الفتاوى الكبرى/كتاب الذكر والدعاء/3

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

323 - 11 - مسألة: في رجل يتلو القرآن مخافة النسيان ورجاء الثواب فهل يؤجر على قراءته للدراسة ومخافة النسيان أم لا؟ وقد ذكر رجل ممن ينسب إلى العلم أن القارئ إذا قرأ للدراسة مخافة النسيان أنه لا يؤجر فهل قوله صحيح أم لا؟

الجواب: بل إذا قرأ القرآن لله تعالى فإنه يثاب على ذلك بكل حال ولو قصد بقراءته أنه يقرؤه لئلا ينساه فإن نسيان القرآن من الذنوب فإذا قصد بالقراءة أداء الواجب عليه من دوام حفظه للقرآن واجتناب ما نهى عنه من إهماله حتى ينساه فقد قصد طاعة الله فكيف لا يثاب وفي الصحيحين: عن النبي أنه قال: [ استذكروا القرآن فلهو أشد تقصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها ]

وقال : [ عرضت علي سيئات أمتي فرأيت من مساوئ أعمالها الرجل يؤتيه الله آية من القرآن فينام عنها حتى ينساها ]

وفي صحيح مسلم عن النبي أنه قال: [ ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وحفت بهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ] والله أعلم

12 - 324 - مسألة: في قول النبي : ولا ينفع ذا الجد منك الجد هل هو بالخفض أو بالضم؟ أفتونا مأجورين

الجواب: الحمد لله أما الأولى فبالخفض وأما الثانية فبالضم والمعنى: أن صاحب الجد لا ينفعه منك جده أي لا ينجيه ويخلصه منك جده وإنما ينجيه إلإيمان والعمل مصالح والجد هو الغنى وهو العظمة وهو المال

بين أنه من كان له في الدنيا رياسة ومال لم ينجه ذلك ولم يخلصه من الله وإنما ينجيه من عذابه إيمانه وتقواه فإنه قال: [ اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ] فبين في هذا الحديث أصلين عظيمين:

أحدهما: توحيد الربوبية وهو أن لا معطي لما منع الله ولا مانع لما أعطاه ولا يتوكل إلا عليه ولا يسأل إلا هو

والثاني: توحيد الإلهية وهو بيان ما ينفع وما لا ينفع وأنه ليس كل من أعطى مالا أو دنيا أو رياسة كان ذلك نافعا له عند الله منجيا له من عذابه فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب

قال تعالى: { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا }

يقول: ما كل من وسعت عليه أكرمته ولا كل من قدرت عليه أكون قد أهنته بل هذا ابتلاء ليشكر العبد على السراء ويصبر على الضراء فمن رزق الشكر والصبر كان كل قضاء يقضيه الله خيرا له كما في الصحيح عن النبي أنه قال: [ لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء فشكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ]

وتوحيد الإلهية أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا فيطيعه ويطيع رسله ويفعل ما يحبه ويرضاه وأما توحيد الربوبية فيدخل ما قدره وقضاه وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه وأرضاه والعبد مأمور بأن يعبد الله ويفعل ما أمر به وهو توحيد الإلهية ويستغفر الله على ذلك وهو توحيد له فيقول: { إياك نعبد وإياك نستعين } والله أعلم

325 - / 13 - مسألة: فيمن ترك والديه كفارا ولم يعلم هل أسلموا هل يجوز أن يدعو لهم؟

الجواب: الحمد لله متى كان من أمة أصلها كفارا لم يجز أن يستغفر لأبويه إلا أن يكونا قد أسلما كما قال تعالى: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم }

326 - 14 - مسألة: فيمن قال: إن الله يسمع الدعاء بواسطة محمد فإنه الوسيلة والواسطة؟

الجواب: الحمد لله إن أراد بذلك أن الإيمان بمحمد وطاعته والصلاة والسلام عليه وسيلة للعبد في قبول دعائه وثواب دعائه فهو صادق وإن أراد أن الله لا يجيب دعاء أحد حتى يرفعه إلى مخلوق أو يقسم عليه به أو إن نفس الأنبياء بدون الإيمان بهم وطاعتهم وبدون شفاعتهم وسيلة في إجابة الدعاء فقد كذب في ذلك والله أعلم

15 - 327 - مسألة: في التوسل بالنبي هل يجوز أم لا؟

الجواب: الحمد لله أما التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته والصلاة والسلام عليه وبدعائه وشفاعته ونحو ذلك مما هو من أفعاله وأفعال العباد المأمور بها في حقه فهو مشروع باتفاق المسلمين وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون به في حياته وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه كما كانوا يتوسلون به

