الفتاوى الكبرى/كتاب الوقف/2

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

- 18 / 859 مسألة: فيمن أوقف رباطا وجعل فيه جماعة من أهل القرآن وجعل لهم كل يوم ما يكفيهم وشرط عليهم شروطا غير مشروعة: منها أن يجتمعوا في وقتين معينين من النهار فيقرأون شيئا معينا من القرآن في المكان الذي أوقفه لا في غيره مجتمعين في ذلك غير متفرقين وشرط أن يهدوا له ثواب التلاوة ومن لم يفعل ما شرط في المكان الذي أوقف لم يأخذ ما جعل له فهل جميع الشروط لازمة لمن أخذ المعلوم؟ أم بعضها؟ أم لا أثر لجميعها؟ وهل إذا لزمت القراءة فهل يلزم جميع ما شرطه منها؟ أم يقرآون ما تيسر عليهم قراءته من غير أن يهدوا شيئا؟

الجواب: الحمد لله الأصل في هذا أن كل ما شرط من العمل من الوقوف التي توقف على الأعمال فلا بد أن تكون قربة إما واجبا وإما مستحبا وإما اشتراط عمل محرم فلا يصح باتفاق علماء المسلمين بل وكذلك المكروه وكذلك المباح على الصحيح

وقد اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وفاسد كالشروط في سائر العقود ومن قال من الفقهاء: أن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع فمراده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف لا في وجوب العمل بها: أي أن مراد الواقف يستفاد من ألفاظه المشروطة كما يستفاد مراد الشارع من ألفاظه فكما يعرف العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والتشريك والترتيب في الشرع من ألفاظ الشارع فكذلك تعرف في الوقف من ألفاظ الواقف

مع أن التحقيق في هذا أن لفظ الواقف ولفظ الحالف والشافع والموصي وكل عاقد يحمل على عادته في خطابته ولغته التي يتكلم بها سواء وافقت العربية العرباء أو العربية المولدة أو العربية الملحونة أو كانت غير عربية وسواء وافقت لغة الشارع أو لم توافقها فإن المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها فنحن نحتاج إلى معرفة كلام الشارع لأن معرفة لغته وعرفه وعادته تدل على معرفة مراده وكذلك في خطاب كل أمة وكل قوم فإذا تخاطبوا بينهم في البيع والإجارة أو الوقف أو الوصية أو النذر أو غير ذلك بكلام رجع إلى معرفة مرادهم وإلى ما يدل على مرادهم من عادتهم في الخطاب وما يقترن بذلك من الأسباب

وأما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها فهذا كفر باتفاق المسلمين إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر بعد رسول الله والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة كما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه خطب على منبره وقال: [ ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ! من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرطه الله أوثق ]

وهذا الكلام حكمه ثابت في البيع والإجارة والوقف وغير ذلك باتفاق الأئمة سواء تناوله لفظ الشارع أو لا إذ الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أو كان متناولا لغير الشروط في البيع بطريق الاعتبار عموما معنويا

وإذا كانت شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وباطل: بالاتفاق فإن شرط فعلا محرما ظهر أنه باطل فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وإن شرط مباحا لا قربة فيه كان أيضا باطلا لأنه شرط شرطا لا منفعة فيه لا له للموقوف عليه فإنه في نفسه لا ينتفع إلا بالإعانة على البر والتقوى

وأم بذل المال في مباح: فهذا إذا بذله في حياته مثل الابتياع والاستئجار جاز لأنه ينتفع بتناوله المباحات في حياته

وأما الواقف والموصي فإنهما لا ينتفعان بما يفعل الموصي له والموقوف عليه من المباحات في الدنيا ولا يثابان على بذل المال في ذلك في الآخرة فلو بذل المال في ذلك عبثا وسفها لم يكن فيه حجة على تناول المال فكيف إذا الزم بمباح لا غرض له فيه فلا هو ينتفع به في الدنيا ولا في الآخرة بل يبقى هذا منفقا للمال في الباطل مسخر معذب آكل للمال بالباطل

وإذا كان الشارع قد يقال: [ لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ] فلم يجوز بالجعل شيئا لا يستعان به على الجهاد وإن كان مباحا وقد يكون فيه منفعة كما في المصارعة والمسابقة على الاقدام فكيف يبذل العوض المؤبد في عمل لا منفعة فيه لا سيما والوقف محبس مؤبد فكيف يحبس المال دائما مؤبدا على عمل لا ينفع به هو ولا ينتفع به العامل فيكون في ذلك ضرر على حبس الورثة وسائر الآدميين بحبس المال عليهم بلا منفعة حصلت لأحد وفي ذلك ضرر على المناولين باستعمالهم في عمل هم فيه مسخرون يعوقهم عن مصالحهم الدينية والدنيوية فلا فائدة تحصل له ولا لهم وقد بسطنا الكلام في هذه القاعدة في غير هذا الموضع

فإذا عرف هذا فقراءة القرآن كل واحد على حدته أفضل من قراءة مجتمعين بصوت واحد فإن هذه تسمى قراءة الإرادة وقد كرهها طوائف من أهل العلم: كمالك وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم ومن رخص فيها كبعض أصحاب الامام أحمد لم يقل أنها أفضل من قراءة الانفراد يقرأ كل منهم جميع القرآن

وأما هذه القراءة فلا يحصل لواحد جميع القرآن بل هذا يتم ما قرآه هذا وهذا يتم ما قرأه هذا ومن كان لا يحفظ القرآن يترك قراءة ما لم يحفظه

وليس في القراءة بعد المغرب فضيلة مستحبة يقدم بها على القراءة في جوف الليل أو بعد الفجر ونحو ذلك من الأوقات فلا قربة في تخصيص مثل ذلك بالوقت

ولو نذر صلاة أو صياما أو قراءة أو اعتكافا في مكان بعينه فإن كان للتعيين مزية في الشرع: كالصلاة والاعتكاف في المساجد الثلاثة لزم الوفاء به وإن لم يكن له مزية: كالصلاة والاعتكاف في مساجد الامصار لم يتعين بالنذر الذي أمر الله بالوفاء به وقال النبي : [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ]

فإذا كان النذر الذي يجب الوفاء به لا يجب أن يوفى به إلا ما كان طاعة باتفاق الأئمة فلا يجب أن يوفى منه بمباح كما لا يجب أن يوفى منه بمحرم باتفاق العلماء في الصورتين وإنما تنازعوا في لزوم الكفارة: كمذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي فكيف بغير النذر من العقود التي ليس في لزومها من الأدلة الشرعية ما في النذر

