الفتاوى الكبرى/كتاب الطهارة/13

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

70 - 54 - مسألة: عن الإنسان إذا كان على غير طهر وحمل المصحف بأكمامه ليقرأ به ويرفعه من مكان إلى مكان هل يكره ذلك؟

وإذا مات الصبي وهو غير مختون هل يختن بعد موته؟

وأما إذا حمل الإنسان المصحف بكمه فلا بأس ولكن لا يمسه بيديه ولا يختن أحد بعد الموت

55 - 71 - مسألة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: هل صح عن النبي أنه مسح على عنقه في الوضوء أو أحد من أصحابه؟

وهل يجوز المسح على الجورب كالخف أم لا؟

وهل يكون الخرق الذي فيه الذي بين الطعن مانعا من المسح فقد يصف بشرة شيء من محل الفرض وإذا كان في الخف خرق بقدر النصف أو أكثر هل يعفي عن ذلك أم لا؟

الجواب: الحمد لله لم يصح عن النبي أنه مسح على عنقه في الوضوء بل ولا روي عنه ذلك في حديت صحيح بل الأحاديث الصحيحة التي فيها صفة وضوء رسول لم يكن [ فيها أنه كان ] يمسح عنقه

ولهذا لم يستحب ذلك جمهور العلماء: كمالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهم ومن استحبه فاعتمد فيه على أثر يروى عن أبي هريرة أو حديت يضعف نقله: أنه مسح رأسه حتى بلغ القذال ومثل ذلك لايصلح عمدة ولا يعارض ما دل عليه الأحاديث

ومن ترك مسح العنق فوضوءه صحيح باتفاق العلماء

وأما مسح الجورب: نعم يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما سواء كانت مجلده أو لم تكن في أصح قولي العلماء

ففي السنن: [ أن النبي مسح على جوربيه ونعليه ]

وهذا الحديث إذا لم يثبت فالقياس يقتضي ذلك فإن الفرق بين الجوربين والنعلين إنما هو كون هذا من صوف وهذا من جلود ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة فلا فرق بين أن يكون جلودا أو قطنا أو كتانا أو صوفا كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه ومحضوره ومباحه وغايته أن الجلد أبقى من الصوف فهذا لا تأثير له كما لا تأثير لكون الجلد قويا بل يحوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى

وأيضا فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقا بين المتماثلين وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة وما أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله ومن فرق يكون هذا ينفذ الماء منه وهذا لا ينفذ منه فقد ذكر فرقا طرديا عديم التأثير

ولو قال قائل: يصل الماء إلى الصوف أكثر من الجلد فيكون المسح عليه أولى للصوف الطهور به أكثر كان هذا الوصف أولى بالاعتبار من ذلك الوصف وأقرب إلى الأوصاف المؤثرة وذلك أقرب إلى الأوصاف الطردية وكلاهما باطل

وخرق الطعن لا تمنع جواز المسح ولو لم تستر الجوارب إلا بالشد جاز المسح عليها على الصحيح وكذلك الزربول الطويل الذي لا يثبت نفسه ولا يستر إلا بالشد والله أعلم

56 - 72 - مسألة: فيما يروى عن النبي أنه قال: الحيض للجارية البكر ثلاثة أيام ولياليهن وأكثره خمسة عشر هل هو صحيح وما تأويله على مذهب الشافعي وأحمد

الجواب: أما نقل هذا الخبر عن النبي فهو باطل بل هو مكذوب موضوع باتفاق علماء الحديث ولكن هو المشهور عن أبي الخلد عن أنس وقد تكلم في أبي الخلد وأما الذين يقولون: أكثر الحيض خمسة عشر كما يقوله الشافعي وأحمد ويقولون: أقله يوم كما يقوله الشافعي وأحمد أو لا حد له كما يقوله مالك فهم يقولون: لم يثبت عن النبي ولا عن أصحابه في هذا شيء والمرجع في ذلك إلى العادة كما قلنا والله سبحانه أعلم

57 - 73 - وقال الشيخ أيضا: وجد بنا السير وقد انقضت مدة المسح فلم يمكن النزع والوضوء إلا بانقطاع عن الرفقة أو حبسهم على وجه يتضررون بالوقوف فغلب على ظني عدم التوقيت عند الحاجة كما قلنا في الجبيرة ونزلت حديث عمر وقوله لعقبة بن عامر: أصبت السنة

على هذا توفيق بين الآثار ثم رأيته مسرحا به في مغازي ابن عائد أنه كان قد ذهب على البرية كما ذهبت لما فتحت دمشق ذهب بشيرا بالفتح من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة فقال له عمر: منذ كم يوم لم تنزع خفيك قال: منذ يوم الجمعة قال: أصبت فحمدت الله على الموافقة

