الفتاوى الكبرى/كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة/10
الوجه الحادي عشر: إن هذا الإجماع نظير الحجج الالزامية وقد قرر في أول كتابه أنه من الأدلة الباطلة التي لا تصلح لا للنظر ولا للمناظرة وذلك أن المنازع له يقول له إنما قتل بقدمها لامتناع قيام الحوادث به فأما أن يصح هذا الأصل أو لا يصح فإن صح كان هو الحجة في المسألة ولكن قد ذكرت أنه لا يصح وإن لم يصح بطل مستند قول من يقول بالقدم وصح منع القدم على هذا التقدير وهو أن يقول لا نسلم إذا جاز أن تحله الحوادث وجوب قدم ما يقوم به وهذا منع ظاهر وذلك أنه لا فرق بين إقامة قوله بحجة إلزامية وبين إبطال قول منازعيه بحجة إلزامية
الوجه الثاني عشر: إنه لم يثبت أن معنى الأمر والنهي ليس هو الإرادة والكراهة إلا بما ذكره في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات وذلك إنما يدل على الإرادة العامة الشاملة لكل موجود المنتفية عن كل معدوم فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأن لم يكن وتلك الإرادة ليست هي الأدارة التي هي مدلول الأمر والنهي فإن هذه الإرادة مستلزمة للمحبة والرضا وقد فرق الله تعالى بين الارادتين في كتابه فقال في الأولى: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء } وقال: { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } وقال: { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم }
وقال في الثانية: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال: { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } وقال تعالى: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } وقال تعالى: { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا }
الوجه الثالث عشر: إنه لما طولب بالفرق بين ماهية الطلب والإرادة ذكر وجهين أحدهما أن القائل قد يقول لغيره إني أريد منك الأمر الفلاني وإن كنت لا آمرك به والثاني هب أن لم يتخلص لنا في الشاهد الفرق بين طلب الفعل وإرادته لكنا دللنا على أن لفظ أفعل إذا وردت في كتابه الله فإنه لا بد وأن تكون دالة على طلب الفعل وبينا أن ذلك الطلب لا يجوز أن يكون فس تصور الحروف ولا إرادة الفعل فلا بد أن يكون أمرا مغايرا لهما فليس كل ما لا نجد له في الشاهد نظيرا وجب نفيه غالبا ولا تعذر إثبات الإله وهذا الجوابان ضعيفان أما الأول فقد يقال هو مستلزم للإرادة وقد يقال هو نوع خاص من الإرادة على وجه الإستعلاء فإذا قيل أريد منك فعل هذا ولا آمرك به أي لا أستعلي عليك فإن المريد قد يكون سائلا خاضعا كإرادة العبد من ربه وأما الثاني فيقال له إذا أثبت أن معنى الأمر في الشاهد إنما هو من جنس الإرادة كانت هذه حقيقة والحقائق لا تخلتف شاهدا ولا غائبا وذلك أن كون هذه الصفة هي هذه أو مستلزمة لهذه أو غيره إنما نعلمه بما نعلمه في الشاهد
الوجه الرابع عشر: إن النهي مستلزم لكراهية المنهى عنه كما أن الأمر مستلزم لمحبة المأثور به والمكروه لا يكون مرادا فلا بد أن تكون الإرادة المنفية عن المكروه الواقع غير الإرادة اللازمة له وهذا أورده عليه في مسألة إرادة الكائنات ولم يجب عنه إلا بأن قال لا نسلم أنها مكروهة بل هي منهي عنها ومعلوم أن هذا الجواب مخالف لإجماع المسلمين بل لما علم بالضرورة من الدين ويخالف ما قرره هو في أصول الفقه وقد قال تعالى: { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها }
الوجه الخامس عشر: إن طوائف يقولون لهم معنى الخبر ولم لا يجوز أن يكون هو العلم لا سيما أن كثيرا من الناس يقولون إن معنى الكلام يؤول إلى الخبر وإذا كان معنى الكلام يؤول إلى الخبر ومعنى الخبر يؤول إلى العلم كان معنى الكلام يؤول إلى العلم لكن قول من يقول إن الكلام يؤول كله إلى الخبر المحض كما يقوله طائفة منهم ابن وطائفة هو قول ضعيف فإنه إن كان الطلب الذي هو الأمر والنهي يستلزم علما وخبرا لكن ليس هو نفس ذلك بل حقيقة الطلب يجدها الإنسان من نفسه ويعلمها بالإحساس الباطن ويجد الفرق بين ذلك وبين كونه مخبرا محضا مع أن الخبر أيضا قد يستلزم طلبا وإرادة في مواضع كثيرة لكن تلازم الخبر والطلب والعلم والإرادة لا يمنع أن يعلم أن أحدهما ليس هو الآخر فالإنسان يخبر عن الأمور التي لا تتعلق بفعله بالإثبات والنفي خبرا محضا وقد يتعلق بذلك غرض من حب وبغض وما يتبع ذلك لكن معنى قوله السماء فوقنا والأرض تحتنا خبر محض وكذلك معنى قوله محمد رسول الله خبر لكن يتبعه محبة وتعظيم وطاعة وأما معنى قوله إذهب وتعال وأطعمني اسقني ونحو ذلك فهو طلب محض ولكنه مسبوق مسلتزم للعلم والشعور بذلك كالأفعال الإرادية كلها فالأمر والنهي كالأفعال الارادية كل ذلك مستلزم لما يقوم بالنفس من حب وطلب وإرادة وما يتبع ذلك من بغض وكراهة والخبر مستلزم للعلم والعلم يستلزم الحب والبغض والعمل أيضا في عام الأمور ولهذا يختلط باب الانشاء بباب الأخبار لتلازم النوعين حيث تلازما ولهذا تستعمل صيغة الخبر في الطلب كثيرا كما تستعمل في الدعاء في باب غفر الله لفلان ويغفر الله له وفي الأمر ومثل: { والمطلقات يتربصن } وذلك أكثر من استعمال صيغة الطلب في الخبر المحض كما قد قيل إن كان من هذا الباب في قوله تعالى: { من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا } وإذا لم تستح فاصنع ما شئت وذلك لأن المعنيين متلازمان في الأمر العام فإذا استعمل صيغة الخبر في الطلب فإنما استعمل في لازمه وجعل اللازم لقوة الطلب له والإرادة كأنه موجد محقق مخبر عنه فكان هذا طلبا مؤكدا
