه: أنا ألعن من لا يلعنهم فطاروا لله في الآفاق للحامدين كل مطار وصار المادحين كل مسار لا ترى عاقلا إلا وهو ينسبه إلى متانة الدين وصلابته ويصفه بشهامة الرأي ونجابته فما ظنك بدين يخفى فيه ظلم العيوب وتتجلى عنه بهم القلوب ودين يناجي به أصحابه وتبرى منه أربابه وما خفي عليكم أن القرآن مصرح به في الكتاتيب ويجهر به في المحاريب وحديث المصطفى يقرأ في الجوامع ويستمع في المجامع وتشد إليه الرجال ويتبع في البراري والفقهاء في القلانس يفصحون في المجالس وإن الكلام في الخفايا يرسل به الزوايا قد ألبس أهله الذلة واستعر بهم ظلمة يرمون بالألحاظ ويخرجون من الحفاظ يسب بهم أولادهم وتبرأ منهم أوداؤهم يلعنهم المسلمون وهم عند المسلمين يتلاعنون

ثم إنه جرى بعد ذلك في خلافة القائم في مملكة السلاجقة ظفرلنك وذويه لعن المبتدعة أيضا وأنه أدخل فيهم الأشعرية لقصد التشفي والتسلي إنه ذكر رسالة أبي بكر البيهقي إلى الوزير في استدراك ذلك قال فيها:

ثم إن السلطان - أعز الله نصره وصرف همته العالية إلى نصرة دين الله وقمع أعداء الله - بعد ما تقرر للكافة حسن اعتقاده بتقرير خطباء أهل مملكته على لعن من استوجب اللعن من أهل البدع ببدعته وأيس أهل الزيغ عن زيغه عن الحق وميله عن القصد فألقوا في سمعه ما فيه مساء أهل السنة والجماعة كافة ومصيبتهم عامة من الحنفية والمالكية والشافعية الذين لا يذهبون في التعطيل مذهب المعتزلة ولا يسلكون في التشبيه طرق المجسمة في مشارق الأرض ومغاربها ليلبسوا بالأسوة معهم في هذه المساءة عما يسوؤهم من اللعن والقمع في هذه الدولة المنصورة وذكر تمام الرسالة في بيان أنهم من أهل السنة ومسالمته المنع من إدخالهم في اللعنة

قال أبو القاسم بن عساكر: وإنما كان انتشار ما ذكره أبو بكر البيهقي من المحنة وإشعار ما أشار بإطفائه في رسالته من الفتنة مما تقدم به من سب حزب أبي الحسن الأشعري في دولة السلطان ظفرلنك ووزيره أبي نصر منصور بن محمد الكندري وكان السلطان حنفيا سنيا وكان وزيره معتزليا رافضيا فلما أمر السلطان بلعن المبتدعة على المنابر في الجمع قرن الكندري للتسلي والتشفي اسم الأشعرية بأسماء أرباب البدع وامتحن الأئمة الأماثل وقصد الصدور الأفاضل وعزل أبا عثمان الصابوني عن الخطابة بنيسابور وفوضها إلى بعض الحنفية وخرج الأستاذ أبو القاسم أبو المعالي الجويني عن البلد فلم يكن إلا يسيرا حتى مات ذلك السلطان وتولى ابنه البارسلان واستوزر الوزير الكامل أبا علي الحسن بن علي بن إسحاق فأعز أهل السنة وقمع أهل النفاق وأمر بإسقاط ذكرهم من السب وإفراد من عداهم باللعن والسب واسترجع من خرج منهم إلى وطنه واستقدمه مكرما بعد بعده وظعنه وذكر قصة أبي القاسم القشيري التي سماها شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة

قال فيها: ومما ظهر بنيسابور في مفتتح سنة خمس وأربعين وأربعمائة ما دعى أهل الدين إلى سوء ضر أضرهم وكشف قناع صبرهم