وهذا أظنه أحد القولين لأصحابنا وهو أنه إذا كان يتضرر بنزع الخف صار بمنزلة الجبيرة وفي القول الآخر: أنه إذا خاف الضرر بالنزع تيمم ولم يمسح وهذا كالروايتين لنا إذا كان جرحه بارزا يمكنه مسحه بالماء دون غسله فهل يمسحه أو يتيمم له؟

على روايتين: والصحيح المسح لأن طهارة المسح بالماء أولى من طهارة المسح بالتراب ولأنه إذا جاز المسح على حائل العضو فعليه أولى وذلك أن الطهارة المسح على الخفين طهارة اختيار وطهارة الجبيرة طهارة اضطرار فماسح الخف لما كان متمكنا من الغسل والمسح وقت له المسح وماسح الجبيرة لما كان مضطرا إلى مسحها لم يوقت وجاز في الكبرى فالخف الذي يتضرر بنزعه جبيرة والضرورة بأشياء إما أن يكون في ثلج وبرد عظيم إذا نزعه ينال رجليه ضرر أو يكون الماء باردا لا يمكن معه غسلهما فإن نزعهما تيمم فمسحهما خير من التيمم أو يكون خائفا إذا نزعهما وتوضأ من عدو أو سبع أو انقطاع عن الرفقة في مكان لا يمكنه السير وحده ففي مثل هذا الحال له ترك طهارة الماء إلى التيمم فلأن يجوز ترك طهارة الغسل إلى المسح أولى

ويلحق بذلك إذا كان عادما للماء ومعه قليل يكفي طهارة المسح لا طهارة الغسل فإن نزعهما تيمم فالمسح خير من التيمم

وأصل ذلك أن قوله : [ يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ] منطوقه إباحة المسح هذه المدة والمفهوم لا عموم له بل يكفي أن لا يكون المسكوت كالمنطوق فإذا خالفه في صورة حصلت المخالفة فإذا كان فيما سوى هذه المدة لا يباح مطلقا بل يحظر تارة ويباح أخرى حصل العمل بالحديث وهذا واضح وهي نافعة جدا فإنه من باشر الأسفار في الحج والجهاد والتجارة وغيرها رأى أنه في أوقات كثيرة لا يمكن نزع الخفين والوضوء إلا بتضرر يباح التيمم بدونه واعتبر ذلك بما لو انقضت المدة والعدو بإزائه ففائدة النزع للوضوء على الرجلين فحيث يسقط الوضوء على الرجلين يسقط النزع وقد يكون الوضوء واجبا لو كانا بارزين لكن مع استتارهما يحتاج إلى قلعهما وغسل الرجلين ثم لبسهما إذا لم تتم مصلحته إلا بذلك بخلاف ما إذا استمر فإن طهارته باقية بخلاف ما إذا توضأ ومسح عليهما فإن ذلك قد لايضره ففي هذين الموضعين لا يتوقت إذا كان الوضوء ساقطا فينتقل إلى التيمم فإن المسح المستمر أولى من التيمم وإذا كان في النزع واللبس ضرر يبيح التيمم فلأن يبيح المسلم أولى والله أعلم

58 - 74 - مسألة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الرجل يغتسل إلى جانب الحوض أو الجرن في الحمام وغيره وهو ناقص ثم يرجع بعض الماء من على بدنه إلى الجرن هل يصير ذلك الماء مستعملا أم لا؟

وكذلك الجنب إذا وضع يده في الماء أو الجرن هل يصير مستعملا أم لا؟

وعن مقدار الماء الذي إذا اغتسل فيه الجنب لا يصير مستعملا

وعن الطاسة التي تحط على أرض الحمام والماء المستعمل جار عليها ثم يغترف بها من الجرن الناقص من غير أن تغسل أفتونا مأجورين؟؟

أجاب: الحمد لله ما يطير من بدن المغتسل أو المتوضىء من الرشاش في إناء الطهارة لا يجعله مستعملا

وكذلك غمس الجنب يده في الإناء والجرن الناقص لا يصير مستعملا

وأما مقدار الماء التي إذا اغتسل فيه الجنب لا يصير مستعملا إذا كان كثيرا مقدار قلتين

وأما الطاسة الذي توضع على أرض الحمام فالماء المستعمل طاهر لا ينجس إلا بملاقاة النجاسة فالأصل في الأرض الطهارة حتى تعلم نجاستها لا سيما ما بين يدي الحياض الفائضة في الحمامات فإن الماء يجري عليها كثيرا والله أعلم

75 - 59 - أجوبة للشيخ تقي الدين

وكذلك في المائعات وذلك لأن الله أباح الطيبات وحرم الخبائث والخبيث متميز عن الطيب بصفاته فإذا كان صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث وجب دخوله في الحلال دون الحرام

وأيضا: فقد ثبت من حديث أبي سعيد: [ أن النبي قيل له: أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال:

الماء طهور لا ينجسه شيء ]

قال الإمام أحمد: حديث صحيح

وفي المسند أيضا: عن ابن عباس: [ أن النبي قال: الماء طهور لا ينسجه شيء ]