ولهذا يكثر ذلك في الدعاء الذي يجتهد فيه الداعي وهذا حسن في الكلام أما إذا استعمل صيغة الخبر في الأمر المحض فالأمر فيه الطلب المستلزم للعمل الذي هو بمعنى الخبر فإذا لم يفد إلى معنى الخبر فإنه يكون قد سلب معناه الذي هو الطلب ونقص ذلك ولم يبق فيه شيء من معناه وذلك لأن العلم الذي يستلزم الطلب والإرادة هو تصور المطلوب ليس هو العلم بوقوعه أو عدم وقوعه فإذا استعمل اللفظ في الإخبار عن وقوع المطلوب أو عدم وقوعه كان قد استعمل في شيء ليس من معنى اللفظ ولا من لوازمه ولهذا قال من قال من أهل التحقيق أن استعمال صيغة الأمر في الخبر لم يقع لأنه ليس على ذلك شاهد والقياس يأباه لأنه استعمال للفظ في شيء ليس من لوازم معناه ولا من ملزوماته فهو أجنبي عنه وما ذكره من الآية والحديث فليس المراد به الخبر بل الآية على ظاهرها ومن كان في الضلالة فالله مسؤول مدعو بأن يمد له من العذاب مدا وإن كان سبحانه هو المتكلم بطلب نفسه ودعاء نفسه كما في الدعاء الذي يدعو به وهو صلاته ولعنته كما قال إن الله وملائكته يصلون على النبي وقوله هو الذي يصلي عليكم وملائكته فإن صلاته تتضمن ثناؤه ودعاءه سبحانه وتعالى فإن طلب الطالب من نفسه أمر ممكن في حق الخالق والمخلوق كأمر الإنسان لنفسه كما قال إن النفس لأمارة بالسوء وقد يقال من ذلك قوله { وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } وهذا القول قد أورده الرازي سؤالا في مسأةل وحدة الكلام كما تقدم لفظه في ذلك وأجاب عنه بما ذكره من قوله ليس هذا بشيء لأن حقيقة الطلب كحقيقة حكم الذهن بنسبة أمر إلى أمر وتلك المغايرة معلومة بالضرورة ولهذا يتطرق التصديق والتكذيب إلى أحدهما دون الآخر وهذا الذي ذكره من الفرق صحيح كما ذكرناه ونحن إنما ذكرناه لتوكيد الوجه الأول وهو المقصود هنا وهو أن يقال أن معنى الخبر هو العلم وبأنه من الاعتقاد ونحو ذلك فإن هذا قاله طوائف بل أكثر الناس بل عامة الناس يقولون ذلك ولا نجد الناس في نفوسهم شيئا غير ذلك يكون معنى الخبر
وكون معنى الخبر هو العلم أو نوع منه أظهر من كون الطلب هو الإرادة أو نوعها منها لأنه هناك أمكنهم دعوى الفرق بأن الله قد أمر بمأمورات وهو لم يرد وجودهما كما أمر به من لم يطعمه وهذا متفق عليه بين أهل الاثبات وإنما تنازع فيه القدرية ثم كون الأمر مستلزما لإرادة ليست هي إرادة الوقع كلام آخر وأما هنا فلم يمكنهم أن يقولوا إن الله أخبر بما لا يعلمه أو بما يعمل ضده بل علمه من لوازم خبره سواء كان هو معنى الخبر أو لازما لمعنى الخبر ولهذا أخبر الله بأن القرآن لما جاءه جاءه العلم فقال فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم وقال: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم } وهذا مما احتج به الأئمة في تكفيرهم من قال بخلق القرآن وقالوا قولهم يستلزم أن يكون علم الله مخلوقا لأن الله أخبر أن هذا الذي جاءه من العلم ولم يعن علم غيره فلا بد أن يكون عنى أنه من علمه
ومن جعل علم الله مخلوقا قائما بغيره فهو كافر ولا ريب أن كل واحد من أمر الله وخبره يتضمن علمه سبحانه كما تقدم لكن أمره فيه الطلب الذي وقع التنازع فيه هل هو حقيقة غير الإرادة أو هو مستلزم لنوع من الإرادة أو هو نوع منها أو هو الإرادة وهذا ليس العلم وأما الخبر فلا ريب أنه متضمن لعلم الله ولا يمكن أن يتنازع في كون معنى خبر الله يوجد بدون علمه فظهر الأمر في هذا الباب ولهذا لم يكن لهم حجة على ذلك إلا ما ادعاه من إمكان وجود معنى خبر بدون العلم والاعتقاد والظن في حق المخلوق وهو الخبر الكاذب فقدروا أن الإنسان يخبر بخبر هو فيه كاذب وذلك يكون مع علمه بخلاف المخبر كما قدروا أن يأمر آمر امتحانا بما لا يريده ثم ادعوا أن هذا الخبر له حكم ذهني في النفس غير العلم كما أن ذلك الأمر له طلب نفساني غير الإرادة
وهذه الحجة قد نوزعوا في صحتها نزاعا عظيما ليست هي مثل ما أمكن إثباته في حق الله من وجود آمر لم يرد وقوع مأموره
الوجه السادس عشر: إن هذه الحجة التي ذكروها في معنى الخبر وأنه غير العلم قد أقروهم أيضا بفسادها فإنه قد تقدم لفظ الرازي في هذه الحجة بقوله وأما شبيه معنى الأمر والنهي بالإرادة والكراهة ومعنى الخبر بالعلم والأول باطل لما ثبت في خلق الأفعال وإرادة الكائنات أن الله قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد فوجب أن يكون معنى أفعل ولا تفعل في حق الله شيئا سوى الإرادة وذلك هو معنى الكلام والثاني باطل لأنه في الشاهد قد يحكم الإنسان بما لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه فإذن الحكم الذهني في الشاهد مغاير لهذه الأمور
وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب لانعقاد الاجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب وهذا هو الأصل الذي اعتمد عليه في محصوله أيضا حيث جعل معنى الخبر هو الحكم الذهني الذي انفردوا بإثباته دون سائر العقلاء وأما أبو المعاني ونحوه فلم يذكروا دليلا على إثبات كلام النفس سوى ما دل على ثبوت الطلب الذي ادعوه أنه مغاير للإرادة وذاك إن دل فإنما يدل على أن معنى الأمر غير الإرادة لا يدل على أن معنى الخبر غير العلم لكن استدل على ثبوت التصديق النفساني بأنه مدلول المعجزة ولم يبين أنه غير العلم فيقال لهم أنتم مصرحون بنقيض هذا وهو أنه يمتنع ثبوت الحكم الذهني على خلاف العلم وأنه إن جاز وجوده فليس هو كلاما على التحقيق وإذا انقسم وجوده هذا الحكم الذهني المخالف للعلم أو كونه كلاما على التحقيق امتنع منكم حنيئذ إثبات وجوده ودعوى أنه هو الكلام على التحقيق وذلك أنهم يحتجون على وجوب الصدق لله بأن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله وامتناع الجهل وهذا الدليل قد ذكره جمع أئمتهم حتى الرازي ذكره لكن قال إنما يدل على صدق الكلام النفساني لا على صدق الحروف الدالة عليه وإذا جاز أن يتصف الحي بحكم نفساني لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه بل يعلم خلافه امتنع حينئذ أن يقال الحكم النفساني مستلزم للعلم أو أنه يمتنع أن يكون بخلاف العلم فيكون كذبا