وأما اشتراط إهداء ثواب التلاوة فهذا ينبني على اهداء ثواب العبادات البدنية: كالصلاة والصيام والقراءة فإن العبادات المالية يجوز إهداء ثوابها بلا نزاع وأما البدنية ففيها قولان مشهوران

فمن كان من مذهبه أنه لا يجوز إهداء ثوابها: كأكثر أصحاب مالك والشافعي كان هذا الشرط عندهم باطلا كما لو شرط أن يحمل عن الواقف ديونه فإنه { ولا تزر وازرة وزر أخرى }

ومن كان من مذهبه أنه يجوز إهداء ثواب العبادات البدنية كأحمد وأصحاب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك فهذا يعتبر أمرا آخر وهو أن هذا إنما يكون من العبادت ما قصد بها وجه الله فأما ما يقع مستحقا بعقد إجارة أو جعالة فإنه لا يكون قربة فإن جاز أخذ الأجر والجعل عليه فإنه يجوز الاستئجار على الامامة والأذان وتعليم القرآن نقول

19 - 860 - مسألة: فيمن وقف مدرسة بيت المقدس وشرط على أهلها الصلوات الخمس فيها فيه يصح هذا الشرط؟ وهل يجوز للمنزلين الصلوات الخمس في المسجد الأقصى دونها ويتناولون ما قرر لهم؟ أم لا يحل التناول إلا بفعل هذا الشرط

الجواب: ليس هذا شرطا صحيحا يقف الاستحقاق عليه كما كان يفتي بذلك في هذه الصورة بعينها الشيخ عز الدين بن عبدالسلام وغيره من العلماء لأدلة متعددة وقد بسطناها في غير هذا الموضع مع ما في ذلك من أقوال العلماء

ويجوز للمنزلين أن يصلوا في المسجد الأقصى الصلوات الخمس ولا يصلوها في المدرسة ويستحقون مع ذلك ما قدر لهم وذلك أفضل لهم من أن يصلوا في المدرسة والامتناع من أداء الغرض في المسجد الأقصى لأجل حل الجاري: ورع فاسد يمنع صاحبه الثواب العظيم في الصلاة في المسجد والله أعلم

20 - 861 - مسألة: في واقف وقف رباطا على الصوفية وكان هذا الرباط قديما جاريا على قاعدة الصوفية في الربط: من الطعام والاجتماع بعد العصر فقط؟ فتولي نظره شخص فاجتهد في تبطيل قاعدته وشرط على من به شروطا ليست في الرباط أصلا ثم انهم يصلون الصلوات الخمس في هذا الرباط ويقرأون بعد الصبح قريبا من ثلاثة أجزاء حتى أن أحدهم إذا غاب عن صلاة أو قراءة كتب عليه غيبة مع أن هذا الرباط لم يعرف له كتاب وقف ولا شرط فهل يجوز إحداث هذه الشروط عليهم؟ أم لا؟ وهل يأثم من أحدثها أم لا؟ وهل يحل للناظر الآن أن يكتب عليهم غيبة أم لا؟ وهل يجب إبطال هذه الشروط أم لا؟ وهل يثاب ولي الأمر إذا أبطلها أم لا؟ وإذا كانت هذه الشروط قد شرطها الواقف: هل يجب الوفاء بها أم لا؟ وما الصور في الذي يستحق ذلك؟ وهل إذا كان في الجماعة من هو مشتغل بالعلوم الشرعية يكون أولى ممن هو مترسم برسم ظاهر لا علم عنده؟ ومن لم يكن متأدبا بالآداب الشرعية هل يجوز له تناول شيء من ذلك أم لا؟ وإذا كان فيهم من هو مشتغل بالعلم الشريف وله من الدنيا ما لا يقوم ببعض كفايته هل يكون أولى ممن ليس متأدبا بالآداب الشرعية ولا عند شيء من العلم؟ أفتونا مأجورين وبينوا لنا ذلك بيانا شافيا بالدليل من الكتاب والسنة رضي الله عنهاكم

الجواب: رحمه الله: لا يجوز للناظر إحداث هذه الشروط ولا غيرها فإن الناظر إنما هو منفذ لما شرطه الواقف ليس له أن يبتدئ شروطا لم يوجبها الواقف ولا أوجبها الشارع ويأثم من أحدثها فإنه منع المستحقين حقهم حتى يعملوا أعمالا لا تجب ولا يحل أن يكتب على من أخل بذلك غيبة بل يجب إبطال هذه الشروط ويثاب الساعي في إبطالها مبتغيا بذلك وجه الله تعالى

وأما الصوفي الذي يدخل في الوقف على الصوفية فيعتبر له ثلاثة شروط:

أحدها: أن يكون عدلا في دينه ويؤدي الفرائض ويجتنب المحارم

الثاني: أن يكون ملازما لغالب الآداب الشرعية في غالب الأوقات وإن لم تكن واجبة مثل آداب الآكل والشرب واللباس والنوم والسفر والركوب والصحبة والعشرة والمعاملة مع الخلق إلى غير ذلك من الآداب الشريفة قولا وفعلا ولا يلتفت إلى ما أحدثه بعض المتصوفة من الآداب التي لا أصل لها في الدين من التزام شكل مخصوص في اللبسة ونحوهما مما لا يستحب في الشريعة فإن مبنى الآداب على اتباع السنة ولا يلتفت أيضا إلى ما يهدره بعض المتفقهة من الآداب المشروعة يعتقد لقلة علمه أن ذلك ليس من آداب الشريعة لكونه ليس فيما بلغه من العلم أو طالعه من كتبه بل العبرة في الآداب بما جاءت به الشريعة: قولا وفعلا وتركا كما أن العبرة في الفرائض والمحارم بذلك أيضا

والشرط الثالث في الصوفي: قناعته بالكفاف من الرزق بحيث لا يمسك من الدنيا ما يفضل عن حاجته فمن كان جامعا لفضول المال لم يكن من الصوفية الذين يقصد إجراء الأرزاق عليهم وأن كان قد يفسخ لهم في مجرد السكنى في الربط ونحوهما فمن حمل هذه الخصال الثلاث كان من الصوفية المقصودين بالربط والوقف عليها وما فوق هؤلاء من أرباب المقامات العلية والأحوال الزكية وذوي الحقائق الدينية والمنح الربانية: فيدخلون في العموم لكن لا يختص الوقف بهم لقلة هؤلاء ولعسر تمييز الأحوال الباطنة على غالب الخلق فلا يمكن ربط استحقاق الدنيا بذلك ولأن مثل هؤلاء قد لا ينزل الربط إلا نادرا