وأما قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك به فللعلماء فيه قولان كما لهم في الحلف به قولان وجمهور الأئمة: كمالك والشافعي وأبي حنيفة على أنه لا يسوغ الحلف به كما لا يسوغ الحلف بغيره من الأنبياء والملائكة ولا تنعقد اليمين بذلك باتفاق العلماء وهذا إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى تنعقد اليمين به خاصة دون غيره ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي صاحبه إنه يتوسل بالنبي في دعائه ولكن غير أحمد قال: إن هذا إقسام على الله به ولا يقسم على الله بمخلوق وأحمد في إحدى الروايتين قد جوز القسم به فلذلك جوز التوسل به ولكن الرواية الأخرى عنه هي قول جمهور العلماء أنه لا يقسم به فلا يقسم على الله به كسائر الملائكة والأنبياء فإنا لا نعلم أحدا من السلف والأئمة قال إنه يقسم على الله كما لم يقولوا إنه يقسم بهم مطلقا

ولهذا أفتى أبو محمد بن عبد السلام أنه لا يقسم على الله بأحد من الملائكة والأنبياء وغيرهم لكن ذكر له أنه روي عن النبي حديث في الإقسام به فقال: إن صح الحديث كان خاصا به والحديث المذكور لا يدل على الإقسام به وقد قال النبي : [ من كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت ]

وقال: [ من حلف بغير الله فقد أشرك ]

والدعاء عبادة والعبادة مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع والله أعلم

328 - 16 - مسألة: في مسجد يقرأ فيه القرآن والتلقين بكرة وعشية ثم على باب المسجد شهود يكثرون الكلام ويقع التشويش على القراء فهل يجوز ذلك أم لا؟

الجواب: الحمد لله ليس لأحد أن يؤذي أهل المسجد أهل الصلاة أو القراءة أو الذكر أو الدعاء ونحو ذلك مما بنيت المساجد له فليس لأحد أن يفعل في المسجد ولا على بابه قريبا منه ما يشوش على هؤلاء بل قد خرج النبي على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فقال: [ يا أيها الناس كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة ] فإذا كان قد نهى المصلي أن يجهر على المصلي فكيف بغيره؟ ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع من ذلك والله أعلم

17 - 329 - مسألة: عن رجل دعا دعاء ملحونا فقال له رجل: ما يقبل الله دعاء ملحونا؟

وأما من دعا الله مخلصا له الدين بدعاء جائز سمعه الله وأجاب دعاه سواء كان معربا أو ملحونا والكلام المذكور لا أصل له بل ينبغي للداعي إذا لم يكن عادته الإعراب أن لا يتكلف الإعراب قال بعض السلف: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس به فإن أصل الدعاء من القلب واللسان تابع للقلب ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه أضعف توجه قلبه ولهذا يدعو المضطر بقلبه دعاء يفتح عليه لا يحضره قبل ذلك وهذا أمر يجده كل مؤمن في قلبه والدعاء يجوز بالعربية وبغير العربية والله سبحانه يعلم قصد الداعي ومراده وإن لم يقوم لسانه فإنه يعلم ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوع الحاجات

18 - 330 - مسألة: ما حكم قول بعض العلماء والفقراء أن الدعاء مستجاب عند قبور أربعة من أصحاب الأئمة الأربعة قبر الفندلاوي من أصحاب مالك وقبر البرهان البلخي من أصحاب أبي حنيفة وقبر الشيخ نصر المقدسي من أصحاب الشافعي وقبر الشيخ أبي الفرج من أصحاب أحمد رضي الله عنهم ومن استقبل القبلة عند قبورهم ودعا استجيب له

وقول بعض العلماء عن بعض المشايخ يوصيه إذا نزل بك حادث أو أمر تخافه استوحني ينكشف عنك ما تجده من الشدة حيا كنت أو ميتا ومن قرأ آية الكرسي واستقبل جهة الشيخ عبد القادر الجيلاني وسلم عليه سبع مرات يخطو مع كل تسليمة خطوة إلى قبره قضيت حاجته أو كان في سماع فإنه يطيب ويكثر التواجد

وقول الفقراء: إن الله تعالى ينظر إلى الفقراء بتجليه عليهم في ثلاثة مواطن عند مد السماط عند قيامهم في الاستغفار أو المجازات التي بينهم وعند السماع وما يفعله بعض المتعبدين من الدعاء عند قبر زكريا وقبر هود والصلاة عندهما والموقف بين مشرقي رواق الجامع بباب الطهارة بدمشق والدعاء عند المصحف العثماني ومن اللصق ظهره الموجوع بالعمود الذي عند رأس قبر معاوية عند الشهداء بباب الصغير فهل للدعاء خصوصية قبول أو سرعة إجابة بوقت مخصوص أو مكان معين عند قبر نبي أو ولي أو يجوز أن يستغيث إلى الله تعالى في الدعاء بنبي مرسل أو ملك مقرب أو بكلامه تعالى أو بالكعبة أو بالدعاء المشهود باحتياط قاف أو بدعاء أم داود أو الخضر

وهل يجوز أن يقسم على الله تعالى في السؤال بحق فلان بحرمة فلان بجاه المقربين بأقرب الخلق أو يقسم بأفعالهم وأعمالهم