وهذا الذي قالوه تناقض في عين الشيء ليس تناقضا من جهة اللزوم فإنهم لما أثبتوا أن معنى الخبر ليس هو العلم أثبتوا حكما نفسانيا ينافي العلم فيكون كذبا ويكون مع عدم العلم ولما أثبتوا الصدق قالوا أن معنى الخبر الذي هو الحكم النفساني يمتنع أن يتحقق بدون العلم أو خلافه فميتنع أن يكون كذبا
قال أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني وتلميذ أبي المعالي في شرح الإرشاد
فصل
كلام الله صدق والدليل عليه إجماع المسلمين والكذب نقص قال ومما تمسك به الأستاذ أبو إسحاق والقاضي أبو بكر وغيرهما أن قالوا الكلام القديم هو القول الذي لو كان كذبا لنافى العلم به من حيث أن العالم بالشيء من حقه أن يقوم به إخبار عن المعلوم على الوجه الذي هو معلوم له وهكذا القول في الكلام القائم بالنفس شاهد أو هو الذي يسمي التدبير أو حديث النفس وهو ما يلازم العلم قال فإن قيل لو كان العلم ينافي الكذب لم يصح من الواحد منا كذب على طريق الجحد وليس كذلك فإن ذلك منصور موهوم قلنا الجحد إنما يتصور من العالم بالشيء في العبارة باللسان دون القلب وصاحب الجحد باللسان هو معترف بالقلب فلا يصح منه الجحد بالقلب
فإن قالوا لا يمتنع تصور الجحد بالقلب وتصور العلم في النفس جميعا قلنا أن قدر ذلك على ما تتصورنه فلم يكن ذلك كلاما على التحقيق وإنما هو تقدير كلام كما أن العلم بواحدانيته قد يقدر في نفسه مذهب الثنوية ثم لا يكون ذلك منافيا لعلمه بالوحدانية ولو كان ذلك اعتقادا حقيقيا لنافاه فإذا ثبت أن العلم يدل على الخبر لاصدق فإذا تعلق الخبر بالمخبر على وجه الصدق فتقدير خبر خلف مستحيل مع الخبر القديم إذ لا يتجدد الكلام قال فإن قيل فإذا جاز أن يكون الكلام أمرا من وجه نهيا من وجه فكذلك لا يجوز أن يكون صدقا من وجه كذبا ومن وجه قلنا الأمر في الحقيقة هو النهي لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والآخر بالشيء ناه عن ضده ولا تناقض فيه ولا يجوز أن يكون للصدق كذبا بوجه وتعلق الخبر بالمخبر بمثابة تعلق العلم بالمعلوم وإذا تعلق العلم بوجود الشيء فلا يكون علما بعدمه في حال وجوده
وقال أبو المعالي: في إرشاده المشهور الذي هو زبور المستأخرين من أتباعه كما أن الغرر وتصفح الأدلة لأبي الحسين زبور المستأخرين من المعتزلة وكما أن الاشارات لابن سينا زبور المستأخرين من الفلاسفة تقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون وإن كانت طائفة أبي المعالي أمثل وأولى بالإسلام قال:
فصل في الأسماء والأحكام
اعلموا أن غرضنا من هذا الفصل يستدعي ذكر حقيقة الأيمان وهذا مما تباينت فيه مذاهب الإسلاميين فذهب الخوارج إلى أن الإيمان هو الطاعة ومال إلى ذلك كثير من المعتزلة واختلفت مذاهبهم في تسمية النوافل إيمانا وصار أصحاب الحديث إلى أن الإيمان معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالإركان وذهب بعض القدماء إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار بها وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فحسب ومضمر الكفر إذا أظهر الإيمان مؤمن حقا عندهم غير أن يستوجب الخلود في النار ولو أضمر الإيمان ولم يتقين منه إظهاره فهو ليس بمؤمن وله الخلود في الجنة قال والمرضى عندنا أن حقيقة الإيمان التصديق بالله فالمؤمن بالله من صدقه ثم التصديق على الحقيقة كلام النفس ولا يثبت كلام النفس كذلك إلا مع العلم فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد
والدليل على أن الإيمان هو التصديق صريح اللغة وأصل العربية وهو لا ينكر فيحتاج إلى إثباته ومن التنزيل: { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } معناه ما أنت بمصدق لنا ثم الغرض من هذا الفصل أن من خالف أهل الحق لم يصف الفاسق بكونه مؤمنا فقد صرح بأن كلام النفس لا يثبت إلا مع العلم وأنه إنما يثبت على حسب الاعتقاد وهذا تصريح بأنه لا يكون مع عدم العلم ولا يكون على خلاف المعتقد وهذا يناقض ما أثبتوا به كلام النفس وادعوا أنه مغاير للعمل وقال صاحبه أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح الإرشاد بعد أن ذكر شرح قول الخوارج والمعزلة والكرامية قال وأما مذاهب أصحابنا فصار أهل التحقيق من أصحاب الحديث والنظار منهم إلى أن الإيمان هو التصديق وبه قال شيخنا أبو الحسن واختلف جوابه في معنى التصديق فقال مرة هو المعرفة بوجوده وقدمه وآلهيته وقال مرة التصديق قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة ولا يوجد دونها وهذا مما ارتضاه القاضي فإن الصدق والكذب والتصديق والتكذيب بالأقوال أجدر فالتصديق إذا قول في النفس ويعتبر عنه باللسان فتوصف العبارة بأنها تصديق لأنها عبارة عن التصديق هذا ما حكاه شيخنا الإمام
قلت: فقد ذكر عن أبي الحسن الأشعري قولين:
أحدهما: إن التصديق هو المعرفة وهذا قوله جهم