وما دون هذه الصفات من المقتصرين على مجرد رسم في لبسة أو مشية ونحو ذلك: لا يستحقون الوقف ولا يدخلون في مسمى الصوفية لا سيما إن كان ذلك محدثا لا أصل في السنة فإن بذل المال على مثل هذه الرسوم فيه نوع من التلاعب بالدين وأكل لأموال الناس بالباطل وصدود عن سبيل الله

ومن كان من الصوفية المذكورين المستحقين فيه قدر زائد مثل: اجتهاد في نوافل العبادات أو سعي في تصحيح أحوال القلب أو طلب شيء من الأعيان أو علم الكفاية فهو أولى من غيره ومن لم يكن متأدبا بالآداب الشرعية فلا يستحق شيئا البتة وطالب العلم الذي ليس له تمام الكفاية: أولى ممن ليس فيه الآداب الشرعية ولا علم عنده بل منثل هذا لا يستحق شيئا

21 - 862 - مسألة: عن قناة سبيل لها فايض ينزل على قناة الوسخ وقريب منها قناة طاهرة قليلة الماء: فهل يجوز أن يساق ذلك الفائض إلى المطهرة وهل يثاب الفاعل ذلك؟ وهل يجوز منعه؟

الجواب: نعم: يجوز ذلك بإذن ولي الأمر ولا يجوز منع ذلك إذا لم يكن فيه مصلحة شرعية ويثاب الساعي في ذلك والله أعلم

22 - 863 - مسألة: في الشروط التي قد جرت العوائد في اشتراط أمثالها من الواقفين على الموقوف عليهم مما بعضه له فائدة ظاهرة وفيه مصلحة مطلوبة وبعضها ليس فيها كبير غرض للواقف وقد يكون فيه مشقة على الموقوف عليه فإن وفى به شق عليه وإن أهمله خشي الإثم وأن يكون متناولا للحرام وذلك كشرط واقف في الرباط أو المدرسة المبيت والعزوبة وتأدية الصلوات المفروضات بالرباط وتخصيص القراءة المعينة بالمكان بعينه وأن يكونوا من مدينة معينة أو قبيلة معينة أو مذهب معين وما أشبه ذلك من الشروط في الامامة بالمساجد والأذان وسماع الحديث بخلق الحديث الخوانك فهل هذه الشروط وما أشبهها مما هو مباح في الجملة وللواقف فيه يسير غرض لازمة لا يحل لأحد الاخلال بها ولا بشيء منها؟ أم يلزم البعض منها دون البعض؟ وأي ذلك هو اللازم؟ وأي ذلك الذي لا يلزم؟ وما الضابط فيما يلزم وما لا يلزم؟

فأجاب قدس الله روحه: الحمد لله رب العالمين الأعمال المشروطة في الوقف من الأمور الدينية مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين والمشتغلين بالعلم والقرآن والحديث والفقه ونحو ذلك أو بالعبادة أو بالجهاد في سبيل الله تنقسم ثلاثة أقسام:

أحدها: عمل يتقرب به إلى الله تعالى وهو الواجبات والمستحبات التي رغب رسول الله فيها وحض على تحصليها فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به ويقف استحقاق الوقف على حصوله في الجملة

والثاني: عمل قد نهى رسول الله عنه: نهي تحريم أو نهي تنزيه فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء لما قد استفاض عن رسول الله أنه خطب على منبره فقال: [ ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ! من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ]

وهذا الحديث وإن خرج بسبب شرط الولاء لغير المعتق فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند عامة العلماء وهو مجمع عليه في هذا الحديث وما كان من الشروط مسلتزما وجود ما نهى عنه الشارع فهو بمنزلة ما نهى عنه وما علم ببعض الأدلة الشرعية أنه نهى عنه فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهي عنه لكن قد يختلف اجتهادهم في ذلك الشرط بناء على هذا وهذا أمر لا بد منه في الأمة

ومن هذا الباب أن يكون المشترط ليس محرما في نفسه لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به فمثال هذه الشروط أن يشترط على أهل الرباط ملازمته هذا مكروه في الشريعة كما قد أحدثه الناس أو أن يشترط على الفقهاء اعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسنة أو بعض الأقوال المحرمة أو يشترط على الإمام والمؤذن ترك بعض سنن الصلاة والأذان أو فعل بعض بدعها مثل أن يشترط على الإمام أن يقرأ في الفجر بقصار المفصل وإن يصل الأذان بذكر غير مشروع أو أن يقيم صلاة العيد في المدرسة والمسجد مع إقامة المسلمين لها على سنة نبيهم

ومن هذا الباب لو اشترط عليهم أن يصلوا وحدانا ومما يلتحق بهذا القسم أن يكون الشرط مستلزما للحض على ترك ما ندب إليه الشارع مثل أن يشترط عل أهل رباط أو مدرسة إلى جانب المسجد الأعظم أن يصلوا فيها فرضهم فإن هذا دعاء إلى ترك أداء الفرض على الوجه الذي هو أحب إلى الله ورسوله فلا يلتفت إلى مثل هذا بل الصلاة في المسجد الأعظم هو الأفضل بل الواجب هدم مساجد الضرار مما ليس هذا موضع تفصليه

ومن هذا الباب اشتراط الإيقاد على القبور وإيقاد شمع أو دهن ونحو ذلك فإن النبي قال: [ لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ] وبناء المسجد وإسراج المصابيح على القبور مما لم أعلم خلافا أنه معصية لله ورسوله وتفاصيل هذه الشروط تطول جدا وإنما نذكر هنا جماع الشروط

القسم الثالث: عمل ليس بمكروه في الشرع ولا مستحب بل هو مباح مستوى الطرفين فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به والجمهور من العلماء من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أنه شرط باطل ولا يصح عندهم أن يشترط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى وذلك أن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما فيه منفعة في الدين أو الدنيا فما دام الرجل حيا فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة لأنه ينتفع بذلك فأما الميت فما بقي بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعمل صالح قد أمر به أو أعان عليه أو قد أهدي إليه ونحو ذلك فأما الأعمال التي ليست طاعة لله ورسوله فلا ينتفع بها الميت بحال