وهل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران وسرج لكونه رأى النبي في المنام عنده أو يجوز تعظيم شجرة يوجد فيها خرق معلقة ويقال هذه مباركة يجتمع إليها الرجال الأولياء وهل يجوز تعظيم جبل أو زيارته أو زيارة ما فيه من المشاهد والآثار والدعاء فيها والصلاة كمغارة الدم وكهف آدم والآثار ومنارة الجوع وقبر شيث وهابيل ونوح وإلياس وحزقيل وشيبان الراعي وإبراهيم بن أدهم بجبلة وعش الغراب ببعلبك ومغارة الأربعين وحمام طبرية وزيارة عسقلان ومسجد صالح بعكا وهو مشهور بالحرمات والتعظيم والزيارات

وهل يجوز تحري الدعاء عند القبور وأن تقبل أو يوقد عندها القناديل والسرج وهل يحصل للأموات بهذه الأفعال من الأحياء منفعة أو مضرة وهل الدعاء عند القدم النبوي بدار الحديث الأشرفية بدمشق وغيره

وقدم موسى ومهد عيسى ومقام إبراهيم ورأس الحسين وصهيب الرومي وبلال الحبشي وأويس القرني وما أشبه ذلك كله في سائر البلاد والقرى والسواحل والجبال والمشاهد والمساجد والجوامع

وكذلك قولهم الدعاء مستجاب عند برج باب كيسان بين بابي الصغير والشرقي مستدبرا له متوجها إلى القبلة والدعاء عند داخل باب الفرادين فهل ثبت شيء في إجابة الأدعية في هذه الأماكن أم لا؟

وهل يجوز أن يستغاث بغير الله تعالى بأن يقول يا جاه محمد أو بالست نفيسة أو يا سيد أحمد أو إذا عثر أحدا وتعسر أو قفز من مكان إلى مكان يقول يا علي أو يا الشيخ فلان أم لا؟

وهل تجوز النذور للأنبياء أو للمشايخ مثل الشيخ جاكير أو أبي الوفا أو نور الدين الشهيد أو غيرهم أم لا؟

وكذلك هل يجوز النذور لقبور أحد من آل بيت النبوة ومدركه والأئمة ومشايخ العراق والعجم ومصر والحجاز واليمن والهند والمغرب وجميع الأرض وجبل قان وغيرها أم لا؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين أما قول القائل أن الدعاء مستجاب عند قبور المشايخ الأربعة المذكورين رضي الله عنهم فهو من جنس قول غيره: قبر فلان هو الترياق المجرب ومن جنس ما يقوله أمثال هذا القائل من أن الدعاء مستجاب عند قبر فلان وفلان فإن كثيرا من الناس يقول مثل هذا القول عند بعض القبور ثم قد يكون ذلك القبر قد علم أنه قبر رجل صالح من الصحابة أو أهل البيت أو غيرهم من الصالحين

وقد يكون نسبة ذلك القبر إلى ذلك كذبا أو مجهول الحال مثل أكثر ما يذكر من قبور الأنبياء

وقد يكون صحيحا والرجل ليس بصالح فإن هذه الأقسام موجودة فيمن يقول مثل هذا القول أو من يقول أن الدعاء مستجاب عند قبر بعينه وأنه استجيب له الدعاء عنده والحال أن ذاك إما قبر معروف بالفسق والابتداع وإما قبر كافر كما رأينا من دعا فكشف له حال القبور فبهت لذلك ورأينا من ذلك أنواعا

وأصل هذا أن قول القائل أن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين قول ليس له أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في الدين: كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيدة ولا مشايخهم الذين يقتدى بهم: كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني وأمثالهم

ولم يكن في الصحابة والتابعين والأئمة والمشايخ المتقدمين من يقول أن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين ولا مطلقا ولا معينا ولا فيهم من قال إن دعاء الإنسان عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من دعائه في غير تلك البقعة ولا أن الصلاة في تلك البقعة أفضل من الصلاة في غيرها ولا فيهم من كان يتحرى الدعاء ولا الصلاة عند هذه القبور بل أفضل الخلق وسيدهم هو رسول الله وليس في الأرض قبر اتفق الناس على أنه قبر نبي غير قبره وقد اختلفوا في قبر الخليل وغيره

واتفق الأئمة على أنه يسلم عليه عند زيارته وعلى صاحبيه لما في السنن: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: [ ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي بها روحي حتى أرد عليه السلام ] وهو حديث جيد

وقد روى ابن أبي شيبة والدارقطني عنه: [ من سلم علي عند قبري سمعته ومن صلى علي ثانيا أبلغته ] وفي إسناده لين لكن له شواهد ثابتة فإن إبلاغ الصلاة والسلام عليه من العبد قد رواه أهل السنن من غير وجه كما في السنن: عنه أنه قال: [ أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد رممت أي بليت فقال: إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ]

وفي النسائي وغيره عنه أنه قال: [ إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام ]