وهذا اللفظ عام في القليل والكثير وهو عام في جميع النجاسات وأما إذا تغير بالنجاسة فإنما حرم استعماله لأن جرم النجاسة باق ففي استعماله استعمال لها بخلاف ما إذا استحالت فإن الماء طهور وليس هناك نجاسة قائمة

ومما يبين ذلك أنه لو وقع خمر في ماء واستحالت ثم شربها شارب لم يكن شاربا للخمر ولم يجب عليه حد الخمر إذا لم يبق شيء من طعمها ولونها وريحها

ولو صب لبن امرأة في ماء واستحال حتى لم يبق له أثر وشرب طفل ذلك الماء لم يصر ابنها من الرضاعة

وأيضا فإن هذ باق على أوصاف خلقته فيدخل في عموم قوله { فلم تجدوا ماء } فإن الكلام إنما هو فيما لم يتغير بالنجاسة لا طعمه ولا ريحه ولا لونه

فإن قيل: [ فإن النبي قد نهى عن البول في الماء الدائم وعن الاغتسال منه ]

قيل: نهيه عن البول في الماء الدائم لا يدل على أنه ينجس بمجرد البول إذ ليس في اللفظ ما يدل على ذلك بل قد يكون نهيه لأن البول ذريعة إلى تنجيسه فإنه إذا بال هذا تغير بالبول فكان نهيا مبتدأ سدا للذريعة

وأيضا فيقال نهيه عن البول ذريعة إلى تنجيسه فإنه إذا بال هذا تغير البول فكان نهيا مبتدأ سدا للذريعة

وأيضا فيقال: نهيه عن البول في الماء الدائم يعم القليل والكثير فيقال لصاحب القلتين: أتجوز بوله فيما فوق القلتين إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص وإن حرمته فقد نقصت دليلك

وكذلك يقال لمن فرق بين ما يمكن نزحه ومالا يمكن نزحه: أتسوغ للحاج أن يبولوا في المصانع التي بطريق مكة إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص وإلا نقضت قولك

ويقال للمقدر بعشرة أذرع إذا كان للقرية غدير مستطيل أكثر من عشرة أذرع رقيق: أتسوغ لأهل القرية البول فيه إن سوغته فقد خالفت ظاهر النص وإلا نقضت قولك

وأما من فرق بين البول وبين صب البول فقوله ظاهر الفساد فإن صب البول أبلغ من أن ينهى عنه من مجرد البول إذ الإنسان قد يحتاج إلى البول في الماء وأما صب الأبوال في المياه فلا حاجة إليه

فإن قيل: ففي حديث القلتين: [ أنه سئل عن الماء يكون بأرض فلاة وما ينويه من الدواب والسباع فقال:

إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ]

وفي لفظ: لم ينجسه شيء وأما مفهومه إذا قلنا بدلالة مفهوم العدد فإنما يدل على أن الحكم في المسكوت مخالف للحكم في المنطوق بوجه من الوجوه ليظهر فائدة التخصيص بالمقدار ولا يشترط أن يكون الحكم في كل صورة من صور المسكوت مناقضة للحكم في كل صورة من صور المنطوق وهذا معنى قولهم: المفهوم لا عموم له فلا يلزم أن كل ما لم يبلغ القلتين ينجس

بل إذا قيل بالمخالفة في بعض الصور حصل المقصود

وأيضا: فإن النبي لم يذكر هذا التقدير ابتداء وإنما ذكره في جواب من سأله عن مياه الفلاة التي تردها السباع والدواب والتخصص إذا كان له سبب غير اختصاص الحكم لم يبق حجة باتفاق كقوله تعالى:

{ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق }

فإنه خص هذه الصورة بالنهي لأنها هي الواقعة لا لأن التحريم يختص بها وكذلك قوله:

{ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة }

فذكر الزمن في هذه الصورة للحاجة مع أنه [ قد ثبت أن النبي مات ودرعه مرهونة ] فهذا رهن في الحضر فكذلك قوله: [ إذا بلغ الماء قلتين ] في جواب سائل معين بيان لما احتاج السائل إلى بيانه فلما كان حال الماء المسؤول عنه كثيرا قد بلغ قلتين ومن شأن الكثير أنه لا يحمل الخبث فلا يبقى الخبث فيه محمولا بل يستحيل الخبث فيه لكثرته بين لهم أن ماسألتم عنه لا خبث فيه فلا ينجس ودل كلامه على أن مناط التنجيس هو كون الخبث محمولا فحيث كان الخبث محمولا موجودا في الماء كان نجسا وحيث كان الخبث مستهلكا غير محمول في الماء كان باقيا على طهارته فصار حديث القلتين موافقا لقوله: [ الماء طهور لا ينجسه شيء ]

