الفتاوى الكبرى/كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة/6

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

والذي كان عليه السلف والأئمة أهل السنة والإجماع أن القرآن الذي هو كلام الله هو القرآن الذي يعلم المسلمون أنه القرآن والقرآن وسائر الكلام له حروف ومعان فليس الكلام ولا القرآن إذا أطلق اسما لمجرد الحروف ولا أسماء لمجرد المعاني بل الكلام اسم للحروف والمعاني جميعا فنشأ بعد السلف والأئمة ممن هو موافق للسلف والأئمة على إطلاق القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق طائفتان

طائفة قالت كلام الله ليس إلا مجرد معنى قائم بالنفس وحروف القرآن ليست من كلام الله ولا تكلم الله بها ولا يتكلم الله بحرف ولا صوت وألم وطس ون وغير ذلك ليست من كلام الله الذي تكلم هو به ولكن خلقها ثم منهم من قال خلقها في الهواء ومنهم من قال خلقها مكتوبة في اللوح المحفوظ ومنهم من قال جبريل هو الذي أحدثها وصنفها بأقدار الله له على ذلك ومنه من زعم أن محمدا هو الذي أحدثها وصنفها بأقدار الله له على ذلك وهؤلاء وافقوا الجهمية في نفيهم عن الله من الكلام ما نفته الجهمية وفي أنهم جعلوا هذا مخلوقا كما جعلته الجهمية مخلوقا لكن فارقوهم في أنهم أثبتوا معنى القرآن غير مخلوق وقالوا أن كلام الله اسم لما يقوم به ويتصف به لا لما يخلقه في غيره وأطلقوا القول بأن القرآن غير مخلوق وإن كانوا لا يريدون جميع المعنى الذي أراده السلف والأئمة والعامة بل بعضه كما أن الجهمية تطلق القول بأن القول كلام الله ولا يعنون به المعنى الذي يعنيه السلف والأئمة والعامة ولكن هؤلاء منعوا أن تكون هذه الحروف من كلام الله والجهمية المحضة سموها كلام الله لكن قالوا هي مع ذلك مخلوقة وأولئك لا يجعلون ما يسمونه كلام الله مخلوقا

ومنهم من يقول يسمى كلام الله أيضا على سبيل الاشتراك وأكثرهم يقولون نسميها بذلك مجازا وأيضا فجعلت هذه الطائفة معنى واحدا قائما بذات الرب هو أمر ونهى وخبر واستخبار وهو معنى التوراة والانجيل والقرآن وكل ما تكلم الله به وهو معنى آية الكرسي وآية الدين وجمهور عقلاء بني آدم يقولون أن فساد هذا معلوم بضرورة العقل وفطرة بني آدم وهؤلاء عندهم أن الملائكة تعبر عن المعنى القائم بذات الله وأن الله نفسه لا يعبر بنفسه عن نفسه وذلك يشبه من بعض الوجوه الأخرى الأخرس الذي يقوم بنفسه معان فيعبر غيره عنه بعبارته وهم في ذلك مشاركون للجهمية الذين جعلوا غير الله يعبر عنه من غير أن يكون الله يتكلم لكن هؤلاء يقولون قام بنفسه معنى فتجعله كالأخرس والجهمية تجعله بمنزلة الصنم الذي لا يقوم به معنى ولا لفظ

فعارض هؤلاء طائفة قالت أن القرآن هو الحرف والصوت أو الحروف والأصوات وقالوا أن حقيقة الكلام هو الحروف والأصوات ولم يجعلوا المعاني داخلة في مسمى الكلام وهؤلاء وافقوا المعتزلة الجهمية في قولهم أن الكلام ليس هو إلا الحروف والأصوات لكن المعتزلة لا يقولون إن الله تكلم بكلام قائم به وحقيقة قولهم إن الله لم يتكلم بشيء وهؤلاء يقولون إن الله تكلم بذلك وأن كلام الله قائم به وأن كلام الله غير مخلوق وهؤلاء أخرجوا المعاني أن تكون داخلة في مسمى الكلام وكلام الله كما أخرج الأولون الحروف والأصوات أن تكون داخلة في مسمى الكلام وكلام الله لكن هؤلاء الذين يقولون أن الكلام ليس هو إلا الحروف والأصوات لا يمنعون أن يكون الكلام معنى بل الناس كلهم متفقون على أن الحروف والأصوات التي يتكلم بها المتكلم تدل على معان وإنما النزاع بينهم في شيئين:

أحدهما: إن تلك المعاني هل هي من جنس العلوم والإرادات أم هي حقيقة أخرى ليست هي العلوم والارادات فالألوان يقولون ذلك المعنى حقيقة غير حقيقة العلم والإرادة والآخرون يقولون ليست حقيقته تخرج عن ذلك