والثاني: إن التصديق قول في النفس يتضمن المعرفة وهو اختيار ابن الباقلاني وابن الجويني وهؤلاء قد صرحوا بأنه يتضمن المعرفة ولا ينتصر أن يقوم في النفس تصديق مخالف لمعرفة كما ذكروه ولو جاز أن يصدق بنفسه بخلاف علمه واعتقاده لا نتقض أصلهم في الإيمان إذا كان التصديق لا ينافي اعتقاد خلاف ما صدق به فلا يجب أن يكوم مؤمنا بمجرد النفس على هذا التقدير وكل من القولين ينقض ما استدل به على أن التصديق غير العلم
قال النيسابوري وحكى الإمام أبو القاسم الاسفرائيني اختلافا عن أصحاب أبي الحسن في التصديق ثم قال والصحيح من الأقاويل في معنى التصديق ما يوافق اللغة لأن التكليف بالإيمان ورد بما يوافق اللغة والإيمان بالله ورسوله على موافقة اللغة هو العلم بأن الله ورسوله صادقان في جميع ما أخبرا به والإيمان في اللغة مطلقا هو اعتقاد صدق المخبر في خبره إلى أن الشرع جعل هذا التصديق علما ولا يكتفي أن يكون اعتقادا من غير أن يكون علما لأن من صدق الكاذب واعتقد صدقه فقد آمن به ولهذا قال في صفة اليهود: { يؤمنون بالجبت والطاغوت } يعني يعتقدون صدقهما
قلت ليس الغرض هنا ذكر تناقضهم في مسمى الإيمان وفي التصديق هل هو التصديق بوجود الله وقدمه وآلهيته كما قاله الأشعري أو هو تصديق فيما أخبر به كما ذكره غيره أو التناقض كما في كلام صاحب الإرشاد حيث قال: الإيمان هو التصديق بالله فالمؤمن بالله من صدقه فجعل التصديق بوجوده هو تصديقه في خبره مع تباين الحقيقتين فإنه فرق بين التصديق بوجود الشيء وتصديقه ولهذا يفرق القرآن بين الإيمان بالله ورسوله وبين الإيمان للرسول إذ الأول هو الإقرار بذلك والثاني هو الإقرار له كما في قوله: وما أنت بمؤمن لنا وفي قوله: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين وفي قوله: لن نؤمن لكم وقد قال: فآمنوا بالله ورسوله النبي صلى الآمي الذي يؤمن بالله وكلماته فميز الإيمان به من الايمان بكلماته وكذلك قوله قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية وقوله كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله فليس الغرض أنهم لم يهتدوا لمثل هذا في مثل هذا الأصلي الذي لم يعرفوا فيه لا الإيمان ولا القرآن وهما نور الله الذي بعث به رسوله كما قال تعالى: { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } وإنما الغرض أن التصديق قد صرح هؤلاء بأنه هو العلم أو هو الاعتقاد إذا لم يكن علما وأنهم مضطرون إلى أن يقولوا ذلك وهو أبلغ من قول بعضهم أنه مستلزم للعمل في تمام ما ذكره عن أبي القاسم الأسفرائيني
وقال حكى الإمام أبو بكر بن فورك عن أبي الحسن أنه قال الإيمان هو اعتقاد صدق المخبر فيما يخبر به ثم من الاعتقاد ما هو علم ومنه ما ليس بعلم فالإيمان بالله هو اعتقاد صدقه إنما يصح إذا كان عالما بصدقه في أخباره وإنما يكون كذلك إذا كان عالما بأنه متكلم والعلم بأنه متكلم بعد العلم بأنه حي والعلم بأنه حي بعد العلم بأنه فاعل وبعد العلم بالفعل وكون العالم فعلا له وذلك يتضمن العلم بكونه قادرا وعالما وله علم ومريدا وله إرادة وسائر مالا يصح العلم بالله تعالى إلا بعد العلم به من شرائط الإيمان قال ثم السمع قد ورد بضم شرائط أخر إليه لا يقترن به ما يدل على كفر من يأتيه فعلا وتركا وهو أن الشرع أمره بترك السجود والعبادة للصنم فلو أتى به دل على كفره وكذلك قول قتل نبيا أو استخف به دل على كفره وكذلك لو تركا تعظيم المصحف والكعبة دل على كفره وكذلك لو خالف إجماع الخاص والعام في شيء أجمعوا عليه دل خلافه إياهم على كفره فأي واحد مما استدللنا به على كفره مما منع الشرع أن يقرنه بالإيمان إذا وجب ضمه إلى الإيمان لو وجد دلنا ذلك على التصديق الذي هو الإيمان مفقود من قلبه
فكذلك كل ما كفرنا به المخالف من طريق التأويل فإنما كفرناه به لدلالته على فقد ما هو إيمان من قلبه لاستحالة أن يقضي السمع بكفر من معه الإيمان والتصديق بقلبه
قال ومن أصحبنا من قال بالموافاة فيشترط في الإيمان الحقيقي أن يوافي ربه به ويختم عليه ومنهم من لم يجعل ذلك شرطا فيه في الحال وهل يشترط في الإيمان الإقرار اختلفوا فيه بعد أن لم يختلفوا في أن ترك العناد شرط وهو أن يعتقد أنه متى طولب بالإقرار فأتى به أما قبل أن يطالب به منهم من قال لا بد من الأتيان به حتى يكون مؤمنا وهذا القائل يقول التصديق هو المعرفة والإقرار جميعا وهذا قول الحسين ابن الفضل البجلي وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وبقرب من هذا ما كان يقوله الإمام أبو محمد عبد الله بن سعيد القطان من متقدمي أصحابنا ونحن نقول من أتى بالتصديق بالقلب واللسان فهو المؤمن باطنا وظاهرا ومن صدق بقلبه وامتنع من الإقرار فهو معاند كافر يكفر كفر عناد ومن أقر بلسانه وجحد بقلبه فهو كافر عند الله وعند نفسه ويجري عليه أحكام الإيمان لما أظهر من علامات الإيمان
ومن أصحابنا من جعل المعارف مجموعة تصديقا واحدا وهو المعرفة بالله وصفاته ورسوله وبأن دين الإسلام حق: قال وهذه الجملة تصديق واحد ثم قال هذا ما ذكره أبو القاسم الأسفرائيني قلت ليس المقصود هنا بيان ما ذكروه من قول الجهمية والمرجئة في الإيمان وما في ذلك من التناقض حيث جعله التصديق الذي في القلب ثم سلبه عمن ترك النطق عنادا وأن عنده كل ما سمي كفرا فلأنه مستلزم لعدم هذا التصديق لكن دلالته على العدم تارة بالعقل وتارة بالشرع لأن ما يقوم بالقلب من الاستكبار على الله والبغض له ولرسله ونحو ذلك يكون هو في نفسه كفرا وما ذكروه من التصديق الخاص الذي وصفوه وهو تصديق بأصول الكلام الذي وضعوه وإنما الغرض أنهم يجعلون التصديق هو نفس المعرفة كما في كلام هذا وغيره وكما ذكروه عن أبي الحسن وغايتهم إذا لم يجعلوه