والتقدير فيه لبيان صورة السؤال لا أنه أراد أن كل ما لم يبلغ قلتين فإنه يحمل الخبث فإن هذا مخالف للحس إذ ما دون القلتين قد لا يحمل الخبث ولا ينجسه شيء كقوله: [ الماء طهور لا ينجسه شيء ] وهو إنما أراد إذا لم يتغير في الموضعين وأما إذا كان قليلا فقد يحمل الخبث لضعفه وعلى هذا يخرج أمره بتطهير الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبعا إحداهن بالتراب وبإراقته فإن قوله :

[ إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبعا أولاهن بالتراب ]

كقوله: [ إذا قام أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده ]

فإذا كان النهي عن غمس اليد في الإناء هو الإناء المعتاد للغمس وهو الواحد من آنية المياه فكذلك تلك الآنية المعتادة للولوغ وهي آنية الماء وذلك أن الكلب يلغ بلسانه شيئا بعد شيء فلا بد أن يبقى في الماء من ريقه ولعابه ما يبقى وهو لزج فلا يحيله الماء القليل بل يبقى فيكون ذلك الخبث محمولا والماء يسيرا فيراق ذلك الماء لأجل كون الخبث محمولا فيه ويغسل الإناء الذي لاقاه ذلك الخبث

وهذا بخلاف الخبث المستهلك المستحيل: كاستحالة الخمر فإن الخمر إذا انقلبت في الدن بإذن الله كانت طاهرة باتفاق العلماء وكذلك جوانب الدن فهناك يغسل الإناء وهنا لايغسل لأن الاستحالة حصلت في أحد الموضعين دون الآخر

وأيضا فإن النبي أراد الفصل بين الماءين والذي ينجس بمجرد الملاقاة وما لا ينجس إلا بالتغير لقال: إذا لم يبلغ قلتين نجس وما بلغهما لم ينجس إلا بالتغير أنجر ذلك من الكلام الذي يدل على ذلك فأما مجرد قوله: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث مع أن الكثير ينجس بالاتفاق فلا يدل على هذا المقصود بل يدل على أنه في العادة لا يحمل الخبث فلا ينجسه فهو إخبار عن انتفاء سبب التنجس وبيان لكون التنجس في نفس الأمر هو حمل الخبث والله أعلم

وأما نهيه أن يغمس القائم من نوم الليل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا فهو لا يقتضي تنجس الماء بالاتفاق بل قد يكون لأنه يؤثر في الماء أثرا أو أنه قد يفضي إلى التأثير وليس ذلك بأعظم من النهي عن البول في الماء الدائم

وقد تقدم أنه لا يدل على التنجس وأيضا فإن في الصحيحين: عن أبي هريرة قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خيشومه

فأمر بالغسل معللا بمبيت الشيطان على خيشومه فعلم أن ذلك سبب للغسل غير النجاسة والحدث المعروف

وقوله: فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده يمكن أن يراد به ذلك فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التي شهد لها النص بالاعتبار

وأما نهيه عن الاغتسال فيه بعد البول فهذا إن صح عن النبي فهو كنهيه عن البول في المستحم ثم إذا اغتسل حصل له وسواس وربما بقي شيء من أجزاء البول فعاد عليه رشاشها وكذلك إذا بال في الماء ثم اغتسل فيه فقد يغتسل قبل الإستحالة مع بقاء أجزاء البول فنهى عنه لذلك

ونهيه عن الاغتسال في الماء الدائم إن صح يتعلق بمسألة الماء المستعمل وهذا قد يكون لما فيه من تقدير الماء على غيره لا لأجل نجاسته ولا لمصيره مستعملا فإنه قد ثبت في الصحيح: [ عنه أنه قال: الماء لا يجنب ] والله أعلم

75 - / 60 - مسألة: في إزالة النجاسة بغير الماء ثلاثة أقوال للعلماء:

أحدها: المنع كقول الشافعي وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد

والثاني: الجواز كقول أبي حنيفة وهو القول الثاني في مذهب مالك وأحمد

والقول الثالث: في مذهب أحمد أن ذلك يحوز للحاجه كما في طهارة فم الهرة بريقها وطهارة أفواه الصبيان بأرياقهم ونحو دلك

والسنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله لأسماء:

[ حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ]

وقوله في آنة الجوس: [ أرحضوها ثم أغسلوها بالماء ]

[ وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد: صبوا على بوله ذنوبا من ماء ]

فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة ولم يأمر أمرا عاما بأن تزال كل نجاسة بالماء وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع:

منها: الإستجمار بالأحجار

ومنها [ قوله في النعلين: ثم ليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور ]

ومنها [ قوله في الذيل: يطهره ما بعده ]

ومنها أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله ثم لم يكونوا يغسلون ذلك

ومنها قوله في الهرة: [ إنها من الطوافين عليكم والطوافات ] مع أن الهرة في العادة تأكل الفأر ولم تكن هناك قناة تردها تطهر بها أفواهها وإنما طهرها ريقها

ومنها أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين وإذا كان كذلك فالراجح في هذه المسألة أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان زال حكمها فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة لما في ذلك من إفساد الأموال كما لا يجوز الاستنجاء بها