والنزاع الثاني: إن مسمى الكلام هل هو المعنى أو هو اللفظ فالذين يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق ويقولون الكلام هو الحروف والأصوات هم وإن وافقوا المعتزلة في مسمى الكلام فإنهم يقولون ان معنى الكلام سواء كان هو العلم والإرادة أو أو أمرا آخر قائما بذات الله والجهمية من المعتزلة وغيرهم نحوهم لا تثبت معنى قائما بذات الله بل هؤلاء يقلون إن الكلام الذي هو الحروف قائم بذات الله أيضا فموافقة هؤلاء المعتزلة أقل من موافقة الأولين بكثير والصواب الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن الكلام اسم للحروف والمعاني جميعا فاللفظ والمعنى داخل في مسمى الكلام والأقوال في ذلك أربعة:

أحدهما: إن الكلام حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى كما تقوله الطائفة الثانية

والثاني: إنه حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ كما يقول جمهور الأولين

والثالث: إنه مشترك بينهما كما يقوله طائفة من الأولين

والرابع: إنه حقيقة في المجموع وإذا أريد به أحدهما دون الآخر احتاج إلى قرينة وهذا قول أهل الجماعة

وقد يحكي الأولون عن الآخرين أنهم يقولون إن القرآن قديم غير مخلوق وإن القديم الذي ليس بمخلوق هو الحروف والأصوات القائمة بالمخلوقات وهي أصوات العباد ومداد المصاحف فيحكون عنهم أن نفس صوت العبد ونفس المداد قديم أزلي غير مخلوق وهذا ما يعلم كل أحد فساده بالحس والاضطرار وما وجدت أحدا من العلماء المعروفين يقر بذلك بل ينكرون ذلك ولكن قد يوجد مثل هذا القول في بعض الجهال من أهل البوادي والجبال ونحوه وإنكار ذلك مأثور عن الأئمة المتقدمين كما ذكره البخاري في كتاب خلق الأفعال قال وقال إسحاق بن إبراهيم فأما الأوعية فمن شك في خلقها قال الله تعالى: { وكتاب مسطور * في رق منشور } وقال: { بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ }

فذكر محمد بن نصر المروذي في كتابه عن أحمد بن عمر عن عبدان عن ابن المبارك قال الورق والمداد مخلوق فأما القرآن فليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله ولكنه منهم طائفة يقولون إن لفظهم بالقرآن أو الصوت المسموع منهم غير مخلوق أو أنه يسمع منهم الصوت المخلوق والصوت الذي ليس بمخلوق لكن هذا مما أنكره عليهم أئمتهم وجماهيرهم

والآخرون يحكون عن الأولين أنه ليس لله في الأرض كلام وإن هذا القرآن الذي يقرأه المسلمون ليس هو كلام الله وأنه ليس لله في الأرض كلام وإنما هذا حكاية أو عبارة عن كلام الله وهؤلاء صادقون في هذا النقل فإن هذا قول الأولين وهم أول من ابتدع في الإسلام القول بالحكاية والعبارة وهي البدعة التي أضافها المسلمون إلى ابن كلاب والأشعري فإن ابن كلاب قال الحروف حكاية عن كلام الله وليست من كلام الله لأن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم والله يمتنع أن يقوم به حروف وأصوات فوافق الجهمية والمعتزلة في هذا النفي فجاء الأشعري بعده وهو موافق لابن كلاب على عامة أصوله فقال الحكاية تقتضي أن تكون مثل المحكي وليس الحروف مثل المعنى بل هي عبارة عن المعنى ودالة عليه وهم وأتباعهم يقولون أن تسمية ذلك كلاما لله مجازا لا حقيقة ويطلقون القول الحقيقي بأن أحدا من المسلمين لم يسمع كلام الله وأمثال ذلك سواء قالوا إن الحروف تسمى كلاما مجازا أو بطريق الاشتراك بينهما وبين المعاني لأنها وإن سميت كلاما بطريق الاشتراك فالكلام عندهم وعند الجماعة لا بد أن يقوم بالمتكلم فيصح على أحد قولهم أن تكون الحروف والأصوات كلاما للعباد حقيقة لقيامها بهم ولا يصح أن تكون كلاما لله حقيقة لأنها لا تقوم به عندهم بحال فلو قال أحد منهم أن الحروف التي يخلقها الله في الهواء تسمى كلاما له حقيقة أو أن ما يسمع من العباد أو يوجد في المصاحف يسمى كلام الله حقيقة للزمه أن يجعل مسمى الكلام ما لا يقوم بالمتكلم بل يكون دلالة على ما يقوم المتكلم وإن كان مخلوقا له وهذا ما وجدته لهم وهو ممكن أن يقال لكن متى قالوه انتقض عليهم عامة الحجج التي أبطلوا بها مذهب المعتزلة عليهم وصار للمعتزلة حجة قوية