مستلزما للمعرفة أن يجعلوه مستلزما لها ز قال النيسابوري وقال الأستاذ أبو إسحاق في المختصر الإيمان في اللغة والشريعة التصديق ولا يتحقق ذلك إلا بالمعرفة والإقرار وتقوم الإشارة والانقياد مقام العبارة قال وتحقيق المعرفة تحصيل ما قدمناه من المسائل في هذا الكتاب وتحقيقه قال النيسابوري أراد بالكتاب هو المختصر وأشار بما قدمه فيه إلى جملة ما قدمه من قواعد العقائد قال: وقال في هذا الكتاب الإيمان هو المعرفة واعتقاد الاقرار عند الحاجة أو ما يقوم مقام الإقرار في كتاب الأسماء والصفات واتفقوا على أن ما يستحق به المكلف اسم الإيمان في الشريعة أوصاف كثيرة وعقائد مختلفة وإن اختلفوا فيها على تفصيل ذكرناه واختلفوا في إضافة ما لا يدخل في جملة التصديق إليه لصحة الاسم فمنها ترك قتل الرسول وترك تعظيمه وترك تعظيم الأصنام فهذا من التروك ومن الأفعال نصرة الرسول والذب عنه فقالوا أن جميعه مضاف إلى التصديق شرعا وقال آخرون إنه من الكبائر لا يخرج المرء بالمخالفة فيه عن الايمان
قال النيسابوري هذه جملة كلام مشايخنا في ذلك قال وذهب أهل الأثر إلى أن الايمان جميع الطاعات فرضها ونفلها وعبروا عنه بأنه إيتان ما أرم الله به فرضا ونفلا والانتهاء عما نهى عنه ترحيما وإذنا وبهذا كان يقول أبي علي الثقفي ومن متقدمي أصحابنا أبو عباس القلانسي وقد مال إلى هذا المذهب أبو عبد الله بن مجاهد وهو قول مالك بن أنس ومعظم أئمة السلف وكانوا يقولون الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالإركان: قلت وذكر الكلام إلى آخر ما ليس هذا موضعه فإن ليس الغرض هنا ذكره أقوال السلف والأئمة واعتراف هؤلاء بما اجترأوا عليه من مخالفة السلف والأئمة وأهل الحديث في الإيمان مع علمهم بذلك لما عنت لهم من شبهة الجهمية المرجئة وإنما الغرض بيان ما ذركه الأسفرائيني من أن التصديق لا يتحقق إلا بالمعرفة والاقرار وإن كان أراد المعرفة كما قرره هو من قواعده ولم يحل ذلك على ما جاء به الرسول من أصول الإيمان فإذا كان التصديق لا يتحقق بالمعرفة بالاقرار ايضا باللسان كان هذا من كلامهم دليلا على امتناع وجود التصديق بالقلب وتحققه إلا مع الإقرار باللسان وهذا يناقض قولهم أن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس فهذه مناقضة ثابتة فإن التصديق الذي في القلب إن تحقق بدون لفظ يظل هذا وإن لم يتحقق إلا بلفظ أن ما يقوم مقامه يظل ذاك فهذا كلامهم وهو يقتضي أنهم لم يكتفوا بأن جعلوا العلم ينافي الكذب النفساني حتى جعلوه يوجب الصدق النفساني فيمتنع وجود العلم بدون الصدق فصار هذا مطلا لما أثبتوا به الخبر النفساني من أنه يمكن ثبوته بدون العلم وعلى خلاف العلم وهو الكذب وهم كما احتجوا بالعلم على انتفاء الكذب النفساني وثبوت الصدق النفساني فقد احتجوا به أيضا على أصل ثبوت الكلام النفساني
قال أبو القاسم النيسابوري ومما ذكره الأستاذ أبو إسحاق يعني في إثبات كلام الله النفساني الذي أثبتوه أن قال: الأحكام لا ترجع إلى صفات الأفعال ولا إلى أنفسها وإنما ترجع إلى قول الله وهذا من أدل الدليل على ثبوت الأمر والنهي والوعد والوعيد فورود التكليف على العباد دليل على كلام الله وجواز إرسال الرسل وورود التكليف دال على علمه وعلمه دال على ثبوت الكلام الصدق أولا إذا العالم بالشيء لا يخلو على نطق النفس بما يعلمه وذلك هو التدبير والخبر وربما يعبر عن هذا بأنه لو لم يكن القديم سبحانه متكلما لاستحال منه التعريف والتنبيه على التكليف لأن طرق التعريف معلومة وذلك كالكتابة والعبارة والإشارة وشيء من هذا لا يقع به التعريف دون أن يكون ترجمة عن الكلام القائم بالنفس ومن لا كلام له استحال أن ينبه غيره على المعنى الذي يستند إلى الكلام
قال: ومما يدل على ثبوت الكلام لله آيات الرسل عليهم السلام فإنها كانت أدلة ولا تدل على الصدق لأنفسها وإنما كانت دالة من حيث كانت نازلة منزلة قوله لمدعي الرسالة صدقت والتصديق من قبل الأقوال ولا يكون المصدق مصدقا لغيره بفعله التصديق وإنما يكون مصدقا له لقيام التصديق بذاته بأمر الله منهيا بنهيه
قلت: أما استدلالهم على ثبوت كلام الله بالتكليف والأحكام فهذا من باب الإستدلال على الشيء بنفسه بل من باب الإستدلال على الشيء بما هو أخفى منه مع الاستغناء عنه فإنه إذا كان التكيلف والأحكام إنما تثبت بالرسل فالرسل كلهم مطبقون على تبليغ كلام الله ورسالته وأن الله يقول وقال ويتكلم ومن المعلوم أن نطق الرسل بإثبات كلام الله وقوله أكثر وأشهر وأظهر من نظقهم بلفظ تكليف وأحكام فإذا كان هذا الدليل لا يثبت إلا بعد الإيمان بالرسل وبما أخبروا به فإخبارهم بكلام الله وقوله لا يحتاج فيه إلى دليل ولهذا عدل غير هؤلاء عن هذا الدليل الغث واحتجوا على ثبوت كلام الله بمجرد قول المرسلين