والذين قالوا: لا تزول إلا بالماء منهم من قال: إن هذا تعبد وليس الأمر كذلك فإن صاحب الشرع أمر بالهاء في قضايا معينة لأن إزالتها بالأشربة التي ينتفع بها المسلمون إفساد لها وإزالتها بالجامدات كانت متعذرة يغسل الثوب والإناء والأرض بالماء فإنه من المعلوم أنه لو كان عنده ماء ورد وخل وغير ذلك لم يأمرهم بإفساده فكيف إذا لم يكن عندهم

ومنهم من قال: إن الماء له من اللطف ما ليس لغيره من المائعات فلا يلحق غيره به وليس الأمر كذلك بل الخل وماء الورد وغيرهما يزيلان ما في الآنية من النجاسة كالماء وأبلغ والإستحالة أبلغ في الإزالة من الغسل بالماء فإن الإزالة بالماء قد يبقى معها لون النجاسة فيعفى عنه كما قال النبي : [ يكفيك الماء ولا يضرك أثره ]

وغير الماء يزيل الطعم واللون والريح

ومنهم من قال: كان القياس أن لا تزول بالماء لتنجسه بالملاقاة لكن رخص في الماء للحاجة فجعل الإزالة بالماء صورة استحسان فلا يقاس عليها وكلا المقدمتين باطلة فليست إزالتها به على خلاف القياس أن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها

وقولهم أنه ينجس بالملاقاة ممنوع ومن سلمه فرق بين الوارد والمورود وبين الجاري والواقف ولو قيل: إنها على خلاف القياس فالصواب إنما خلف القياس عليه إذا عرفت علته إذ الاعتبار في القياس بالجامع والفارق واعتبار طهارة الخبث بطهارة الحدث ضعيف فإن طهارة الحدث من باب الأفعال المأمور بها ولهذا لم تسقط بالنسيان والجهل واشترط فيها النية عند الجمهور وأما طهارة الخبث فإنها من باب التروك فمقصودها اجتناب الخبث ولهذا لا يشترط فيها فعل العبد ولا قصده بل لو زالت بالمطر النازل من السماء حصل المقصود كما ذهب إليه أئمة المذاهب وغيرهم

ومن قال من أصحاب الشافعي وأحمد: إنهم اعتبروا فيها النية فهو قول شاذ مخالف للإجماع السابق مع مخالفته لأئمة المذاهب وإنما قيل: هذا من ضيق المجال في المناظرة فإن المنازع لهم في مسألة النية قاس طهارة الحدث على طهارة الخبث فمنعوا الحكم في الأصل وهذا ليس بشيء ولهذا كان أصح قولي العلماء أنه إذا صلى بالنجاسة جاهلا أو ناسيا فلا إعادة عليه كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه [ لأن النبي خلع نعليه في الصلاة للأذى الذي كان فيهما ولم يستأنف الصلاة ]

وكذلك في الحديث الآخر لما وجد في ثوبه نجاسة أمر بغسلها ولم يعد الصلاة وذلك لأن ما كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله العبد ناسيا أو مخطئا فلا إثم عليه كما دل عليه الكتاب والسنة

قال الله تعالى: { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به }

وقال تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }

قال الله تعالى: قد فعلت رواه مسلم في صحيحه

ولهذا كان أقوى الأقوال: أن ما فعله العبد ناسيا أو مخطئا من محظورات الصلاة والصيام والحج لا يبطل العبادة كالكلام ناسيا والأكل ناسيا واللباس والطيب ناسيا وكذلك إذا فعل المحلوف عليه ناسيا

وفي هذه المسائل نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه وإنما المقصود التنبيه على أن النجاسة من باب ترك المنهى عنه وحينئذ فإذا زال الخبث بأي طريق كان حصل المقصود لكن إن زال بفعل العبد ونيته أثيب على ذلك وإلا إن عدم بغير فعله ولا نيته زالت المفسدة ولم يكن له ثواب ولم يكن عليه عقاب

76 - 61 - مسألة: في ناس في مفازة ومعهم ماء قليل فولغ الكلب فيه فما الحكم فيه؟

الجواب: الحمد لله يجوز لهم حبسه لأجل الشرب إذا عطشوا ولم يجدوا ماء طيبا فإن الخبائث جميعها تباح للمضطر فله أن يأكل عند الضرورة الميتة والدم ولحم الخنزير وله أن يشرب عند الضرورة ما يرويه كالمياه الناجسة والمائعات التي ترويه وإنما منعه أكثر الفقهاء شرب الخمر قالوا: لأنها تزيده عطشا

وأما التوضؤ بماء الولوغ فلا يجوز عند جماهير العلماء بل يعدل عنه إلى التيمم ويجب على المضطر أن يأكل ويشرب ما يتيم به بنيته فمن اضطر إلى الميتة أو الماء النجس فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار

ولو وجد غيره مضطرا إلى ما معه من الماء الطيب والنجس أو حدث صغير

ومن اغتسل وتوضأ وهناك مضطر من أهل الملة أو الذمة ودوابهم المعصومة فلم يسقه كان آثما عاصيا والله أعلم

77 - / 62 - مسألة: في أواني النحاس المطعمة بالفضة كالطاسات وغيرها هل حكمها حكم آنية الذهب والفضة أم لا؟

الجواب: الحمد لله أما المضبب بالفضة من الآنية وما يجري مجراها من الآلات سواء سمي الواحد من ذلك إناء أو لم يسم وما يجري مجرى المضبب كالمباخر والمجامر والطشوت والشمعدانات وأمثال ذلك فإن كانت الضبة يسيرة لحاجة مثل: تشعيب القدح وشعيرة السكين ونحو ذلك مما لا يباشر بالاستعمال فلا بأس بذلك

ومراد الفقهاء بالحاجة هنا أن يحتاج إلى تلك الصورة كما يحتاج التشعيب والشعيرة سواء كان من فضة أو نحاس أو حديد أو غير ذلك وليس مرادهم أن يحتاج إلى كونها من فضة بل هذا يسمونه في مثل هذا ضرورة والضرورة تبيح الذهب والفضة مفردا وتبعا حتى لو احتاج إلى شد أسنانه بالذهب أو اتخذ أنفا من ذهب ونحو ذلك جاز كما جاءت به السنة مع أنه ذهب ومع أنه مفرد وكذلك لو لم يجد ما يشربه إلا في إناء ذهب أو فضة جاز له شربه ولو لم يجد ثوبا يقيه البرد أو يقيه السلاح أو يستر به عورته إلا ثوبا من حرير منسوج بذهب أو فضة جاز له لبسه فإن الضرورة تبيح أكل الميتة والدم ولحم الخنزير بنص القرآن والسنة وإجماع الأمة

مع أن تحريم المطاعم أشد من تحريم الملابس لأن تأثير الخبائث بالممازجة والمخالطة للبدن أعظم من تأثيرها بالملابسة والمباشرة للظاهر ولهذا كانت النجاسات التي تحرم ملابستها يحرم أكلها ويحرم من أكل السموم ونحوها من المضرات ما ليس بنجس ولا يحرم مباشرتها ثم ما حرم لخبث جنسه أشد مما حرم لما فيه من السفر والفخر والخيلاء فإن هذا يحرم القدر الذي يقتضي ذلك منه ويباح للحاجة كما أبيح للنساء لبس الذهب والحرير لحاجتهن إلى التزين وحرم ذلك على الرجال وأبيح للرجال من ذلك اليسير كالعلم ونحو ذلك مما ثبت في السنة

ولهذا كان الصحيح من القولين في مذهب أحمد وغيره جواز التداوي بهذا الضرب دون الأول [ كما رخص النبي للزبير وطلحة في لبس الحرير من حكة كانت بهما ]

[ ونهى عن التداوي بالخمر وقال: إنها داء وليست بدواء ]

[ ونهى عن الدواء الخبيث ]

[ ونهى عن قتل الضفدع لأجل التداوي بها وقال: إن نقنقتها تسبيح ]

وقال: [ إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ]

ولهذا استدل بإذنه للعرنيين في التداوي بأبوال الإبل وألبانها على أن ذلك ليس من الخبائث المحرمة النجسة لنهيه عن التداوي بمثل ذلك ولكونه لم يأمر بغسل ما يصيب الأبدان والثياب والآنية من ذلك

وإذا كان القائلون بطهارة أبوال الإبل تنازعوا في جواز شربها لغير الضرورة وفيه عن أحمد روايتان منصوصتان فذاك لما فيها من القذارة الملحق لها بالمخاط والبصاق والمعنى ونحو ذلك من المستقذرات التي ليست بنجسة التي يشرع النظافة منها كما يشرع نتف الإبط وحلق العانة وتقليم الأظفار وإحفاء الشارب

ولهذا أيضا كان هذا الضرب محرما في باب الآنية والمنقولات على الرجال والنساء فآنية الذهب والفضة حرام على الصنفين بخلاف التحلي بالذهب ولباس الحرير فإنه مباح للنساء وباب الخبائث بالعكس فإنه يرخص في استعمال ذلك فيما ينفصل عن بدن الإنسان ما لا يباح إذا كان متصلا به كما يباح إطفاء الحريق بالخمر وإطعام الميتة للبزاة والصقور وإلباس الدابة للثوب النجس وكذلك الاستصباح بالدهن النجس في أشهر قولي العلماء وهو أشهر الروايتين عن أحمد

وهذا لأن استعمال الخبائث فيها يجري مجرى الإتلاف ليس فيه ضرر وكذلك في الأمور المنفصلة بخلاف استعمال الحرير والذهب فإن هذا غاية السرف والفخر والخيلاء