إلى أن قال: ذلك بما أحدث من لعن إمام الدين وسراج قدم ذوي اليقين محيي السنة وقامع البدعة ناصر الحق أبي الحسن الأشعري قال فيها: ولما من الله الكريم على أهل الإسلام بزمام الملك المعظم المحكم بالقوة السماوية في رقاب الأمم الملك الأجل شاهنشاه يمين خليفة الله وغياث عباد الله ظفرلنك أبي طالب محمد بن ميكائيل وقام بإحياء السنة والمناضلة عن الملة حتى لم يبق من أصناف المبتدعة إلا سل لاستئصالهم سيفا عضبا وإذاقتهم ذلا وخسفا وعقب لآراهم نسفا خرجت صدور أهل البدع عن تحمل هذه النقم وضاق صبرهم عن مقاساة هذا الألم وظنوا بلعن أنفسهم على رؤوس الأشهاد بألسنتهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت بانفرادهم بالوقوع في مهواة محبتهم فسولت لهم أنفسهم أمرا فظنوا أنهم بنوع تلبيس أو ضرب تدليس يجدون لعسرهم يسرا فسعوا إلى عالي مجلس السلطان بنوع نميمة ونسبوا الأشعري إلى مذاهب ذميمة وحكوا عنه مقالات لا يوجد في كتبه منها حرف ولم نر في المقالات المصنفة للمتكلمين الموافقين والمخالفين من وقت الأوائل إلى زماننا هذا لشيء منها حكاية ولا وصف بل كل ذلك تصوير تزوير وبهتان بغير تقدير

وما نقموا من الأشعري إلا أنه قال بإثبات القدر لله خيره وشره نفعه وضره وإثبات صفات الجلال من قدرته وعلمه وإرادته وحياته وبقائه وسمعه وبصره وكلامه ووجهه ويده وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه تعالى موجود تجوز رؤيته وأن إرادته نافذة في مراداته وما لا يخفى من مسائل الأصول التي تخالف طريقة المعتزلة والجهمية وذكر تمام الكلام في المسائل التي نسبت إليه

وهو كلام طويل ليس هذا موضعه وإنما الغرض التنبيه على سبب لعنهم على ما نقله أصحابه المعظمون له

وأما بغداد فلم تجر فيها لعنة أحد على المنابر بل كانت الأشعرية منتسبة إلى الإمام أحمد وسائر أئمة المساجد كما ذكره الأشعري في كتاب الإبانة وهذا هو الذي اعتمد عليه الحافظ ابن عساكر في وصف اعتقاد الأشعري

قال بعد أن ذكر ما ذكره من وصف من وصف من العلماء: والأشعري بالرد على البدع والانتصار للسنة وما يشبه ذلك فإذا كان أبو الحسن رحمه الله ذكر عنه من حسن الاعتقاد مستصوب المذهب عند أهل المعرفة بالعلم والانتقاد يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد فلا بد أن يحكي عن معتقده على وجه الأمانة ويجتنب أن يزيد فيه أو ينقص منه تركا للخيانة ليعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سماه الإبانة

فإنه قال: الحمد لله الأحد الواحد العزيز الماجد وساق الخطبة إلى أن قال: أما بعد فإن كثيرا من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم فتأولوا القرآن على أرائهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا ولا أوضح به برهانا ولا نقلوه عن رسول الله ولا عن السلف المتقدمين فخالفوا رواية الصحابة عن نبي الله في رؤية الأبصار وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفة وتواترت بها الآثار وتتابعت بها الأخبار وأنكروا شفاعة رسول الله للمؤمنين وردوا الرواية في ذلك عن السلف المتقدمين وجحدوا عذاب القبر وأن الكفار في قبورهم يعذبون وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون ودانوا بخلق القرآن نظيرا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا: { إن هذا إلا قول البشر } فزعموا أن القرآن كقول البشر وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر نظيرا لقول المجوس الذين يثبتون خالقين: أحدهما يخلق الخير والآخر يخلق الشر

وزعمت القدرية أن الله يخلق الخير وأن الشيطان يخلق الشر وزعموا أن الله شاء ما لا يكون خلافا لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون وردا لقول الله: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } فأخبر أنا لا نشاء شيئا إلا وقد شاء أن نشاءه ولقوله: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } ولقوله: { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } ولقوله تعالى: { فعال لما يريد } ولقوله مخبرا عن شعيب أنه قال: { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا }

ولهذا سماهم رسول الله : مجوس هذه الأمة لأنهم دانوا بديانة المجوس وضاهوا قولهم وزعموا أن للخير والشر خالقين كما زعمت المجوس وأنه لا يكون من الشر ما لا يشاءه الله كما قالت المجوس ذلك وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم ردا لقول الله: { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله } وانحرافا عن القرآن وعما أجمع المسلمون عليه وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم وأثبتوا لأنفسهم غنى عن الله ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه كما أثبتت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله عز وجل