ومع هذا لم يقل أحد منهم أن الدعاء مستجاب عند قبره ولا أنه يستحب أن يتحرى الدعاء متوجها إلى قبره بل نصوا على نقيض ذلك؟ واتفقوا كلهم على أنه لا يدعى مستقبل القبر وتنازعوا في السلام عليه فقال الأكثرون كمالك وأحمد وغيرهما يسلم عليه مستقبل القبر وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأظنه منقولا عنه

وقال أبو حنيفة وأصحابه: بل يسلم عليه مستقبل القبلة بل نص أئمة السلف على أنه لا يوقف عنده للدعاء مطلقا كما ذكر ذلك إسماعيل بن إسحاق في كتاب المبسوط وذكره القاضي عياض قال مالك لا أرى أن يقف عند قبر النبي ويدعو ولكن يسلم ويمضي

وقال أيضا في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر

فقيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة أو اليوم المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة

فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدتنا

ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك إلا من جاء من سفر أو أراده

قال ابن القاسم: رأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتوا القبر وسلموا قال: وذلك دأبي فهذا مالك وهو أعلم أهل زمانه أي زمن تابع التابعين بالمدينة النبوية الذين كان أهلها في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أعلم الناس بما يشرع عند قبر النبي يكرهون الوقوف للدعاء بعد السلام عليه وبين أن المستحب هو الدعاء له ولصاحبيه وهو المشروع من الصلاة والسلام وأن ذلك أيضا لا يستحب لأهل المدينة كل وقت بل عند القدوم من سفر أو رادته لأن ذلك تحية له والمحيا لا يقصد بيته كل وقت لتحيته بخلاف القادمين من السفر

وقال مالك في رواية أبي وهب: إذا سلم على النبي يقف وجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده وكره مالك أن يقال زرنا قبر النبي قال القاضي عياض كراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبي لقوله: [ اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ] ينهى عن إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبه بفعل ذلك قطعا للذريعة وحسما للباب

قلت: والأحاديث الكثيرة المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة بل موضوعة لم يرو الأئمة ولا أهل السنن المتبعة: كسنن أبي داود والنسائي ونحوهما فيها شيئا ولكن جاء لفظ زيارة القبور في غير هذا الحديث مثل: قوله : [ كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ]

وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: [ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية ]

ولكن صار لفظ زيارة القبور في عرف كثير من المتأخرين يتناول الزيارة البدعية والزيارة الشرعية وأكثرهم لا يستعملونها إلا بالمعنى البدعي لا الشرعي فلهذا كره هذا الإطلاق فأما الزيارة الشرعية فهي من جنس الصلاة على الميت يقصد بها الدعاء للميت كما يقصد بالصلاة عليه

كما قال الله في حق المنافقين: { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره }

فلما نهى الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم دل ذلك بطريق مفهوم الخطاب وعلة الحكم أن ذلك مشروع في حق المؤمنين والقيام على قبره بعد الدفن من جنس الصلاة عليه قبل الدفن يراد به الدعاء له

وهذا هو الذي مضت به السنة واستحبه السلف عند زيارة قبور الأنبياء والصالحين وأما الزيارة البدعية فهي من جنس الشرك والذريعة إليه كما فعل اليهود والنصارى عند قبور الأنبياء والصالحين

قال في الأحاديث المستفيضة عنه في الصحاح والسنن والمسانيد: [ لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ] يحذر مما صنعوا

وقال: [ إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ]

وقال: [ إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد ]

وقال: [ لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ]

فإذا كان قد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد امتنع أن يكون تحريها للدعاء مستحبا لأن المكان الذي يستحب فيه الدعاء يستحب فيه الصلاة لأن الدعاء عقب الصلاة أجوب وليس في الشريعة مكان ينهى عن الصلاة عنده مع أنه يستحب الدعاء عنده

وقد نص الأئمة كالشافعي وغيره على أن النهي عن ذلك معلل بخوف الفتنة بالقبر لا بمجرد نجاسته كما يظن ذلك بعض الناس ولهذا كان السلف يأمرون بتسوية القبور وتعفية ما يفتتن به منها كما أمر عمر بن الخطاب بتعفية قبر دانيال لما ظهر بتستر فإنه كتب إليه أبو موسى يذكر أنه قد ظهر قبر دانيال وأنهم كانوا يستسقون به فكتب إليه عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا ثم يدفنه بالليل في واحد منها ويعفيه لئلا يفتتن به الناس والذي ذكرناه عن مالك وغيره من الأئمة كان معروفا عند السلف كما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده وذكره الحافظ أبو عبد الله المقدسي في مختاره عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بزين العابدين: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي فيدخل فيدعو فيها فنهاه فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله قال: [ لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم ]

وهذا الحديث في سنن أبي داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : [ لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ]