وقد يحكي الآخرون عن الأولين أنهم يستهينون بالمصاحف فيطأونها وينامون عليها ويجعلونها مع نعالهم وربما كتبوا القرآن بالعذرة وغير ذلك مما هو من أفعال المنافقين الملحدين وهذا يوجد في أهل الجفاء والغلو منهم لما ألقي إليهم أئمتهم أن هذا ليس هو كلام الله صاروا يفرعون على ذلك فروعا من عندهم لم يأمرهم بها أئمتهم وإنما هي من أفعال الزنادقة المنافقين وإلا فلا خلاف بين من يعتقد الإسلام في وجود إحترام المصاحف وإكرامها وإجلالها وتتزيهها وفي العمل يقول النبي : [ لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ] وإن كان أهل البدعة يتناقضون في الجمع بين ما جاءت به الشريعة وما اعتقدوه من البدعة لكن التناقض جائز على العباد وهو أيسر عليهم من التزام الزندقة والنفاق والإلحاد وإن كان تلك البدعة هي المرقاة إلى هذا الفساد وأما الطائفة الثانية التي جعلت القرآن هو مجرد الحروف والأصوات فإنهم وافقوا الجهمية من المعتزلة وغيرهم

وعلى ذلك فإن أولئك جعلوا القرآن وسائر الكلام هو مجرد الحروف والأصوات الدالة على المعاني لكنهم لم يجعلوا لله كلاما تكلم هو به وقام به ولا جعلوا لهذه الحروف معاني تقوم بالله أصلا إذ عندهم لم يقم بالله لا علم ولا إرادة ولا غير ذلك بل جعلوا الحروف والأصوات مخلوقة خلقها الله في بعض الأجسام كما يزعمون أنه خلق في نفس الشجرة صوتا سمعه موسى حروف ذلك الصوت إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ولا ريب أن هذا يوجب أن تكون الشجرة هي القائلة إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني إذا المتكلم بالكلام هو الذي يقوم به كما أن المتحرك بالحركة والعالم بالعلم وغير ذلك من الصفات والأفعال وغيرها هو من يقوم به الصفة ولا يجوز أن يكون لشيء متكلما بكلام يقوم بغيره ولا يقوم به أصلا كما لا يكون عالما قادرا بعلم وقدره لا تقوم إلا بغيره ومتحركا بحركة لا تقوم إلا بغيره وطرد ذلك عند المحققين من الصفاتية أنه لا يكون فاعلا خالفا ومكونا بفعل وخلق وتكوين لا يقوم إلا بغيره كما هو مذهب أهل الحديث والصوفية والفقهاء وطوائف من أهل الكلام

ومما ينبغي أن يعلم أن الجهمية لما كانت في نفس الأمر قولها قول أهل الشرك والتعطيل وليس هو قول أحد من أهل الكتب المنزلة ولكن لم يكن لهم بد من موافقة أهل الكتب في الظاهر كانوا في ذلك منافقين علامين بنفاق أنفسهم كما عليه طواغيتهم الذين علموا بمخالفة أنفسهم للرسل وأقدموا على ذلك وهؤلاء منافقون زنادقة

وأما الجهال بنفاق أنفسهم صاروا في الجمع بين تكذبيهم الباطن وتصديقهم الظاهر جامعين بين النقيضين مضطرين إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في المسعيات مفسدين للعقل والدين وقولهم بخلق القرآن ونفي الصفات من أصول نفاقهم وذلك أنه من المعلوم ببداية العقول أن الحي لا يكون حيا إلا بحياة تقوم به ولا يكون حيا بلا حياة أو بحياة تقوم بغيره وكذلك العالم والقادر لا يكون عالما قادرا إلا بعلم وقدره تقوم به ولا يكون عالما قادرا بلا علم ولا قدرة أو بعلم وقدرة تقوم بغيره