فإذا اشترط الموصي أو الواقف عملا أو صفة لا ثواب فيها كان السعي فيها بتحصيلها سعيا فيما لا ينتفع به في دنياه وآخرته ومثل هذا لا يجوز وهو إنما مقصوده بالوقف التقرب إلى الله تعالى والشارع أعلم من الواقفين بما يتقرب به إلى الله تعالى فالواجب أن يعمل في شروطهم بما شرطه الله ورضيه في شروطهم

وإن كان النبي قد قال: [ لا سبق لا في نصل أو خف أو حافر ] وعمل بهذا الحديث فقهاء الحديث ومتابعوهم فنهى عن بذل المال في المسابقة إلا في مسابقة يستعان بها على الجهاد الذي هو طاعة لله تعالى فكيف يجوز أن يبذل الجعل المؤبد لمن يعمل دائما عملا ليس طاعة لله تعالى

وهذه القاعدة معروفة عند العلماء لكن قد تختلف آراء الناس وأهواؤهم في بعض ذلك ولا يمكن هنا تفصيل هذه الجملة ولكن من له هداية من الله تعالى لا يكاد يخفي عليه المقصود في غالب الأمر وتسمي العلماء مثل هذه الأصول تحقيق المناط وذلك كما أنهم جميعهم يشترطون العدالة في الشهادة ويوجبون النفقة بالمعروف ونحو ذلك ثم قد يختلف اجتهادهم في بعض الشروط هل هو شرط في العدالة؟ ويختلفون في صفة الانفاق بالمعروف ونحن نذكر ما ينبه عن مثاله

أما إذا اشترط على أهل الرباط أو المدرسة أن يصلوا فيها الخمس الصلوات المفروضات فإن كانت فيما فيه مقصود شرعي كما لو نذر أن يصلي في مكان بعينه فإن كان في تعيين ذلك المكان قربة وجب الوفاء به بأن يصلي فيه إذا لم يصل صلاة تكون مثل تلك أو أفضل وإلا وجب الوفاء بالصلاة دون التعيين والمكان والغالب أنه ليس في التعيين مقصود شرعي

فإذا كان قد شرط عليهم أن يصلوا الصوات الخمس هناك في جماعة اعتبرت الجماعة فإنها مقصود شرعي بحيث من لم يصل في جماعة لم يف بالشرط الصحيح وأما التعيين فعلى ما تقدم

وأما اشتراط التعزب والرهبانية فألأشبه بالكتاب والسنة أنه لا يصح اشتراطه بحال لا على أهل العلم ولا على أهل العبادة ولا على أهل الجهاد فإن غالب الخلق يكون لهم شهوات والنكاح في حقهم مع القدرة إما واجب أو مستحب فاشتراط التعزب في حق هؤلاء إن كان فهو مناقضة للشرع

وإن قيل: المقصود بالتعزب الذي لا يستحب له النكاح عند بعض أهل العلم خرج عام الشباب عن هذا الشرط وهم الذين ترجي المنفعة بتعليمهم في الغالب فيكون كأنه قال: وقفت على المتعلمين الذين لا ترجى منفعتهم في الغالب وقد كان النبي إذا أتاه مال قسم للآهل قسمين وللعزب قسما فكيف يكون الآهل محروما وقد قال لأصحابه المتعلمين المتعبدين: [ يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ]

فكيف يقال للمتعلمين والمتعبدين ولا تتزوجوا والشارع ندب إلى ذلك العمل وحض عليه وقد قال: [ لا رهبانية في الإسلام ] فكيف يصح اشتراط رهبانية؟ !

وما يتوهم من أن التعزب أعون على كيد الشيطان والتعلم والتعبد: غلط مخالف للشرع وللواقع بل عدم التعزب أعون على كيد الشيطان والإعانة للمتعبدين والمتعلمين أحب إلى الله ورسوله من إعانة المترهبين منهم وليس هذا موضع استقصاء ذلك

وكذلك اشتراط أهل بلد أو قبيلة من الأئمة والمؤذنين مما لا يصح فإن النبي قال: [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ] رواه مسلم

والمساجد لله تبنى لله على الوجه الذي شرعه الله فإذا قيد إمام المسجد ببلد فقد يوجد في غير أهل ذلك البلد من هو أولى منه بالإمامة في شرط الله ورسوله فإن وفينا بشرط الواقف في هذه الحال لزم ترك ما أمر الله به ورسوله وشرط الله أحق وأوثق

وأما بقية الشروط المسؤول عنها فيحتاج كل شرط منها إلى كلام خاص فيه لا تتسع له هذه الورقة وقد ذكرنا الأصل فعلى المؤمن بالله أن ينظر دائما في كل ما يحبه الله ورسوله من الخلق فيسعى في تحصيله بالوقف وغيره وما يكرهه الله ورسوله يسعى في إعدامه وما لا يكرهه الله ولا يحبه يعرض عنه ولا يعلق به استحقاق وقف ولا عدمه ولا غيره والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين

23 - 864 - مسألة: في زاوية فيها عشرة فقراء مقيمون وبتك الزاوية مطلع به امرأة عزباء وهي من أوسط النساء ولم يكن شرط الواقف لها مسكنها في تلك الزاوية ولم تكن من أقارب الواقف ولم يكن ساكن في المطلع سوى المرأة المذكورة وباب المطلع المذكور يغلق عليه باب الزاوية فهل يجوز لها السكنى بين هؤلاء الفقراء المقيمين أم لا؟ أفتونا

الجواب: إن كان شرط الواقف لا يسكنه إلا الرجال سواء كانوا عزبا أو متأهلين منعت لمقتضى الشرط وكذلك سكنى المرأة بين الرجال والرجال بين النساء يمنع منه لحق الله والله أعلم

24 - 865 - مسألة: في ناظر وقف له عليه ولاية شرعية وبالوقف [ شخص ] يتصرف بغير ولاية الناظر يتصرف بولاية أحد الحكام لأنه له النظر العام وأن الناظر عزل هذا المباشر فباشر بعد عزله وسأل الناظر الحاكم أن يدفع هذا عن المباشر فادعى الحاكم على الناظر دعوى فأنكرها فهل له أن يولي بدون أمر الناظر الشرعي؟ وهل له أن يكون هو الحاكم بينه وبين هذا الناظر الذي هو خصمه دون سائر الحكام؟ وإذا اعتدى على الناظر فماذا يستحق على عدوانه عليه؟