فكانوا مجوس هذه الأمة إذ دانوا بديانة المجوس وتمسكوا بأقوالهم ومالوا إلى أضاليلهم وقنطوا الناس من رحمة الله وآيسوهم من روحه وحكموا على العصاة بالنار والخلود خلافا لقول الله: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وزعموا أن من دخل النار لا يخرج منها خلافا لما جاءت به الرواية عن رسول الله : [ إن الله يخرج قوما بعد ما امتحشوا فيها وصاروا حمما ] ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله: { لما خلقت بيدي } وأنكروا أن يكون لله عينان مع قوله { تجري بأعيننا } وقوله: { ولتصنع على عيني } ونفوا ما روي عن رسول الله من قوله: [ إن الله ينزل إلى سماء الدنيا ]

وأنا ذاكر ذلك إن شاء الله بابا بابا وبه المعونة ومنه التوفيق والتسديد

فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون

قيل له: قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولمن خالف قول مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين

وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء به من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله لا نرد من ذلك شيئا وأن الله إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله مستو على عرشه كما قال: { الرحمن على العرش استوى } وأن له وجها كما قال: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وأن له يدين كما قال: { بل يداه مبسوطتان } وقال: { لما خلقت بيدي } وأن له عينين بلا كيف كما قال: { تجري بأعيننا } وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالا وأن لله علما كما قال: { أنزله بعلمه } وقال: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } ونثبت له قوة كما قال: { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفيه المعتزلة والجهمية والخوارج

ونقول: إن كلام الله غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له كن فيكون كما قال: { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله وأن الأشياء تكون بمشيئة الله وأن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله الله ولا يستغني عن الله ولا نقدر على الخروج من علم الله وأنه لا خالق إلا الله وأن أعمال عباد الله مخلوقة لله مقدورة له كما قال: { والله خلقكم وما تعملون } وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون كما قال: { هل من خالق غير الله } وكما قال: { لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } وكما قال: { أفمن يخلق كمن لا يخلق } وكما قال: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } وهذا في كتاب الله كثير

وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر لهم وأصلحهم وهداهم وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان ولو لطف بهم واصلحهم كانوا صالحين ولو هداهم كانوا مهتدين كما قال تبارك وتعالى: { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم وأنه خذلهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره وأنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره وحلوه ومره ونعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأنا لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله وأنا نلجئ أمورنا إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه

ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن من قال بخلق القرآن كان كافرا وندين أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر ويراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله ونقول: إن الكافرين إذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال الله تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } وأن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكا فعلم بذلك موسى أنه لا يراه أحد في الدنيا

ونرى أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعموا بذلك أنهم كافرون ونقول: إن من عمل كبيرة من الكبائر وما أشبهها مستحلا لها كان كافرا إذا كان غير معتقد لتحريمها

ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانا وتدين بأنه يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابعه وأنه يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله وندين بأن لا ننزل أحدا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ونقول بأن الله يخرج من النار قوما بعد ما امتحشوا بشفاعة محمد ونؤمن بعذاب القبر

ونقول: إن الحوض والميزان حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق وأن الله يوقف العباد بالموقف ويحاسب المؤمنين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية عن رسول الله وندين الله بحب السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ونثني عليهم بما أثنى الله عليهم ونتولاهم

ونقول: إن الإمام بعد رسول الله أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضي اله عنه ثم عثمان بن عفان نضر الله وجهه قتله قاتلوه ظلما وعدوانا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله وخلافتهم خلافة النبوة

ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد لهم رسول الله r ونتولى أصحاب النبي ونكف عما شجر بينهم وندين الله أن الأئمة الأربعة راشدون مهديون فضلا لا يوازنهم في الفضل غيرهم

ونصدق بجميع الروايات التي يثبها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا وأن الرب يقول: هل من سائل هل من مستغفر وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل ونقول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم

ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: { وجاء ربك والملك صفا صفا } وإن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وكما قال: { ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى } ومن ديننا نصلي الجمع والأعياد خلف كل بر وغيره وكذلك سائر الصلوات الجماعات كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج وأن المسح على الخفين في السفر والحضر خلافا لمن أنكر ذلك ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة

ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهم المدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام ونقول: إن ذلك تفسير ونرى الصدقة عن موتى المؤمنين والدعاء لهم ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة وأن السحر موجود في الدنيا وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وموارثتهم ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالا وحراما وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه خلافا لقول المعتزلة والجهمية كما قال الله تعالى: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } وكما قال: { من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس } ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله بآيات يظهرها الله عليهم