وكذلك الحكيم والرحيم والمتكلم والمريد لا يكون حكيما ولا رحيما أو متكلما أو مريدا إلا بحكمة ورحمة أو كلام وإرادة تقوم به ولا يكون حكيما بلا حكمة ولا رحيما بلا رحمة أو بحكمة ورحمة تقوم بغيره ولا يكون متكلما ولا مريدا بلا كلام ولا إرادة أو بكلام وإرادة تقوم بغيره وكذلك من العلوم ببداية العقول أن الكلام والإرادة والعلم والقدرة لا تقوم إلا بمحل إذ هذه صفات لا تقوم بأنفسها ومن المعلوم ببداية العقول أن المحل الذي يقوم به العلم يكون عالما والذي تقوم به القدرة يكون قادرا والذي يقوم به الكلام يكون متكلما والذي تقوم به الرحمة يكون رحيما والذي تقوم به الإرادة يكون مريدا فهذه الأمور مستقرة في فطر الناس تعلمها قلوبهم علما فطريا ضروريا والألفاظ المعبرة عن هذه المعاني هي من اللغات التي اتفق عليها بنو آدم فلا يسمون عالما قادرا إلا من قام به العلم والقدرة ومن قام به العلم والقدرة سموه عالما قادرا وهذا معنى قول من قال من أهل الإثبات أن الصفة إذا قدمت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره أي إذا قام العلم والكلام بمحل كان ذلك المحل هو العالم المتكلم دون غيره

ومعنى قولهم أن الصفة إذا قامت بمحل اشتق له منها اسم كما يشتق لمحل العلم عليم ولمحل الكلام متكلم ومعنى قولهم أن صدق المشتق لا ينفك عن صدق المشتق منه أي أن لفظ العليم والمتكلم مشتق من لفظ العلم والكلام فإذا صدق على الموصوف أنه عليهم لزم أن يصدق حصول العلم والكلام له ولهذا كان أئمة السلف الذين عرفوا حقيقة قول من قال مخلوق وأن معنى ذلك أن الله لم يقوم به كلام بل الكلام قام بجسم من الأجسام غيره وعلموا أن هذا يوجب بالفطرة الضرورية أن يكون ذلك الجسم هو المتكلم بذلك الكلام دون الله وأن الله لا يكون متكلما أصلا وصاروا بذكرون قولهم بحسب ما هو عليه في نفسه وهو أن الله لا يتكلم وإنما خلق شيئا تكلم عنه وهكذا كانت الجهمية تقول أولا ثم أنها زعمت أن المتكلم من فعل الكلام ولو في غيره واختلفوا هل يسمى متكلما حقيقة أو مجازا على قولين فلهم في تسمية الله تعالى متكلما بالكلام المخلوق ثلاثة أقوال:

أحدها: وهو حقيقة قولهم وهم فيه أصدق لإظهارهم كفرهم أن الله لا تكلم ولا يتكلم

والثاني: وهم فيه متوسطون في النفاق أنه يسمى متكلما بطريق المجاز

والثالث: هم فيه منافقون نفاقا محضا أنه يسمى متكلما بطريق الحقيقة وأساس النفاق الذي بني عليه الكذب فلهذا كانوا من أكذب الناس في تسمية الله متكلما بكلام ليس قائما به وإنما هو مخلوق في غيره كما كانوا كاذبين مفترين في تسمية الله عالما قادرا مريدا متكلما بلا علم يقوم به ولا قدرة ولا إرادة ولا كلام فكانوا وإن نطقوا بأسمائه فهم كاذبون بتسميته بها وهم ملحدون في الحقيقة كإلحاد الذين نفوا عنه أن يسمى بالرحمن: { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } وبذلك وصفهم الأئمة وغيرهم ممن خبر مقالاتهم كما قال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق

قلنا: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم قلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون وقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منفية فإذا سمع الجاهر قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يعلم أنهم إنما يقودون بقولهم إلى ضلالة وكفر

وقال بعد ذلك بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله كلم موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء قلنا لم أنكرتم ذلك قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم إنما كون شيئا فعبر عن الله وخلق صوتا فسمع وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم ولسان وشفتين فقلنا هو يجوز لمكون أو لغيره أن يقول يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني أو أني أنا ربك فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمي أن الله كون الأشياء كأن يقول ذلك المكون يا موسى أنا الله رب العالمين لا يجوز أن يقول إني أنا الله رب العالمين وقد قال الله جل ثناؤه وكلم الله موسى تكليما وقال ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه وقال إني اصطفيتك على الناس برسالات وبكلامي فهذا منصوص القرآن وأما ما قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم فكيف يصنعون بحديث سليمان الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي قال قال رسول الله : [ ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ]

وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان أليس الله قال للسموات والأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين أتراها أنها قالت بجوف وشفتين ولسان وقال الله جل ثناؤه وسخرنا مع داود الجبال يسبحن أتراها أنها سبحت بجوف وفم وشفتين ولسان والجوارج إذا شهدت على الكافر وقالوا لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء أتراها نطقت بجوف وفم وشفتين ولسان ولكن الله أنطقها كما شاء فكذلك تكلم الله كيف شاء من غير أن تقول جوف ولا فم ولا شفتان ولا لسان فلما خنقته الحجج قال إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره قلنا غيره مخلوق قال نعم قلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم بما تظهرون وحديث الزهري قال لما سمع موسى كلام ربه قال يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك إنما كلمتك على قدر ما تطيق بذلك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت قال فلما رجع موسى إلى قومه قالوا اتصف لنا كلام ربك قال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا فشبهه لنا قال: أسمعتم الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله

وقلنا للجهمية من للقائل يوم القيامة يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إليهن من دون الله أليس الله هو القائل قالوا يكون الله شيئا فيعبر عن الله كما كون فعبر لموسى قلنا فمن القائل فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقص عليهم بعلم وما كنا غائبين أليس الله هو الذي يسأل قالوا هذا كله إنما يكون شيئا فيعبر عن الله قلنا قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تكلم ولا تحرك ولا تزول من مكان إلى مكان

فما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق فقلنا وكذلك بنو آدم عليه السلام وكلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله كان وفي وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله جل ثناؤه عن هذه الصفة بل نقول أن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول أنه قد كان ولا يتكلم حتى خلق ولا نقول أنه قد كان لا يعلم حتى خلق فعلم ولا نقول أنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول أنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول أنه قد كان ولا عظمة حيث خلق لنفسه عظمة فقالت الجهمية لنا لما وصفنا من الله هذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته فقلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوه ولكن لم يزل بنوره وبقدرته لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء فقلنا نحن نقول كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا أن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم مثلا في ذلك فقلنا لهم أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذوع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم واحد سميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله جل ثناؤه وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول أنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق فعلم والذي لا يعلم فهو جاهل

ولكن نقول لم يزل الله قادرا عالما مالكا لا متى ولا كيف وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال ذرني ومن خلقت وحيدا وقد كان الله سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه وحيدا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد

وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات وهذا ذكر اختلاف الناس في الأسماء والصفات الحمد لله بصرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة المتحيرين الذين نفوا صفات رب العالمين وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له وأنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع له ولا بصر له ولا عز له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر الصفات الله التي يوصف بها نفسه قال وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا قدير وعبروا عنه بأن قالوا عين لم يزل لم يزيدوا على ذلك غير أن هؤلاء الذي وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من ذلك

وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأيادي كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم أنه لا يقال إن الباري عالم قادر سميع بصير حكيم جليل في حقيقة القياس قال لأني لو قلت إنه عالم في حقيقة القياس لكان لا عالم إلا هو وكان يقول القديم لم يزل في حقيقة القياس ينعكس لأن القديم لم يزل ومن لم يزل فقديم فلو كان الباري عالما في حقيقة القياس لكان لا عالم إلا هو قال وقد اختلفوا فيما بينهم اختلافا تشتت فيه أهواؤهم واضطربت فيه أقاويلهم ثم ساق اختلافهم

وكذلك قال: في الإبانة فصل وزعمت الجهمية أن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر له وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك فتابوا بمعناه لأنهم إذا قالوا لا علم لله ولا قدرة له فقد قالوا إنه ليس بعالم ولا قادر ووجب ذلك عليهم وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل لأن الزنادقة قال كثير منهم إن الله ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت إن الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسمع ومقصودنا والتنبيه على أنه من المستقر في المعقول والمسموع ما تقدم ذكرنا له مع أن الحي القادر المتكلم المريد لا بد أن تقوم به الحياة والعلم والقدرة والكلام والإرادة وإن ما قام به ذلك استحق أن يوصف بأنه حي عالم قادر متكلم مريد فهذه أربعة أمور ثبوت حكم الصفة لمحلها وانتفاؤه عن غير محلها وثبوت الاسم المشتق من اسمها لمحلها وانتفاء الاسم عن غير محلها والجهمية من المعتزلة وغيرهم خالفوا ذلك من ثلاثة أوجه:

أحدها: زعمهم أن الله حي عليم قدير من غير أن تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة فأثبتوا الأسماء والأحكام مع نفي الصفات

الثاني: أبعد من ذلك من وجه أنهم قالوا هو متكلم بكلام يقوم بغيره وليس الجسم الذي قام به الكلام متكلما به فأثبتوا الاسم والحكم بدون الصفة ونفوا الاسم والحكم عن موضع الصفة لكنهم لم يجعلوا متكلما إلا من له كلام وجعلوا هناك عالما قادرا من لا علم له ولا قدرة