الجواب: ليس للحاكم أن يولي ولا يتصرف في الوقف بدون أمر الناظر الشرعي الخاص إلا أن يكون الناظر الشرعي قد تعدى فيما يفعله وللحاكم أن يعترض عليه إذا خرج عما يجب عليه

وإذا كان بين الناظر والحاكم منازعة حكم بينهما غيرهما بحكم الله ورسوله ومن اعتدى على غيره فإنه يقابل على عدوانه أما أن يعاقب بمثل ذلك إن أمكنت المماثلة: وإلا عوقب بحسب ما يمكن شرعا والله أعلم

25 - 866 - مسألة: في ناظرين هل لهما أن يقتسما المنظور عليه بحيث ينظر كل منهما في نصفه فقط؟

الجواب: لا يتصرفان إلا جميعا في جميع المنظور فيه فإن أحدهما لو انفرد بالتصرف لم يجز فكيف إذا وزع المفرد فإن الشرع شرع جمع المتفرق بالقسمة والشفعة فكيف يفرق المجتمع؟ !

26 - 867 - مسألة: فيمن وقف وقفا وشرط للناظر جراية وجامكية كما شرط للمعين والفقهاء فهل يقدم الناظر بمعلومه أم لا؟

الجواب: ليس في اللفظ المذكور ما يقتضي تقدمه بشيء من معلومه بل هو مذكور بالواو التي مقتضاها الاشتراك والجمع المطلق فإن كان ثم دليل منفصل يقتضي جواز الاختصاص والتقدم غير الشرط المذكور مثل: كونه حائزا أجرة عمله مع فقرة كوصي اليتيم عمل بذلك الدليل المنفصل الشرعي وإلا فشرط الواقف لا يقتضي التقديم ولا فرق بين الحامكية والجراية فهو بمنزلة العمارة من مال الوقف لا من عمالة الناظر والله أعلم

27 - 868 - مسألة: فيمن وقف وقفا على جماعة معينين وفيهم من قرر الواقف لوظيفته شيئا معلوما وجعل الناظر على هذا الوقف صرف من شاء منهم يخرج بغير خراج وإخراج من شاء منهم والتعوض عنه وزيادة من أراد زيادته ونقصانه على ما يراه ويختاره ويرى المصلحة فيه فعزل أحد المعينين واستبدل به غيره من هو أهل للقيام بها ببعض ذلك المعلوم المقدر للوظيفة ووفى باقي ذلك لمصلحة الوقف فهل للناظر فعل ذلك أم لا؟ وإذا عزل أحد المعينين للمصلحة واستمر على تناول المعلوم بعد علمه بالعزل: يفسق بذلك ويجب عليه إعادة ما أخذه أم لا؟ وهل يلزم الناظر بيان المصلحة أم لا؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين الناظر ليس له أن يفعل شيئا في أمر الوقف إلا بمقتضى المصلحة الشرعية وعليه أن يفعل الأصلح فالأصلح وإذا جعل الواقف للناظر صرف من شاء وزيادة من أراد زيادته ونقصانه فليس للذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل ما يشتهيه أو ما يكون فيه اتباع الظن وما تهوى الأنفس بل الذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل من الأمور الذي هو خير ما يكون إرضاء الله ورسوله وهذا في كل من تصرف لغيره بحكم الولاية كالإمام والحاكم والواقف وناظر الوقف وغيرهم: إذا قيل: هو مخير بين كذا وكذا أو يفعل ما شاء وما رأى فإنما ذاك تخيير مصلحة لا تخيير شهوة

والمقصود بذلك أنه لا يتعين عليه فعل معين بل له أن يعدل عنه إلى ما هو أصلح وأرضى لله ورسوله وقد قال الواقف: على ما يراه ويختاره ويرى المصلحة فيه وموجب هذا كله أن يتصرف برأيه واختياره الشرعي الذي يتبع فيه المصلحة الشرعية وقد يرى هو مصلحة والله ورسوله يأمر بخلاف ذلك ولا يكون هذا مصلحة كما يراه مصلحة وقد يختار ما يهواه لا ما فيه رضى الله فلا يلتفت إلى اختياره حتى لو صرح الواقف بأن للناظر أن يفعل ما يهواه وما يراه مطلقا لم يكن هذا الشرط صحيحا بل كان باطلا لأنه شرط مخالف لكتاب الله: [ ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ]

وإذا كان كذلك وكان عزل الناظر واستبداله موافقا لأمر الله ورسوله لم يكن للمعزول ولا غيره رد ذلك ولا يتناول شيئا من الوقف والحال هذه وإن لم يكن موافقا لأمر الله ورسوله كان مردودا بحسب الإمكان فإن النبي قال: [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] وقال: [ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ]

وإن تنازعوا هل الذي فعله هو المأمور به أم لا؟ رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله فإن كان الذي فعل الناظر أرضى لله ورسوله نفذ وإن كان الأول هو الأرضى ألزم الناظر بإقراره وإن كان هناك أمر ثالث هو الأرضى لزم اتباعه وعلى الناظر بيان المصلحة فإن ظهرت وجب اتباعها وإن ظهر أنها مفسدة ردت وإن اشتبه الأمر وكان الناظر عالما عادلا سوغ له اجتهاده والله أعلم

28 - 869 - مسألة: في رجل له مزرعة بها شجر وقف للفقراء تباع كل سنة وتصرف في مصارفها ثم إن الناظر أجر الوقف لمن يضر بالوقف وكان هناك حوض للسبيل ومطهرة للمسلمين فهدمها هذا المستأجر وهدم الحيطان فهل يجوز ذلك أم لا؟

الجواب: لا يجوز إكراء الوقف لم يضر به باتفاق المسلمين بل ولا يجوز إكراء الشجر بحال وإن سوقي عليها بجزء حيلة لم يجز بالوقف باتفاق العلماء ولا يجوز إزالة ما كان ينتفع به المسلمون للشرب والطهارة بل يعزر هذا المستأجر الظالم الذي فعل ذلك ويلزم بضمان ما أتلفه من البناء وأما القيمة والشجر فيستغل كما جرت عادتها وتصرف الغلة في مصارفها الشرعية

- 29 / 870 مسألة: في مساجد وجوامع لهم أوقاف وفيها قوائم وأئمة ومؤذنون فهل لقاضي المكان أن يصرف منه إلى نفسه؟