وقول الأحكام من أدل الدليل على ثبوت الأمر والنهي يقال له فهل الأحكام عندك شيء غير الأمر والنهي حتى يستدل بأحدهما على الآخر أم اسم الأحكام بل هو أظهر في كلام الرسل والمؤمنين بهم من اسم الأمر والنهي وأعجب من ذلك قوله فورود التكليف على العباد دليل على كلام الله وجواز إرسال الرسل فإن التكليف إذا كان عنده لم يثبت إلا بالرسل كان العلم بجواز إرسال الرسل سابقا على العلم بالتكليف فكيف يستدل بما يتأخر علمه على ما يتقدم علمه ومن حق الدليل أن يكون العلم به قببل العلم بالمدلول حيث جعل دليلا على العلم به ولو قدر أنه ممن يسوغ التكليف العقلي فذاك عند القائلين به يرجع إلى صفات تقوم بالأفعال فلا يفتقر إلى ثبوت الكلام وليس المقصود بيان هذا وإنما المقصود قولهم: ورود التكليف دال على علمه وعلمه دال على ثبوت المصدق إذ العالم بالشيء لا يخلو عن نطق النفس بما يعلمه وذلك هو التدبير والخبر فقد جعلوا العلم مستلزما للكلام بنوعية الخبر والصدق والتدبير الذي هو الطلب وهذا إلى التحقيق أقرب من غيره فإذا كان الأمر كذلك كيف يتصور إجتماع العلم والكذب النفساني فإن قيل لاريب أن هذه تناقض منهم في الشيء الواحد المعين بإثباته تارة وجعله كلاما محققا ونفيه أخرى ونفي تسميته كلاما محققا إذا قدر وجوده لكن التناقض يدل على بطلان أحد القولين المتناقضين غير معين فقد يكون الباطل ما ادعوه من استلزام العلم للصدق النفساني ومنافاته للكذب دون ما ذكروه من إمكان اجتماعهما وعدم استلزامه للصدق قيل تقول في الجواب عن هذا وهو
الوجه السابع عشر: إن هذا يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله وإذا فسد ذلك لم ينفعهم إثبات الكلام له يجوز أن يكون صدقا أو كذبا بل لم ينفعهم إثبات كلام لم يعلموا وجوده إلى وهو كذب فإنهم لم يثبتوا الخبر النفساني إلا بتقدير الخبر الكذب فهم لم يعلموا وجود خبر نفساني إلا ما كان كذبا
فإن أثبتوا لله ذلك كان كفرا باطلا خلاف مقصودهم وخلاف إجماع الخلائق إذا أحد لا يثبت لله كلاما لازما لذاته هو كذب وإن لم يثبتوا ذلك لم يكن لهم طريق إلى إثبات الخبر النفساني بحال لأنا حينئذ لم نعلم وجود معنى نفسانيا صدقا غير العلم ونحوه لا شاهدا ولا غائبا فإن خبر الله لا ينفعك عن العلم وإذا امتنع إثبات ما أدعوه من الخبر امتنع حينئذ وصفة بكونه صدقا فإن ثبوت الصفة بدون الموصوف محال فعلم أن الطريقة التي سلكونها في إثبات صدق الخبر يبطل عليهم إثبات أصل الخبر النفساني فلا يثبت حينئذ لا خبر نفساني ولا صدقة والطريقة التي سلوكها في إثبات الكلام النفساني إنما يثبت بها لو قدر صحتها خبر هو كذب وذلك ممتنع في حقه فعلم أنهم مع التناقض لم يثبتوا لا الكلام النفساني ولا صدقه فلم يقبتا واحدا من المتناقضين
فإن قيل: كيف يخلوا الأمر عن النقيضين ويمكن رفعهما جميعا
قيل: هذا لا يمكن في الحقائق الثابتة ولكن يمكن في المقدرات الممتنعة فإن من فرض تقديرا ممتنعا لزمه اجتماع النقيضين وانتفاؤهما وذلك محال لأنه لازم للمحال الذي قدره وهذا دليل آخر وهو
الوجه الثامن عشر: وهو أنهم اثبتوا للخبر معنى ليس هو العلم وبابه فهذا إثبات أمر ممتنع وإذا كان ممتنعا من صفة بأنه صدق أو كذب ممتنع ايضا لا حقيقة له فقولهم بعد هذا العلم يستلزم الصدق منه وينافي الكذب وإن كان يناقض قولهم العلم لا يستلزم الصدق ولا ينافي الكذب فهذان النقيضان كلاهما منتف لأن كلاهما إنما يلزم على تقدير ثبوت معنى للخبر ليس هو العلم وبابه فإذا كان ذلك تقديرا باطلا ممتنعا كان ما يلزمه من نفي أو إثبات قد يكون باطلا إذ حاصله لزوم اجتماع النقيضين ولزم الخلو عن النقيضين على هذا التقدير وهذا اللوازم تدل على فساد الملزوم الذي هو معنى للخبر ليس هو العلم ونحوه ولهذا يجعل فساد اللوازم دليلا على فساد الملزوم
وإذا أرد تحرير الدليل بهذا الوجه قيل لو كان للخبر معنى ليس هو العلم ونحوه فأما أن يكون العلم مستلزما لصدقه أو لا يكون فإن كان مستلزما لصدقه لم يعلم حينئذ أنه غير العلم إذ لا دليل على ذلك إلا إمكان تقدير الكذب مع العلم فإذا كان العلم مستلزما للصدق النفساني منافيا للكذب النفساني كان هذا التقدير ممتنعا فلا يعلم حينئذ ثبوت معنى للخبر غير العلم لا في حق الخالق ولا في حق العباد فيكون قائل ذلك قائلا بلا علم ولا دليل أصلا في باب كلام الله وخبره وهذا محرم بالاتفاق
وهذا بعينه يبطل ببطلان قولهم أي أنهم قالوا بلا حجة أصلا وإن لم يكن العلم مستلزما للصدق النفساني ولا منافيا للكذب النفساني لم يكن لهم طريق إلى إثبات كلام نفساني هو صدق لأن العلم لا يستلزمه ولا ينافي ضده فلا يستدل عليه بالعلم وسائر ما يذكر غير العلم فيدل على أن الله صادق في الجملة وأن الكذب ممتنع عليه وهذا مما لا نزاع بين الناس فيه ولكنهم لا يمكنهم إثبات كلام نفساني هو صدق وقيام دليل على أن الله صادق كقيام دليل على أن الله متكلم وهذا لا ينفعهم في إثبات الكلام النفساني الذي ادعوه منفردين به فكذلك هذا لا ينفعهم في إثبات معنى الخبر النفساني الصادق الذي انفردوا بإثباته من بين فرق الأمة وابتدعوه وفارقوا به جماعة المسلمين كما أقروا هم بهذا الشذوذ والإنفراد كما ذكره في المحصول
الوجه التاسع عشر: وهو متضمن للجواب عما ذكرناه من السؤال عن أن المتناقضين لا يعين الصادق وهو أن نقول لا ريب أن قولهم إن العلم ينافي الكذب النفساني هو الصواب دون قولهم أنه قد يجامع الكذب النفساني وإن لم يكن العلم مستلزما لخبر نفساني صدق وهذا أمر يجده المرء من نفسه ويعلمه بالضرورة أن ما علمه لا يمكن أن يقوم بنفسه خبر ينافي ذلك بل لو كلف ذلك كلف الجمع بين النقيضين ولهذا لم يتنازع الناس في أنه يمتنع تكليف الإنسان أن يعتقد خلاف ما يعلمه ولو كان في الإمكان خبر نفساني ينافي العلم لأمكن أن يطلب ذلك من الإنسان فإنه يمكن أن يطلب منه كل ما يقدر عليه سواء قيل أن ذلك جائز في الشريعة أو لم يمكن كما أن طلب الكذب ممكن والتكليف به ممكن
وأما طلب كذب نفساني يخالف العلم فهذا مما لا يمكن طلبه والتكليف به إذ هو أمر لا حقيقة له فتبين أن قولهم أن الجحد إنما يتصور من العلم بالشيء في العبارة باللسان دون القلب وصاحب الجحد وإن جحد باللسان هو معترف بالقلب فلا يصح الجحد منه بالقلب هو أصدق من قولهم العلم بالشيء قد يقوم بقلبه كذب نفساني ينافي علمه وإذا كان كذلك بطل ما احتجوه به على إثبات الخبر النفساني الذي ادعوه وراء العلم وهو المقصود