وبهذا يظهر غلط من رخص من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم في إلباس دابته الثوب الحرير قياسا على إلباس الثوب النجس فإن هذا بمنزلة من يجوز افتراش الحرير ووطأه قياسا على المصورات أو من يبيح تحلية دابته بالذهب والفضة قياسا على من يبيح إلباسها الثوب النجس فقد ثبت بالنص تحريم افتراش الحرير كما ثبت تحريم لباسه ولهذا يظهر أن قول من حرم افتراشه على النساء كما هو قول المراوزة من أصحاب الشافعي أقرب إلى القياس من قول من أباحه للرجال كما قال أبو حنيفة وإن كان الجمهور على أن الافتراش كاللباس يحرم على الرجال دون النساء لأن الافتراش للباس كما قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس إذ لا يلزم من إباحة التزين على البدن إباحة المنفصل كما في آنية الذهب والفضة فإنهم اتفقوا على أن استعمال ذلك حرام على الزوجين الذكر والأنثى

وإذا تبين الفرق بين ما يسميه الفقهاء في هذا الباب حاجة وما يسمونه ضرورة فيسير الفضة التابع يباح عندهم للحاجة كما في حديث أنس: [ أن قدح رسول الله لما أنكسر شعب بالفضة سواء كان الشاعب له رسول الله أو كان هو أنسا ]

وأما إن كان اليسير للزينة ففيه أقوال في مذهب أحمد وغيره: التحريم والإباحة والكراهة قيل: والرابع أنه يباح من ذلك ما لا يباشر بالاستعمال وهذا هو المنصوص عنه فينهى عن العنبة في موضع الشرب دون غيره

ولهذا كره حلقة الذهب في الإناء اتباعا لعبد الله بن عمر في ذلك فإنه كره ذلك وهو أولى ما أتبع في ذلك

وأما ما يروى عنه مرفوعا من شرب في إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك فإسناده ضعيف

ولهذا كان المباح من الضبة إنما يباح لنا استعماله عند الحاجة فأما بدون ذلك قيل: يكره وقيا: يحرم ولذلك كره أحمد الحلقة في الإناء اتباعا لعبد الله بن عمر والكراهة منه هل تحمل على التنزيه أو التحريم؟ على قولين لأصحابه وهذا المنع هو مقتضى النص والقياس فإن تحريم الشيء مطلقا يقتضي تحريم كل جزء منه كما أن تحريم الخنزير والميتة والدم اقتضى ذلك وكذلك تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة يقتضي المنع من أبعاض ذلك وكذلك النهي عن لبس الحرير اقتض النهي عن أبعاض ذلك لولا ما ورد من استثناء موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع في الحديث الصحيح

ولهذا وقع الفرق في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس بين باب النهي والتحريم وباب الأمر والإيجاب فإذا نهى عن شيء نهى عن بعضه وإذا أمر بشىء كان أمرا بجميعه

ولهذا كان النكاح حيث أمر به كان أمرا بمجموعه وهو العقد والوطء وكذلك إذا أبيح كما في قوله: { فانكحوا ما طاب لكم من النساء }

{ حتى تنكح زوجا غيره }

{ وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم }

يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج

وحيث حرم النكاح كان تحريما لأبعاضه حتى يحرم العقد مفردا والوطء مفردا كما في قوله:

{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف }

وكما في قوله: { حرمت عليكم أمهاتكم } الآية إلى آخرها

وكما في قوله: [ لا ينكح المحرم ولا ينكح ]

ونحو ذلك ولهذا فرق مالك وأحمد في المشهور عنه بين من حلف ليفعلن شيئا ففعل بعضه أنه لا يبر ومن حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه أنه يحنث

وإذا كان تحريم الذهب والحرير على الرجال وآنية الذهب والفضة على الزوجين يقتضي شمول التحريم لأبعاض ذلك بقي اتخاذ اليسير لحاجة أو مطلقا فالاتخاذ اليسير

ولهذا تنازع العلماء في جواز اتخاذ الآنية بدون استعمالها فرخص فيه أبو حنيفة والشافعي وأحمد في قول وإن كان المشهور عنهما تحريمه إذ الأصل أن ما حرم استعماله حرم اتخاذه كالآت الملاهي

وأما إن كانت الفضة التابعة كثيرة ففيها أيضا قولان في مذهب الشافعي وأحمد وفي تحديد الفرق بين الكثير واليسير والترخيص في لبس خاتم الفضة أو تحلية السلاح من الفضة وهذا فيه إباحة يسير الفضة مفردا لكن في اللباس والتحلي وذلك يباح فيه ما لا يباح في باب الآنية كما تقدم التنبيه على ذلك ولهذا غلط بعض الفقهاء من أصحاب أحمد حيث حكى قولا بإباحة يسير الذهب تبعا في الآنية عن أبي بكر عبد العزيز وأبو بكر إنما قال ذلك في باب اللباس والتحلي كعلم الذهب ونحوه

وفي يسير الذهب في باب اللباس عن أحمد أقوال:

أحدها: الرخصة مطلقا لحديث معاوية نهى عن الذهب إلا مقطعا ولعل هذا القول أقوى من غيره وهو قول أبي بكر

والثاني: الرخصة في السلاح فقط

والثالث: في السيف خاصة وفيه وجه بتحريمه مطلقا لحديث أسماء: لا يباح من الذهب ولا خريصة

والخريصة عين الجرادة لكن هذا قد يحمل على الذهب المفرد دون التابع ولا ريب أن هذا محرم عند الأئمة الأربعة [ لأنه قد ثبت عن النبي أنه نهى عن خاتم الذهب ] وإن كان قد لبسه من الصحابة من لم يبلغه النهي ولهذا فرق أحمد وغيره بين يسير الحرير مفردا كالتكة فنهى عنه وبين يسيره تبعا كالعلم إذ الاستثناء وقع في هذا النوع فقط

فكما يفرق في الرخصة بين اليسير والكثير فيفرق بين التابع والمفرد ويحمل قول معاوية إلا مقطعا على التابع لغيره وإذا كانت الفضة قد رخص منها في باب اللباس والتحلي في اليسير وإن كان مفردا فالذين رخصوا في اليسير أو الكثير التابع في الآنية ألحقوها بالحرير الذي أبيح يسيره تبعا للرجال في الفضة التي أبيح يسيرها مفردا أولا ولهذا أبيح في أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد حلية المتطفة من الفضة وما يشبه ذلك من لباس الحرب: كالخوذة والجوشن والران وحمائل السيف وأما تحلية السيف بالفضة فليس فيه هذا الخلاف

والذين منعوا قالوا: الرخصة وقعت في باب اللباس دون باب الآنية وباب اللباس أوسع كما تقدم وقد يقال: إن هذا أقوى إذ لا أثر في هذه الرخصة والقياس كما ترى وأما المضبب بالذهب فهذا دخل في النهي سواء كان قليلا أو كثيرا والخلاف المذكور في الفضة منتف ههنا لكن ذي يسير الذهب في الآنية وجه للرخصة فيه

وأما التوضؤ والاغتسال من آنية الذهب والفضة فهذا فيه نزاع معروف في مذهب أحمد لكنه مركب على إحدى الروايتين بل أشهرهما عنه في الصلاة في الدار المغصوبة واللباس المحرم كالحرير والمغصوب والحج بالمال الحرام وذبح الشاة بالسكين المحرمة ونحو ذلك مما فيه أداء واجب واستحلال محظور

فأما على الرواية الأخرى التي يصحح فيها الصلاة والحج ويبيح الذبح فإنه يصحح الطهارة من آنية الذهب والفضة

وأما على المنع فلأصحابه قولان:

أحدهما: الصحة كما هو قول الخرقي وغيره

والثاني: البطلان كما هو قول أبي بكر طردا لقياس الباب والذين نصروا قول الخرقي أكثر أصحاب أحمد فرقوا بفرقين:

أحدهما: أن المحرم هنا منفصل عن العبادة فإن الإناء منفصل عن المتطهر بخلاف لابس المحرم وآكله والجالس عليه فإنه مباشر له

قالوا: فأشبه ما لو ذهب إلى الجمعة بدابة مغصوبة وضعف آخرون هذا الفرق بأنه: لا فرق بين أن يغمس يده في الإناء المحرم وبين أن يغترف منه وبأن النبي جعل الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم وهو حين انصباب الماء في بطنه يكون قد انفصل عن الإناء

والفرق الثاني: وهو أفقه قالوا: التحريم إذا كان في ركن العبادة وشرطها أثر فيها كما كان في الصلاة في اللباس أو البقعة وأما إذا كان في أجنبي عنها لم يؤثر والإناء في الطهارة أجنبي عنها فلهذا لم يؤثر فيها والله أعلم

الفتاوى الكبرى لابن تيمية
كتاب السنة والبدعة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطهارة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | كتاب الصلاة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | كتاب الذكر والدعاء | 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب الصيام: 1 | 2 | 3 | كتاب الجنائز: 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب النكاح: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطلاق: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | كتاب النفقات | كتاب الحدود: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الجهاد: 1 | 2 | كتاب البيوع: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الشهادة والأقضية والأموال: 1 | 2 | كتاب الوقف: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | كتاب الوصايا | كتاب الفرائض | كتاب الفضائل: 1 | 2 | كتاب الملاهي | مسائل منثورة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | كتاب الطهارة2 | كتاب الصلاة2: 1 | 2 | كتاب الجنائز2 | كتاب الزكاة2 | كتاب الصوم2 | كتاب الحج | كتاب البيع: 1 | 2 | كتاب الوصية | كتاب الفرائض | كتاب العتق | كتاب النكاح2: 1 | 2 | كتاب الخلع | كتاب الطلاق2 | كتاب الرجعة | كتاب الظهار | كتاب الجنايات | كتاب الأطعمة | كتاب الأيمان | باب القضاء | كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل | كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة: 1 |2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16