الجواب: بل الواجب صرف هذه الأموال في مصارفها الشرعية فيصرف من الجوامع والمساجد إلى الأئمة والمؤذنين والقوام ما يستحقه أمثالهم وكذلك يصرف في فرش المساجد وتنويرها كفايتها بالمعروف وما فضل عن ذلك إما أن يصرف في مصالح مساجد أخر ويصرف في المصالح كأرزاق القضاة في أحد قولي العلماء وأما صرفها للقضاة ومنع مصالح المساجد فلا يجوز والله أعلم

30 - 871 - مسألة: في رجل بنى مدرسة وأوقف عليها وقفا على فقهاء وأرباب وظائف ثم أن السلطنة أخذت أكثر الوقف وأن الواقف اشترط المحاصصة بينهم

فهل يجوز للناظر أن يعطي أصحاب الوظائف بالكامل وما بقي للفقهاء؟

الجواب: الحمد لله إن كان الذي يحصل بالمحاصصة لأرباب الأعمال التي يستأجر عليها كالبواب والقيم والسواق ونحوهم أجرة مثلهم يعطوه زيادة على ذلك وإن كان ما يحصل دون أجرة المثل وأمكن من يعمل بذلك لم يحتج إلى الزيادة وإن كان الحاصل لهم أقل من أجرة المثل ولا يحصل من يعمل بأقل من أجرة المثل فلا بد من تكميل المثل لهم إذا لم تقم مصلحة المكان إلا بهم وإن أمكن أن يجعل شخص واحد قيما وبوابا أو قيما ومؤذنا أو يجمع له بين تلك الوظائف ويقوم بها فإنه يفعل ذلك ولا يكثر العدد الذي لا يحتاج إليه مع كون الوقف قد عاد إلى ريعه بل إذا أمكن سد أربع وظائف بواحد فعل ذلك والله أعلم

31 - 872 - مسألة: في دار حديث شرط واقفها في كتاب وقفها ما صورته بحروفه قال: والنظر في أمر أهل الدار على اختلاف أصنافهم إثباتا وصرفا وإعطاء ومنعا وزيادة ونقصا ونحو ذلك إلى شيخ المكان وكذلك النظر إليه في خزانة كتبها وسائر ما يشبه ذلك أو يلحق به وله إذا كان عنده الوقف في أمر من الأمور أن يفوض ذلك إلى من يتولاه ثم قال: والنظر في أمر الأوقاف وأمورها المالية إلى الواقف ضاعف الله ثوابه يفوض ذلك إلى من يشاء ومتى فوض ذلك إليه تلقاه بحكم الشرط المقارن لإنشاء الوقف وينتقل بعد ذلك إلى حاكم المسلمين بدمشق وله أن يصرف إلى من سوى ذلك من عامل وغيره من مغل الوقف على حسب ما تقتضيه الحال

فهل إذا لم يكن في شرط النظر في كتاب الوقف شيء آخر يكون النظر المشروط للحاكم مختصا بحاكم مذهب معين بمقتضى لفظ الشرط المذكور؟ أم لا يختص بحاكم معين بل يكون النظر المذكور لمن كان حاكما بدمشق على أي مذهب كان من المذاهب الأربعة؟ وإذا لم يكن مختصا وفوض بعض الحكام قضاة القضاة أعزهم الله بدمشق المحروسة لأهل كان النظر المذكور يمقتضى ما رآه من عدم الاختصاص يجوز لحاكم آخر منعه من ذلك أو بعض ما فعله بغير قادح؟

الجواب: ليس في اللفظ المذكور في شرط الواقف ما يقتضي اختصاصه بمذهب معين على الإطلاق فإن ذلك يقتضي أنه لو لم يكن في البلد إلا حاكم على غير المذهب الذي كان عليه حاكم البلد ومن الواقف أن لا يكون له النظر وهذا باطل باتفاق المسلمين فما زال المسلمون يقفون الأوقاف ويشرطون أن يكون النظر للحاكم أو لا يشترطون ذلك في كتاب الوقف فإن ذلك يقتضي بطلان الشرع في الوقوف العامة التي لم يعين ولي الأمر لها ناظرا خاصا وفي الوقوف الخاصة نزاع معروف

ثم قد يكون الحاكم وقت الوقف له مذهب وبعد ذلك يكون للحاكم مذهب آخر كما يكون في العراق وغيرها من بلاد الإسلام فإنهم كانوا يولون قضاة القضاة تارة لحنفي وتارة لمالكي وتارة لشافعي وتارة لحنبلي وهذا القاضي يولي في الأطراف من يوافقه على مذهبه تارة ومن يخالفه أخرى ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين بطل الشرط وفي فساد العقد وجهان

ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط [ فعلوا ] فأما إذا قدر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلا وظلما أعظم مما في التقدير كان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ولكن هذا لا يسوغ لواقف أن لا يجعل النظر في الوقف إلا لذي مذهب معين دائما مع إمكان إلا أن يتولى في ذلك المذهب فكيف إذا لم يشرط ذلك

ولهذا كان في بعض بلاد الإسلام يشرط على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب معين كما صار أيضا في بعضها بولاية قضاة مستقلين ثم عموم النظر في عموم العمل وإن كان في كل من هذا نزاع معروف وفيمن يعين إذا تنازع الخصمان: هل يعين الأقرب؟ أو بالقرعة؟ فيه نزاع معروف وهذه الأمور التي فيها اجتهاد إذا فعلها ولي الأمر نفذت

وإذا كانت كذلك فالحاكم على أي مذهب كان إذا كانت ولايته تتناول النظر في هذا الوقف كان تفويضه سائغا ولم يجز لحاكم آخر نقض مثل هذا لا سيما إذا كان في التفويض إليه من المصلحة في المال ومستحقه ما ليس في غيره

ولو قدر أن حاكمين ولي أحدهما شخصا وولى آخر شخصا كان الواجب على ولي الأمر أن يقدم أحقهما بالولاية فإن من عرفت قوته وأمانته يقدم على من ليس كذلك باتفاق المسلمين

32 - 873 - مسألة: في الناظر متى يستحق معلومه: من حين فوض إليه؟ أو من حين مكنه السلطان؟ أو من حين المباشرة؟

الجواب: الحمد لله المال المشروط للناظر مستحق على العمل المشروط عليه فمن عمل ما عليه يستحق ماله والله أعلم