الوجه العشرون: أن يقال لا ريب أن الإنسان قد يخبر بما لا يعلمه ولا يظنه وبما يعلم أو يظن خلافه ولا ريب أن هذا الخبر له معنى يقوم بنفسه وراء العلم ولهذا يمكن تقدير هذا المعنى قبل تقدير العبارة عنه فضلا عن وجود التعبير عنه فإن من يريد أن يخبر بخلاف علمه ويعتقد ذلك يقدره ويصوره في نفسه قبل التعبير عنه
ويدل على ذلك أن الكذب لفظ له معنى كما أن الصدق لفظ له معنى ولو كان لفظا لا معنى له في النفس لكان بمنزلة الأصوات والألفاظ المهملة وليس الأمر كذلك لكن يقال هذا لا يخرجه عن أن يكون من جنس الاعتقاد الذي يكون من جنس العلم والجهل المركب فإن المعتقد للشيء بخلاف ما هو به لا ريب أنه ليس بعالم به وإن اعتقد أنه عالم به فالكذب من هذا الجنس لكن الكذب يعلم صاحبه أنه باطل والجهل المركب لا يعلم صاحبه أنه باطل
ومعلوم أن الاعتقادات في كونها حقا أو باطلا أو معلومة أو مجهولة لا يخرج عن الاشتراك في مسمى الاعتقاد والخبر النفساني كما لا تخرج العبارة عنها بكونها حقا أو باطلا أو معلومة أو مجهولة عن أن تكون لفظا وعبارة وكلاما فإذا كانت العبارات على اختلاف أنواعها يجمعها النطق اللساني فالمعنى الذي هو الاعتقاد على اختلاف أنواعه يجمعه النطق النفساني والخبر النفساني وهذا كما أن الإرادة أو الطلب سواء كانت إرادة شر أو كان صاحبها عالما بحقيقة مراده وعاقبته أو كان جاهلا بعاقبته فإن ذلك لا يخرجها عن الاشتراك في مسمى الإرادة أو الطلب
الوجه الحادي والعشرون: إنه تعالى قال: { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } فنفى عنهم التكذيب وأثبت الجحود ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفيا عنهم فعلم أنه نفى عنهم تكذيب القلب ولو كان المكذب الجاحد علمه يقوم بقلبه خبر نفساني لكانوا مكذبين بقلوبهم فلما نفى عنهم تكذيب القلوب علم أن الجحود الذي هو ضرب من الكذب والتكذيب بالحق المعلوم ليس هو كذبا في النفس ولا تكذيبا فيها وذلك يوجب أن العالم بالشيء لا يكذب به ولا يخبر في نفسه بخلاف علمه فإن قيل العالم بالشيء العارف به قد يؤمن بذلك وقد يكفرك ما قال الله تعالى: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وذلك مثل المعاندين من المشركين وأهل الكتاب وليس كفرهم لمجرد لفظهم فإنهم أيضا قد يقولون بألسنتهم ما يعلمونه ولا يكونون مؤمنين مثل ما كان يقول أبو طالب من الأخبار بأن محمدا رسول الله ومثل أخبار كثير من اليهود والنصارى بعضهم لبعض برسالته ومع هذا فليسوا مؤمنين ولا مصدقين ومنهم اليهود الذين جاوروه وقالوا نشهد أنك رسول الله قيل الجواب عن هذا هو
الوجه الثاني والعشرون: وهو أن ما أخبرت به الرسل من الحق ليس إيمان القلب مجرد العلم بذلك فإنه لو علم بقلبه أن ذلك حق وكان مبغضا له وللرسول الذي جاء به ولمن أرسله معاديا لذلك مستكبرا عليهم ممتنعا عن الانقياد لذلك الحق لم يكن هذا مؤمنا مثابا في الآخرة باتفاق المسلمين مع تنازعهم الكثير في مسمى الإيمان ولهذا لم يختلفوا في كفر إبليس مع أنه كان عالما عارفا بل لا بد في الإيمان من علم في القلب وعمل في القلب أيضا ولهذا كان عامة أئمة المرجئة الذي يجعلون الإيمان مجرد ما في القلب أو ما في القلب واللسان يدخلون في ذلك محبة القلب وخضوعه للحق لا يجعلون ذلك مجرد علم القلب ولفظ التصديق يتناول العلم الذي في القلب ويتناول أيضا ذلك العمل في القلب الذي هو موجب العلم ومقتضاه فإنه يقال صدق علمه بعمله وذلك لأن وجود العلم مستلزم لوجود هذا العمل ومقتضاه فإنه يقال صدق علمه بعمله وذلك لأن وجود العلم مستلزم لوجود هذا العمل الذي في القلب الذي هو إسلام القلب بمحبته وخشوعه فإذا عمد مقتضى العلم فإنه قد يزول العلم من القلب الكلية ويطبع على القلب حتى يصير منكرا لما عرفه جاهلا بما كان يعلمه وهذا العلم وهذا العمل كلاهما يكون من معاني الألفاظ
فلفظ الشهادة والإقرار والإيمان والتصديق ينظم هذا كله لكن لفظ الخبر والبناء ونحو ذلك هو العلم وإن استلزم هذه الأعمال فهو كما يستلزم العلم لذلك فإذا قال أحد هؤلاء العالمين الجاحدين الذين ليسوا مؤمنين بمحمد رسول الله كقول أولئك اليهود وغيرهم فهذا خبر محض مطابق لعلمهم الذي قال الله فيه: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } لكن كما لا ينفعهم مجرد العلم لا ينفعهم مجرد الخبر بل لا بد أن يقترن بالعلم في الباطن مقتضاه من العمل الذي هو المحبة والتعظيم والانقياد ونحو ذلك كما أنه لا بد أن يقترن بالخبر الظاهر مقتضاه من الإستسلام والانقياد لأهل الطاعون فهؤلاء الذين يعلمون الحق الذي بعث الله به رسوله ولا يؤمنون به ويقرون به يوصفون بأنهم كفار وبأنهم جاحدون ويوصفون بأنهم مكذبون بألسنتهم وأنهم يقولون بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم وقد أخبر الله في كتابه أنهم ليسوا بمكذبين بما علموه أي مكذبين بقلوبهم وإن لم يكونوا مؤمنين مقرين مصدقين إذا العبد يخلو في الشيء الواحد عن التصديق والتكذيب والكفر أعم من التكذيب فكل من كذب الرسول كافر وليس كل كافر مكذبا بل من يعلم صدقه ويقر به وهو مع ذلك يبغضه أو يعاديه كافر أو من أعرض فلم يعتقد لا صدقه ولا كذبه كافر وليس بمكذب وكذلك العالم بالشيء قد يخلو عن التكذيب وعن التصديق به الذي هو مستلزم لعمل القلب وإن لم يخل عن التصديق الذي هو مجرد علم القلب فأما أن يقوم بالقلب تصديق قولي غير العلم فهذا هو الذي ادعاه هؤلاء الشذاذ عن الجماعة وهو مورد النزاع