الثالث: أبعد من ذلك من وجه آخر وهو ما قالوه في الإرادة تارة ينفونها وتارة يقولون هو مريد بإرادة لا في محل فأثبتوا الاسم والحكم بدون الصفة وجعلوا الصفة تقوم بغير محل وكل هذه الأمور الثلاثة مما يعلم ببداية العقل وبما فطر الله عليه والعباد بالعلوم الضرورية أن ذلك باطل وهو من النفاق لكنهم احتجوا في ذلك بحجة ألزمها لهم الكلابية والأشعرية ومن وافقهم وهو الصفات الفعلية مثل كونه خالقا رازقا عادلا محييا مميتا وتسمى صفة التكوين وتسمى الخالق وتسمى صفة الفعل وتسمى التأثير فقالوا هو خالق فاعل مكون عادل من غير أن يقوم به خلق ولا تكوين ولا فعل ولا تأثير ولا عدل فكذلك المتكلم والمريد وقالوا إن الخلق هو نفس المخلوق واتبعهم على ذلك الكلابية والأشعرية فصار للأولين عليهم حجة بذلك وإنما قرن هؤلاء بين الأمرين لأنهم قالوا إن قلنا أن الكتوين قديم لزم قدم المكونات والمخلوقات كلها وهذا معلوم الفساد بالحس وإن قلنا أنه محدث لزم قيام الحوادث به

وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام من الرادين على المعتزلة من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيطردون ما ذكر من الأدلة ويقولون لا يكون فاعلا إلا بفعل يقوم بذاته وتكوين يقوم بذاته والخلق الذي يقوم بذاته غير الخلق الذي هو المخلوق وهذا هو ذكره الفقهاء من أصحاب أبي حنفية والشافعي وأحمد ومالك في كتبهم كما ذكره فقهاء الحنفية كالطحاوي وأبي منصور الماتريدي وغيرهم وكما ذكره البغوي في شرح السنة وكما ذكره أصحاب أحمد كأبي إسحاق وأبي بكر عبدالعزيز والقاضي وغيرهم لكن القاضي ذكر في الخلق هل هو المخلوق أو غيره قولين ولكن استقر قوله على أن الخلق غير المخلوق وإن خالفهم ابن عقيل وكما ذكره أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي في كتاب اعتقاد الصوفية وكما ذكر أئمة الحديث والسنة قال البخاري في أخر الصحيح في كتاب الرد على الجهمية والزنادقة باب ما جاء في تخليق السموات والأرض ونحوهما من الخلائق وهو فعل الرب وأمره فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون ولا ريب أن هذا القول الذي عليه أهل السنة والجماعة هو الحق

فإن ما ذكر من الحجة أن العالم القادر المتكلم المريد لا يكون إلا بأن يقوم به العلم والقدرة والكلام والإرادة هو بعينه يقال في الخالق والفاعل فإنه من المعلوم ببداية العقول وضرورتها إن الصانع الفاعل لا يكون صانعا فاعلا إلا أن يقوم به ما يكون به فاعلا صانعا ولا يسمى الفاعل فاعلا كالضارب والقاتل والمحسن والمطعم وغير ذلك إلا إذا قام به الفعل الذي يستحق به الإسم ولكن الجهمية نفت هذا كله وفروخهم وافقتهم في البعض دون البعض وأما أهل الأثبات فباقون على الفطرة كما وردت به الشريعة وكما جاء به الكتاب والسنة فإن الله وصف نفسه في غير موضع بأفعاله كما وصف نفسه بالعلم والقدرة ومن ذلك المجيء والاتيان والنزول والاستواء ونحو ذلك من أفعاله ولكن هنا أخبر بأفعاله وهناك ذكر أسماءه المتضمنة للأفعال ولم يفرق السلف والأئمة بين أسماء الأفعال وأسماء الكلام كما في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلا سأل ابن عباس قال إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي فذكر مسأئلة ومنها قال وقوله: { وكان الله غفورا رحيما } { وكان الله عزيزا حكيما } { وكان الله سميعا بصيرا } فكأنه كان ثم مضى

فقال ابن عباس: وقوله وكان الله غفورا رحيما سمي نفسه ذلك وذلك قوله أي لم أزل كذلك هذا لفظ البخاري بتمامه واختصر الحديث ورواه البرقاني من طريق شيخ البخاري بتمامه فقال ابن عباس فأما قوله وكان الله غفورا رحيما وكان الله عزيزا حكيما وكان الله سميعا بصيرا فإن الله جعل نفسه ذلك وسمي نفسه ذلك ولم ينحله أحد غيره وكان الله أي لم يزل كذلك هذا لفظ الحميدي صاحب الجمع ورواه البيهقي عن البرقاني من حديث محمد إبراهيم البوشنجي عن يوسف بن عدي شيخ البخاري قال إن الله سمى نفسه ذلك ولم ينحله غيره فذلك قوله وكان الله أي لم يزل كذلك ورواه البيهقي من رواية ابن يعقوب بن سفيان عن يوسف ولفظ المسائل فكأنه كان ثم مضى ولفظ ابن عباس فإن الله سمى نفسه وذلك ولم يجعله غيره فذلك قوله وكان الله أي لم يزل يقال جعلت زيدا عالما إذا جعلته في نفسك وجعلته عالما إذا جعلته في نفسي أي اعتقدته عالما كما قال تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أي اعتقدوهم وقد جعلتم الله عليكم كفيلا أي في نفوسكم بما عقدتموه من اليمين