33 - 874 - مسألة: فيمن استأجر أرض وقف من الناظر على الوقف النظر الشرعي ثلاثين سنة بأجرة المثل وأثبت الإجارة عند حاكم من الحكام وأنشأ عمارة وغرس في المكان مدة أربع سنين ثم سافر والمكان في إجارته وغاب إحدى عشرة سنة فلما حضر وجد بعض الناس قد وضع يده على الأرض وأدعى أنه استأجرها وذلك بطريق شرعي فهل له نزع هذا الثاني وطلبه بتفاوت الأجرة؟

الجواب: إن كان الثاني قد استأجر المكان من غير من له ولاية الإيجار واستأجره مع بقاء إجارة صحيحة عليه: فالإجارة باطلة ويده على يد عادية مستحقة للرفع والازالة وإذا كان الثاني استأجرها وتسلمها وهي في إجارة الأول فالأول مخير بين أن يفسخ الإجارة وتسقط عنه الإجارة من حين الفسخ ويطالب أهل المكان بالإجارة لهذا الثاني المتولي عليه يطلبون منه أجرة المثل إن كانت الإجارة فاسدة وإن كانت صحيحة طالبوه بالفسخ وبين إمضاء الإجارة ويعطي أهل المكان أجرتهم ويطالب الغاصب بأجرة المثل من حين استيلائه على ما استأجره

34 - 875 - مسألة: في قوم وقف عليهم حصة من حوانيت وبعضهم وقف على جهة أخرى وتلك ملكا لغيرهم وشرط الواقف المذكور النظر في ذلك للأسن فإذا استووا في ذلك فهم شركاء في النظر فتداعى الوقف المذكور إلى الخراب فأجروه لمالكي باقي الحصة مدة ثلاثين سنة بأجرة حالة وأجرة مؤجلة وعينوا شهود الإجارة جميع ما في الحوانيت المذكورة: من خشب وقصب وجريد وجدر وطولها وعرضها وغير ذلك وذكر شهود الإجارة فيها: اعترف فلان وفلان الآخران المذكوران بقبض الأجرة الحالة بتمامها ومن في درجتها ومات المستأجر وانتقل ما كان ملكا له من ذلك لغيره وانقضت مدة الإجارة وانتقل الوقف المذكور إلى البطن الثاني فهل للبطن الثاني أن يتسلموا الحوانيت المذكورة على ما هي عليه الآن وقد اعترف الآخران بقبض الأجرة الحالة ليصرفاها في عمارة الوقف وإعادته إلى ما كان عليه أو يلزمهم إقامة البينة على أن الآخران المذكوران لما قبضا الأجرة صرفاها في العمارة أو المستأجرين أو من انتقل إليهم ما كان ملكا للمستأجر المنع من تسليم الحصة المذكورة من الحوانيت إلا على صورتها الأولى والحالة هذه؟

الجواب: الحمد لله بل ما كان في العرصة المشتركة من البناء بيد أهل العرصة ثابتة عليه بحكم الاشتراك أيضا حتى يقيم أحدهم حجة شرعية باختصاصه بالبناء ولا يقبل مجرد دعوى أحد الشركاء في العرصة الاختصاص بالنباء سواء كانت العرصة المشتركة بين وقف وطلق أو بين طلقين أو وقفين ويد المستأجر إنما هي على المنفعة وليس بمجرد الإجارة تثبت دعوى استحقاق البناء إلا أن يقيم بذلك حجة والله أعلم

35 - 876 - مسألة: في رجل أقر قبل موته بعشرة أيام أن جميع الحانوت والأعيان التي بها وقف على وجوه البر والقربات وتصرف الأجرة والثواب من مدة تتقدم على إقراره هذا بعشرين سنة ففعل بمقتضى شرط إقراره وعين الناظر الامام بعد موته ثم عين ناظرا آخر من غير عزل الامام الناظر الأول فصرف أحد الناظرين على ثبوت الوقف ما جرت العادة بصرفه على ثبوت مثله من ريع الوقف من غير أن يصرف إلى مستحقي الريع شيئا فهل تجب الأجرة من الريع؟ أم من تركه الميت المقر بالوقف المذكور؟ وإذا تعذر إيجار العين الموقوفة بسبب اشتغالها بمال الورثة فهل تجب الأجرة على الورثة تلك المدة؟ وهل تفوت الأجرة السابقة في ذمة الميت بمقتضى إقراره بالمدة الأولى ويرجع بها من تركته؟ وهل عين ناظرا ثم عين ناظرا آخر يكون عزلا للأول من غير أن يتلفظ بعزله؟ أم يشتركان في النظر؟ وهل إذا علم الشهود ثبوت المال في تركة الميت يحل كتمه أم لا؟

الجواب: ليست أجرة إثبات الوقف والسعي في مصالحه من تركة الميت فإن ما زاد على المقر به كل مستحق للورثة وإنما عليهم رفع أيديهم عن ذلك وتمكين الناظر منه وليس عليه السعي ولا أجرة ذلك وأما العين المقر بها إذا انتفع بها الورثة أو وضعوا أيديهم عليها بحيث يمنع الانتفاع المستحق بها: فعليهم أجرة المنفعة في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما ممن يقول بأن منافع الغصب مضمونة والنزاع في المسألة مشهور وإقرار الميت بأنها وقف من المدة المتقدمة ليس بصريح في أنه كان مستوليا عليها بطريق الغصب والضمان لا يجب بالاحتمال

وأما تعيين ناظر بعد آخر فيرجع في ذلك إلى عرف مثل هذا الوقف وعادة أمثاله فإن كان هذا في العادة رجوعا كان رجوعا وكذلك إن كان في لفظه ما يقتضي انفراد الثاني بالتصرف وإلا فقد عرفت المسألة وهي ما إذا وصى بالعين لشخص ثم وصى بها لآخر: هل يكون رجوعا أم لا؟ وما علمه الشهود من حق مستحق يصل الحق إلى مستحقه بشهادتهم لم يكتموها وإن كان يوجد من لا يستحقه ولا يصل إلى من يستحقه فليس عليهم أن يعينوا واحدا منهما وأن كان أخذه بتأويل واجتهاد لم يكن عليهم أيضا نزعه من يده بل يعان المتأول المجتهد على من لا تأويل له ولا اجتهاد