وقولنا في أطفال المشركين: إن الله يؤجج لهم نارا في الآخرة ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك وندين بأن الله يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين ويرى مفارقة كل داعية ومجانبة أهل الأهواء وسنحتج لما ذكرنا من قولنا وما بقي منه وما لم نذكره بابا بابا وشيئا شيئا

ثم قال أبو القاسم بن عساكر رحمه الله: فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه واعترفوا بفضل هذا الإمام العالم الذي شرحه وبينه وانظروا سهولة لفظه فما أفصحه وأبينه وكونوا ممن قال لله فيهم: { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه }

وتبينوا فضل أبي الحسن واعرفوا إنصافه واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على ممر الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات فمن تكلم في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القشيري ووزارة النظام ووقع بينهم الانحراف من بعضهم من بعض لانحلال النظام

وعلى الجملة فلم يزل في الحنابلة طائفة تغلو في السنة وتدخل فيما لا يعنيها حبا للحقوق في الفتنة ولا عار على أحمد رحمه الله من صنيعهم وليس يتفق على ذلك رأي جميعهم ولهذا قال أبو حفص بن شاهين وهو من أقران الدارقطني ما قرأته على عبد الكريم بن الحضر عن أبي محمد الكناني حدثني أبو النجيب الأرموري حدثنا أبو ذر الهروي قال سمعت ابن شاهين يقول: رجلان صالحان بليا بأصحاب سوء جعفر بن محمد وأحمد بن حنبل

وقال ابن عساكر فيما رده على أبي علي الأهوازي فيما وصفه من مثالب الأشعري: وقد ذكر أبو علي الأهوازي أن الحنابلة لم يقبلوا منه تصنيف الإبانة

قال الأهوازي: وللأشعري كتاب في السنة قد جعله أصحابه وقاية لهم من أهل السنة يتولون به العوام من أصحابنا سماه كتاب الإبانة صنفه ببغداد لما دخلها فلم يقبل ذلك منه الحنابلة وهجروه وسمعت أبا عبد الله الحمراني يقول: لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول رددت على الجبائي وعلي بن هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى وعلى المجوس فقلت وقالوا وأكثر الكلام في ذلك فلما سكت قال البربهاري: ما أدري مما قلت قليلا ولا كثيرا ما نعرف إلا ما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل فخرج من عنده وصنف كتاب الإبانة فلم يقبلوه منه ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها

قال: وقول الأهوازي أن الحنابلة لم يقبلوا منه ما أظهره من كتاب الإبانة وهجروه فلو كان الأمر كما قال لنقلوه عن أشياخهم ولم أزل أسمع ممن يوثق به أنه كان صديقا للتميميين سلف أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث وكانوا له مكرمين وقد أظهر بركة تلك الصحبة على أعقابهم حتى نسب إلى مذهبه أبو الخطاب الكلواذاني من أصحابهم وهذا تلميذ أبي الخطاب أحمد الحربي يخبر بصحة ما ذكرته وينبئ وكذلك كان بينهم وبين صاحبه أبي عبد الله بن مجاهد وصاحب صاحبه أبي بكر بن الطيب من المواصلة والمواكلة ما يدل على كثرة الاختلاق من الأهوازي والتكذيب

قال: وقد أخبرني الشيخ أبو الفضل بن أبي سعد البزار بن أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز التميمي الحنبلي قال: سألت الشريف أبا علي محمد بن أبي موسى الهاشمي فقال: حضرت دار شيخنا أبي الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمي سنة سبعين وثلاثمائة في دعوة عملها لأصحابه حضرها أبو بكر الأبهري شيخ المالكيين وأبو القاسم الداركي شيخ الشافعيين وأبو الحسن طاهر بن الحسين شيخ أصحاب الحديث وأبو الحسين بن سمعون شيخ الوعاظ والزهاد وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ المتكلمين وصاحبه أبو بكر بن الباقلاني في دار شيخنا أبي الحسن التميمي شيخ الحنابلة قال أبو علي: لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتي في حادثة يشبه واحدا منهم

قال: وحكاية الأهوازي عن البربهاري مما يقع في صحتها التماري وأدل دليل على بطلانها قوله: إنه لم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها وهو بعد أن صار إليها لم يفارقها ولا رحل عنها