فقوله جعل نفسه ذلك وسمى نفسه ذلك يخرج على الثاني أي هو الذي حكم بذلك وأخبر بثبوته له وسمي به نفسه لم ينحله ذلك أحد غيره

وقوله: وكان أي لم يزل كذلك والمعنى أنه أخبر أن هذا أمر لم يزل عليه وهو الذي حكم به لنفسه وسمي به نفسخ لم يكن الخلق هم الذين حكموا بذلك له وسموه بذلك فأراد بذلك أنه لو كان ذلك مستفادا من نحلة الخلق له لكان محدثا له بحدوث الخلق فأما إذا كان هو الذي سمي نفسه وجعل نفسه كذلك فهو سبحانه لم يزل ولا كذلك فلهذا أخبر بأنه كان كذلك ولهذا اتبع أئمة السنة ذلك كقول أحمد في رواية حنبل لم يزل الله عالما متكلما غفورا وقال في الرد على الجهمية لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف ولهذا احتج الإمام أحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بأن النبي استعاذ بكلمات الله في غير حديث فقال: [ أعوذ بكلمات الله التامة ] ففي البخاري عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسمل يعوذ الحسن والحسين [ أعيذكما بكلمات الله التامة ] وذكر الحديث وفي صحيح مسلم عن خولة بنت حكيم أن النبي قال: [ لو أن أحدكم إذا نزل منزلا قال أعوذ بكلمات الله التامات ] وذكر الحديث وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة أن النبي قال: [ من قال حين يمسي أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق ]

وذكر الحديث وذلك في أحاديث آخر قال أحمد وغيره ولا يجوز أن يقال أعيذك بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالملائكة أو بالعرش أو بالأرض أو بشيء مما خلق الله ولا يعوذ إلا بالله أو بكلماته وقد ذكر الاحتجاج بهذا البيهقي في كتاب الأسماء والصفات لكن نقل احتجاج أحمد على غير وجهه وعورض بمعارضة فلم يجب عنها ثم قال البيهقي ولا يصح أن يستعيذ من مخلوق بمخلوق فدل على أنه استعاذ بصفة من صفات ذاته وهي غير مخلوقة كما أمره الله أنه يستعيذ بذاته وذاته غير مخلوقة ثم قال وبلغني عن أحمد بن حنبل أنه كان يستدل بذلك على أن القرآن غير مخلوق قال وذلك أنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص

قلت: احتجاج أحمد هو من الوجه الذي تقدم كما حكينا لفظ المروذي في كتابه الذي عرضه على أحمد والمقصود هنا ثم الكلام على قول الطائفة الثانية الذين قالوا أن القرآن هو الحروف والأوصوات دون المعاني ثم إن قولهم هذا متناقض في نفسه فإن الحروف والأصوات التي سمعها موسى عبرية والتي ذكرها الله عنه في القرآن عربية فلو لم يكن الكلام إلا مجرد الحروف والأصوات لم يكن بين الكلام الذي سمعه موسى والذي ذكره الله أنه سمعه قدر مشترك أصله بل كان يكون الأخبار بأنه سمع هذه الأصوات التي لم يسمعها كذب وكذلك سائر من حكى الله في القرآن أنه قال من الأمم المتقدمة الذين تكلموا بغير العربية فإنما تكلموا بلغتهم وقد حكى الله ذلك باللغة التي أنزل بها القرآن وهي العربية وكلام الله صدق فلو كان قولهم مجرد الحروف والأصوات والحروف والأصوات التي قالوها ليست مثل هذه لم تكن الحكاية عنهم مطلقا بل كلامهم كان حروفا ومعاني فحكى الله عنهم ذلك بلغة أخرى والحروف تابعة للمعاني والمعاني هي المقصود الأعظم