36 - 877 - مسألة: في صورة كتاب وقف نصه: هذا ما وقفه عامر بن يوسف بن عامر على أولاده: علي وطريفة وزبيدة بينهم على الفريضة الشرعية ثم على أولادهم من بعدهم ثم على أولاد أولادهم ثم على أولاد أولاد أولادهم ثم على نسلهم وعقبهم من بعدهم وإن سفلوا كل ذلك على الفريضة الشرعية على أن من توفي من أولادهم المذكورين وأولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم من بعدهم: عن ولد أو ولد ولد ونسل: أو عقب وأن سفل: كان ما كان موقوفا عليه راجعا إلى ولده وولد ولده ونسله وعقبه من بعده وإن سفل كل ذلك على الفريضة الشرعية ومن توفي منهم من غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب وإن بعد كان ما كان موقوفا عليه راجعا إلى من هو في طبقته وأهل درجته من أهل الوقف على الفريضة الشرعية ثم على جهات ذكرها في كتاب الوقف والمسؤول من السادة العلماء أن يتأملوا شرط الواقف المذكور ثم توفي عن بنتين فتناولتا ما انتقل إليهما عنه ثم توفيت إحداهما عن ابن وابنة وابن فهل يشتركان في نصيبها؟ أم يختص به الابن دون ابنة الابن؟ ثم إن الابن المذكور توفي عن ابن: هل يختص بما كان جاريا على أبيه دون ابنة الابن؟ وهل يقتضي شرط الواقف المذكور ترتيب الجملة على الجملة؟ أو الأفراد على الأفراد

الجواب: هذه المسألة فيها قولان عند الاطلاق معروفان للفقهاء في مذهب الإمام أحمد وغيره لكن الأقوى أنها لترتيب الأفراد على الأفراد وإن ولد الولد يقوم مقام أبيه لو كان الابن موجودا مستحقا قد عاش بعد موت الجد واستحق أو عاش ولم يستحق لمانع فيه أو لعدم قبوله للوقف أو لغير ذلك أو لم يعش بل مات في حياة الجد ويكون على هذا التقدير مقابلة الجمع بالجمع وهي تقتضي توزيع الأفراد على الأفراد كما في قوله: { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } أي لكل واحد نصف ما تركت زوجته وقوله: { حرمت عليكم أمهاتكم } أي: حرم على كل واحد أمه ونحو ذلك كذلك قوله: على أولادهم ثم على أولاد أولادهم أي: على كل واحد بعد موت أبيه وأما في هذه فقد صرح الواقف بأنه من مات عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده وهذا صريح في أنه لترتيب الأفراد على الأفراد فلم يبق في هذه المسألة نزاع

وإنما الشبهة في أن الولد إذا مات في حياة أبيه ولد ولد ثم مات الأب عن ولد آخر وعن ولد الولد الأول: هل يشتركان؟ أو ينفرد به الأول؟ الأظهر في هذه المسألة أنهما يشتركان لأنه إذا كان المراد أن كل ولد مستحق بعد موت أبيه سواء كان عمه حيا أو ميتا فمثل هذا الكلام إذا يشترط فيه عدم استحقاق الأب كما قال الفقهاء في ترتيب العصبة: أنهم الابن ثم ابنه ثم الأب ثم أبوه ثم العم ثم بنوا العم ونحو ذلك فإنه لا يشترط في الطبقة الثانية إلا عدم استحقاق الأولى فمتى كانت الثانية موجودة والأولى لا استحقاق لها استحقت الثانية سواء كانت الأولى استحقت أو لم تستحق ولا يشترط لاستحقاق الثانية استحقاق الأولى وذلك لأن الطبقة الثانية تتلقى الوقف من الواقف لا من الثانية فليس هو كالميراث الذي يرثه الابن ثم ينتقل إلى ابنه وإنما هو كالولاء الذي يورث به فإذا كان ابن المعتق قد مات في حياة المعتق ورث الولاء ابن ابنه

وإنما يغلط من يغلط في مثل هذه المسألة حين يظن أن الطبقة الثانية تتلقى من التي قبلها فإن لم تستحق الأولى شيئا لم تستحق الثانية ثم يظنون أن الوالد إذا مات قبل الاستحقاق لم يستحق ابنه وليس كذلك بل هم يتلقون من الواقف حتى لو كانت الأولى محجوبة بمانع من الموانع مثل أن يشترط الواقف في المستحقين أن يكونوا فقراء أو علماء أو عدولا أو غير ذلك ويكون الأب مخالفا للشرط المذكور وابنه متصفا به فإنه يستحق الابن وإن لم يستحق أبوه كذلك إذا مات الأب قبل الاستحقاق فإنه يستحق ابنه وهكذا جميع الترتيب في الحضانة وولاية النكاح والمال وترتيب عصبة النسب والولاء في الميراث وسائر ما جعل المستحقون فيه طبقات ودرجات فإن الأمر فيه على ما ذكر

وهذا المعنى هو الذي يقصده الواقفون إذا سألوا عن مرادهم ومن صرح منهم بمراده فإنه يصرح بأن ولد الولد ينتقل إليه ما ينتقل إلى ولده لو كان حيا لا سيما والناس يرحمون من مات والده ولم يرث حتى أن الجد قد يوصي لولد ولده ومعلوم أننسبة هذا الولد ونسبة ولد ذلك الولد إلى الجد سواء فكيف يحرم ولد ولده اليتيم ويعطي ولد ولده الذي ليس بيتيم؟ ! فإن هذا لا يقصده عاقل ومتى لم نقل بالتشريك بقي الوقف في هذا الولد وولده دون ذرية الولد الذي مات في حياة أبيه والله أعلم

الفتاوى الكبرى لابن تيمية
كتاب السنة والبدعة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطهارة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | كتاب الصلاة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | كتاب الذكر والدعاء | 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب الصيام: 1 | 2 | 3 | كتاب الجنائز: 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب النكاح: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطلاق: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | كتاب النفقات | كتاب الحدود: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الجهاد: 1 | 2 | كتاب البيوع: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الشهادة والأقضية والأموال: 1 | 2 | كتاب الوقف: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | كتاب الوصايا | كتاب الفرائض | كتاب الفضائل: 1 | 2 | كتاب الملاهي | مسائل منثورة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | كتاب الطهارة2 | كتاب الصلاة2: 1 | 2 | كتاب الجنائز2 | كتاب الزكاة2 | كتاب الصوم2 | كتاب الحج | كتاب البيع: 1 | 2 | كتاب الوصية | كتاب الفرائض | كتاب العتق | كتاب النكاح2: 1 | 2 | كتاب الخلع | كتاب الطلاق2 | كتاب الرجعة | كتاب الظهار | كتاب الجنايات | كتاب الأطعمة | كتاب الأيمان | باب القضاء | كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل | كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة: 1 |2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16