قلت: لا ريب أن الأشعرية إنما تعلموا الكتاب والسنة من أتباع الإمام أحمد ونحوه بالبصرة وبغداد فإن الأشعري أخذ السنة بالبصرة عن زكريا بن يحيى الساجي وهو من علماء أهل الحديث المتبعين لأحمد ونحوه ثم لما قدم بغداد أخذ ممن كان بها ولهذا يوجد أكثر ألفاظه التي يذكرها عن أهل السنة والحديث إما ألفاظ زكريا عن أحمد في رسائله الجامعة في السنة وإلا فالأشعري لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة وأصحاب الحديث وإنما يعري أقوالهم من حيث الجملة لا يعرف تفاصيل أقوالهم وأقوال أئمتهم وقد تصرف فيما نقله عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير وأما خبرته بمقالات أهل الكلام فكانت خبرة تامة على سبيل التفصيل ولهذا لما صنف كتابه في مقالات الإسلاميين ذكر مقالات أهل الكلام واختلافهم على التفصيل

وأما أهل الحديث والسنة فلم يذكر عنهم إلا جملة مقالات مع أن لهم في تفاصيل تلك من الأقوال أكثر مما لأهل الكلام وذكر الخلاف بين أهل الكلام في الدقيق فلم يذكر النزاع بين أهل الحديث في الدقيق وبينهم منازعات في أمور دقيقة لطيفة كمسألة اللفظ ونقصان الإيمان وتفضيل عثمان وبعض أحاديث الصفات ونفي لفظ الجبر وغير ذلك من دقيق القول ولطيفه

وليس المقصود هنا إطلاق مدح شخص أو طائفة ولا إطلاق ذم ذلك فإن الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أنه قد يجتمع في الشخص الواحد والطائفة الواحدة ما يحمد به من الحسنات وما يذم به من السيئات وما لا يحمد به ولا يذم من المباحث والعفو عنه من الخطأ والنسيان بحيث يستحق الثواب على حسناته ويستحق العقاب على سيئاته بحيث لا يكون محمودا ولا مذموما على المباحات والمعفوات وهذا مذهب أهل السنة في فساق أهل القبلة ونحوهم

وإنما يخالف هذا الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ونحوهم الذين يقولون من استحق المدح لم يستحق الثواب حتى يقولون: إن من دخل النار لا يخرج منها بل يخلد فيها وينكرون شفاعة محمد في أهل الكبائر قبل الدخول وبعده وينكرون خروج أحد من النار وقد تواترت السنن عن النبي بخروج من يخرج من النار حتى يقول الله: [ أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ] وبشافعة النبي لأهل الكبائر من أمته ولهذا يكثر في الأمة من أئمة الأمراء وغيرهم من يجتمع فيه الأمران فبعض الناس يقتصر على ذكر محاسنه ومدحه غلوا وهوى وبعضهم يقتصر على ذكر مساويه غلوا وهوى ودين الله بين بين الغالي فيه والجافي عنه وخيار الأمور أوسطها

ولا ريب أن للأشعري في الرد على أهل البدع كلاما حسنا هو من الكلام المقبول الذي يحمد قائله إذا أخلص فيه النية وله أيضا كلام خالف به بعض السنة هو من الكلام المردود الذي يذم به قائله إذا أصر عليه بعد قيام الحجة وإن كان الكلام الحسن لم يخلص فيه النية والكلام السيء كان صاحبه مجتهدا مخطئا مفتورا له خطأه لم يكن في واحد منهما مدح ولا ذم بل يحمد نفس الكلام المقبول الموافق للسنة ويذم الكلام المخالف للسنة وإنما المقصود أن الأئمة المرجوع إليهم في الدين مخالفون للأشعري في مسألة الكلام وإن كانوا مع ذلك معظمين له في أمور أخرى وناهين عن لعنه وتكفيره ومادحين له بماله من المحاسن

وبزيادة أخرى فإن هذه المسألة هي مسألة الكلام من الأمر والنهي والخبر هل له صيغة أو ليس له صيغة؟ بل ذلك معنى قائم بالنفس فإذا كانوا مخالفين له في ذلك وقائلين بأن الكلام له الصيغ التي هي الحروف المنظومة المؤلفة قائلين خلافا للأشعري مصرحين بأن قوله في ذلك مخالف لقول الشافعي وأحمد وسائر أئمة الإسلام علم صحة ما ذكرناه