كما يترجم كلام سائر المتكلمين وهؤلاء المثبتة الذين وافقوا أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ووافقوا المعتزلة على أن الكلام ليس هو إلا مجرد الحروف والأصوات يقولون إن كلام الله القائم به ليس هو إلا مجرد الحروف والأصوات وهذا هو الذي بينته أيضا في جواب المحنة وبينت أن هذا لم يقله أحد من السلف ولا قالوا أيضا أنه معنى قائم بذاته بل كلاهما بدعة وأنا ليس في كلامي شيء من البدع ثم منهم من يقول هو مع ذلك قديم غير حادث لموافقتهم الطائفة الأولى على أن معنى قول السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق أنه صفة قديمة قائمة بذاته لا يتعلق بمشيئته واختياره قط ومنهم من لا يقول ذلك بل يقول هو وإن كان مجرد الحروف والأصوات وهو قائم به فإنه يتعلق بمشيئته واختياره وأنه إذا شاء تكلم بذلك وإذا شاء سكت وإن كان لم يزل كذلك

وظن الموافقون للسلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق من القائلين بأن الكلام ليس إلا معنى في النفس وكثير من القائلين بأنه ليس إلا الحروف والأصوات أن معنى قول السلف القرآن كلام الله غير مخلوق أنه صفة قديمة قائمة بذاته لا يتعلق بمشيئته واختياره وإرادته وقدرته

وهذا اعتقدوه في جميع الأمورالمضافة إلى الله أنها إما أن تكون مخلوقة منفصلة عن الله تعالى وإما أن تكون قديمة غير متعلقة بمشيئته وقدرته وإرادته ومنعوا أن يقال أنه يتكلم إذا شاء أو أنه لم يزل متكلما إذا شاء أو أنه قادر على الكلام أو التكلم أو أنه يستطيع أن يتكلم بشيء أو أنه إن شاء تكلم وإن شاء سكت أو أنه يقدر على الكلام والسكوت كما يمتنع أن ياقل إنه يحيى إذا شاء أو أنه يقدر على أن يحيا وعلى أن لا يحيا أن الحياة صفة لازمة لذاته يمتنع أن يكون إلا حيا قيوما سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا فاعتقدوا هؤلاء في الكلام والإرادة والمحبة والبغض والرضاء والسخط والإتيان والمجيء والاستواء على العرش والفرح والضحك مثل الحياة

وأول من أظهر القول من الموافقين لأهل السنة في الأصول الكبار هو عبد الله بن سعيد بن كلاب وهذا مقتضى ما ذكره الأشعري في المقالات فإنه لم يذكر ذلك عن أحد قبله بل ذكر عن بعض المرجئة أنه يقول بقوله وذكر عن بعض الزيدية ما يحتمل أن يكون موافقا لبعض قوله وذكر أبو الحسن في كتاب المقالات قول أهل الحديث والسنة فقال هل هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة

جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله لا يريدون من ذلك شيئا والله تعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى وأن له يدين بلا كيف كما قال خلقت بيدي وكما قال بل يداه مبسوطتان وأن له عينين بلا كيف كما قال تجري بأعيننا وأن له وجها كما قال ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن لله علما كما قال: { أنزله بعلمه } وكما قال: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال: { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } وقالوا إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله وأن الأشياء بمشيئة الله تعالى: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله }

ولما قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون وقالوا إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله أو أن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله وأقروا أنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد يخلقها الله تعالى وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وأن الله وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين ولطف بالمؤمنين ونظر وأصلحهم وهداهم ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ولو أصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكون كافرين

كما علم وأخذلهم ولم يصلحهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلى ما شاء الله كما قال ويلجئون أمرهم إلى الله ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت والفقر إلى الله في كل حال ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق


الفتاوى الكبرى لابن تيمية
كتاب السنة والبدعة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطهارة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | كتاب الصلاة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | كتاب الذكر والدعاء | 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب الصيام: 1 | 2 | 3 | كتاب الجنائز: 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب النكاح: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطلاق: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | كتاب النفقات | كتاب الحدود: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الجهاد: 1 | 2 | كتاب البيوع: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الشهادة والأقضية والأموال: 1 | 2 | كتاب الوقف: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | كتاب الوصايا | كتاب الفرائض | كتاب الفضائل: 1 | 2 | كتاب الملاهي | مسائل منثورة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | كتاب الطهارة2 | كتاب الصلاة2: 1 | 2 | كتاب الجنائز2 | كتاب الزكاة2 | كتاب الصوم2 | كتاب الحج | كتاب البيع: 1 | 2 | كتاب الوصية | كتاب الفرائض | كتاب العتق | كتاب النكاح2: 1 | 2 | كتاب الخلع | كتاب الطلاق2 | كتاب الرجعة | كتاب الظهار | كتاب الجنايات | كتاب الأطعمة | كتاب الأيمان | باب القضاء | كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل | كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة: 1 |2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16