وفي سنن سعيد بن منصور: حدثنا عبد العزيز محمد أخبرني سهيل بن أبي سهل قال: رآني الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت: لا أريده فقال: ما لي رأيتك عند القبر فقلت: سلمت على النبي فقال: إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال: إن رسول الله قال: [ لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء ]

وقد بسط الكلام على هذا الأصل في غير هذا الموضع فإذا كان هذا هو المشروع في قبر سيد ولد آدم خير الخلق وأكرمهم على الله فكيف يقال في قبر غيره

وقد تواتر عن الصحابة أنهم كانوا إذا نزلت بهم الشدائد كحالهم في الجدب والاستسقاء وعند القتال والاستنصار يدعون الله ويستغيثونه في المساجد والبيوت ولم يكونوا يقصدوا الدعاء عند قبر النبي ولا غيره من قبور الأنبياء والصالحين

بل قد ثبت في الصحيح: أن عمر بن الخطاب قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وأنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا فيسقون

فتوسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون به وهو أنهم كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته وهكذا توسلوا بدعاء العباس وشفاعته ولم يقصدوا الدعاء عند قبر النبي ولا أقسموا على الله بشيء من مخلوقاته بل توسلوا إليه بما شرعه من الوسائل وهي الأعمال الصالحة ودعاء المؤمنين كما يتوسل العبد إلى الله بالإيمان بنبيه وبمحبته وهوالاته والصلاة عليه والسلام وكما يتوسلون في حياته بدعائه وشفاعته كذلك يتوسل الخلق في الآخرة بدعائه وشفاعته وتتوسل بدعاء الصالحين كما قال النبي : [ وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم ]

ومن المعلوم بالاضطرار أن الدعاء عند القبور لو كان أفضل من الدعاء عند غيرها وهو أحب إلى الله وأجوب لكان السلف أعلم بذلك من الخلق وكانوا أسرع إليه فإنهم كانوا أعلم بما يحبه الله ويرضاه وأسبق إلى طاعته ورضاه وكان النبي يبين ذلك ويرغب فيه فإنه أمر بكل معروف ونهى عن كل منكر وما ترك شيئا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث أمته به ولا شيئا يبعد عن النار إلا وقد حذر أمته منه وقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا ينزوي عنها بعده إلا هالك فكيف وقد نهى عن هذا الجنس وحسم مادته بنهيه ونهيه عن اتخاذ القبور مساجد فنهى عن الصلاة لله مستقبلا لها

وإن كان المصلي لا يعبد الموتى ولا يدعوهم كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب لأنها وقت سجود المشركين للشمس وإن كان المصلي لا يسجد إلا لله سدا للذريعة فكيف إذا تحققت المفسدة بأن صار العبد يدعو الميت ويدعو به كما إذا تحققت المفسدة بالسجود للشمس وقت الطلوع ووقت الغروب؟

وقد كان أصل عبادة الأوثان من تعظيم القبور كما قال تعالى: { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا }

قال السلف كابن عباس وغيره: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم ثم من المعلوم أن بمقابر باب الصغير من الصحابة والتابعين وتابعيهم من هو أفضل من هؤلاء المشايخ الأربعة فكيف يعين هؤلاء للدعاء عند قبورهم دون من هو أفضل منهم ثم إن لكل شيخ من هؤلاء ونحوهم من يحبه ويعظمه بالدعاء دون الشيخ الآخر فهل أمر الله بالدعاء عند واحد دون غيره كما يفعل المشركون بهم الذين ضاهوا الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون

فصل

وأما ما حكي عن بعض المشايخ من قوله: إذا نزل بك حادث أو أمر تخافه فاستوحني فيكشف ما بك من الشدة حيا كنت أو ميتا فهذا الكلام ونحوه إما يكون كذبا من الناقل أو خطأ من القبائل فإنه نقل لا يعرف صدقه عن قائل غير معصوم ومن ترك النقل المصدق عن القائل المعصوم واتبع نقلا غير مصدق عن قائل غير معصوم فقد ضل ضلالا بعيدا ومن المعلوم أن الله لم يأمر بمثل هذا ولا رسله أمروا بذلك بل قال الله تعالى: { فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب }

ولم يقل أرغب إلى الأنبياء والملائكة

وقال تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }

قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون العزيز والمسيح والملائكة فأنزل الله هذه الآية وهذا رسول الله لم يقل لأحد من أصحابه إذا نزل بك حادث فاستوحني بل قال لابن عمه عبد الله بن عباس وهو يوصيه: [ إحفظ الله يحفظك إحفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ]

وما يرويه بعض العامة من أنه قال: إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم فهو حديث كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة في الدين

فإن كان للميت فضيلة فرسول الله أولى بكل فضيلة وأصحابه من بعده وإن كان منفعة للحي بالميت فأصحابه أحق الناس انتفاعا به حيا وميتا فعلم أن هذا من الضلال وإن كان بعض الشيوخ قال ذلك فهو خطأ منه والله يغفر له إن كان مجتهدا مخطئا وليس هو بنبي يجب اتباع قوله ولا معصوم فيما يأمر به وينهى عنه وقد قال الله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }

فصل

وأما قول القائل: من قرأ آية الكرسي واستقبل جهة الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه وسلم عليه وخطا سبع خطوات يخطو مع كل تسليمة خطوة إلى قبره قضيت حاجته أو كان في سماع فإنه يطيب ويكثر تواجده فهذا أمر القربة فيه شرك برب العالمين

ولا ريب أن الشيخ عبد القادر لم يقل هذا ولا أمر به ومن يقل مثل ذلك عنه فقد كذب عليه وإنما يحدث مثل هذه البدع أهل الغلو والشرك المشبهين للنصارى من أهل البدع الرافضة الغالية في الأئمة ومن أشبههم من الغلاة في المشايخ

وقد ثبت في الصحيح: عن النبي أنه قال: [ لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ]

فإذا نهى عن استقبال القبر في الصلاة لله فكيف يجوز التوجه إليه والدعاء لغير الله مع بعد الدار وهل هذا إلا من جنس ما يفعله النصارى بعيسى وأمه وأحبارهم ورهبانهم في اتخاذهم أربابا وآلهة يدعونهم ويستغيثونهم في مطالبهم ويسألونهم

ويسألون بهم

فصل

وأما قول من قال: إن الله ينظر إلى الفقراء في ثلاثة مواطن: عند الأكل والمناصفة والسماع فهذا القول روي نحوه عن بعض الشيوخ قال: إن الله ينظر إليهم عند الأكل فإنهم يأكلون بإيثار وعند المجاراة في العلم لأنهم يقصون المناصحة وعند السماع لأنهم يسمعون لله أو كلاما يشبه هذا والأصل الجامع في هذا: أن من عمل عملا يحبه الله ورسوله وهو ما كان لله بإذن الله فإن الله يحبه وينظر إليه فيه نظر محبة والعمل الصالح هو الخالص الصواب فالخالص ما كان لله والصواب ما كان بأمر الله ولا ريب أن كل واحد من المواكلة والمخاطبة والاستماع منها ما يحبه الله ومنها ما يشتمل على خير وشر وحق وباطل ومصلحة ومفسدة وحكم كل واحد بحسبه

فصل

وما يفعله بعض الناس من تحري الصلاة والدعاء عند ما يقال أنه قبر نبي أو قبر أحد من الصحابة والقرابة أو ما يقرب من ذلك أو إلصاق بدنه أو شيء من بدنه بالقبر أو بما يجاور القبر من عود وغيره كمن يتحرى الصلاة والدعاء في قبلي شرقي جامع دمشق عند الموضع الذي يقال أنه قبر هود والذي عليه العلماء أنه قبر معاوية بن أبي سفيان أو عند المثال الخشب الذي يقال تحته رأس يحيى بن زكريا ونحو ذلك: فهو مخطئ مبتدع مخالف للسنة فإن الصلاة والدعاء بهذه الأمكنة ليس له مزية عند أحد من سلف الأمة وأئمتها ولا كانوا يفعلون ذلك بل كانوا ينهون عن مثل ذلك كما نهاهم النبي عن أسباب ذلك ودواعيه وإن لم يقصدوا دعاء القبر والدعاء به فكيف إذا قصدوا ذلك

فصل

وأما قوله: هل للدعاء خصوصية قبول أو سرعة إجابة بوقت معين أو مكان معين عند قبر نبي أو ولي

فلا ريب أن الدعاء في بعض الأوقات والأحوال أجوب منه في بعض فالدعاء في جوف الليل أجوب الأوقات

كما ثبت في الصحيحين: عن النبي أنه قال: [ ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير - وفي رواية: نصف الليل - فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر ]

وفي حديث آخر: [ أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل الأخير ]

والدعاء مستحب عند نزول المطر وعند التحام الحرب وعند الأذان والإقامة وفي أدبار الصلوات وفي حال السجود ودعوة الصائم ودعوة المسافر ودعوة المظلوم وأمثال ذلك فهذا كله مما جاءت به الأحاديث المعروفة في الصحاح والسنن

والدعاء بالمشاعر: كعرفة ومزدلفة ومنى والملتزم ونحو ذلك من مشاعر مكة والدعاء بالمساجد مطلقا وكلما فضل المسجد كالمساجد الثلاثة كانت الصلاة والدعاء أفضل

وأما الدعاء لأجل كون المكان فيه قبر نبي أو ولي فلم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها أن الدعاء فيه أفضل من غيره ولكن هذا مما ابتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة للنصارى وغيرهم من المشركين فأصله من دين المشركين لا من دين عباد الله المخلصين كاتخاذ القبور مساجد فإن هذا لم يستحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها ولكن ابتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة لمن لعنهم رسول الله من اليهود والنصارى