وقولهم: للأمر صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه أمرا وللنهي صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه خبرا وللعموم صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على استغراق الجنس واستيعاب الطبيعة أجود من قول استدرك ذلك عليهم كابن عقيل [ الذي قال ]: إن الأجود أن يقول الأمر صيغة قالوا: لأن الأمر والنهي والخبر هو نفس الصيغ التي هي الحروف المنظومة المؤلفة وهذا الذي قاله وأنكره هؤلاء خطأ وهو لو صح على قول من يقول إن الكلام مجرد الحروف والأصوات الدالة على المعنى: وليس هذا مذهب الفقهاء وأئمة الإسلام وأهل السنة وإن كان قد يقوله كثير ممن ينتسب إليهم كما قالته المعتزلة بل مذهبهم أن الكلام اسم للحروف والمعاني جميعا والأمر ليس هو اللفظ المجرد ولا المعنى المجرد بل لفظ الأمر إذا أطلق فإنه ينتظم اللفظ والمعنى جميعا فلهذا قيل صيغة كما يقال للإنسان جسم أو للإنسان روح وكما يقال للكلام معنى

وأما ما ذكره أبو القاسم الدمشقي من أن هذه المسألة خالف فيها أبو إسحاق الأشعري فيقال له: هذه المسألة هي أخص بمذهب الأشعري يكون الرجل بها مختصا بكونه أشعريا ولهذا ذكر العلماء الخلاف فيها معه وأما سائر المسائل فتلك لا يختص هو بأحد الطرفين بها بل في كل طريق طوائف فإذا خالفه في خاصة مذهبه لزمه أن لا يكون متبعا له

وأيضا فإنه إذا قال أصحابنا فإنما يعني الشافعية وإذا ذكر الأشعري فإنه يقول قالت الأشعرية فلا يدخلهم في مسمى أصحابه ولكن أبو القاسم كان له هدى ولم تكن له معرفة بحقائق الأصول التي يتنازع فيها العلماء ولكن كان ثقة في نقله عالما بفنه كالتاريخ ونحوه


فصل

ومذهب الأشعري نفسه وطبقته كأبو العباس القلانسي ونحوه ومن قبله من قبله من أئمته كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ومن بعده من أئمة أصحابه الذين أخذوا عنه كأبي عبد الله بن مجاهد شيخ القاضي أبي بكر الباقلاني وأبي الحسن الباهلي شيخ ابن الباقلاني وأبي إسحاق الإسفرائيني وأبي بكر بن فورك وكأبي الحسن علي بن مهدي الطبري صاحب التآليف في تأويل الأحاديث المشكلات الواردة في الصفات ونحوهم

والطبقة الثانية التي أخذت عن أصحابه كالقاضي أبي بكر إمام الطائفة وأبي بكر بن فورك وأبي إسحاق الإسفرائيني وأبي علي بن شاذان وغير هؤلاء إثبات الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن أو السنن المتواترة كاستوائه على العرش والوجه واليد ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك وقد رأيت كلام كل من ذكرته من هؤلاء يثبت هذه الصفات ومن لم أذكره أيضا وكتبهم وكتب من نقل عنهم مملوءة بذلك وبالرد على من يتأول هذه الصفات والأخبار بأن تأويلهما طريق الجهمية والمعتزلة ونحو ذلك


الفتاوى الكبرى لابن تيمية
كتاب السنة والبدعة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطهارة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | كتاب الصلاة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | كتاب الذكر والدعاء | 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب الصيام: 1 | 2 | 3 | كتاب الجنائز: 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب النكاح: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطلاق: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | كتاب النفقات | كتاب الحدود: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الجهاد: 1 | 2 | كتاب البيوع: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الشهادة والأقضية والأموال: 1 | 2 | كتاب الوقف: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | كتاب الوصايا | كتاب الفرائض | كتاب الفضائل: 1 | 2 | كتاب الملاهي | مسائل منثورة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | كتاب الطهارة2 | كتاب الصلاة2: 1 | 2 | كتاب الجنائز2 | كتاب الزكاة2 | كتاب الصوم2 | كتاب الحج | كتاب البيع: 1 | 2 | كتاب الوصية | كتاب الفرائض | كتاب العتق | كتاب النكاح2: 1 | 2 | كتاب الخلع | كتاب الطلاق2 | كتاب الرجعة | كتاب الظهار | كتاب الجنايات | كتاب الأطعمة | كتاب الأيمان | باب القضاء | كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل | كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة: 1 |2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16