ولهذا قال الجنيد بن محمد: الوحيد قول القلب والتوكل عمل القلب وقال الحسن البصري ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقه العمل: وقال الحسن أيضا: ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت فإذا لها أسماع وأبصار فنطقت بالحكمة وأورثت العلم
الوجه الثالث والعشرون: أن يقال لا ريب أن النفس الذي هو القلب يوصف بالنطق والقول كما يوصف بذلك اللسان وإن كان القول والنطق عند الإطلاق يتناوله مجموع الأمرين ولهذا كان من جعل النطق والقول هو لما في اللسان فقط بمنزلة من جعله لما في القلب فقط ومن جعل اللفظ مشتركا بينهما فقد جمع البعيدين بل أثبت النقيضين فإنه يجعل اللفظ الشامل لهما مانعا من كل منهما فإنه إذا قال أريد به هذا وحده أو هذا وحده مع أن اللفظ أريد به كلاهما كان نافيا لكل منهما في حال اثبات اللفظ له وإنما اللفظ المطلق من القول والنطق والكلام ونحو ذلك يتناولهما جميعا كما أن لفظ الإنسان يتناول الروح والبدن جميعا وإن كان أحدهما قد يسمى بالاسم مفردا ومن لم يسلك هذا المسلك وإلا أنهالت عليه الحجج لما نفاه من الحق فإن دلالة الأدلة الشرعية واللغوية والعرفية على شمول الاسم لهما وعلى تسمية أحدهما به أكثر من أن حصر لكن هذا النطق والكلام الذي هو معنى الخبر القائم بالنفس هل هو شيء مخالف للعلم يمكن أن يكون ضدا له أو هو هو أو هو مستلزم له فدعوى إمكان مضادته للعلم مما يحس الإنسان بنفسه خلافه ودعوى مغايرته للعلم أيضا فإن الإنسان لا يحس من نفسه بنسبتين جازمتين كل منهما يتناوله المفردين إحداهما علم والأخرى غير علم ولهذا لم يتنازع في ذلك لا المسلمين ولا من قبلهم من الأمم حتى أهل المنطق الذين يثبتون نطق النفس ويسمونها النفس الناطقة هم عند التحقيق يردون ذلك إلى العلم والتمييز ولهذا لما أراد حاذق الأشعرية المستأخرين أبو الحسن الآمدي أن يحد العلم بعد أن تعقب حدود الناس بالإبطال ورد قول من زعم أنه غني عن الحد أو أنه يعرف بالتقسيم والتمثيل قال هو صفة جازمة قائمة بالنفس يوجب لمن قام به تمييزا ومعلوم أنه إن كان في النفس معنى للخبر غير العلم فهذا الحد منطبق عليه ولهذا لما قسم الأولون والآخرون العلم إلى تصور وتصديق وجعلوا التصور هو العلم بالمفردات الذي هو مجرد تصورها والتصديق العلم بالمركبات الخبرية من النفي والإثبات فسموا العلم بذلك تصديقا وجعلوا نفس العلم هو نفس التصديق ولو كان في النفس تصديق لتلك القضايا الخبرية ليس هو العلم لوجب الفرق بين العلم بها وتصديقها ولا ريب أن هذا العمل والتصديق قد يعتقده الإنسان فيعقله ويضبطه ويلتزم موجبه وقد لا يعتقده ولا يعقله ولا يضبطه ولا يلتزم موجبه فالأول هو المؤمن والثاني هو الكافر
إذا كان ذلك فيما جاءت به الرسل عن الله فليس كل من علم شيئا عقله واعتقده أي ضبطه وأمسكه والتزم موجبه كما أنه ليس كل من اعتقد شيئا كان عالما به فلفظ العقد والاعتقاد شبيه بلفظ العقل والاعتقال ومعنى كل منهما يجامع العلم تارة ويفارقه أخرى فمن هنا قد يتوهم أن في النفس خبرا غير العلم ولفظ العقد والعقل لما كان جاريا على من يمسك العلم فيعيه ويحفظه تارة ويعمل بموجبه كان مشعرا بأنه يوصف بذلك تارة وبضده تارة وهو الخروج عن العلم وعن موجبه وقد يستعمل اللفظ فيمن يمسك بما ليس بعلم ومن هذين الوجهين امتنع أن يوصف الله بالاعتقاد فإنه سبحانه عالم لا يجوز أن يفارقه علمه ولا يعتقد ما ليس فوصفه به يدل على جواز وصفه بضد العلم ولفظ الفقه ولفظ الفهم كلاهما يستلزم علما مسبوقا بعدمه وهذا في حق الله ممتنع
الوجه الرابع والعشرون: إن ما ذكروه في إثبات أن معنى الأمر والخبر ليس هو العلم ولا الإرادة وما يتبع ذلك من ضرب المثل بأمر الامتحان وخبر الكاذب يقال في ذلك لا ريب أن الكذاب المخبر يقدر في نفسه الشيء على خلاف ما هو به ويخبر به بلسانه لكن ذلك المقدر هو تقدير العلم فإن الخبر الصدق الذي يعلم صاحبه أنه صدق لما كان معناه العلم المطابق للخارج فالمخبر الكاذب الذي يعلم أنه كاذب قدر في نفسه تقديرا مضاهيا للعلم فإن تقدير الموجود معدوما والمعدوم موجودا في الأذهان واللسان أكثر من أن يحصر فمعنى خبره هو علم مقدر لا علم محقق لأن مخبر الخبر في الخارج وجود مقدر لا وجود محقق والمقدر ليس بمحقق لا في الذهن ولا في الخارج لكن لما قدر هو أنه عالم قدر أيضا وجود المخبر في الخارج والمستمتع لما اعتقد صدقه وحسبانه صادق وأن لم اقاله حقيقة لم يظنه مقدرا بل حسبه محققا وكل اعتقاده فاسد تقديرات ذهنية لا حقيقة لها في الخارج وهي أخبار واعتقادات وإن لم تكن علوما لكن هي في الصورة من جنس المحقق كما أن لفظ الكاذب من جنس لفظ الصادق وخطه من جنس خطه فهما متشابهان في الدلالة خطا ولفظا وعقدا فكذلك أمر الممتحن هو في الحقيقة ليس بطالب ولا مريد أصلا بل هو مقدر لكونه طالبا مريدا لأنه يظهر بتقدير ذلك من طاعة المأمور وامتثاله ما يظهر بتحقيقه ثم إظهار ذلك هو من باب المعاريض قد يجوز ذلك وقد لا يجوز مثل أن يفهم المتكلم للمستمع معنى لم يرده المتكلم واللفظ قد يل عليه بوجه ولا يدل عليه بوجه فمعناه في نفسه هو الذي لا يفهمه المستمع ومفهوم المستمع شيء آخر وكذلك الممتحن مدلول الصيغة في نفسه طلب مقدر وإرادة مقدرة وبالنسة إلى المستمع طلب محقق وإراد محققة وإذا لم يعلم باطن الأمر وكذلك مدلول الصيغة عن الكذاب هو ما اختلفه والاختلاق هو التقدير وهو ما قدرته في ذهنه مما ليس له حقيقة وعند المستمع هو ما يجب أن يعني باللفظ من المعاني المحققة