فصل

وأما قول السائل هو يجوز أن يستغيث إلى الله في الدعاء بنبي مرسل أو ملك مقرب أو بكلامه تعالى أو بالكعبة أو بالدعاء المشهور باحتياط قاف أو بدعاء أم داود أو الخضر ويجوز أن يقسم على الله في السؤال بحق فلان بحرمة فلان بجاه المقربين بأقرب الخلق أو يقسم بأعمالهم وأفعالهم فيقال هذا السؤال فيه فصول متعددة فأما الأدعية التي جاءت بها السنة ففيها سؤال الله بأسمائه وصفاته والاستعاذة بكلامه كما في الأدعية التي في السنن

مثل قوله: [ اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت الله بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم ]

ومثل قوله: [ اللهم إني أسالك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ]

ومثل الدعاء الذي في المسند [ اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ]

وأما الأدعية التي يدعو بها بعض العامة ويكتبها باعة الحروز من الطرقية التي فيها: أسألك باحتياط قاف وهو يوف المخاف والطور والعرش والكرسي وزمزم والمقام والبلد الحرام وأمثال هذه الأدعية فلا يؤثر منها شيء لا عن النبي ولا عن أصحابه ولا عن أئمة المسلمين وليس لأحد أن يقسم بهذه بحال بل قد ثبت عن النبي : أنه قال: [ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ]

وقال: [ من حلف بغير الله فقد أشرك ] فليس لأحد أن يقسم بالمخلوقات البتة وقد قال النبي : [ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ]

كما قال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع وكما قال البراء بن مالك: أقسمت عليك أي رب إلا فعلت كذا وكذا وكلاهما كان ممن يبر الله قسمه والعبد يسأل ربه بالأسباب التي تقتضي مطلوبه وهي الأعمال الصالحة التي وعد الثواب عليها ودعا عباده المؤمنين الذين وعد إجابتهم كما كان الصحابة يتوسلون إلى الله تعالى بنبيه ثم بعمه وغير عمه من صالحيهم يتوسلون بدعائه وشفاعته كما في الصحيح: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون فتوسلوا بعد موته بالعباس كما كانوا يتوسلون به وهو توسلهم بدعائه وشفاعته

ومن ذلك ما رواه أهل السنن وصححه الترمذي: أن رجلا قال للنبي : [ أدع الله أن يرد علي بصري فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها اللهم فشفعه في ]

فهذا طلب من النبي وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبي له في توجيهه بنبيه إلى الله هو كتوسل غيره من الصحابة به إلى الله فإن هذا التوجه والتوسل هو توجه وتوسل بدعائه وشفاعته

وأما قول القائل: أسألك أو أقسم عليك بحق ملائكتك أو بحق أنبيائك أو بنبيك فلان أو برسولك فلان أو بالبيت الحرام أو بزمزم والمقام أو بالطور والبيت المعمور ونحو ذلك فهذا النوع من الدعاء لم ينقل عن النبي ولا أصحابه ولا التابعين لهم بإحسان بل قد نص غير واحد من العلماء: كأبي حنيفة وأصحابه كأبي يوسف وغيره من العلماء على أنه لا يجوز مثل هذا الدعاء فإنه أقسم على الله بمخلوق ولا يصح القسم بغير الله وإن سأله به على أنه سبب ووسيلة إلى قضاء حاجته أما إذا سأل الله بالأعمال الصالحة وبدعاء نبيه والصالحين من عباده فالأعمال الصالحة سبب للإثابة والدعاء سبب للإجابة فسؤاله بذلك سؤال بما هو سبب لنيل المطلوب وهذا معنى ما يروى في دعاء الخروج إلى الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا

وكذلك أهل الغار الذين دعوا الله بأعمالهم الصالحة فالتوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان هم وبطاعتهم كالصلاة والسلام عليهم ومحبتهم وموالاتهم أو بدعائهم وشفاعتهم وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضي حصول مطلوب العبد وإن كان لهم عند الله الجاه العظيم والمنزلة العالية بسبب إكرام الله لهم وإحسانه إليهم وفضله عليهم وليس في ذلك ما يقتضي إجابة دعاء غيرهم إلا أن يكون بسبب منه إليهم كالإيمان بهم والطاعة لهم أو بسبب منهم إليه كدعائهم له وشفاعتهم فيه فهذان الشيئان يتوسل بهما وأما الأقسام بالمخلوق فلا وما يذكره بعض العامة من قوله: إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم حديث كذب موضوع

فصل

وأما قول السائل: هو يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران لكون النبي رؤي عنده فيقال: بل تعظيم مثل هذه الأمكنة واتخاذها مساجد ومزارات لأجل ذلك هو من أعمال أهل الكتاب الذين نهينا عن التشبه بهم فيها

وقد ثبت أن عمر بن الخطاب كان في السفر فرأى قوما يبتدورن مكانا فقال: ما هذا؟ فقالوا: مكان صلى فيه رسول الله فقال: وإذا كان صلى فيه رسول الله أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض

وهذا قاله عمر بمحضر من الصحابة

ومن المعلوم أن النبي كان يصلي في أسفاره في مواضع وكان المؤمنون يرونه في المنام في مواضع وما اتخذ السلف شيئا من ذلك مسجدا ولا مزارا ولو فتح هذا الباب لصار كثير من ديار المسلمين أو أكثرها مساجد ومزارات فإنهم لا يزالون يرون النبي في المنام وقد جاء إلى بيوتهم ومنهم من يراه مرارا كثيرة وتخليق هذه الأمكنة بالزعفران بدعة مكروهة وأما ما يزيده الكذابون على ذلك مثل: أن يرى في المكان أثر قدم فيقال هذا قدمه ونحو ذلك فهذا كله كذب والأقدام الحجارة التي ينقلها من ينقلها ويقول أنها موضع قدمه كذب مختلق ولو كانت حقا لسن للمسلمين أن يتخذوا ذلك مسجدا أو مزارا بل لم يأمر الله أن يتخذوا مقام نبي من الأنبياء مصلى إلا مقام إبراهيم بقوله: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }

كما أنه لم يأمر بالاستلام والتقبيل لحجر من الحجارة إلا الحجر الأسود ولا بالصلاة إلى بيت إلا البيت الحرام ولا يجوز أن يقاس غير ذلك عليه باتفاق المسلمين بل ذلك بمنزلة من جعل للناس حجا إلى غير البيت العتيق أو صيام شهر مفروض غير صيام شهر رمضان وأمثال ذلك فصخرة بيت المقدس لا يسن استلامها ولا تقبيلها باتفاق المسلمين بل ليس للصلاة عندها والدعاء خصوصية على سائر بقاع المسجد والصلاة والدعاء في قبلة المسجد الذي بناه عمر بن الخطاب للمسلمين أفضل من الصلاة والدعاء عندها

وعمر بن الخطاب لما فتح البلد قال لكعب الأحبار: أين ترى أن أبني مصلى المسلمين؟ قال: إبنه خلف الصخرة قال: خالطتك يهودية يا بن اليهودية بل أبنيه أمامها فإن لنا صدور المساجد فبنى هذا المصلى الذي تسميه العامة الأقصى ولم يتمسح بالصخرة ولا قبلها ولا صلى عندها كيف وقد ثبت عنه في الصحيح أنه لما قبل الحجر الأسود قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك

وكان عبد الله بن عمر إذا أتى المسجد الأقصى يصلي فيه ولا يأتي الصخرة وكذلك غيره من السلف وكذلك حجرة نبينا وحجرة الخليل وغيرهما من المدافن التي فيها نبي أو رجل صالح: لا يستحب تقبيلها ولا التمسح بها باتفاق الأئمة بل منهى عن ذلك

وأما السجود لذلك فكفر كذلك خطابه بمثل ما يخاطب به الرب مثل: قول القائل أغفر لي ذنوبي وانصرني على عدوي ونحو ذلك

فصل

وأما الأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر لها بعض العامة أو يعلقون بها خرقا أو غير ذلك أو يأخذون ورقها يتبركون به أو يصلون عندها أو نحو ذلك فهذا كله من البدع المنكرة وهو من عمل أهل الجاهلية ومن أسباب الشرك بالله تعالى وقد كان للمشركين شجرة يعلقون بها أسلحتهم يسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: [ الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم شبر بشبر وذراع بذراع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته في الطريق لفعلتموه ]

وقد بلغ عمر بن الخطاب أن قوما يقصدون الصلاة عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان التي بايع النبي تحتها فأمر بتلك الشجرة فقطعت وقد اتفق علماء الدين على أن من نذر عبادة في بقعة من هذه البقاع لم يكن ذلك نذرا يجب الوفاء به ولا مزية للعبادة فيها

الفتاوى الكبرى لابن تيمية
كتاب السنة والبدعة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطهارة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | كتاب الصلاة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | كتاب الذكر والدعاء | 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب الصيام: 1 | 2 | 3 | كتاب الجنائز: 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب النكاح: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطلاق: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | كتاب النفقات | كتاب الحدود: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الجهاد: 1 | 2 | كتاب البيوع: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الشهادة والأقضية والأموال: 1 | 2 | كتاب الوقف: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | كتاب الوصايا | كتاب الفرائض | كتاب الفضائل: 1 | 2 | كتاب الملاهي | مسائل منثورة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | كتاب الطهارة2 | كتاب الصلاة2: 1 | 2 | كتاب الجنائز2 | كتاب الزكاة2 | كتاب الصوم2 | كتاب الحج | كتاب البيع: 1 | 2 | كتاب الوصية | كتاب الفرائض | كتاب العتق | كتاب النكاح2: 1 | 2 | كتاب الخلع | كتاب الطلاق2 | كتاب الرجعة | كتاب الظهار | كتاب الجنايات | كتاب الأطعمة | كتاب الأيمان | باب القضاء | كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل | كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة: 1 |2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16